فصل: تفسير الآية رقم (75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (75):

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)}
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} زيادة {لَكَ} لزيادة المكافحة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية.

.تفسير الآية رقم (76):

{قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)}
{قَالَ} أي موسى عليه السلام {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْء} تفعله من الأعاجيب {بَعْدَهَا} أي بعد هذه المرة أو بعد هذه المسألة {فَلاَ تُصَاحِبْنِى} وقرأ عيسى. ويعقوب {فَلا} بفتح التاء من صحبه أي فلا تكن صاحبي، وعن عيسى أيضًا {فَلا} بضم التاء وكسر الحاء من أصحبه ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك؛ وقدر بعضهم المفعول الثاني علمك وليس بذاك.
وقرأ الأعرح {فَلا} بفتح التاء والباء وشد النون، والمراد المبالغة في النهي أي فلا تكن صاحبي البتة، وهذا يؤيد كون المراد من النهي فيما لا تأكيد فيه التحريم، والمراد به الحزم بالترك والمفارقة لا الترخيص على معنى إن سألتك بعد فأنت مرخص في ترك صحبتي {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْرًا} أي وجدت عذرًا من قبلي، وقال النووي: معناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فرافي حيث خالفتك مرة بعد مرة.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأي العجب لكن أخذته من صاحبه ذمامة فقال ذلك، وقرأ نافع. وعاصم {مِن لَّدُنّى} بتخفيف النون وهي حجة على س في منعه ذلك، والأكثرون على أنه حذف نون الوقاية وأبقى النون الأصلية المكسورة على ما هو القياس في الأسماء المضافة من أنها لا تلحقها نون الوقاية كوطني ومقامي، وقيل: إنه يحتمل أن يكون المذكور نون الوقاية والمضاف إنما هو لد بلا نون لغة في لدن فلا حذف أصلًا؛ وتعقب بأن نون الوقاية إنما هي في المبنى على السكون لتقيه الكسر ولد بلا نون مضموم. ورد بأنه لا مانع من أن يقال: إنها وقته من زوال الضم؛ وأشم شعبة الضم في الدال وروي عن عاصم أنه سكنها، وقال مجاهد: سوء غلط، ولعله أراد رواية وإلا فقد ذكروا أن لد بالفتح والسكون لغة في لدن، وقرأ عيسى {عُذْرًا} بضم الذال ورويت عن أبي عمرو. وعن أبي {عذري} بالإضافة إلى ياء المتكلم.

.تفسير الآية رقم (77):

{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)}
{فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} الجمهور على أنها إنطاكية وحكاه الثعلبي عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه أنها برقة وهي كما في القاموس اسم لمواضع، وفي «المواهب» أنها قرية بأرض الروم والله تعالى أعلم، وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن السدي أنها باجروان وهي أيضًا اسم لمتعدد إلا أنه ذكر بعضهم أن المراد بها قرية بنواحي أرمينية، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنها الأبلة بهمزة وباء موحدة ولا مشددة، وقيل: قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى قال في مجمع البيان وهو المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وقيل: قرية في الجزيرة الخضراء من أرض الأندلس، قال ابن حجر: والخلاف هنا كالخلاف في «مجمع البحرين» ولا يوثق بشيء منه، وفي الحديث أتيا أهل قرية لئامًا {استطعما أَهْلَهَا} في محل الجر على أنه صفة لقرية، وجواب إذا {قَالَ} [الكهف: 78] الآتي إن شاء الله تعالى وسلك بذلك نحو ما سلك في القصة الثانية من جعل الاعتراض عمدة الكلام للنكتة التي ذكرها هناك شيخ الإسلام، وذهب أبو البقاء. وغيره إلى أنه هو الجواب والآتي مستأنف نظير ما في القصة الأولى، والوصفية مختار المحققين كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. وههنا سؤال مشهور وقد نظمه الصلاح الصفدي ورفعه إلى الإمام تقي الدين السبكي فقال:
أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا ** بدا وجهه استحيى له القمران

