فصل: تفسير الآية رقم (60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}
{وَإِذْ قَالَ موسى} هو ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام على الصحيح، فقد أخرج الشيخان. والترمذي. والنسائي. وجماعة من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل فقال: كذب عدو الله ثم ذكر حديثًا طويلًا فيه الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو نص في أنه موسى بني إسرائيل، وإلى إنكار ذلك ذهب أيضًا أهل الكتاب وتبعهم من تبعهم من المحدثين والمؤرخين وزعموا أن موسى هنا هو موسى بن ميشا بالمعجمة ابن يوسف بن يعقوب، وقيل: موسى بن افراثيم بن يوسف وهو موسى الأول، قيل وإنما أنكره أهل الكتاب لإنكارهم تعلم النبي من غيره. وأجيب بالتزام أن التعلم من نبي ولا غضاضة في تعلم نبي من نبي. وتعقب بأنه ولو التزموا ذلك وسلموانبوة الخضر عليه السلام لا يسلمون أنه موسى بن عمران لأنهم لا تسمح أنفسهم بالقول بتعلم نبيهم الأفضل ممن ليس مثله في الفضل فإن الخضر عليه السلام على القول بنبوته بل القول برسالته لم يبلغ درجة موسى عليه السلام، وقال بعض المحققين: ليس إنكارهم لمجرد ذلك بل لذلك ولقولهم إن موسى عليه السلام بعد الخروج من مصر حصل هو وقومه في التيه وتوفي فيه ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته؛ والقصة تقتضي خروجه علي السلام من التيه لأنها لم تكن وهو في مصر بالإجماع، وتقتضي أيضاف الغيبة أيامًا ولو وقعت لعلمها كثير من بني إسرائيل الذين كانوا معه ولو علمت لنقلت لتضمنها أمرًا عريبًا تتوفر الدواعي على نقله فحيث لم يكن لم تكن. وأجيب بأن عدم سماح نفوسهم بالقول بتعلم نبيهم عليه السلام ممن ليس مثله في الفضل أمر لا يساعده العقل وليس هو إلا كالحمية الجاهلية إذ لا يعبد عقلًا تعلم الأفضل الأعلم شيئًا ليس عنده ممن هو دونه في الفضل والعلم. ومن الأمثال المشهورة قد يوجد في الإسقاط ما لا يوجد في الاسفاط. وقالوا: قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. وقال بعضهم: لا مانع من أن يكون قد أخفى الله سبحانه وتعالى علم المسائل التي تضمنتها القصة عن موسى عليه السلام على مزيد علمه وفضله لحكمة ولا يقدح ذلك في كونه أفضل وأعلم من الخضر عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى، وبأنه سيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا القول بأن القصة كانت بعد أن ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقر بعد هلاك القبط فلا إجماع على أنها لم تكن صر، نعم اليهود لا يقولون باستقرارهم في مصر بعد هلاك القبط وعليه كثير منا وحينئذ يقال: إن عدم خروج موسى عليه السلام من التيه غير مسلم، وكذلك اقتضاء ذلك الغيبة أيامًا لجواز أن يكون على وجه خارق للعادة كالتيه الذي وقعوا فيه وكنتق الجبل عليهم وغير ذلك من الخوارق التي وقت فيهم، وقد يقال: يجوز أن يكون عليه السلام خرج وغاب أيامًا لكن لم يعلموا أنه عليه السلام ذهب لهذا الأمر وظنوا أنه ذهب يناجي ويتعبد ولم يوقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع لعلمه بقصور فهمهم فخاف من حط قدره عندهم فهم القائلون:{اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} [الأعراف: 138] و{أرِنا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] وأوصى فتاه بكتم ذلك عنهم أيضًا، ويجوز أن يكون غاب عليه السلام وعلموا حقيقة غيبته لكن لم يتناقلوها جيلًا بعد جيل لتوهم أن فيها شيئًا مما يحط من قدره الشريف عليه السلام فلا زالت نقلتها تقل حتى هلكوا في وقت بختنصر كما هلك أكثر حملة التوراة، ويجوز أن يكون قد بقى منهم أقل قليل إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم فتواصوا على كتمها وإنكارها ليوقعوا الشك في قلوب ضعفاء المسلمين ثم هلك ذلك القليل ولم تنقل عنه، ولا يخفى