فصل: تفسير الآية رقم (114):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (114):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله} نزلت في طيطوس بن إسيانوس الرومي وأصحابه وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير وبقي خرابًا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في مشركي العرب منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام، وعلى الأول: تكون الآية معطوفة على قوله تعالى: {وَقَالَتِ النصارى} [البقرة: 113] عطف قصة على قصة تقريرًا لقبائحهم، وعلى الثاني: تكون اعتراضًا بأكثر من جملة بين المعطوف أعني {قَالُواْ اتخذ} [البقرة: 116] والمعطوف عليه أعني {قَالَتْ اليهود} [البقرة: 113] لبيان حال المشركين الذين جرى ذكرهم بيانًا لكمال شناعة أهل الكتاب فإن المشركين الذين يضاهونهم إذا كانوا أظلم الكفرة، وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد وخصوص السبب لا يمنعه، و{أَظْلَمَ} أفعل تفضيل خبر عن من ولا يراد بالاستفهام حقيقته وإنما هو عنى النفي فيؤول إلى الخبر أي لا أحد أظلم من ذلك واستشكل بأن هذا التركيب قد تقرر في القرآن كـ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22] {فمن أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} [الأنعام: 144] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله} [الأنعام: 157] إلى غير ذلك فإذا كان المعنى على هذا لزم التناقض، وأجيب بالتخصيص إما بما يفهم من نفس الصلات أو بالنسبة إلى من جاء بعد من ذلك النوع ويؤول معناه إلى السبق في المانعية أو الافترائية مثلًا، واعترض بأن ذلك بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى، فالأولى أن يجاب بأن ذلك لا يدل على نفي التسوية في الأظلمية وقصارى ما يفهم من الآيات أظلمية أولئك المذكورين فيها ممن عداهم كما أنك إذا قلت لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد لا يدل على أكثر من نفي أن يكون أحد أفقه منهم، وإما أنه يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر فلا، ولا يرد أن من منع مساجد الله مثلًا ولا يفتر على الله كذبًا أقل ظلمًا ممن جمع بينهما فلا يكون مساويًا في الأظلمية لأن هذه الآيات إنما هي في الكفار وهم متساوون فيها إذ الكفر شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به وإنما تمكن بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة قاله أبو حيان، ولا يخفى ما فيه. وقد قال غير واحد إن قولك: من أظلم ممن فعل كذا إنكار لأن يكون أحد أظلم منه أو مساويًا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضًا لإنكار المساواة ونفيها إلا أن العرف الفاشي والاستعمال المطرد يشهد له فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتمًا أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل فلعل الأولى الرجوع إلى أحد الجوابين مع ملاحظة الحيثية وإن جعلت ذلك الكلام مخرجًا مخرج المبالغة في التهديد والزجر مع قطع النظر عن نفي المساواة أو الزيادة في نفس الأمر كما قيل به محكمًا العرف أيضًا زال الإشكال وارتفع القيل والقال فتدبر.
{أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} مفعول ثان لمنع أو مفعول من أجله عنى منعها كراهية أن يذكر أو بدل اشتمال من {مساجد} والمفعول الثاني إذن مقدر أي عمارتها أو العبادة فيها أو نحوه أو الناس مساجد الله تعالى أو لا تقدير؛ والفعل متعدّ لواحد وكنى بذكر اسم الله تعالى عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية المأذون بفعلها فيها.
