فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (32):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)}
{واضرب لَهُم} للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي والكفرة الذين طلبوا طردهم {مَثَلًا رَّجُلَيْنِ} مفعولان لا ضرب ثانيهما أولهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان قاله بعضهم، وقد مر تحقيق هذا المقام فتذكر، والمراد بالرجلين إما رجلان مقدران على ما قيل وضرب المثل لا يقتضي وجودهما وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه، فقيل هما أخوان من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه فرطوس، وقيل اسمه قطفير والآخر مؤمن اسمه يهوذا في قول ابن عباس.
وقال مقاتل: اسمه يمليخا، وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله، وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالًا؛ وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضًا بألف فقال المؤمن: اللهم أنا أشتري منك أرضًا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارًا بألف فقال: اللهم إني أشتري منك دارًا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال: اللهم إني جعلت ألفًا صداقًا للحور فتصدق به ثم اشترى أخوه خدمًا ومتاعًا بألف فقال: اللهم إني أشتري منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق اله، وقيل: هما أخوان من بني مخزوم كافر هو الأسود بن الأسد ومؤمن هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والمراد ضربهما مثلًا للفريقين المؤمنين والكافرين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفًا من أن للمؤمنين في الآخرة كذا وللكافرين فيها كذا بل من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر أي اضرب لهم مثلًا من حيثية العصيان مع النعمة والطاعة مع الفقر حال رجلين {جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا} وهو الكافر {جَنَّتَيْنِ} بستانين لم يعين سبحانه مكانهما إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة.
وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه عجائب البلاد أن بحيرة تينس كانت هاتين الجنتين فجرى ما جرى ففرقهما الله تعالى في ليلة واحدة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه قول آخر، والجملة بتمامها تفسير للمثل فلا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لرجلين فموضعها النصب {مّنْ أعناب} من كروم متنوعة فالكلام على ما قيل إما على تقدير مضاف وإما الأعناب فيه مجاز عن الكروم وهي أشجار العنب، والمفهوم من ظاهر كلام الراغب أن العنب مشترك بين الثمرة والكرم وعليه فيراد الكروم من غير حاجة إلى التقدير أو ارتكاب المجاز، والداعي إلى إرادة ذلك أن الجنة لا تكون من ثمر بل من شجر {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي جعلنا النخل محيطة بهما مطيفة بحفافيهما أي جانبيهما مؤزرًا بها كرومهما يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولًا آخر كقولك غشيته به {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} وسطهما {زَرْعًا} لتكونا جامعتين للأقوات والفواكه متواصلتي العمارة على الهيئة الرائقة والوضع الأنيق.

.تفسير الآية رقم (33):

{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)}
{كِلْتَا الجنتين أتَتْ أُكُلُهَا} ثمرها وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل، و{كِلْتَا} اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين وهو المذهب المشهور ومثنى لفظًا ومعنى عند البغداديين وتاؤه منقلبة عن واو عند سيبويه فاصلة كلوى فالألف فيه للتأنيث. ويشكل على هذا إعرابه بالحروف بشرطه، ويجاب بما أجيب به عن الإشكال في الأسماء الخمسة. وعند الجرمي الألف لام منقلبة عن أصلها والتاء زائدة للتأنيث. ويرد عليه أنه لا يعرف فعتل وأن التاء لا تقع حشوًا ولا بعد ساكن صحيح؛ وعلى المشهور يجوز في ضميره مراعاة لفظه ومراعاة معناه وقد روعي الأول هنا والثاني فيما بعد. وفي مصحف عبد الله {كَلاَّ الجنتين اتِى} بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ثم قرأ {اتَتْ} فأنث لأنه ضمير مؤنث، ولا فرق بين حقيقية ومجازية فالتركيب نظير قولك: طلع الشمس وأشرقت وقال: إن عبد الله قرأ {كُلٌّ الجنتين أتى أَكَلَهُ} فذكر وأعاد الضمير على كل.
{وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ} أي لم تنقص من أكلها {شَيْئًا} من النقص على خلاف ما يعهد في سائر البساتين فإن الثمار غالبًا تكثر في عام وتقل في عام وكذا بعض الأشجار تأتي بالثمار في بعض الأعوام دون بعض، وجوز أن يكون {تَظْلِمِ} متعديًا و{شَيْئًا} مفعوله والمآل واحد {وَفَجَّرْنَا خلالهما} أي فيما بين كلتا الجنتين {نَهَرًا} ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما، قال يحيى بن أبي عمرو الشيباني: وهذا النهر هو المسمى بنهر أبي فرطس وهو على ما قال ابن أبي حاتم نهر مشهور في الرملة، وقيل المعنى فجرنا فيما بين كل من الجنتين نهرًا على حدة فيكون هناك نهران على هذا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وتشديد فجر قيل للمبالغة في سعة التفجير، وقال الفراء: لأن النهر ممتد فكأنه أنهار.
وقرأ الأعمش. وسلام. ويعقوب. وعيسى بن عمر {فجرنا} بالتخفيف على الأصل، وأقر أبو السمال. والعياض ابن غزوان. وطلحة بن سليمان {خلالهما نَهَرًا} بسكون الهاء وهو لغة جارية فيه وفي نظائره، ولعل تأخير ذكر التفجير عن ذكر الإيتاء مع أن الترتيب الخارجي على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لانفهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مترتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة، وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقي كقوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء} [النور: 35] قاله شيخ الإسلام:

.تفسير الآية رقم (34):

{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)}
{وَكَانَ لَهُ} أي للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين {ثَمَرٌ} أنواع المال كما في القاموس. وغيره ويقال: ثمر إذا تمول، وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان. وغيره غير مناسب للنظم.
وقرأ ابن عباس. ومجاهد. وابن عامر. وحمزة. والكسائي. وابن كثير. ونافع. وقراء المدينة {ثَمَرٌ} بضم الثاء والميم، وكذا في {بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] الآتي وهو جمع ثمار بكسر الثاء جمع ثمر بفتحتين فهو جمع الجمع ومعناه على نحو ما تقدم أي أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغيرها، وبذلك فسره ابن عباس. وقتادة وغيرهما، وقال مجاهد. يراد به الذهب والفضة خاصة، وقرأ الأعمش. وأبو رجاء. وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم تخفيفًا هنا وفيما بعد والمعنى على ما سمعت، وقرأ أبو رجاء في رواية {ثَمَرٌ} بالفتح والسكون.
وفي مصحف أبي وحمل على التفسير {وَءاتَيْنَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا} {فَقَالَ لصاحبه} المؤمن، والمراد بالصاحب المعنى اللغوي فلا ينافي هذا العنوان القول بأنهما كانا أخوين خلافًا لمن وهم {وَهُوَ} أي القائل {يحاوره} أي يحاور صاحبه فالجملة في موضع الحال من القائل، والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث وإشراكه بالله تعالى، وجوز أن تكون الجملة حالًا من صاحبه فضمير {هُوَ} عائد عليه وضمير صاحبه عائد على القائل أي والصاحب المؤمن يراجع بالوعظ والدعوة إلى الله عز وجل ذلك الكافر القائل له {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} حشمًا وأعوانًا، وقيل: أولادًا ذكورًا، وروي ذلك عن قتادة. ومقاتل، وأيد قابلته بأقل منك مالًا وولدًا وتخصيص الذكور لأنهم الذين ينفرون معه لمصالحه ومعاونته، وقيل: عشيرة ومن شأنهم أنهم ينفرون مع من هو منهم، واستدل بذلك على أنه لم يكن أخاه لأن العشيرة مشتركة بينهما وملتزم الاخوة لا يفسر بذلك، ونصب {مالاف ونفرًا} على التمييز وهو على ما قيل محول عن المبتدأ، والظاهر أن المراد من أفعل التفضيل معناه الحقيقي وحينئذٍ يرد بذلك ما في بعض الروايات من أن الأخ المؤمن بقي بعد التصدق اله فقيرًا محتاجًا فسأل أخاه الكافر ولم يعطه ووبخه على التصدق.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)}
{وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} أي كل ما هو جنة له يتمتع بها بناءًا على أن الإضافة للاستغراق والعموم فتفيد ما أفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير ذلك ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون وإلى هذا ذهب الزمخشري وهو معنى لطيف دق تصوره على أبي حيان فتعقبه بما تعقبه. واختار أن الإفراد لأن الدخول لا يمكن أن يكون في الجنتين معًا في وقت واحد وإنما يكون في واحدة واحدة وهو خال عما أشير إليه من النكتة.
وكذا ما قيل إن الإفراد لاتصال إحداهما بالأخرى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في قوله تعالى: {جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} [الكهف: 32] إلخ الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كان جنتين وسماه سبحانه جنة من قبل الجدار المحيط به وهو كما ترى، والذي يدل عليه السياق والمحاورة أن المراد ودخل جنته مع صاحبه {وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} جملة حالية أي وهو ضار لنفسه بكفره حيث عرضها للهلاك وعرض نعمتها للزوال أو واضع الشيء في غير موضعه حيث كان اللائق به الشكر والتواضع لا ما حكى عنه.
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من ذكر دخول جنته حال ظلمه لنفسه كأنه قيل فماذا قال إذ ذاك؟ فقيل قال: {مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ} أي تهلك وتفنى يقال باديبيد بيدا وبيودا وبيدودة إذا هلك {هذه} أي الجنة {أَبَدًا} أي طول الحياة فالمراد بالتأبيد طول المكث لا معناه المتبادر، وقيل يجوز أن يكون أراد ذلك لأنه لجهله وإنكاره قيام الساعة ظن عدم فناء نوعها وإن فنى كل شخص من أشجارها نحو ما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم في الحركات الفكلية وليس بشيء، وقيل ما قصد إلا أن هذه الجنة المشاهدة بشخصها لا تفنى على ما يقوله الفلاسفة على المشهور في الأفلاك أنفسها وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل، وقيل {هذه} إشارة إلى الأجرام العلوية والأجسام السفلية من السموات والأرض وأنواع المخلوقات أو إشارة إلى الدنيا والمآل واحد والظاهر ما تقدم، وأيًا ما كان فلعل هذا القول كان منه قابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الصالحات الباقيات، ولعله خوفه أيضًا بالساعة فقال له:

.تفسير الآية رقم (36):

{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)}
ولعله خوفه أيضًا بالساعة فقال له: {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} أي كائنة فيما سيأتي فالقيام الذي هو من صفات الأجسام مجاز عن الكون والتحقق لكنه جار في العرف مجرى الحقيقة {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى} بالبعث عند قيامها كما زعمت {لاجِدَنَّ} حينئذٍ {خَيْرًا مّنْهَا} أي من هذه الجنة.
وقرأ ابن الزبير. وزيد بن علي. وأبو بحرية. وأبو جعفر. وشيبة. وابن محيصن. وحميد. وابن مناذر ونافع. وابن كثير. وابن عامر {مِنْهُمَا} بضمير التثنية وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام أي من الجنتين {مُنْقَلَبًا} أي مرجعًا وعاقبة لفناء الأولى وبقاء الأخرى على زعمك، وهو تمييز محول من المبتدأ على ما نص عليه أبو حيان، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه وهذا كقوله تعالى حكاية {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] ولم يدر أن ذلك استدراج، وكأنه لسبق ما يشق عليه فراقه وهي الجنة التي ظن أنها لا تبيد جاء هنا {رُّدِدتُّ} ولعدمه فيما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى من آية حم المذكورة جاء {رُّجّعْتُ} [فصلت: 50] فليتأمل.

.تفسير الآية رقم (37):

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)}
{قَالَ لَهُ صاحبه} استئناف كما سبق {وَهُوَ يحاوره} جملة حالية كالسابقة، وفائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوها كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة.
وقرأ أبي وحمل ذلك على التفسير {وَهُوَ} {يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} أي في ضمن خلق أصلك منه وهو آدم عليه السلام لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواءً إجماليًا مستتبعًا لجريان آثارها على الكل فإسناد الخلق من تراب إلى ذلك الكافر حقيقة باعتبار أنه مادة أصله، وكون ذلك مبنيًا على صحة قياس المساواة خيال واه، وقيل خلقك منه لأنه أصل مادتك إذ ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب فالإسناد مجاز من إسناد ما للسبب إلى المسبب فتدبر.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} هي مادتك القريبة فالمخلوق واحد والمبدأ متعدد، ونقل أنه ما من نطفة قدر الله تعالى أن يخلق منها بشرًا إلا وملك موكل بها يلقى فيها قليلًا من تراب ثم يخلق الله تعالى منها ما شاء من ذكر أو أنثى.
وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى ثبوت صحته، وأنا أقول: غالب ظني أني وقفت على تصحيحه لكن في تخريج الآية عليه كلام لا يخفى {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا؛ وأصل معنى التسوية جعل الشيء سواء أي مستويًا كما فيما {تسوى بِهِمُ الأرض} [النساء: 42] ثم إنه يستعمل تارة عنى الخلق والإيجاد كما في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] فإذا قرن بالخلق والإيجاد كما هنا فالمراد به الخلق على أتم حال وأعدله حسا تقتضيه الحكمة بدون إفراط ولا تفريط، ونصب {رَجُلًا} على ما قال أبو حيان على الحال وهو محوج إلى التأويل.
وقال الحوفي: نصب على أنه مفعول ثان لسوى، والمراد ثم جعلك رجلًا، وفيه على ما قيل تذكير بنعمة الرجولية أي جعلك ذكرًا ولم يجعلك أنثى.
والظاهر أن نسبة الكفر بالله تعالى إليه لشكه في البعث وقوله: {مَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36] والشاك في البعث كما في الكشف كافر من أوجه الشك في قدرته تعالى وفي أخباره سبحانه الصدق وفي حكمته ألا ترى إلى قوله عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] وهذا هو الذي يقتضيه السياق لأن قوله: {أَكَفَرْتَ} إلخ وقع ردًا لقوله: {مَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36] ولذلك رتب الإنكار بخلقه من تراب ثم من نطفة الملوح بدليل البعث وعليه أكثر المفسرين ونوقشوا فيه.
وقال بعضهم: الظاهر إنه كان مشركًا كما يدل عليه قول صاحبه تعريضًا به {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} [الكهف: 38] وقوله: {ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا} [الكهف: 42] وليس في قوله: {لئن رُّدِدتُّ إلى رَبّى} [الكهف: 36] ما ينافيه لأنه على زعم صاحبه كما مر مع أن الإقرار بالربوبية لا ينافي الإشراك فعبدة الأصنام مقرون بها وهم مشركون فالمراد بقوله: {أَكَفَرْتَ} أأشركت اه، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ما يتعلق به.
وقرأ ثابت البناني وحمل ذلك على التفسير كنظائره المتقدمة ويلك أكفرت.