أن باب الاحتمال واسع؛ وبالجملة لا يبالي بإنكارهم بع جواز الوقوع عقلًا وإخبار الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الآية ظاهرة في ذلك، ويقرب من هذا الإنكار إنكار النصارى تكلم عيسى عليه السلام في المهد وقد قدمنا أنه لا يلتفت إليه بعد إخبار الله تعالى به فعليك بكتاب الله تعالى ودع عنك الوساوس. و{إِذْ} نصب على المفعولية باذكر محذوفًا والمراد قل قال موسى {لفتايه} يوضع بن نون بن افراثيم بن يوسف عليه السلام فإنه كان يخدمه ويتعلم منه ولذا أضيف إليه، والعرب تسمى الخادم فتى لأن الخدم أكثر ما يكونون في سن الفتوّة، وكان فيما يقال ابن أخت موسى عليه السلام، وقيل: هو أخو يوشع عليه السلام، وأنكر اليهود أن يكون له أخ، وقيل: لعبده فالإضافة للملك وأطلق على العبد فتى لما في الحديث الصحيح {ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي} وهو من آداب الشريعة، وليس إطلاق ذلك كروه خلافًا لبعض بل خلاف الأولى، وهذا القول مخالف للمشهور وحكم النووي بأنه قول باطل وفي حل تملك النفس في بني إسرائيل كلام، ومثله في البطلان القول الثاني لمنافاة كل الأخبار الصحيحة {ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا وَإِذْ قَالَ موسى لفتاه لا أَبْرَحُ} من برح الناقص كزال يزال أي لا أزال أسير فحذف الخبر اعتمادًا على قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالًا على ما يعقبه من قوله: {حتى أَبْلُغَ} إذ الغاية لابد لها من مغيا والمناسب لها هنا السير وفيما بعد أيضاٍ ما يدل على ذلك؛ وحذف الخبر فيها قليل كما ذكره الرضي، ومنه قول الفرزدق:
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ** ببطحاء ذي قار عياب اللطائم

وقال أبو حيان: نص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل الدليل على حذفه إلا ما جاء في الشعر من قوله:
لهفي عليك كلهفة من خائف ** يبغي جوارك حين ليس مجير

أي حين ليس في الدنيا، وجوز الزمخشري. وأبو البقاء أن يكون الأصل لا يبرح سيري حتى أبلغ فالخبر متعلق حتى مع مجرورها فحذف المضاف إليه وهو سير فانقلب الضمير من البروز والجر إلى الرفع والاستتار وانقلب الفعل من الغيبة إلى التكلم، قيل وكذا الفعل الواقع في الخبر وهو {أَبْلُغُ} كأن أصله يبلغ ليحصل الربط؛ والإسناد مجازي وإلا يخل الخبر من الرابط إلا أن يقدر حتى أبلغ به أو يقال إن الضمير المستتر في كائن يكفي للربط أو أن وجود الربط بعد التغيير صورة يكفي فيه وإن كان المقدر في قوة المذكور، وعندي لألطف في هذا الوجه وإن استلطفه الزمخشري.
وجوز أيضًا أن يكون {أَبْرَحَ} من برح التام كزال يزول فلا يحتاج إلى خبر، نعم قيل لابد من تقدير مفعول ليتم المعنى أي لا فارق ما أنا بصدده حتى أبلغ {مَجْمَعَ البحرين} وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى صحة نقل.
والمجمع الملتقى وهو اسم مكان، وقيل مصدر وليس بذاك، والبحران بحر فارس والروم كما روى عن مجاهد.
وقتادة. وغيرهما، وملتقاهما مما يلي المشرق، ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما وإلا فهما لا يلتقيان إلا في البحر المحيط وهما شعبتان منه.
وذكر أبو حيان أن مجمع البحرين على ما يقتضيه كلام ابن عطية مما يلي بر الشام، وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي: هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا، وعن أبي أنه بافريقية، وقيل البحران الكر والرس بأرمينية وروى ذلك عن السدي، وقيل بحر القلزم وبحر الأزرق، وقيل هما بحر ملح وبحر عذب وملتقاهما في الجزيرة الخضراء في جهة المغرب، وقيل هما مجاز عن موسى والخضر عليهما السلام لأنهما بحرًا علم، والمراد لتقاهما مكان يتفق فيه اجتماعهما، وهو تأويل صوفي والسياق ينبو عنه وكذا قوله تعالى: {حتى أَبْلُغَ} إذ الظاهر عليه أن يقال حتى يجتمع البحران مثلًا.