{وسعى فِي خَرَابِهَا} أي هدمها وتعطيلها، وقال الواحدي: إنه عطف تفسير لأن عمارتها بالعبادة فيها {أولئك} الظالمون المانعون الساعون في خرابها. {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} اللام في {لَهُمْ} إما للاختصاص على وجه اللياقة كما في الجل للفرس، والمراد من الخوف الخوف من الله تعالى، وإما للاستحقاق كما في الجنة للمؤمن والمراد من الخوف الخوف من المؤمنين، وإما لمجرد الارتباط بالحصول، أي: ما كان لهم في علم الله تعالى وقضائه أن يدخلوها فيما سيجيء إلا خائفين والجملة على الأول: مستأنفة جواب لسؤال نشأ من قوله تعالى: {وسعى فِي خَرَابِهَا} كأنه قيل: فما اللائق بهم؟ والمراد من الظلم حينئذٍ وضع الشيء في غير موضعه. وعلى الثاني: جواب سؤال ناشئ من قوله سبحانه: {مِنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ} كأنه قيل: فما كان حقهم؟ والمراد من الظلم التصرف في حق الغير وعلى الثالث: اعتراض بين كلامين متصلين معنى، وفيه وعد المؤمنين بالنصرة وتخليص المساجد عن الكفار وللاهتمام بذلك وسطه وقد أنجز الله تعالى وعده والحمد لله؛ فقد روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرًا مسارقة، وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا انتهك ضربًا، وأبلغ إليه في العقوبة، ولا نقض باستيلاء الأقرع، وبقاء بيت المقدس في أيدي النصارى أكثر من مائة سنة إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين لأن الإنجاز يستدعي تحقيقه في وقت ما، ولا دلالة فيه على التكرار، وقيل: النفي عنى النهي ومعناه على طريق الكناية النهي عن التخلية والتمكين من دخولهم المساجد، وذلك يستلزم أن لا يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين، فذكر اللازم وأريد الملزوم، ولا يخفى أن النهي عن التخلية والتمكين المذكور في وقت قوة الكفار ومنعهم المساجد لا فائدة فيه سوى الإشعار بوعد المؤمنين بالنصرة والاستخلاص منهم، فالحمل عليه من أول الأمر أولى، واختلف الأئمة في دخول الكفار المسجد، فجوّزه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مطلقًا للآية فإنها تفيد دخولهم بخشية وخشوع ولأن وفد ثقيف قدموا عليه عليه الصلاة والسلام فأنزلهم المسجد، ولقوله صلى الله عليه وسلم:
«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن» والنهي محمول على التنزيه أو الدخول للحرم بقصد الحج، ومنعه مالك رضي الله تعالى عنه مطلقًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] والمساجد يجب تطهيرها عن النجاسات، ولذا يمنع الجنب عن الدخول وجوّزه لحاجة وفرق الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بين المسجد الحرام وغيره وقال: الحديث منسوخ بالآية، وقرأ عبد الله {إِلا} وهو مثل صيم.
{خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْىٌ} أي عظيم بقتل أبطالهم وأقيالهم، وكسر أصنامهم، وتسفيه أحلامهم، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم، ومسقط رؤوسهم، أو بضرب الجزية على أهل الذمة منهم {وَلَهُمْ فِي الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذاب النار لما أن سببه أيضًا، وهو ما حكى من ظلمهم كذلك في العظم وتقديم الظرف في الموضعين للتشويق لما يذكر بعده.
ومن باب الإشارة في الآية: ومن أبخس حظًا وأنقص حقًا ممن منع مواضع السجود لله تعالى وهي القلوب التي يعرف فيها فيسجد له بالفناء الذاتي أن يذكر فيها اسمه الخاص الذي هو الاسم الأعظم، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب وهو التجلي بالذات مع جميع الصفات أو اسمه المخصوص بكل واحد منها، أي الكمال اللائق باستعداده المقتضي له وسعى في خرابها بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، ومنع أهلها بتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس، ودواعي الشيطان والوهم أولئك ما كان لهم أن يدخلوها ويصلوا إليها إلا خائفين منكسرين لظهور تجلي الحق فيها لهم في الدنيا خزي وافتضاح وذلة بظهور بطلان ما هم عليه ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو احتجابهم عن الحق سبحانه.