ومن كفه يوم المندى ويراعه ** على طرسه بحران يلتقيان

ومن إن دجت في المشكلات مسائل ** جلاها بفكر دائم اللمعان

رأيت كتاب الله أعظم معجز ** لأفضل من يهدي به الثقلان

ومن جملة الإعجاز كون اختصاره ** بإيجاز ألفاظ وبسط معاني

ولكنني في الكهف أبصرت آية ** بها الفكر في طول الزمان عناني

وما هي إلا استطعما أهلها فقد ** نرى استطعماهم مثله ببيان

فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر ** مكان ضمير إن ذاك لشان

فارشد على عادات فضلك حيرتي ** فما لي إلى هذا الكلام يدان

فأجاب السبكي بأن جملة {استطعما} محتملة لأن تكون في محل جر صفة لقرية وأن تكون في محل نصب صفة لأهل وأن تكون جواب إذا ولا احتمال لغير ذلك، ومن تأمل علم أن الأول متعين معنى وأن الثاني والثالث وأن احتملتهما الآية بعيدان عن مغزاها، أما الثالث فلأنه يلزم عليه كون المقصود الإخبار بالاستطعام عند الإتيان وأن ذلك تمام معنى الكلام، ويلزمه أن يكون معظم قصدهما أو هو طلب الطعام مع أن القصد هو ما أراد ربك مما قص بعد وإظهار الأمر العجيب لموسى عليه السلام، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه أن تكون العناية بشرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيرًا إليها نفسها فيتعين الأول ويجب فيه {استطعما أَهْلَهَا} ولا يجوز استطعماهم أصلًا لخلو الجملة عن ضمير الموصوف.
وعلى هذا يفهم من مجموع الآيات أن الخضر عليه السلام فعل ما فعل في قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم سوء صنيع من الإباء عن حق الضيف مع طلبه وللبقاع تأثير في الطباع ولم يهم فيها مع أنها حرية بالإفساد والإضاعة بل باشر الإصلاح لمجرد الطاعة ولم يعبأ عليه السلام بفعل أهلها اللئام، ويضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكون هم الأولون أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم، والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولًا على البعض ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدر الله تعالى لهما استقراء الجميع على التدريج ليتبين به كمال رحمته سبحانه وعدم مؤاخذته تعالى بسوء صنيع بعض عباده، ولو قيل استطعماهم تعين إرادة الأولين فأتى بالظاهر إشعارًا بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدًا من أهلها حتى استطعماه وأبي ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء، فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن كثير من المفسرين تحت الأستار حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء، وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد، وآخر زعم ما لا يعول عليه حتى سمعت عن شخص أنه قال: إن العدول عن استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل وهو قول يحكي ليردفان القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك ومنه ما يأتي في الآية، ومن تمام الكلام فيما ذكر أن استطعما إن جعل جوابًا فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة وذكر تعريفًا وتنبيهًا على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير فهذا ما فتح الله تعالى علي والشعر يضيق عن الجواب وقد قلت:
لأسرار آيات الكتاب معاني ** تدق فلا تبدو لكل معاني

