فصل: تفسير الآية رقم (57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (57):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}
{هُزُوًا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ} الأكثرون على أن المراد بها القرآن العظيم لمكان {أَن يَفْقَهُوهُ} فالإضافة للعهد.
وجوز أن يراد بها جنس الآيات ويدخل القرآن العظيم دخولًا أوليًا، والاستفهام إنكاري في قوة النفي، وحقق غير واحد أن المراد نفى أن يساوي أحد في الظلم من وعظ بآيات الله تعالى: {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} فلم يتدبرها ولم يتعظ بها، ودلالة ما ذكر على هذا بطريق الكناية وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض للأشعار بأن ظلم من يجادل في الآيات ويتخذها هزوًا خارج عن الحد {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق، ونسيان ذلك كناية عن عدم التفكر في عواقبه، والمراد {مِمَّنْ} عند الأكثرين مشركو مكة.
وجوز أن يكون المراد منه المتصف بما في حيز الصلة كائنًا من كان ويدخل فيه مشركو مكة دخولًا أوليًا، والضمير في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ} لهم على الوجهين، ووجه الجمع ظاهر، والجملة استئناف بياني كأنه قيل ما علة الإعراض والنسيان؟ فقيل علته أنا جعلنا على قلوبهم {أَكِنَّةً} أي أغطية جمع كنان، والتنوين على ما يشير إليه كلام البعض للتكثير {أَن يَفْقَهُوهُ} الضمير المنصوب عند الأكثرين للآيات، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى المراد منها وهو القرآن.
وجوز أن يكون للقرآن لا باعتبار أنه المراد من الآيات وفي الكلام حذف والتقدير كراهة أن يفقهوه، وقيل لئلا يفقهوه أي فقهًا نافعًا {وَفِى ءاذَانِهِمْ} أي وجعلنا فيها {وِقْرًا} ثقلًا أن يسمعوه سماعًا كذلك {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذًا أَبَدًا} أي مدة التكليف كلها، و{أَذِنَ} جزاء وجواب كما حقق المراد منه في موضعه فتدل على نفي اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببًا في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول عليه الصلاة والسلام على تقدير قوله صلى الله عليه وسلم مالي لا أدعوهم حرصًا على اهتدائهم وإن ذكر له صلى الله عليه وسلم من أمرهم ما ذكر رجاء أن تنكشف تلك الأكنة وتمزق بيد الدعوة فقيل وإن تدعهم إلخ قاله الزمخشري. وفي الكشف في بيان ذلك أما الدلالة فصريح تخلل {أَذِنَ} يدل على ذلك لأن المعنى إذن لو دعوت وهو من التعكيس بلا تعسف، وأما إنه جواب على الوجه المذكور فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم نزل منزلة السائل مبالغة في عدم الاهتداء المرتب على كونهم مطبوعًا على قلوبهم فلا ينافي ما آثروه من أنه على تقدير سؤال لم لم يهتدوا؟ فإن السؤال على هذا الوجه أوقع اه، وهو كلام نفيس به ينكشف الغطا ويؤمن من تقليد الخطأ ويستغني به المتأمل عما قيل: إن تقدير مالي لا أدعوهم يقتضي المنع من دعوتهم فكأنه أخذ من مثل قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} [النجم: 29] وقيل أخذ من قوله تعالى: {على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} وقيل من قوله سبحانه: {ءانٍ تَدْعُهُمْ} هذا ولا يخفى عليك المراد من الهدى وقد يراد منه القرآن فيكون من إقامة الظاهر مقام الضمير، ولعل إرادة ذلك هنا ترجح إرادة القرآن في الهدى السابق، والله تعالى أعلم. والآية في أناس علم الله تعالى موافاتهم على الكفر من مشركي مكة حين نزولها فلا ينافي الأخبار بالطبع وأنهم لا يؤمنون تحقيقًا ولا تقليدًا إيمان بعض المشركين بعد النزول، واحتمال أن المراد جميع المشركين على معنى وإن تدعهم إلى الهدى جميعًا فإن يهتدوا جميعًا وإنما يهتدي بعضهم كما ترى. واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم والقدرية بالآية التي قبلها، قال الإمام: وقل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله تعالى على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)}
{وَرَبُّكَ الغفور} مبتدأ وخبر وقوله تعالى: {ذُو الرحمة} أي صاحبها والموصوف بها خبر بعد خبر، قال الإمام: وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار والرحمة إيصال النفع وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول لأنه ترك مضار لا نهاية لها ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال.