.تفسير الآية رقم (115):

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
{وَلِلَّهِ المشرق والمغرب} أي الناحيتان المعلومتان المجاورتان لنقطة تطلع منها الشمس وتغرب، وكنى الكيتهما عن مالكية كل الأرض، وقال بعضهم: إذا كانت الأرض كروية يكون كل مشرق بالنسبة مغربًا بالنسبة والأرض كلها كذلك فلا حاجة إلى التزام الكناية، وفيه بعد {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} أي ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة، وقرأ الحسن {تَوَلَّوْاْ} على الغيبة {فَثَمَّ وَجْهُ الله} أي فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها، فإذًا مكان التولية لا يختص سجد دون مسجد ولا مكان دون آخر {فَأَيْنَمَا} ظرف لازم الظرفية متضمن لمعنى الشرط وليس مفعولًا لـ {تَوَلَّوْاْ} والتولية عنى الصرف منزل منزلة اللازم، وثم اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مبني على الفتح ولا يتصرف فيه بغير من وقد وهم من أعربه مفعولًا به في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا} [الإنسان: 20] وهو خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر، والجملة جواب الشرط والوجه الجهة كالوزن والزنة واختصاص الإضافة باعتبار كونها مأمورًا بها، وفيها رضاه سبحانه، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل ومجاهد وقتادة وقيل: الوجه عنى الذات مثله في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] إلا أنه جعل هنا كناية عن علمه واطلاعه بما يفعل هناك، وقال أبو منصور: عنى الجاه، ويؤل إلى الجلال والعظمة، والجملة على هذا اعتراض لتسلية قلوب المؤمنين بحل الذكر والصلاة في جميع الأرض لا في المساجد خاصة وفي الحديث الصحيح: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» ولعل غيره عليه الصلاة والسلام لم تبح له الصلاة في غير البيع والكنائس، وصلاة عيسى عليه السلام في أسفاره في غيرها كانت عن ضرورة فلا حاجة إلى القول باختصاص المجموع وجوّز أن تكون {أينما} مفعول {تَوَلَّوْاْ} عنى الجهة، فقد شاع في الاستعمال {أينما} توجهوا، عنى أي جهة توجهوا بناءً على ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في صلاة المسافر والتطوع على الراحلة، وعلى ما روي عن جابر أنها نزلت في قوم عميت عليهم القبلة في غزوة كنت فيها معهم، فصلوا إلى الجنوب والشمال، فلما أصبحوا تبين خطؤهم، ويحتمل على هاتين الروايتين أن تكون {أينما} كما في الوجه الأول أيضًا، ويكون المعنى في أي مكان فعلتم أي تولية لأن حذف المفعول به يفيد العموم، واقتصر عليه بعضهم مدعيًا أن ما تقدم لم يقل به أحد من أهل العربية، ومن الناس من قال: الآية توطئة لنسخ القبلة، وتنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة، وإلا لكانت أحق بالاستقبال، وهي محمولة على العموم غير مختصة بحال السفر أو حال التحري، والمراد بـ {أينما} أي جهة، وبالوجه الذات ووجه الارتباط حينئذٍ أنه لما جرى ذكر المساجد سابقًا أورد بعدها تقريبًا حكم القبلة على سبيل الاعتراض، وادعى بعضهم أن هذا أصح الأقوال، وفيه تأمل.
{إِنَّ الله واسع} أي محيط بالأشياء ملكًا أو رحمة، فلهذا وسع عليكم القبلة ولم يضيق عليكم {عَلِيمٌ} صالح العباد وأعمالهم في الأماكن، والجملة على الأول: تذييل لمجموع {وَلِلَّهِ المشرق والمغرب} إلخ وعلى الثاني: تذييل لقوله سبحانه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} إلخ، ومن الغريب جعل ذلك تهديدًا لمن منع مساجد الله وجعل الخطاب المتقدم لهم أيضًا، فيؤول المعنى إلى أنه لا مهرب من الله تعالى لمن طغى، ولا مفر لمن بغى، لأن فلك سلطانه حدد الجهات، وسلطان علمه أحاط بالأفلاك الدائرات:
أين المفر ولا مفر لهارب ** وله البسيطان الثرى والماء

ومن باب الإشارة: أن المشرق عبارة عن عالم النور والظهور وهو جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه، والمغرب عالم الأسرار والخفاء وهو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة باطنه، أو المشرق عبارة عن إشراقه سبحانه على القلوب بظهور أنواره فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة الشهود، والمغرب عبارة عن الغروب بتستره واحتجابه واختفائه بصفة جلاله حالة البقاء بعد الفناء ولله تعالى كل ذلك فأي جهة يتوجه المرء من الظاهر والباطن {فثم وجه الله} المتحلي بجميع الصفات المتجلي بما شاء منزهًا عن الجهات وقد قال قائل القوم:
وما الوجه إلا واحد غير أنه ** إذا أنت عددت المرايا تعدد

{إِنَّ الله واسع} لا يخرج شيء عن إحاطته {عَلِيمٌ} فلا يخفى عليه شيء من أحوال خليقته ومظاهر صفته.

