فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (19):

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)}
{وكذلك بعثناهم} أي كما أنمناهم هذه الإنامة الطويلة وهي المفهومة مما مر أيقظناهم فالمشبه الإيقاظ والمشبه به الإنامة المشار إليها ووجه الشبه كون كل منهما آية دالة على كمال قدرته الباهرة عز وجل.
{لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ} أي ليسأل بعضهم بعضًا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة وجعله علة للبعث المعلل بما سبق فيما سبق قيل من حيث أنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر آثاره، وجعل غير واحد اللام للعاقبة، واستظهره الخفاجي وادعى أن من فعل ذلك لاحظ أن الغرض من فعله تعالى شأنه إظهار كمال قدرته لا ما ذكر من التساؤل فتأمل.
{قَالَ} استئناف لبيان تساؤلهم {قَائِلٌ مّنْهُمْ} قيل هو كبيرهم مكسلمينا، وقيل صاحب نفقتهم يمليخا {كَمْ لَبِثْتُمْ} أي كم يومًا أقمتم نائمين، وكأنه قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة، وقيل راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك: {قَالُواْ} أي قال بعضهم: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أو للشك كما قاله غير واحد، والمراد لم نتحقق مقدار لبثنا أي لا ندري أن مدة ذلك هل هي مقدار مدة يوم أو مقدار مدة بعض يوم منه، والظاهر أنهم قالوا ذلك لأن لوثة النوم لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم فلم ينظروا إلى الأمارات، وهذا مما لا غبار عليه سواء كان نومهم وانتباههم جميعًا أو أحدهما في النهار أم لا، والمشهور أن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار، وقيل فلم يدروا أن انتباههم في اليوم الذي ناموا فيه أم في اليوم الذي بعده فقالوا ما قالوا، واعترض بأن ذلك يقتضي أن يكون التردد في بعض يوم ويوم وبعض، ومن هنا قيل إن أو للإضراب، وذلك أنهم لما انتبهوا آخر النهار وكانوا في جوف الغار ولوثة النوم لم تفارقهم بعد قالوا قبل النظر {لَبِثْنَا يَوْمًا} ثم لما حققوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وأنت تعلم أن الظاهر أنها للشك والاعتراض مندفع بإرادة ما سمعت منه، نعم هو في ذلك مجاز، وحكى أبو حيان أنها للتفصيل على معنى قال بعضهم: لبثنا يومًا، وقال آخرون: لبثنا بعض يوم وقول كل مبني على غالب الظن على ما قيل فلا يكون كذبًا؛ ولا يخفى أن القول بأنها للتفصيل مما لا يكاد يذهب إليه الذهن، ولا حاجة إلى بناء الأمر على غالب الظن لنفى أن يكون كذبًا بناءً على ما ذكرنا من أن المراد لم نتحقق مقداره كما ذكره أهل المعاني في قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سلم سهوًا من صلاة رباعية فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: كل ذلك لم يكن {قَالُواْ} أي قال بعض آخر منهم استدلالًا أو إلهامًا {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بما لَبِثْتُمْ} أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه، وهذا رد منهم على الأولين على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب؛ وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وقيل قائل القولين متحد لكن الحالة مختلفة.
وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار على منهاج المحاورة والمجاوبة وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا {فابعثوا أَحَدَكُمْ} أي واحدًا منكم ولم يقل واحدكم لإيهامه إرادة سيدكم فكثيرًا ما يقال جاء واحد القوم ويراد سيدهم {بِوَرِقِكُمْ} أي بدراهمكم المضروبة كما هو مشهور بين اللغويين، وقيل الورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة، واستدل عليه بما وقع في حديث عرفجة أنه لما قطع أنفه اتخذ أنفًا من ورق فانتن فاتخذ أنفًا من ذهب فإن الظاهر أنه أطلق فيه الورق على غير المضروب من الفضة، وقول الأصمعي كما حكى عنه القتيبي الورق في الحديث بفتح الراء، والمراد به الورق الذي يكتب فيه لأن الفضة لا تنتن لا يعول عليه والمنتن الذي ذكره لا صحة له، وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر. والحسن. والأعمش. واليزيدي. ويعقوب في رواية، وخلف وأبو عبيد. وابن سعدان {بِوَرِقِكُمْ} بإسكان الراء، وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف، وكذا إسماعيل عن ابن محيصن، وعنه أيضًا أنه قرأ كذلك إلا أنه كسر الراء لئلا يلزم التقاء الساكنين على غير حدة كما في الرواية الأخرى، وبهذا اعترض عليها. وأجيب بأن ذلك جائز وواقع في كلام العرب لكن على شذوذ، وقد قرئ {نِعِمَّا} [النساء: 58] بسكون العين والادغام، وما قيل إنه لا يمكن التلفظ به قيل عليه إنه سهود وحكى الزجاج أنه قرئ بكسر الواو وسكون الراء من غير إدغام. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه {بوارقكم} على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر وحامل، ووصف الورق بقوله تعالى: {تَبِيدَ هذه} يشعر بأن القائل أحضرها لينًا ولها بعض أصحابه وإشعاره بأنه ناولها إياه بعيد، وفي حملهم لها دليل على أن التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله بحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على الله تعالى كما في الحديث: «اعقلها وتوكل» نعم قال بعض الأجلة: إن توكل الخواص ترك الأسباب بالكلية، ومن ذلك ما روي عن خالد بن الوليد من شرب السم، ومشى سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر ودخول تميم في الغار التي خرجت منه نار الحرة ليردها بأمر عمر رضي الله تعالى عنه.
