فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (108):

{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)}
{وَيَقُولُونَ} أي في سجودهم أو مطلقًا {سُبْحَانَ رَبّنَا} عن خلف وعده أو عما يفعل الكفرة من التكذيب {إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولًا} إن مخففة من المثقلة واسمها ضمير شأن واللام فارقة أي إن الشأن هذا.

.تفسير الآية رقم (109):

{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}
{وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ} كرر الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن، والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو حذوف وقع حالًا مما قبل أو مما بعد أي ساجدين، وجملة {يَبْكُونَ} حال أيضًا أي باكين من خشية الله تعالى، ولما كان البكاء ناشئًا من الخشية الناشئة من التفكر الذي يتجدد جيء بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد، وقد جاء في مدح البكاء من خشيته تعالى أخبار كثيرة فقد أخرج الحكيم الترمذي عن النضر بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن عبدًا بكى في أمة لأنجى الله تعالى تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد وما من عمل إلا له وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورًا من النار وما أغروروقت عين ائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله تعالى جسدها على النار فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة» وأخرج أيضًا عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله تعالى وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى» وأخرج هو والنسائي ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم» زاد النسائي في منخريه ومسلم أبدًا، وينبغي أن يكون ذلك حال العلماء فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التيمي أنه قال: إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال: {وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ} {وَيَزِيدُهُمْ} أي القرآن بسماعهم {خُشُوعًا} لما يزيدهم علمًا ويقينًا بأمر الله تعالى على ما حصل عندهم من الأدلة.

.تفسير الآية رقم (110):

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)}
{قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى صلى الله عليه وسلم كة ذات يوم فدعا الله تعالى فقال في دعائه: يا الله يا رحمن فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت، وعن الضحاك أنه قال: قال أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله تعالى في التوراة هذا الاسم فنزلت، والمراد على الأول التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحد وإن اختلف الاعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود وهو يلائم قوله تعالى فيما بعد: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} [الإسراء: 111] وعلى الثاني التسوية في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود فإن أهل الكتاب فهموا أحسنية الرحمن لكونه أحب إليه تعالى إذ أكثر ذكره في كتابهم وكأن حكمة ذلك أن موسى عليه السلام كان غضوبًا كما دلت عليه الآثار فأكثر له من ذكر الرحمن ليعامل أمته زيد الرحمة لأن الأنبياء عليهم السلام يتخلقون بأخلاق الله تعالى، قال القاضي البيضاوي: وهذا أجوب لقوله تبارك اسمه {أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسماء الحسنى} لأن توصيف الأسماء بالحسنى يفهم منه أن المقول لهم ذلك يظنون أحسنية اسم من اسم لا التغاير، وقال صاحب الكشف: الغرض على الوجهين التسوية بين اللفظين في الحسن والاختلاف إنما هو بأن الاستواء في الحسن رد لمن قال: إنك لتقل إلخ بأن الإتيان بأحد الحسنين كاف أو لمن قال: ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو بأن الاختلاف بين اللفظين الدالين على كماله تعالى لا بين كاملين فالأجوبية ممنوعة انتهى.
وتعقب بأن أنسبية التوصيف بالحسنى للثاني ظاهرة مما لا تكاد تنكر، ووجه الطيبي الأجوبية بأن اعتراض اليهود كان تعييرًا للمسلمين على ترجيح أحد الاسمين على الآخر واعتراض المشركين كان تعييرًا على الجمع بين اللفظين، وقوله تعالى: {أَيّا مَّا تَدْعُواْ} يطابق الرد على اليهود لأن المعنى أي اسم من الاسمين دعوتموه فهو حسن وهو لا ينطبق على اعتراض المشركين ثم قال: هذا مسلم إذا كان أو للتخيير ويجوز أن تكون للإباحة والانطباق حينئذٍ ظاهر فإن المشركين حظروا الجمع بين الاسمين فيكون ردهم بإباحة الجمع بين الأسماء المتكاثرة فضلًا عن الجمع بين الاسمين على أن الجواب بالتخيير في الرد على أهل الكتاب غير مطابق لأنهم اعترضوا بالترجيح. وأجيب بالتسوية لأن أو تقتضيها، وكان الجواب العتيد أن يقال: إنما رجحنا الله على الرحمن في الذكر لأنه جامع لجميع صفات الكمال بخلاف الرحمن، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهذا.