وقرأ الضحاك. وعبد الله بن مسلم بن يسار {مَجْمَعَ} بكر الميم الثانية، والنضر عن ابن مسلم {مَجْمَعَ} بالكسر لكلا الحرفين وهو شاذ على القراءتين لأن قياس اسم المكام والزمان من فعل يفعل بفتح العين فيهما الفتح كما في قراءة الجمهور {أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا} عطف على {أَبْلُغُ} وأو لأحد الشيئين، والمعنى حتى يقع إما بلوغي المجمع أو مضى حقبًا أي سيري زمانًا طويلًا.
وجوز أن تكون أو عنى إلا والفعل منصوب بعدها بأن مقدرة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا زلت أسير في كل حال حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانًا أتيقن معه فوات المجمع، ونقل أبو حيان جواز أن تكون عنى إلى وليس بيء لأنه يقتضي جزمه ببلوغ المجمع بعد سيره حقبًا وليس راد، والحق بضمتين ويقال بضم فسكون وبذلك قرأ الضحاك اسم مفرد وجمعه كما في القاموس أحقب وأحقاب، وفي الصحاح أن الحقب بالضم يجمع على حقاب مثل قف وقفاف، وهو على ما روى عن ابن عباس وجماعة من اللغويين الدهر وروى عن ابن عمر. وأبي هريرة أنه ثانون سنة، وعن الحسن أنه سبعون، وقال الفراء: إنه سنة بلغة قريش وقال أبو حيان: الحقب السنون واحدها حقبة قال الشاعر:
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها ** فإنك مما أحدثت بالمجرب

اه.
وما ذكره من أن الحقب السنون ذكره غير واحد من اللغويين لكن قوله واحدها حقبة فيه نظر لأن ظاهر كلامهم أنه اسم مفرد وقد نص على ذلك الخفاجي ولأن الحقبة جمع حقب بكسر ففتح، قال في القاموس: الحقبة بالكسر من الدهر مدة لا وقت لها والسنة وجمعه حقب كعنب وحقوب كحبوب، واقتصر الراغب. والجوهري على الأول، وكان منشأ عزيمة موسى عليه السلام على ما ذكر ما رواه الشيخان. وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبي ابن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن موسى عليه السلام قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه سبحانه فأوحى الله تعالى إليه إن لي عبدًا جمع البحرين هو أعلم منك» الحديث، وفي رواية أخرى عنه عن أبي أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال: أي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه فقال له: نعم في عبادي من هو أعلم منك ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه.
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والخطيب. وابن عساكر من طريق هارون عن أبيه عن ابن عباس قال: سأل موسى عليه السلام ربه سبحانه فقال: أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني قال: فأي عبادك أقضي؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال: وكان حدث موسى نفسه أنه ليس أحد أعلم منه فلما أن قيل له الذي يبتغي علم الناس إلى علمه قال: يا رب فهل في الأرض أحد أعلم مني؟ قال: نعم قال: فأين هو؟ قيل له: عند الصخرة التي عندها العين فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله تعالى.
ثم إن هذه الأخبار لا دلالة فيها على وقوع القصة في مصر أو في غيرها، نعم جاء في بعض الروايات التصريح بكونها في مصر، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى عليه السلام وقومه على مصر أنزل قومه صر فلما استقرت بهم البلد أنزل الله تعالى أن ذكرهم بأيام الله تعالى فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله تعالى من الخير والنعم وذكرهم إذ أنجاهم الله تعالى من آل فرعون وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله سبحانه في الأرض وقال: كلم الله تعالى نبيكم تكليمًا واصطفاني لنفسه وأنزل على محبة منه وآتاكم من كل شيء ما سألتموه فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرؤن التوراة فلم يترك نعمة أنعمها الله تعالى عليهم إلا عرفهم إياها فقال له رجل من بني إسرائيل: فهل على الأرض أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول وما يدريك أين أضع علمي بلى إن على ساحل البحر رجلًا أعلم منك ثم كان ما قص الله سبحانه، وأنكر ذلك ابن عطية فقال: ما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه صر إلا في هذا الكلام وما أراه يصح بل المتظافر أن موسى عليه السلام توفي في أرض التيه قبل فتح ديار الجبارين اه وما ذكره من عدم إنزال موسى عليه السلام قومه صر هو الأقرب إلى القبول عندي وإن تعقب الخفاجي كلامه بعد نقله بقوله فيه نظر، ثم أن الأخبار المذكورة ظاهرة في أن العبد الذي أرشد إليه موسى عليه السلام كان أعلم منه، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك.