وقد نص الإمام أحمد. وإسحاق. وغيرهما من الأئمة على جواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبب لمن قوي يقينه وتوكله، وفسر الإمام أحمد التوكل بقطع الاستشراف باليأس من المخلوقين، واستدل عليه بقول إبراهيم عليه السلام حين عرض له جبريل عليه السلام يوم ألقى في النار وقال له: ألك حاجة؟ أما إليك فلا، وليس طرح الأسباب سبيل توكل الخواص عند الصوفية فقط كما يشعر به كلام بعض الفضلاء بل جاء عن غيرهم أيضًا {إلى المدينة} المعهودة وهي المدينة التي خرجوا منها قيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها يوم خرجوا منها أفسوس، وبهذا يجمع بين الروايتين السابقتين، وكان هذا القول صدر منهم إعراضًا عن التعمق في البحث وإقبالًا على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبئ عنه الفاء، وذكر بعضهم أن ذلك من باب الأسلوب الحكيم كقوله:
أتت تشتكي عندي مزاولة القرى ** وقد رأت الضيفان ينحون منزلي

فقلت كأني ما سمعت كلامها ** هم الضيف جدي في قراهم وعجلي

{فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا} أي أحل فإن أهل المدينة كانوا في عهدهم يذبحون للطواغيت كما روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس، وفي رواية أخرى أنهم كانوا يذبحون الخنازير، وقال الضحاك: إن أكثر أموالهم كانت مغصوبة فأزكى من الزكاة وأصلها النمو والزيادة وهي تكون معنوية أخروية وحسية دنيوية وأريد بها الأولى لما في توخي الحلال من الثواب وحسن العاقبة، وقال ابن السائب. ومقاتل: أي أطيب فإن كان عنى أحل لأنه يطلق عليه رجع إلى الأول وإن كان عناه المتبادر فالزيادة قيل حسية دنيوية، وقال عكرمة: أي أكثر.
وقال يمان بن ريان: أي أرخص، وقال قتادة: أي أجود وهو أجود، وعليه وكذا على سابقيه على ما قيل تكون الزيادة حسية دنيوية أيضًا زعم بعضهم أنهم عنوا بالأزكى الأرز وقيل التمر وقيل الزبيب، وحسن الظن بالفتية يقتضي أنهم تحروا الحلال، والنظر يحتمل أن يكون من نظر القلب وأن يكون من نظر العين، وأي استفهام مبتدأ و{أزكى} خبره والجملة معلق عنها الفعل للاستفهام.
وجوز أن يكون أي موصولًا مبنيًا مفعولًا لينظر و{أزكى} خبر مبتدأ محذوف هو صدر الصلة وضمير أيها إما للمدينة والكلام على تقدير مضاف أي أي أهلها وإما للمدينة مرادًا بها أهلها مجازًا، وفي الكلام استخدام ولا حذف، وإما لما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل فلينظر أي الأطعمة أو المأكل أزكى طعامًا {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ} أي من ذلك الأزكى طعامًا فمن لابتداء الغاية أو التبعيض، وقيل الضمير للورق فيكون من للبدل، ثم إن الفتية إن لم يكن تحروا الحلال سابقًا فليكن مرادهم بالرزق هنا الحلال وإن لم يكن مختصًا به عندنا.
واستدل بالآية وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه ما فيه على صحة الوكالة والنيابة. قال ابن العربي: وهي أقوى آية في ذلك وفيها كما قال الكيا دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن تفاوتوا في الأكل نعم لا بأس للأكول أن يزيد حصته من الدراهم {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا تقع خصومة تجر إلى معرفته أو ليتكلف اللطف في الاستخفاء دخولًا وخروجًا، وقيل ليتكلف ذلك كي لا يغبن فيكون قوله تعالى: {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} أي لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم تأسيسًا على هذا وهو على الأولين تأكيد للأمر بالتلطف وتفسيره بما ذكر من باب الكناية نحو لا أرينك هاهنا وفسره الإمام بلا يخبرن بكم أحدًا فهو على ظاهره، وقرأ الحسن {وَلْيَتَلَطَّفْ} بكسر لام الأمر، وعن قتيبة الميال {وَلْيَتَلَطَّفْ} بضم الياء مبنيًا للمفعول. وقرأ هو وأبو صالح. ويزيد بن القعقاع {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} ببناء الفعل للفاعل ورفع أحد على أنه الفاعل.

.تفسير الآية رقم (20):

{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}
{أَنَّهُمْ} تعليل لما سبق من الأمر والنهي والضمير للأهل المقدر في {أيها} [الكهف: 19] أو للكفار الذي دل عليه المعنى على ما اختاره أبو حيان، وجوز أن يعود على {أَحَدٌ} [الكهف: 19] لأنه عام فيجوز أن يجمع ضميره كما في قوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} [الحاقة: 47].
{إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي يطلعوا عليكم ويعلموا كانكم أو يظفروا بكم، وأصل معنى ظهر صار على ظهر الأرض، ولما كان ما عليها يشاهد ويتمكن منه استعمل تارة في الاطلاع، وتارة في الظفر والغلبة وعدى بعلي، وقرأ زيد بن علي {يَظْهَرُواْ} بضم الياء مبنيًا للمفعول {يَرْجُمُوكُمْ} إن لم تفعلوا ما يريدونه منكم وثبتم على ما أنتم عليه، والظاهر أن المراد القتل بالرجم بالحجارة، وكان ذلك عادة فيما سلف فيمن خالف في أمر عظيم إذ هو أشفى للقلوب وللناس فيه مشاركة، وقال الحجاج: المراد الرجم بالقول أي السب، وهو للنفوس الأبية أعظم من القتل {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها مكرهين، والعود في الشيء بهذا المعنى لا يقتضي التبس به قبل، وروي هذا عن ابن جبير، وقيل العود على ظاهره، وهو رجوع الشخص إلى ما كان عليه، وقد كان الفتية على ملة قومهم أولاف، وإيثار كلمة في على كلمة إلى، قال بعض المحققين للدلالة على الاستقرار الذي هو أشد كراهة، وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادة لأن الظاهر من حالهم هو الثبات على الدين المؤدي إليه، وضمير الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في حمل المبعوث على ما أريد منه والباقين على الاهتمام بالتوصية فإن إمحاض النصح أدخل في القبول واهتمام الإنسان بشأن نفسه أكثر وأوفر.
{وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} أي إن دخلتم فيها حقيقة ولو بالكره والإلجاء لن تفوزوا بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة، ووجه الارتباط على هذا أن الإكراه على الكفر قد يكون سببًا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه، وا ذكر سقط ما قيل إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفو في جميع الأزمان فكيف رتب عليه عدم الفلاح أبدًا، ولا حاجة إلى القول بأن إظهار الكفر مطلقًا كان غير جائز عندهم، ولا إلى حمل {يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} على يميلوكم إليها بالإكراه وغيره فتدبر، ثم إن الفتية بعثوا أحدهم وكان على ما قال غير واحد يمليخا فكان ما أشار الله تعالى إليه بقوله سبحانه.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}
{وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي كما أنمناهم وبعثناهم فالإشارة إلى الإنامة والبعث والإفراد باعتبار ما ذكر ونحوه.
وقال العز بن عبد السلام في أماليه: الإشارة إلى البعث المخصوص وهو البعث بعد تلك الإنامة الطويلة، وأصل العثور كما قال الراغب السقوط للوجه يقال عثر عثورًا وعثارًا إذا سقط لوجهه، وعلى ذلك قولهم في المثل الجواد لا يكاد يعثر، وقولهم من سلك الجدد أمن العثار ثم تجوز به في الاطلاع على أمر من غير طلبه.
وقال الإمام المطرزي: لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثرته ورد العثور عنى الاطلاع والعرفان فهو في ذلك مجاز مشهور بعلاقة السببية وإن أوهم ذكر اللغويين له أنه حقيقة في ذلك، وجعله الغوري حقيقة في الاطلاع على أمر كان خفيًا وأمر التجوز على حاله، ومفعول {أَعْثَرْنَا} الأول محذوف لقصد العموم أي وكذلك أطلعنا الناس عليهم.
وقال أبو حيان: أهل مدينتهم {لِيَعْلَمُواْ} أي الذين أطلعناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة {إِنَّ وَعْدَ الله} أي وعده سبحانه وتعالى بالبعث على أن الوعد عناه المصدري ومتعلقه مقدر أو موعوده تعالى شأنه الذي هو البعث على أن المصدر مؤول باسم المفعول المراد موعوده المعهود، ويجوز أن يراد كل وعده تعالى أو كل موعوده سبحانه ويدخل في ذلك ما ذكر دخولًا أوليًا {حَقّ} صادق لا خلاف فيه أو ثابت متحقق سيقع ولابد قيل لأن نومهم الطويل المخالف للمعتاد وانتباههم كالموت والبعث.
{وَأَنَّ الساعة} أي القيامة التي هي في لسان الشرع عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعًا للحساب والجزاء.
{لاَ رَيْبَ فِيهَا} أي ينبغي أن لا يرتاب الآن في إمكان وقوعها لأنه لا يبقى بيد المرتابين في ذلك بعد النظر والبحث سوى الاستناد إلى الاستبعاد وعلمهم بوقوع ذلك الأمر الغريب والحال العجيب الذي لو سمعوه ولم يتحققوا وقوعه لاستبعدوه وارتابوا فيه ارتيابهم في ذلك يكسر شوكة ذلك الاستبعاد ويهدم ذلك الاستناد فينبغي حينئذٍ أن لا يرتابوا.
وقال بعض المحققين في توجيه ترتب العلم بما ذكر على الطلاع: إن من شاهد أنه جل وعلا توفى نفوسهم وأمسكها ثلثمائة سنة وأكثر حافظًا أبدانها من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها لا يبقى معه شائبة شك في أن وعده تعالى حق وأنه تعالى يبعث من في القبول فيرد عليهم أرواحهم فيحاسبهم ويجازيهم بحسب أعمالهم اه.