وفيها لمرتاض لبيب عجائب ** سنًا برقها يعنو له القمران

إذا بارق منها لقلبي قد بدا ** هممت قرير العين بالطيران

سرورًا وإبهاجًا وصولًا على العلا ** كأني علا فوق السماك مكاني

فما الملك والاكران ما البيض ما القنا ** وعندي وجوه أسفرت بتهاني

وهاتيك منها قد أبحتك سرها ** فشكرًا لمن أولاك حسن بياني

أرى استطعما وصفًا على قرية جرى ** وليس لها والنحو كالميزان

صناعته تقضي بأن استتار ما ** يعود عليه ليس في الإمكان

وليس جوابًا لا ولاصف أهلها ** فلا وجه للإضمار والكتمان

وهذي ثلاث ما سواها بممكن ** تعين منها واحد فسباني

ورضت بها فكري إلى أن تمحضت ** به زبدة الأحقاب منذ زمان

وإن حياتي في تموج أبحر ** من العلم في قلبي يمد لساني

إلى آخر ما تحمس به، وفيه من المناقشة ما فيه. وقد اعترض بعضهم بأنه على تقدير كون الجملة صفة للقرية يمكن أن يؤتي بتركيب أخصر مما ذكر بأن يقال: فلما أتيا قرية استطعما أهلها فما الداعي إلى ذكر الأهل أولًا على هذا التقدير، وأجيب بأنه جيء بالأهل للإشارة إلى أنهم قصدوا بالإتيان في قريتهم وسألوا فمنعوا ولا شك أن هذا أبلغ في اللؤم وأبعد عن صدور جميل في حق أحد منهم فيكون صدور ما صدر من الخضر عليه السلام غريبًا جدًا، لا يقال: ليكن التركيب كذلك وليكن على الإرادة الأهل تقديرًا أو تجوزًا كما في قوله تعالى: {واسئل القرية} [يوسف: 82] لأنا نقول: إن الإتيان ينسب للمكان كأتيت عرفات ولمن فيه كأتيت أهل بغداد فلو لم يذكر كان فيه تفويتًا للمقصود، وليس ذلك نظير ما ذكر من الآية لامتناع سؤال نفس القرية عادة، واختار الشيخ عز الدين على الموصلي في جواب الصفدي أن تكرار الأهل والعدول عن استطعماهم إلى {استطعما أَهْلَهَا} للتحقير وهو أحد نكات إقامة الظاهر مقام الضمير وبسط الكلام في ذلك نثيرًا؛ وقال نظمًا:
سألت لماذا استطعما أهلها أتى ** عن استطعماهم إن ذاك لشان

وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف ** على سبب الرجحان منذ زمان