.تفسير الآية رقم (61):

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)}
{فَلَمَّا بَلَغَا} الفاء فصيحة أي فذهبا يمشيان إلى مجمع البحرين فلما بلغا {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} أي البحرين، والأصل في بين النصب على الظرفية.
وأخرج عن ذلك بجره بالإضافة اتساعًا والمراد مجمعهما، وقيل: مجمعًا في وسطهما فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين، وذكر أن هذا يناسب تفسير المجمع بطنجة أو إفريقية إذ يراد بالمجمع متشعب بحر فارس والروم من المحيط وهو هناك، وقيل: بين اسم عنى الوصل. وتعقب بأن فيه ركاكة إذ لا حسن في قولك مجمع وصلهما، وقيل إن فيه مزيد تأكيد كقولهم جد جده؛ وجوز أن يكون عنى الافتراق أي موضع اجتماع افتراق البحرين أي البحرين المفترقين، والظاهر أن ضمير التثنية على الاحتمالين للبحرين.
وقال الخفاجي: يحتمل على احتمال أن يكون عنى الافتراق عوده لموسى والخضر عليهما السلام أي وصلًا إلى موضع وعد اجتماع شملهما فيه، وكذا إذا كان عنى الوصل انتهى، وفيه ما لا يخفى، و{مَجْمَعَ} على سائر الاحتمالات اسم مكان، واحتمال المصدرية هنا مثله فيما تقدم {نَسِيَا حُوتَهُمَا} الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب، فقد صح أن الله تعالى حين قال لموسى عليه السلام: إن لي جمع البحرين من هو أعلم قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتًا وجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، والظاهر نسبة النسيان إليهما جميعًا وإليه ذهب الجمهور، والكلام على تقدير مضاف أي نسيا حال حوتهما إلا أن الحال الذي نسيه كل منهما مختلف فالحال الذي نسيه موسى عليه السلام كونه باقيًا في المكتل أو مفقودًا والحال الذي نسيه يوشع عليه السلام ما رأى من حياته ووقوعه في البحر، وهذا قول بأن يوشع شاهد حياته وفيه خبر صحيح، ففي حديث رواه الشيخان. وغيرهما أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونًا ميتًا فهو حيث ينفخ فيه الروح فأخذ ذلك فجعله في مكتل فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال: ما كلفت كثيرًا فبينما هما في ظل صخرة إذا اضطرب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره.
وفي حديث رواه مسلم. وغيره أن الله تعالى قال له: آية ذلك أن تزود حوتًا مالحًا فهو حيث تفقده ففعل حتى إذا انتهيا إلى الصخرة انطلق موسى يطلب ووضع فتاه الحوت على الصخرة فاضطرب ودخل البحر فقال فتاه: إذا جاء نبي الله تعالى حدثته فأنساه الشيطان، وزعم بعض أن الناسي هو الفتى لا غير نسي أن يخبر موسى عليه السلام بأمر الحوت، ووجه نسبة النسيان إليهما بأن الشيء قد ينسب إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحدًا منهم، وما ذكر هنا نظير نسي القوم زادهم إذا نسيه متعهد أمرهم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي نسي أحدهما والمراد به الفتى وهو كما ترى، وسبب حياة هذا الحوت على ما في بعض الروايات عن ابن عباس أنه كان عند الصخرة ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه ميت إلا حي فأصاب شيء منه الحوت فحي، وروي أن يوشع عليه السلام توضأ من ذلك الماء فانتضح شيء منه على الحوت فعاش، وقيل: إنه لم يصبه سوى روح الماء وبرده فعاش بإذن الله تعالى، وذكر هذا الماء وأنه ما أصاب منه شيء إلا حي وأن الحوت أصاب منه جاء في صحيح البخاري فيما يتعلق بسورة الكهف أيضًا لكن ليس فيه أنه من شرب منه خلد كما في بعض الروايات السابقة.