وأنت تعلم أن في استفادة العلم بالمحاسبة والمجازاة من الاطلاع على حال القوم نظرًا. واعترض بأن المطلوب في البعث إعادة الأبدان بعد تفرق أجزائها وما في القصة طول حفظ الأبدان وأين هذا من ذاك؟ والقول بأنه متى صح طول حفظ الأبدان المحتاجة إلى الطعام والشراب صح قدرته سبحانه على إعادتهما بعد تفرق أجزائها بطريق الأولى غير مسلم.
وأجيب بأن طول الحفظ المذكور يدل على قدرته تعالى على ما ذكر بطريق الحدس فليتدبر.
ولعل الأظهر توجيه الترتب بما ذكره أولا، وتوضيحه أن حال الفتية حيث ناموا في تلك المدة المديدة والسنين العديدة وحبست عن التصرف نفوسهم وتعطلت مشاعرهم وحواسهم من غير تصاعد أبخرة شراب وطعام أو نزول علل وأسقام وحفظت أبدانهم عن التحلل والتفتت وأبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب في سالف الأعوام حتى رجعت الحواس والمشاعر إلى حالها وأطلقت النفوس من عقالها وأرسلت إلى تدبير أبدانها والتصرف في خدامها وأعوانها فرأت الأمر كما كان والأعوام هم الأعوان ولم تنكر شيئًا عهدته في مدينتها ولم تتذكر طول حبسها عن التصرف في سرير سلطنتها، وحال الذي يقومون من قبورهم بعدما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم ثم لما أطلقت وجدت ربوعًا عامرة ومنازل كأنها لم تكن دائرة قائلين قبل أن يشكر عن أنيابه العنا من بعثنا من مرقدنا في الغرابة من صقع واحد ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند، ووقوع الأول يزيل الارتياب في إمكان وقوع الثاني حيث كان مستندًا إلى الاستبعاد في الحقيقة كما سمعت فيما قبل لبطلان أدلة النافين للحسر الجسماني، نعم في ترتب العلم بأن البعث سيقع لا محالة على نفس الاطلاع على حال الفتية خفاء فإن الظاهر أن العلم المذكور إنما يترتب على إخبار الصادق بوقوعه وعلى إمكانه في نفسه لكن لما كان الاطلاع المذكور سببًا للعلم بالإمكان وكان كالجزء الأخير من العلة بالنسبة للكفار الذين بلغهم خبر الصادق قيل يترتب العلم بذلك عليه، وكذا في ترتب العلم بأن كل ما وعده الله تعالى حق على نفس الاطلاع خفاء ولم أر من تعرض لتوجيهه من الفضلاء فتأمل، ثم لا يخفى أن ذكر قوله تعالى: {وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} بعد قوله سبحانه: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} على التفسير الذي سمعت مما لا غيار عليه وليس ذلك من ذكر الإمكان بعد الوقوع ليلغو كما زعمه من زعمه.
وقال بعضهم: إن الظاهر أن يفسر قوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} بأن كل ما وعده سبحانه متحقق ويجعل قوله تاعلى: {وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} تخصيصًا بعد تعميم على معنى لا ريب في تحققها وهو وجه في الآية إة أن في دعوى الظهور مقالًا فلا تغفل {إِذْ يتنازعون} ظرف لأعثرنا عليهم قدم عليه الغاية إظهارًا لكمال العناية بكذرها. وجوز أبو حيان. وأبو البقاء. وغيرهما كونه ظرفًا {لِيَعْلَمُواْ} وتعقب بأنه يدل على أن التنازع يحدث بعد الاعثار مع أنه ليس كذلك، وبأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته؛ وللمناقشة في ذلك مجال.
وجوز أن يكون ظرفًا لحق أو لوعد وهو كنا ترى. وأصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم، وهو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء} [النساء: 59] وضمير {يتنازعون} لما عاد عليه ضمير {لِيَعْلَمُواْ} أي وكذلك أعثرنا على أصحاب الكهف الناس أو أهل مدينتهم حين يتنازعون {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} ويتخاصمون فيه ليرتفع الخلاف ويتبين الحق، وضمير {أَمَرَهُمْ} قيل عائد أيضًا على مفعول {أَعْثَرْنَا} والمراد بالأمر البعث، ومعنى إضافته إليهم اهتمامهم بشأنه والوقوف على حقيقة حاله.