وتعقبه النيسابوري بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى: {ذُو الرحمة} لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] بالمبالغة في الجانبين كثيرًا؛ وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره اه، وقيل عليه إنهم فسروا الغفار ريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم ريد الانعام على الخلق وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه لها، وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق اه، وهو كلام حسن اندفع به ما أورد على الإمام. وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضًا ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب، ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول النيسابوري أن مقدوراته تعالى متناهية فإن ظاهره التعجيز تعالى الله سبحانه عما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا ولكن يدفع بالعناية فتدبر، ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين هاهنا على ما قاله الخفاجي أن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأسًا، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحًا في نفسه كما قيل، والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية ولو سلم ما ذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابلة لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية كذا قيل وفيه نظر.
ورا يقال في توجيه ما قاله النيسابوري من أن ذو الرحمة يخلو عن المبالغة: إن ذلك إما لاقتران الرحمة بأل فتفيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلًا إلى ذلك، ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضًا المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال: إن أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها بكونها في الدنيا أو في الآخرة وهذان الإسمان يفيدان التقييد على المشهور ولذا عدل عنهما إلى ذو الرحمة، وإذا قلت: هما مثله في عدم التقييد قيل: إن دلالته على المبالغة أقوى من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الإسمين الجليلين عليها، وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معًا أبلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه، ومن أنصف لم يشك في أن قولك فلان ذو العلم أبلغ من قولك فلان عليم بل ومن قولك فلان العليم من حيث أن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران، وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني ووجه ذلك ظاهر فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى، والنكتة فيه هاهنا مزيد إيناسه صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه زيد حرصه عليه الصلاة والسلام على ذلك؛ وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافًا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم انتهى.
وهو كلام واقف في أعراف الرد والقبول في النظر الجليل، ومن دقق علم ما فيه من الأمرين، وإنما قدم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال والمقام إذ المقام على ما قاله المحققون مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله تعالى: {لَوْ يُؤَاخِذُهُم} أي لو يريد مؤاخذتهم {ا كَسَبُواْ} أي فعلوا، وكسب الأشعري لا تفهمه العرب، وما إما مصدرية أي بكسبهم وإما موصولة أي بالذي كسبوه من المعاصي التي من جملتها ما حكى عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات {لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} لاستيجاب أعمالهم لذلك، قيل وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبى عنه تاليها، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة فإن المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار الفعل فيما مضى {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} وهو يوم بدر أو يوم القيامة على أن الموعد اسم زمان، وجوز أن يكون اسم مكان والمراد منه جهنم، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا مؤاخذين بغتة بل لهم موعد {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلًا} قال الفراء: أي منجا يقال وألت نفس فلان نجت وعليه قول الأعشى:
وقد أخالس رب الدار غفلته ** وقد يحاذر مني ثم ما يئل