ومنع الأجوبية أيضًا الجلبي بأن تقديم الخبر في قوله تعالى: {فَلَهُ الاسماء الحسنى} يقتضي أجوبية الأول إذ معناه هذه الأسماء لله تعالى لا لغيره كما زعم المشركون إلا أن يقال أو للتخيير وهو غير مسلم بل يتعين كونها للإباحة لأنها كما قال الرضي وغيره يجوز الجمع فيها بين المتعاطفين والاقتصار على أحدهما وفي التخيير لا يجوز الجمع وهو هنا جائز. ودفع بأن المعنى لله تعالى أسماء متفقة في الحسن لأنها لا تختلف مدلولاتها بالذات بخلاف غيره سبحانه فإن أسماءه تختلف فالقصر إذا كان بأن لم يكن التقديم لمجرد التشويق ناظر إلى الوصف لا للأسماء وهذا لا يتوقف على تسليم التخيير، ثم إنه لا مانع من إرادته بل أي تقتضيه لأنها لأحد الشيئين فإذا قلت لأحد: أي الأمرين تفعل فافعل لم تأمره بفعلهما بل بفعل أحدهما وأما الدلالة على جواز الجمع فمن خارج النظم ودلالة العقل لأنهما إذا لم يتنافيا جاز الجمع بينهما، ومن هنا تعلم أنه لا حاجة إلى حمل التخيير في كلام من عبر به على غير الاصطلاح المشهور الذي هو اصطلاح النحاة فيه إذا قوبل بالإباحة بأن يقال: مراده به التسوية بين الاسمين في الدلالة على ذات واحدة وسواء فيه الإفراد والجمع، قال في التلويح: وفي التخيير قد يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة اه. والظاهر أن الحق مع مانع الأجوبية والقائل بالإباحة فتدبر، والدعاء على ما اختاره أبو حيان وجماعة عنى النداء، وقال الزمخشري: هو عنى التسمية لا عنى النداء وهو يتعدى إلى مفعولين تقول دعوته زيدًا ثم يترك أحدهما استغناءً عنه فتقول دعوت زيدًا، والأصل على ما قيل أن يتعدى إلى الثاني بالباء لكنه يتسع فيحذف الباء والمفعول الآخر هنا محذوف أي سموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم وكذا يقال في الدعاء الثاني، وعلل ذلك بأنه لو حمل على الحقيقة المشهورة يلزم إما الاشتراك أن تغاير مدلولًا الاسمين أو عطف الشيء على نفسه بأو وهو إنما يجوز بالواو أن اتحدا، وبحث فيه بأنا نختار الثاني ولا يلزم ما ذكر لأنه قصد اللفظ كما تقول نادى النبي صلى الله عليه وسلم حمد أو بأحمد مع أن اختلاف مفهوميهما يكفي لصحته، وما روي في سبب النزول أولًا ينادي على ما قيل على إرادة النداء، وقيل إن كانت الآية ردًا على المشركين فهو عنى التسمية وإن كانت ردًا على اليهود فهو عنى النداء وجعل الطيبي لذلك تفسير الزمخشري إياه بالتسمية مؤذنًا يله إلى أنها رد على المشركين وفي ذلك تأمل، و{أَيّا} اسم شرط جازم منصوب بتدعوا وجازم له فهو عامل ومعمول من جهتين والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف والتقدير أي هذين الاسمين وما حرف مزيد للتأكيد، وقيل إنها اسم شرط مؤكد به.
وقرأ طلحة بن مصرف {مِنْ} بدل ما وخرج على زيادتها على مذهب الكسائي أو جعلها أداة شرط والجمع بين أداتي الشرط كالجمع بين حرفي الجر في قوله:
فأصبحن لا يسألنني عما به

شاذ، وجملة {فَلَهُ الاسماء الحسنى} واقعة موقع جواب الشرط وهي في الحقيقة تعليل له، وكأن أصل الكلام أيامًا تدعوه به فهو حسن لأن له سبحانه الأسماء الحسنى اللاتي منها هذان، وفي العدول عن حق الجواب إقامة الشيء بدليله وفيه مبالغة لا تخفى، وهذا التقدير ظاهر على القول الثاني في سبب النزول ويقدر على القول الأول فيه فمدلوله واحد ونحوه، ولا حاجة إلى ذلك بل يقدر على القولين فهو حسن على ما سمعت عن صاحب الكشف.