وقد اختلفوا فيه فمن مقربه وجاحد وقائل يقول تبعث الأرواح دون الأجساد وآخر يقول ببعثهما معا كما هو المذهب الحق عند المسلمين. روي أنه بعد أن ضرب الله تعالى على آذان الفتية ومضى دهر طويل لم يبق أحد من أمتهم الذين اعتزلوهم وجاء غيرهم وكان ملكهم مسلمًا فاختلف أهل مملكته في أمر البعث حسا فصل فشق ذلك على الملك فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد ثم دعا الله عز وجل فقال: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم فقيض الله تعالى راعى غنم أدركه المطر فلم يزل يعالج ما سد به دقيانوس باب الكهف حتى فتحه وأدخل غنمه فلما كان الغد بعثوا من نومعم فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعامًا فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق ورأي الإيمان ظاهرًا بالمدينة فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلًا يشتري منه طعامًا فلما نظر الورق أنكرها حيث كانت من ضرب دقيانوس كأنها اخفاف الربع فاتهمه بكنز وقال: لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الملك فقال: هي من ضرب الملك أليس ملككم فلانًا؟ فقال الرجل: لا بل ملكنا فلان وكان اسمه يندوسيس فاجتمع الناس وذهبوا به إلى الملك وهو خائف فسأله عن شأنه فقص عليه القصة وكان قد سمع أن فتية خرجوا على عهد دقيانوس فدعا مشيخة أهل مدينته وكان رجل منهم عنده أسماؤهم وأنسابهم فسأله فأخبره بذلك وسأل الفتى فقال: صدق ثم قال الملك: أيها الناس هذه آية بعثها الله تعالى لكم ثم خرج هو وأهل المدينة ومعهم الفتى فلما رأى الملك الفتية اعتنقهم وفرح بهم ورآهم جلوسًا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فتكلموا معه وأخبروه بما لقوا من دقيانوس فبينما هم بين يديه قالوا له: نستودعك الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله تعالى حفظك الله تعالى وحفظ ملكك ونعيذك بالله تعالى من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم فتوفاهم الله تعالى فقام الملك إليهم وجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل كل منهم في تابوت من ذهب فلما كان الليل ونام أتوه في المنام فقالوا: أردت أن تجعل كلا منا في تابوت من ذهب فلا تفعل ودعنا في كهفنا فمن التراب خلقنا وإليه نعود فجعلهم في توابيت من ساج وبنى على باب الكهف مسجدًا.
ويروى أن الفتى لما أتى به إلى الملك قال: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقوامًا لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وأن أسماءهم مكتوبة على لوح في الخزانة فدعا باللوح ونظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم فقال الفتى: وهؤلاء أصحابي فركب القوم ومن معه فلما أتوا باب الكهف قال الفتى: دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إذا رأوكم معي رعبوا فدخل فبشرهم وقبض الله تعالى أرواحهم وعمي على الملك ومن معه أثرهم فلم يهتدوا إليهم فبنوا عليهم مسجدًا وكان وقوفهم على حالهم باخبار الفتى وقد اعتمدوا صدقه وهذا هو المراد بالاعثار عليهم، وروي غير ذلك، وقيل: ضمير {أَمَرَهُمْ} للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان قبل الاعثار أي وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تذاكرهم بينهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار من الأحوال والأهوال، ولعلهم قد تلقوا ذلك من الأساطير وأفواه الرجال لكنهم لم يعرفوا هل بقوا أحياء أم حل بهم الفناء، والفاء في قوله تعالى: {فَقَالُواْ ابنوا} بناء على القول الأول فصيحة بلا ريب على دأب اخصارات القرآن كأنه قيل: وكذلك اعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تنازعهم في أمر البعث فتحققوا ذلك وعلموا أن هؤلاء آية من آياتنا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الاعثار فقالوا {ابنوا} إلى آخره، وكذلك على القول الثاني كأنه قيل وكذلك اعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تذاكرهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار ولم يكونوا عارفين بما هم عليه فوقفوا من أحوالهم على ما وقفوا واتضح لهم ما كانوا قد جهلوا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الاعثار فقالوا {ابنوا} إلى آخره أي قال بعضهم ابنوا {عَلَيْهِمْ} أي على باب كهفهم {بنيانا} نصب على أنه مفعول به، وهو كما قال الراغب واحد لا جمع له، وقالوا أبو البقاء: هو جمع بنيانة كشعير وشعيرة، وقيل: هو نصب على المصدرية، وهذا القول من البعض عند بعض كان عن اعتناء بالفتية وذلك أنهم ضنوا بتربهم فطلبوا البناء على باب كهفهم لئلا يتطرق الناس إليهم.
وجوزوا في قوله تعالى: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} بعد القول بأنه اعتراض أن يكون من كلام المتنازعين المعثرين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك فوضوا العلم إلى الله تعالى علام الغيوب، وأن يكون من كلامه سبحانه ردا للخائضين في أمرهم إما من المعثرين أو ممن كان في عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وحينئذ يكون فيه التفات على أحد المذهبين، وقيل: ضمير {أَمَرَهُمْ} للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان بعد الإعثار على أن المعنى إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم وحالهم حين توفوا كيف يفعلون بهم واذا يجعلون قدرهم أو إذ يتنازعون بينهم أمرهم من الموت والحياة حيث خفي عليهم ذلك بعد الاعثار فلم يدروا هل ماتوا أو ناموا كما في أول مرة، وعلى هذا تكون {إِذْ} معمولا لا ذكر مضمرًا أو ظرفًا لقوله تاعلى: {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} ويكون قوله تعالى: {فَقَالُواْ} معطوفًا على {يتنازعون} وإيثار صيغة الماضي للدلالة على أن هذا القول ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازع.