وقال ابن قتيبة: هو الملجأ يقال وأل فلان إلى كذا يئل وألا ووؤولًا إذا لجأ والمعنى واحد والفرق إنما هو بالتعدي بإلى وعدمه، وتفسيره بالملجأ مروي عن ابن عباس، وفسره مجاهد بالمحرز، والضحاك بالمخلص والأمر في ذلك سهل، وهو على ما قاله أبو البقاء: يحتمل أن يكون اسم زمان وأن يكون اسم مكان، والضمير المجرور عائد على الموعد كما هو الظاهر، وقيل: على العذاب وفيه من المبالغة ما فيه لدلالته على أنهم لا خلاص لهم أصلًا فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة.
وأنت تعلم أن أمر المبالغة موجود في الظاهر أيضًا؛ وقيل: يعود على الله تعالى وهو مخالف للظاهر مع الخلو عن المبالغة، وقرأ الزهري {مولًا} بتشديد الواو من غير همز ولا ياء، وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه {مولًا} بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء أيضًا.

.تفسير الآية رقم (59):

{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}
{مَوْئِلًا وَتِلْكَ القرى} أي قرى عاد. وثمود. وقوم لوط. وأشباههم، والكلام على تقدير مضاف أي أهل القرى لقوله تعالى: {أهلكناهم} والإشارة لتنزيلهم لعلمهم بهم منزلة المحسوس، وقدر المضاف في البحر قبل {تِلْكَ} وكلا الأمرين جائز، وتلك يشار بها للمؤنث من العقلاء وغيرهم، وجوز أن تكون القرى عبارة عن أهلها مجازًا، وأيًا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ و{القرى} صفته والوصف بالجامد في باب الإشارة مشهور والخبر جملة {أهلكناهم} واختار أبو حيان كون {القرى} هو الخبر والجملة حالية كقوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] وجوز أن تكون {تِلْكَ} منصوبًا بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم {لَمَّا ظَلَمُواْ} أي حين ظلمهم كمافعل مشركو مكة ما حكى عنهم من القبائح، وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أي لما فعلوا الظلم، و{لَّمًّا} عند الجمهور ظرف كما أشير إليه وليس المراد به الحين المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره.
وقال أبو الحسن بن عصفور: هي حرف، ومما استدل به على حرفيتها هذه الآية حيق قال: إنها تدل على أن علة الإهلاك الظلم والظرف لا دلالة له على العلية، واعترض بأن قولك أهلكته وقت الظلم يشعر بعلية الظلم وإن لم يدل الظرف نفسه على العلية، وقيل لا مانع من أن يكون ظرفًا استعمل للتعليل.
{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم} لهلاكهم {مَّوْعِدًا} وقتًا معينًا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فمفعل الأول مصدر والثاني اسم زمان، والتعيين من جهة أن الموعد لا يكون إلا معينًا وإلا فاسم الزمان مبهم والعكس ركيك. وزعم بعضهم أن المهلك على هذه القراءة وهي قراءة حفص في الرواية المشهورة عنه أعني القراءة بفتح الميم وكسر اللام من المصادر الشاذة كالمرجع والمحيض وعلل ذلك بأن المضارع يهلك بكسر اللام وقد صرحوا بأن مجيء المصدر الميمي مكسورًا فيما عين مضارعه مكسورة شاذ. وتعقب بأنه قد صرح في القاموس بأن هلك جاء من باب ضرب ومنع وعلم فكيف يتحقق الشذوذ فالحق أنه مصدر غير شاذ وهو مضاف للفاعل ولذا فسر بما سمعت، وقيل: إن هلك يكون لازمًا ومتعديًا فعن تميم هلكني فلان فعلى تعديته يكون مضافًا للمفعول، وأنشد أبو علي في ذلك:
ومهمه هالك من تعرجا

أي مهلكه، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتعين ذلك في البيت بل قد ذهب بعض النحويين إلى إن هالكًا فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة والأصل هالك من تعرجًا بجعل من فاعلًا لهالك ثم أضمر في هالك ضمير مهمه وانتصب من على التشبيه بالمفعول ثم أضيف من نصب، والصحيح جواز استعمال الموصول في باب الصفة المشبهة، وقد ثبت في أشعار العرب قال عمرو بن أبي ربيعة:
أسيلات أبدان دقاق خصورها ** وثيرات ما التفت عليها الملاحف

وقرأ حفص. وهرون. وحماد. ويحيى عن أبي بكر بفتح الميم واللام، وقراءة الجمهور بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر أيضًا، وجعله اسم مفعول على معنى وجعلنا لمن أهلكناه منهم في الدنيا موعدًا ننتقم فيه منه أشد انتقام وهو يوم القيامة أو جهنم لا يخفى ما فيه، والظاهر أن الآية استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليعتبروا ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم، وهي ترجح حمل الموعد فيما سبق على يوم بدر فتدبر والله تعالى أعلم وأخبر.
ومن باب الإشارة في الآيات: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى} [الكهف: 28] أمر بصحبة الفقراء الذين انقطعوا لخدمة مولاهم، وفائدتها منه عليه الصلاة والسلام تعود عليهم وذلك لأنهم عشاق الحضرة وهو صلى الله عليه وسلم مرآتها وعرش تجليها ومعدن أسرارها ومشرق أنوارها فمتى رأوه صلى الله عليه وسلم عاشوا ومتى غاب عنهم كئبوا وطاشوا، وأما صحبة الفقراء بالنسبة إلى غيره صلى الله عليه وسلم ففائدتها تعود إلى من صحبهم فيهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقال عمرو المكي: صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عيش أهل الجنة يتقلب معهم جليسيهم من الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا. ولأبي مدين من قصيدته المشهورة التي خمسها الشيخ محيى الدين قدس سره:
ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا ** هم السلاطين والسادات والأمرا

فأصحبهم وتأدب في مجالسهم ** وخل حظك مهما قدموك ورا

واستغنم الوقت واحضر دائمًا معهم ** واعلم بأن الرضا يختص من حضرا

ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل ** لا علم عندي وكن بالجهل مستترا

إلى أن قال:
وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم ** وجه اعتذارك عما فيك منك جرا

وقل عبيدكم أولى بصفحكم ** فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا

هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم ** فلا تخف دركًا منهم ولا ضرر