وقال الطيبي وقد حمل أو على الإباحة وجعل الخطاب للمشركين: التقدير قل سموا ذاته المقدسة بالله وبالرحمن فهما سيان في استصواب التسمية بهما فبأيهما سميته فأنت مصيب وإن سميته بهما جميعًا فأنت أصوب لأن له الأسماء الحسنى وقد أمرنا سبحانه بأن ندعوه بها في قوله تعالى: {وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف: 180] فجواب الشرط الأول قولنا فأنت مصيب ودل على الشرط الثاني وجوابه قوله تعالى: {فَلَهُ الاسماء الحسنى} والآية على هذا فن من فنون الإيجاز الذي هو من حلية التنزيل، وعلى تقدير فهو حسن حسا سمعت أولًا من باب الإطناب اه وهو كما ترى.
ونقل في البحر أن منهم من وقف على {أَيّا} على معنى أي اللفظين تدعوه به جاز ثم استأنف فقال ما تدعوا فله الأسماء الحسنى. وتعقبه بأن هذا لا يصح لأن {مَا} لا يطلق على آحاد ذوي العلم ولأن الشرط يقتضي عمومًا وهو لا يصح هنا، وضمير {فَلَهُ} عائد على المسمى أو المنادي المفهوم من الكلام والقرينة عقلية وهي أن الأسماء تكون للمسمى وللمنادي لا للاسم واللفظ المنادى به، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن محيى الدين قدس سره غير ذلك في باب الإشارة، ووصف الأسماء بالحسنى لدلالتها على ما هو جامع لجميع صفات الكمال بحيث لا يشذ منها شيء وما هو من صفات الجلال والجمال والإكرام، هذا واعلم أن الظاهر مما روى عن اليهود أنهم لا ينكرون حسن سائر أسمائه تعالى وإنما يزعمون أن الرحمن منها أحب أسمائه تعالى إليه وأعظمها وأشرفها لكثرة ذكره تعالى في التوراة واختلاف أسمائه عزت أسماؤه في الشرف والعظم مما ذهب إليه المسلمون أيضًا.
ويدل عليه تخصيصه صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء بأنه الاسم الأعظم فقد روى: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لقد سأل الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى».
وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: اسم الله تعالى الأعظم في هاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} [البقرة: 163] وفاتحة آل عمران {الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم} [آل عمران: 1، 2] ونص حجة الإسلام الغزالي في أوائل كتابه المقصد الأسني على أن الله أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازًا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره عز وجل كالقادر والعليم والرحيم وغيرها، واسمه تعالى الرحمن لا يسمى به غيره تعالى أيضًا وهو من هذا الوجه قريب من اسم الله سبحانه وإن كان مشتقًا من الرحمة قطعًا ولذا جمع عز وجل بينهما في قوله سبحانه: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} اه.
وقال في أواخره: فإن قيل ما بال تسعة وتسعين من أسمائه تعالى اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة مع أن الكل أسماء الله تعالى فنقول: الأسامي يجوز أن تتفاوت فضيلتها لتفاوت معانيها في الجلالة والشرف فتكون تسعة وتسعون منها تجمع أنواعًا من المعاني المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها مختص بزيادة شرف انتهى، وقال الإمام الرازي في هذه الآية: تخصيص هذين الاسمين يعني الله والرحمن بالذكر يدل على أنهما أشرف من سائر الأسماء، وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على قولنا: الله أعظم الأسماء إلى غير ذلك مماذكره غير واحد من الأجلة، والآية إنما تصلح بحسب الظاهر ردًا لما فهمه اليهود إذا كان المراد منها نفي التفاوت الذي زعموه وحينئذ يقع التعارض بينها وبين ما يدل على التفاوت من الأخبار، وقد يجعل هذا وجهًا لاختيار كون سبب النزول قول المشركين ولعل أثره أصح، وما نقلناه فيما سبق عن العلامة الطيبي مؤيد لما قلناه، واحتج الجبائي بالآية على أنه تعالى ليس خالق الظلم وإلا لصح اشتقاق اسم له سبحانه منه وحينئذ يبطل ما دلت عليه الآية من كون أسمائه تعالى بأسرها حسنى. وأجيب نع الملازمة لأن الظلم ليس صفته عز وجل وكونه خالقًا له لا يصحح الاشتقاق منه وإلا لصح الاشتقاق من الطول والقصر والسواد والبياض لأنه تعالى خالق لذلك بالاتفاق، نعم لا ينبغي أن يقال لله تبارك وتعالى خالق القبيح للزوم الأدب معه سبحانه ويقال خالق كل شيء وما هو من أسمائه جلت أسماؤه الخالق لا خالق كذا فافهم سلك الله تعالى بنا وبك الطريق الأقوم.