وصرح بعض الأجلة أن الفاء على أول المعنيين للتعقيب وعلى ثانيهما فصيحة كأنه قيل: اذكر حين يتنازعون في أنهم ماتوا أو ناموا ثم فرغوا من التنازع في ذلك واهتموا باجلال قدرهم وتشهير أمرهم فقالوا: {ابنوا} إلى آخره، وذكر الزمخشري احتمال كون ضمير {أَمَرَهُمْ} للمعثرين وان المراد من أمرهم أمر دينهم وهو البعث واحتمال كون الضمير للفتية، والمعنى حينئذ إذ يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم أو إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم، وجعل إذ في الأوجه ظرفًا لأعثرنا. وذكر صاحب الكشف أن الفاء على الأول فصيحة لا محالة وعلى الأخيرين للتعقيب، أما على الثاني منهما فظاهر، وأما على الأول فلأنهم لما تذاكروا قصتهم وحالهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم قالوا: دعوا ذلك وابنوا عليهم بنيانًا أي خذوا فيما هو أهم إلى آخر ما قال، واحتمال جعل الفاء فصيحة على هذا الأول غير بعيد، وتعلق الظرف بأعثرنا على الوجهين الأخيرين وكذا على ما نقلناه آنفًا ليس بشيء لأن اعثارهم ليس في وقت التنازع فيما ذكر بل قبله.
وجعل وقت التنازع ممتدًا يقع في بعضه الاعثار وفي بعضه التنازع تعسف لا يخفى مع أنه لا مخصص لإضافته إلى التنازع وهو مؤخر في الوقوع. وحكى في البحر أن ضمير {لِيَعْلَمُواْ} عائد على أصحاب الكهف، والمراد اعتثرنا عليهم ليزدادوا علمًا بأن وعد الله حق إلى آخره، وجعل ذلك غاية للاعثار بواسطة وقوفهم بسببه على مدة لبثهم بما تحققوه من تبدل القرون، وجعل {إِذْ يتنازعون} على هذا ابتداء أخبار عن القوم الذين بعثوا في عهدهم، وخص الأمر المتنازع فيه بأمر البناء والمسجد، ويختار حينئذ تعلق الظرف باذكر، ولا يخفى أن جعل ذلك الضمير للفتية وإن دعا لتأويل يعلموا بما سمعت ليس ببعيد الإرادة من النظم الكريم إذا قطع النظر عن الأمور الخارجية كالآثار، ولم يذهب أحد فيما اعلم إلى احتمال كون الضمائر في قوله تعالى: {إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} عائدة على الفتية كضمير يعلموا، و{إِذْ} ظرف {أَعْثَرْنَا} والمراد بالأمر المتنازع مقدار زمن لبثهم وتنازعهم فيه قول بعضهم:{لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] وقول الآخر ردًا عليه {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بما لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] وحيث لم ينصح الحال ولم يحصل الإجماع على مقدار معلوم كان التنازع في حكم الباقي فكان زمانه ممتدًا فصح أن يكون ظرفًا للاعثار وضمير {فَقَالُواْ} للمعثرين والفاء فصيحة أي وكذلك أعثرنا الناس على الفتية وقت تنازعهم في مدة لبثهم ليزدادوا علمًا بالبعث فكان ما كان وصار لهم بين الناس شأن أي شأن فقالوا: {ابنوا} إلى آخره.
وكأن ذلك لما فيه من التكلف مع عدم مساعدة الآثار إياه، ثم ما ذكر من احتمال كون {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} من كلامه سبحانه جيء به لرد المتنازعين من المعثرين لا يخلو عن بعد، وإما الاحتمال الأخير فبعيد جدًا، والظاهر أنه حكاية عن المعثرين وهو شديد الملاءمة جدًا لكون التنازع في أمرهم من الموت والحياة، والذي يقتضيه كلام كثير من المفسرين أن غرض الطائفتين القائلين {ابنوا} إلى آخره والقائلين {لَنَتَّخِذَنَّ} إلى آخره تعظيمهم وإجلالهم، والمراد من الذين غلبوا على أمرهم كما أخرج عبد الرزاق. وابن أبي حاتم عن قتادة الولاة، ويلائمه {لَنَتَّخِذَنَّ} دون اتخذوا بصيغة الطلب المعبر بها الطائفة الأولى فإن مثل هذا الفعل تنسبه الولاة إلى أنفسها، وضمير {أَمَرَهُمْ} هنا قيل للموصول المراد به الولاة، ومعنى غلبتهم على أمرهم أنهم إذا أرادوا أمرًا لم يتعسر عليهم ولم يحل بينه وبينهم أحد كما قيل. في قوله تعالى: {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} [يوسف: 21].
وذكر بعض الأفاضل أن الضمير لأصحاب الكهف، والمراد بالذين غلبوا قيل الملك المسلم، وقيل أولياء أصحاب الكهف؛ وقيل رؤساء البلد لأن من له الغلبة في هذا النزاع لابد أن يكون أحد هؤلاء، والمذكور في القصة أن الملك جعل على باب الكهف مسجدًا وجعل له في كل سنة عيدًا عظيمًا. وعن الزجاج أن هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث لأن المساجد إنما تكون للمؤمنين به انتهى.