وعنى بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر، وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ بالله تعالى منه فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح، والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفًا تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد الله تعالى وتخرجوا من الكبر، وفي «الجامع» الجلوس مع الفقراء من التواضع وهو من أفضل الجهاد، وفي رواية أحبوا الفقراء وجالسوهم، ومن فوائد مجالستهم إن العبد يرى نعمة الله تعالى عليه ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق وتحمل المن وغير ذلك، نع إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس ولذا عظم فضلها، وقيل: إن في قوله تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين} إلخ دون ودم مع الذين إلخ إشارة إلى ذلك ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلى الله عليه وسلم فإن نفسه الشريعة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة.
وقال بعض أهل الأسرار: إنما قيل: واصبر نفسك دون واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم كان مع الحق فأمر صلى الله عليه وسلم بصحبة الفقراء جهرًا بجهر واستخلص سبحانه قلبه له سرًا بسر {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم، وقد جاء في الحديث: «مِنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر» ومضار مجالستهم كثيرة، ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء، وأدناها ضررًا تحمل منهم فإنه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو جرد المجالسة وهو حمل لا يطاق، ومن نوابغ الزمخشري طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن، وقال بعض الشعراء:
لنا صاحب ما زال يتبع بره ** بمن وبذل المن بالبر لا يسوي

تركناه لا بغضًا ولا عن ملالة ** ولكن لأجل المن يستعمل السلوى

{وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] نهى عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم لهم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس، وعدوا من إطاعته التواضع له فإنه يطلبه حالًا وإن لم يفصح به مقالًا {وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [الكهف: 29] قالوا: فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين، وعدم من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال: إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيان ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل:
ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر ** ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر

وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى ** فلا خير في اللذات من دونها ستر

ولايخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو:
إني لأكتم من علمي جواهره ** كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن ** إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به ** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمى ** يرون أقبح ما يأتونه حسنًا

نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور، وما أحسن قول الشهاب القتيل:
وارحمتا للعاشقين تكلفوا ** ستر المحبة والهوى فضاح

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ** وكذا دماء البائحين تباح

وإذا هم كتموا يحدث عنهم ** عند الوشاة المدمع السحاح

وما ذكر أولًا يكون مستمسكًا في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سببًا لضلال كثير من الناس وداعيًا للإنكار عليهم، وقد استدل بعض الآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاؤا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر. وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قاسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم. واعترض بأن لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق، وفهي نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وإضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لاسيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر، ولذا ترى كثيرًا من الناس ينكروه عليه ويكرون، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمسًا في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله:
ينكر المرء منه أمرًا فينها ** ه نهاه فينكر الإنكارا

تنثني عنه ثم تثنى عليه ** ألسن تشبه الصحاة سكارى

{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} قيل هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور {مِن سُندُسٍ} الأحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف {وَإِسْتَبْرَقٍ} الأخلاق والمكاسب، وعبر عنها بالاستبرق لكونها أكثف {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الارائك} [الكهف: 31] قيل أي أرائك الأسماء الإلهية {واضرب لهُمْ مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ} إلخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على الله تعالى وتنبيه الأغنياء المغرورين ما فيه، وقال النيسابوري: الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن {جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا} وهو النفس {جَنَّتَيْنِ} هما الهوى والدنيا {مّنْ أعناب} الشهوات {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} حب الرياسة {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32] من التمتعات البهيمية {وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَرًا} [الكهف: 33] من القوى البشرية والحواس {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} من أنواع الشهوات {وَهُوَ يحاوره} أي يجاذب النفس {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا} أي ميلًا «وَأَعَزُّ نَفَرًا» [الكهف: 34] من الأوصاف المذمومة {وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} [الكهف: 35] في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى {لأجِدَنَّ خَيْرًا مّنْهَا} [الكهف: 36] قال ذلك غرورًا بالله تعالى وكرمه {فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42] من العمر وحسن الاستعداد انتهى.
وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} قال ابن عطاء: للطالبين له سبحانه لا للجنة {وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: 44] للمريدين {والباقيات الصالحات} [الكهف: 46] قيل هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس بالله تعالى والإخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا إعوجاج فيها وهي خير المنازل، وقد تفسر بما يعمها وغيرها من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة {وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] قال ابن عطاء: دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه {وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا} إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه: {بَلْ زَعَمْتُمْ} إلخ بعضهم، ذكر أنه يعرض كل صنف صفًا، وقيل الأنبياء عليهم السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرن صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48] على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه: {وَوُضِعَ الكتاب} أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص، ولبعضهم:
وأودعت الفؤاد كتاب شوق ** سيشر طيه يوم الحساب

{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} [الكهف: 49] قال أبو حفص: أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلاَ *خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف: 51] قيل أي ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيء جَدَلًا} [الكهف: 54] لأنه مظهرًا الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، هذا والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.