وهذه الآية على ما قيل من آيات الحفظ بناء على ما أخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} إلى آخر الآية هو أمان من السرق وأن رجلًا من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجده مردودًا فوضع الكارة وفعل ذلك ثلاث مرات فضحك صاحب الدرا ثم قال: إني أحصنت بيتي {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلًا} أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف كة فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشكرون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلًا يقول بين الجهر والمخافتة، وظاهره أن المراد بالصلاة القراءة التي هي أحد أجزائها مجازًا، ويجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي بقراءة صلاتك، والظاهر أن المراد بالقراءة ما يعم البسملة وغيرها وبعض الأخبار يفيد ظاهره تخصيصها بالبسملة، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم وكان مسيلمة قد تسمى الرحمن فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام قالوا: قد ذكر مسيلمة إله اليمامة ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا يخفى على هذه الرواية أشدية مناسبة الآية لما قبلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: كان أبو بكر إذا صلى من الليل خفض صوته جدًا وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جدًا فقال عمر: يا أبا بكر لو رفعت من صوتك شيئًا؛ وقال أبو بكر: يا عمر لو خفضت من صوتك شيئًا فأتياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بأمرهما فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهما فقال: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئًا وقال لعمر اخفض من صوتك شيئًا، وفي رواية أنه قيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي وقد عرف حاجتي، وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: اطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، وأمر التجوز أو حذف المضاف على هذا مثله على الأول وكذا على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولاتخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلًا بالجهر في بعض كالمغرب والعشاء والمخافتة في بعض كما فيما عدا ذلك.
وقيل الصلاة عنى الدعاء لما أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: إنما نزلت هذه الآية {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} في الدعاء، وأخرج نحوه ابن أبي شيبة عن مجاهد، وروى ذلك عن ابن عباس أيضًا ابن جرير وابن المنذر وجماعة وكانوا يجهرون باللهم ارحمني، وأخرجوا عن عبد الله بن شداد أن أعرابًا من بني تميم كانوا إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: أي جهرًا اللهم ارزقنا أبلًا وولدًا فنزلت، وفي رواية أخرى عن عائشة أن الصلاة هنا التشهد وكان الأعراب كما نقل عن ابن سيرين يجهرون بتشهدهم فنزلت، وقيل: الصلاة على حقيقتها الشرعية فقد أخرج ابن عساكر عن الحسن أنه قال: المعنى لا تصل الصلاة رياء ولا تدعها حياء، وروى نحوه ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس أيضًا، والأكثرون على التفسير المروي عنه أولًا، والمخافتة أسرار الكلام بحيث لا يسمعه المتكلم، ومن هنا قال ابن مسعود كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة. وابن جرير: لم يخافت من اسمه أذنيه، وخفت وهو من باب ضرب وخافت عنى يقال خفت يخفت خفتًا وخفوتًا وخافت مخافتة إذا أسر وأخفى، والتعبير عن الأمر الوسط بالسبيل باعتبار أنه مر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب، وقد جاء عن عبد الله بن الشخير وأبي قلابة خير الأمور أوساطها، والآية على ما يقتضيه كلام الأكثرين محكمة، وقيل منسوخة بناء على ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس من أنه صلى الله عليه وسلم أمر كة بالتوسط بأن لا يجهر جهرًا شديدًا ولا يخفض حتى لا يسمع أذنيه فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك، وقيل هي منسوخة بقوله تعالى: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وهو كما ترى، ولا يخفى عليك حكم رفع الصوت بالقراءة فوق الحاجة وحكم المخافتة بالمعنى الذي سمعته المسطوران في كتب الفقه فراجعها إن لم يكن ذلك على ذمر منك، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي رزين قال قرأ عبد الله {وَلاَ تُخَافِتْ بِصَوْتِكَ وَلاَ تُحَرّكْ بِهِ}.