ويبعد الأول التعبير بما يدل على الجمع، والثاني إن أريد من الأولياء الأولياء من حيث النسب كما في قولهم أولياء المقتول أنه لم يوجد في أثر أن لأصحاب الكهف حين بعثوا أولياء كذلك. وفسر غير واحد الموصول بالملك والمسلمين ولا بعد في إطلاق الأولياء عليهم كما في قوله تعالى: {المؤمنين والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71] ويدل هذا على أن الطائفة الأولى لم تكن كذلك، وقد روي أنها كانت كافرة وأنها أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجدًا. وظاهر هذا الخبر أن المسجد مقابل البيعة، وما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من أن الملك بنى عليهم بيعة فكتب في أعلاها أبناء الأراكنة أبناء الدهاقين ظاهر في عدم المقابلة، ولعله الحق لأنه لا يصح أن يراد بالمسجد هنا ما يطلق عليه اليوم من مصلي المحمديين بل المراد به معبد المؤمنين من تلك الأمة وكانوا على ما سمعت أولا نصارى وإن كان في المسألة قول آخر ستسمعه إن شاء الله تعالى قريبًا ومعبدهم يقال له بيعة، وظاهر ما تقدم أن المسجد اتخذ لأن يعبد الله تعالى فيه من شاء وأخرج أبو حاتم عن السدى أن الملك قال: لأتخذن عند هؤلاء القوم الصالحين مسجدًا فلأعبدن الله تعالى فيه حتى أموت، وعن الحسن أنه اتخذ ليصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا، وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولًا وإليه ذهب بعضهم بل قيل إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شيء بالخرافات. ثم لا يخفى أنه على القول بأن الطائفة الأولى الطالبة لبناء البنيان عليهم إذا كانت كافرة لم تكن غاية الاعثار متحققة في جميع المعثرين، ولا يتعين كون {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} مساقًا لتعظيم أمر أصحاب الكهف، ولعل تلك الطائفة لم تتحقق حالهم وأنهم ناموا تلك المدة ثم بعثوا فطلبت انطماس الكهف عليهم وأحالت أمرهم إلى ربهم سبحانه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقرأ الحسن. وعيسى الثقفي {غَلَبُواْ} بضم الغين وكسر اللام على أن الفعل مبني للمفعول، ووجه بذلك بأن طائفة من المؤمنين المعثرين أرادت أن لا يبني عليهم شيء ولا يتعرض لموضعهم وطائفة أخرى منهم أرادت البناء وأن لا يطمس الكهف فلم يمكن للطائفة الأولى منعها ووجدت نفسها مغلوبة فقالت: إن كان بنيان ولابد فلنتخذن عليهم مسجدًا.
هذا واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك. وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد، فقد روي أحمد. وأبو داود. والترمذي. والنسائي. وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ومسلم «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» واحمد عن أسامة وهو الشيخان.
والنسائي عن عائشة، ومسلم عن أبي هريرة: «لعن الله تعالى اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وأحمد. والشيخان. والنسائي «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة» وأحمد. والطبراني «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد» وعبد الرزاق «من شرار أمتي من يتخذ القبور مساجد» وأيضًا «كانت بنوا اسرائيل اتخذوا القبور مساجد فلعنهم الله تعالى» إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة.
وذكر ابن حجر في الزواجر أنه وقع في كلام بعض الشافعية عد اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر، وكأنه أخذ ذلك مما ذكر من الأخاديث، ووجه اتخاذ القبر مسجدًا واضح لأنه عليه الصلاة والسلام لعن من فعل ذلك في قبور الأنبياء عليهم السلام وجعل من فعل ذلك بقبور الصلحاء شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة ففيه تحذير لنا، واتخاذ القبر مسجدًا معناه الصلاة عليه أو إليه وحينئذ يكون قوله والصلاة إليها مكررًا إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط، نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه رواية: «إذا كان فيهم الرجل الصالح» ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم وأن يقصد الصلاة إليها، ومثل الصلاة عليه التبرك والاعظم، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث، وكأنه قاس عليه كل تعظيم للقبر كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به والطواف به كذلك وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرح في بعض الأحاديث المذكورة بلعن من اتخذ على القبر سراجًا فيحمل قول الأصحاب بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيمًا وتبركًا بذي القبر.
وقال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركًا به عين المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل للنهي عنها ثم إجماعًا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك وأمر بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ولا يصح وقفه ولانذره اه.
وفي المنهاج وشرحه للعلامة المذكور ويكره تجصيص القبر والبناء عليه في حريمه وخارجه في غير المسبلة إلا إن خشى نبش أو حفر سبع أو هدم سيل ويحرم البناء في المسبلة، وكذا تكره الكتابة عليه للنهي الصحيح عن الثلاثة سواء كتابة اسمه وغيره في لوح عند رأسه أو في غيره، نعم بحث الأذرعي حرمة كاتبة القرآن لتعريضه للامتهان بالدوس والتنجيس بصديد الموتى عند تكرر الدفن ووقوع المطر، وندب كتابة اسمه لمجرد التعريف به على طول السنين لاسيما قبور الأنبياء والصالحين لأنه طريق للاعلام المستحب.