.تفسير الآية رقم (116):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
{وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} نزلت في اليهود حيث قالوا عزيز ابن الله وفي نصارى نجران حين قالوا المسيح ابن الله وفي مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات الله فالضمير لما سبق ذكره من النصارى واليهود والمشركين الذين لا يعلمون، وعطفه على {قَالَتْ اليهود} [البقرة: 113] وقال أبو البقاء على {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة} [البقرة: 111]: وجوز أن يكون عطفًا على {مَنَعَ} [البقرة: 114] أو على مفهوم من أظلم دون لفظه للاختلاف إنشائية وخبرية، والتقدير ظلموا ظلمًا شديدًا بالمنع، وقالوا: وإن جعل من عطف القصة على القصة لم يحتج إلى تأويل، والاستئناف حينئذٍ بياني كأنه قيل بعدما عدد من قبائحهم هل انقطع خيط إسهابهم في الافتراء على الله تعالى أم امتد؟ فقيل: بل امتد فإنهم قالوا ما هو أشنع وأفظع، والاتخاذ إما عنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد، وإما عنى التصيير، والمفعول الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولدًا، وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما {قالوا} بغير واو على الاستئناف أو ملحوظًا فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير، والربط به عن الواو كما في البحر {سبحانه} تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا: بأبلغ صيغة ومتعلق سبحان محذوف كما ترى لدلالة الكلام عليه. {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} إبطال لما زعموه وإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من التشبيه بالمحدثات في التناسل والتوالد، والحاجة إلى الولد في القيام بما يحتاج الوالد إليه، وسرعة الفناء لأنه لازم للتركيب اللازم للحاجة، وكل محقق قريب سريع، ولإن الحكمة في التوالد هو أن يبقى النوع محفوظًا بتوارد الأمثال فيما لا سبيل إلى بقاء الشخص بعينه مدة بقاء الدهر، وكل ذلك يمتنع على الله تعالى فإنه الأبدي الدائم والغنى المطلق المنزع عن مشابهة المخلوقات، واللام في {لَهُ} قيل للملك، وقيل: إنها كالتي في قولك لزيد ضرب تفيد نسبة الأثر إلى المؤثر، وقيل: للاختصاص بأي وجه كان، وهو الأظهر، والمعنى ليس الأمر كما افتروا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها ما زعموه ولدًا، والخالق لكل موجود لا حاجة له إلى الولد إذ هو يوجد ما يشاء منزهًا عن الاحتياج إلى التوالد.
{كُلٌّ لَّهُ قانتون} أي كل ما فيهما كائنًا ما كان جميعًا منقادون له لا يستعصي شيء منهم على مشيئته وتكوينه إيجادًا وإعدامًا وتغيرًا من حال إلى حال، وهذا يستلزم الحدوث والإمكان المنافي للوجوب الذاتي فكل من كان متصفًا بهذه الصفة لا يكون والدًا لأن من حق الولد أن يشارك والده في الجنس لكونه بعضًا منه، وإن لم يماثله، وكان الظاهر كلمة من مع {قانتون} كيلا يلزم اعتبار التغليب فيه، ويكون موافقًا لسوق الكلام فإن الكلام في العزير والمسيح والملائكة وهم عقلاء إلا أنه جاء بكلمة ما المختصة بغير أولي العلم كما قاله بعضهم محتجًا بقصة الزبعري مخالفًا لما عليه الرضى من أنها في الغالب لما لا يعلم، ولما عليه الأكثرون من عمومها كما في التلويح، واعتبر التغليب في {قانتون} إشارة إلى أن هؤلاء الذين جعلوهم ولد الله تعالى سبحانه وتعالى في جنب عظمته جمادات مستوية الأقدام معها في عدم الصلاحية لاتخاذ الولد، وقيل: أتى بما في الأول لأنه إشارة إلى مقام الألوهية، والعقلاء فيه نزلة الجمادات، وبجمع العقلاء في الثاني لأنه إشارة إلى مقام العبودية، والجمادات فيه نزلة العقلاء.
ويحتمل أن يقدر المضاف إليه كل ما جعلوه ولدًا لدلالة المقول لا عامًا لدلالة مبطله، ويراد بالقنوت الانقياد لأمر التكليف كما أنه على العموم الانقياد لأمر التكوين، وحينئذ لا تغلب في {قانتون} وتكون الجملة إلزامًا بأن ما زعموه ولدًا مطيع لله تعالى مقر بعبوديته بعد إقامة الحجة عليهم بما سبق، وترك العطف للتنبيه على استقلال كل منهما في الدلالة على الفساد واختلافهما في كون أحدهما حجة والآخر إلزامًا، وعلى الأول يكون الأخير مقررًا لما قبله، وذكر الجصاص أن في هذه الآية دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده لأنه نفى الولد باثبات الملك باعتبار أن اللام له فمتى ملك ولده عتق عليه، وقد حكم صلى الله عليه وسلم ثل ذلك في الوالد إذا ملكه ولده؛ ولا يخفى أن هذا بعيد عما قصد بالآية لاسيما إذا كان الأظهر الاختصاص كما علمت.