ويشكل على هذا البعض أنه روى أن يوشع شرب منه أيضًا مع أنه لم يخلد اللهم إلا أن يقال: إن هذا لا يصح والله تعالى أعلم، ثم إن هذا الحوت كان على ما سمعت فيما مر مالحًا وفي رواية مشويًا، وفي بعض أنه كان في جملة ما تزوداه وكانا يصيبان منه عند العشاء والغداء فأحياه الله تعالى وقد أكلا نصفه {فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَبًا} مسلكًا كالسرب وهو النفق فقد صح من حديث الشيخين والترمذي. والنسائي. وغيرهم أن الله تعالى أمسك عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، والمراد به البناء المقوس كالقنطرة.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن الحبر جعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة، وهذا وكذا ما سبق من الأمور الخارقة للعادة التي يظهرها سبحانه على من شاء من أنبيائه وأوليائه، ونقل الدميري بقاء أثر الخارق الأول قال: قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي تزوده موسى وفتاه عليهما السلام وأكلا منه وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر واحد جنبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها ولها عين واحدة ورأسها نصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها وحسب أنها مأكولة ميتة ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة انتهى.
وقال أبو شجاع في كتاب الطبري: أتيت به فرأيته فإذا هو شق حوت وليس له إلا عين واحدة، وقال ابن عطية: وأنا رأيته أيضًا وعلى شقه قشرة رقيقة ليس تحتها شوكة، وفيه مخالفة لما في كلام أبي حامد، وأنا سألت كثيرًا من راكبي البحار ومتتبعي عجائب الآثار فلم يذكروا أنهم رأوا ذلك ولا أهدي إليهم في مملكة من الممالك فلعل أمره إن صح كل من الإثبات والنفي صار اليوم كالعنقاء كانت فعدمت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
والفاء على ما يقتضيه كلامهم فصيحة أي فحي وسقط في البحر فاتخذ، وقدر بعضهم المعطوف عليه الذي تفصح عنه الفاء بالواو على خلاف المألوف ليدفع به الاعتراض على كون الحال الذي نسيه يوشع ما رأى من حياته ووقوعه في البحر بأن الفاء تؤذن بأن نسيانه عليه السلام كان قبل حياته ووقوعه في البحر واتخاذه سربًا فلا يصح اعتبار ذلك في الحال المنسي. وأجيب بأن المعتبر في الحال هو الحياة والوقوع في البحر أنفسهما من غير اعتبار أمر آخر والواقع بعدهما من حيث ترتب عليهما الاتخاذ المذكور فهما من حيث أنفسهما متقدمان على النسيان ومن حيث ترتب الاتخاذ متأخران وهما من هذه الحيثية معطوفان على نسيا بالفاء التعقيبية، ولا يخفى أنه سيأتي في الجواب إن شاء الله تعالى ما يأبى هذا الجواب إلا أن يلتزم فيه خلاف المشهور بين الأصحاب فتدبر، وانتصاب {سَرَبًا} على أنه مفعول ثان لاتخذ و{فِى البحر} حال منه ولو تأخر كان صفة أو من السبيل، ويجوز أن يتعلق باتخذ، و{فِى} في جميع ذلك ظرفية.
ورا يتوهم من كلام ابن زيد حيث قال: إنما اتخذ سبيله في البر حتى وصل إلى البحر فعام على العادة أنها تعليلية مثلها في أن امرأة دخلت النار في هرة فكانه قيل فاتخذ سبيله في البر سربًا لأجل وصوله إلى البحر، ووافقه في كون اتخاذ السرب في البر قوم، وزعموا أنه صادف في طريق في البر حجرًا فنقبه، ولا يخفى أن القول بذلك خلاف ما ورد في الصحيح مما سمعت والآية لا تكاد تساعده، وجوز أن يكون مفعولًا اتخذ {سَبِيلِهِ وَفِى البحر} وسربًا حال من السبيل وليس بذاك، وقيل حال من فاعل اتخذ وهو عنى التصرف والجولان من قولهم فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء، ومنه قوله تعالى: {وَسَارِبٌ بالنهار} [الرعد: 109] وهو في تأويل الوصف أي اتخذ ذلك في البحر متصرفًا، ولا يخفى أنه نظير سابقه.