ولما روي الحاكم النهي قال: ليس العمل عليه الآن فإن أئمة المسلمين من المشرق والمغرب مكتوب على قبورهم فهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. ويرد نع هذه الكلية وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبلة كما هو مشاهد لاسيما بالحرمين ومصر ونحوها وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي، فإن قلت: هو إجماع فعلى فهو حجة كما صرحوا به قلت: ممنوع بل هو أكثري فقط إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه، وبفرض كونه إجماعًا فعليًا فمحلحجيته كما هو ظاهر إنما هو عند صلاح الأزمنة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تعطل ذلك منذ أزمنة.
ولو بنى نفس القبر لغير حاجة مما مر كما هو ظاهر أو نحو تحويط أو قبة عليه في مقبرة مسبلة كارض موات اعتادوا الدفن فيها أو موقوفة لذلك بل هي أولى هدم وجوبًا لحرمته كما في المجموع لما فيه من التضييق مع أن البناء يتأبد بعد انمحاق الميت فيحرم الناس تلك البقعة، وهل من البناء ما اعتيد من جعل أربعة أحجار مربعة محيطة بالقبر مع لصق كل رأس منها برأس الآخر بجص محكم أولًا لأنه لا يسمى بناء عرفًا؟ والذي يتجه الأول لأن العلة من التأبيد موجودة هنا، وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة فيتعين الرفع للإمام أخذًا من كلام ابن الرفعة في الصلح انتهى.
وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي كرم الله تعالى وجهه أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا الا سويته، قال ابن الهمام في فتح القدير: وهو محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء الحسن العالي، والأحاديث وكلام العلماء المنصفين المتبعين لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء عن السلف الصالح أكثر من أن يحصى، لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا وقد استدل بها فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها».
الحديث ثم تلا قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِى} [طه: 14] وهو مقول لموسى عليه السلام وسياقه الاستدلال.
واحتج محمد على جواز قسمة الماء بطريق المهايأة بقوله تعالى: {لَّهَا شِرْبٌ} [الشعراء: 155] الآية {وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] وأبو يوسف على جرى القود بين الذكر والأنثى بآية {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 45] والكرخي على جريه بين الحر والعبد والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل إلى غير ذلك لأنا نقول: مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان إنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقًا بل إن قصه الله تعالى علينا بلا إنكار وإنكار رسوله صلى الله عليه وسلم كانكاره عز وجل، وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفًا احتجاج الأئمة بها وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسس بهم فمتى لم يثبت أن فيهم معصومًا لا يدل فعلهم فضلًا عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده، ومما يقوى قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين كما روي عن قتادة؛
وعلى هذا لقائل أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده وكف كف التعرض عن أصحابه فلم يقبل الأمراء منهم وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد، وكان الأولين إنما لم يشريوا بالدفن مع أن الظاهر أنه هو المشروع إذ ذاك في الموتى كما أنه هو المشروع عندنا فيهم لعدم تحققهم موتهم، ومنعهم من تحقيقه انهم لم يقدروا كما أخرج عبد الرزاق. وابن المنذر عن وهب بن منبه على الدخول عليهم لما أفيض عليهم من الهيبة ولهذا قالوا: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول: إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طرز اتخاذ المساجد على القبور المنهى عنه الملعون فاعله وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريبًا من كهفهم، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدى. ووهب، ومثل هذا الاتخاذ ليس محظورًا إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه كنسبة المسجد النبوي إلى المرقد المعظم صلى الله عليه وسلم، ويكون قولهم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ} على هذا لمشاكلة قول الطائفة {ابنوا عَلَيْهِمْ} وإن شئت قلت: إن ذلك الاتخاذ كان على الكهف فوق الجبل الذي هو فيه، وفي خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبني على كهفهم مسجدًا وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الاعثار عليهم وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولًا فلا يحتاج إليه على ما قيل، وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة معولًا على الاستدلال بهذه الآية فإن ذلك في الغواية غاية وفي قلة النهي نهاية، ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من أشرافها وبنائها بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها والصلاة إليها والطواف بها واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك محتجًا بهذه الآية الكريمة وا جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيدا وجعله إياهم في توابيت من ساج ومقيسا البعض على البعض وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل.
ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره عليه الصلاة والسلام وهو أفضل قبر على وجه الأرض بل أفضل من العرش، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه عليه الصلاة والسلام فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك.
ثم أعلم أنهم اختلفوا في تعيين موضع المسجد والكهف وقد مرت عليك بعض الأقوال. وفي البحر أن في الشام كهفا فيه موتى ويزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف؛ قال ابن عطية: دخلت عليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلا حصن غرناطة مما يلى القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب انتهى، وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم وأن معهم كلبا ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم، وأما ما ذكره من المدينة القديمة فقد مررت عليها مرارًا لا تحصى وشاهدت فيها حجارة كبارًا، ويترجح كون ذلك بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرف إلا بوحي من الله تعالى انتهى.
وما تقدم من خبر ابن عباس. ومعاوية يضعف ما ادعى ترجحه لأن معاوية لم يدخل الأندلس، وتسمية الأندلسيين نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم كما في البحر أيضًا لا يجدي نفعًا، وقد عول الكثير على أن ذلك طرسوس والله تعالى أعلم.