فهاك جوابًا رافعًا لنقابه ** يصير به المعنى كرأي عيان

إذا ما استوى الحالان في الحكم ** رجح الضمير وأما حين يختلفان

بأن كان في التصريح إظهار حكمة ** كرفعة شأن أو حقارة جاني

كمثل أمير المؤمنين يقول ذا ** وما نحن فيه صرحوا بأمان

وهذا على الإيجاز والبسط جاء في ** جوابي منثورًا بحسن بيان

وذكر في النثر وجهًا آخر للعدول وهو ما نقله السبكي ورده، وقد ذكره أيضًا النيسابوري وهو لعمري كما قال السبكي، ويؤول إلى ما ذكر من أن الإظهار للتحقير قول بعض المحققين: إنه للتأكيد المقصود منه زيادة التشنيع وهو وجه وجيه عند كل نبيه، ومن ذلك قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 59] الآية ومثله كثير في القصيح، وقال بعضهم: إن الأهلين متغايران فلذا جيء بهما معًا، وقولهم: إذا أعيد المذكور أولًا معرفة كان الثاني عين الأول غير مطرد وذلك لأن المراد بالأهل الأول البعض إذ في ابتداء دخول القرية لا يتأتى عادة إتيان جميع أهلها لاسيما على ما روي من أن دخولهما كان قبل غروب الشمس وبالأهل الثاني الجميع لما ورد أنهما عليهما السلام كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم فلو جيء بالضمير لفهم أنهما استطعما البعض، وعكس بعضهم الأمر فقال: المراد بالأهل الأول الجميع ومعنى إتيانهم الوصول إليهم والحلول فيما بينهم؛ وهو نظير إتيان البلد وهو ظاهر في الوصول إلى بعض منه والحلول فيه وبالأهل الثاني البعض إذ سؤال فرد فرد من كبار أهل القرية وصغارهم وذكورهم وإناثهم وأغنيائهم وفقرائهم مستبعد جدًا والخبر لا يدل عليه ولعله ظاهر في أنهما استطعما الرجال، وقد روي عن أبي هريرة والله تعالى أعلم بصحة الخبر أنه قال: أطعتهما امرأة من بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم فلذا جيء بالظاهر دون الضمير، ونقل مثله عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة.
وأورد عليهما أن فيهما مخالفة لما هو الغالب في إعادة الأول معرفة، وعلى الثاني أنه ليس في المغايرة المذكورة فيه فائدة يعتد بها، ولا يورد هذا على الأول لأن فائدة المغايرة المذكورة فيه زيادة التشنيع على أهل القرية كما لا يخفى.
واختار بعضهم على القول بالتأكيد أن المراد بالأهل في الموضعين الذين يتوقع من ظاهر حالهم حصول الغرض منهم ويحصل اليأس من غيرهم باليأس منهم من المقيمين المتوطنين في القرية، ومن لم يحكم العادة يقول: إنهما عليهما السلام أتوا الجميع وسألوهم لما أنهما على ما قيل قد مستهما الحاجة {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا} بالتشديد وقرأ ابن الزبير. والحسن. وأبو رجاء. وأبو رزين. وأبو محيصن. وعاصم في رواية المفضل. وأبان بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفًا وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفًا، وحقيقة ضاف مال من ضاف السهم عن الهدف يضيف ويقال أضافت الشمس للغروب وتضيفت إذا مالت، ونظيره زاره من الازورار، ولا يخفى ما في التعبير بالإباء من الإشارة إلى مزيد لؤم القوم لأنه كما قال الراغب شدة الامتناع، ولهذا لم يقل: فلم يضيفوهما مع أنه أخصر فإنه دون ما في النظم الجليل في الدلالة على ذمهم، ولعل ذلك الاستطعام كان طلبًا للطعام على وجه الضيافة بأن يكونا قد قالا: إنا غريبان فضيفونا أو نحو ذلك كما يشير إليه التعبير بقوله تعالى: {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا} دون فأبوا أن يطعموهما مع اقتضاء ظاهر {استطعما أَهْلَهَا} إياه، وإنما عبر باستطعما دون استضافا للإشارة إلى أن جل قصدهما الطعام دون الميل بهما إلى منزل وإيوائهما إلى محل. وذكر بعضهم أن في {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا} من التشنيع ما ليس في أبوا أن يطعموهما لأن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب كما إذا رد غريبًا استضافه بل لا يكاد يرد الضيف إلا لئيم، ومن أعظم هجاء العرب فلان يطرد الضيف، وعن قتادة شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه.
وقال زين الدين الموصلي إنما خص سبحانه الاستطعام وسى والخضر عليهما السلام والضيافة بالأهل لأن الاستطعام وظيفة السائل والضيافة وظيفة المسؤول لأن العرف يقضي بذلك فيدعو المقيم القادم إلى منزله يسأله ويحمله إليه انتهى، وهو كما ترى. ومما يضحك منه العقلاء ما نقله النيسابوري وغيره أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من ذهب فقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء من {أبوا} تاء فأبى عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يحكي وقوع هذه القصة في زمن علي كرم الله تعالى وجهه ولا أصل لشيء من ذلك، وعلى فرض الصحة يعلم منه قلة عقول أهل القرية في الإسلام كما علم لؤمهم من القرآن والسنة من قبل {قَصَصًا فَوَجَدَا} عطف كما قال السبكي على {أَتَيَا} {فِيهَا جِدَارًا} روى أنهما التجآ إليه حيث لم يجدا مأوى وكانت ليلتهما ليلة باردة وكان على شارع الطريق {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي يسقط وماضيه انقض على وزن انفعل نحو انجر والنون زائدة لأنه من قضضته عنى كسرته لكن لما كان المنكسر يتساقط قيل الانقضاض السقوط، والمشهور أنه السقوط بسرعة كانقضاض الكوكب والطير، قال صاحب اللوامح: هو من القضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى فعلى هذا المعنى يريد أن يتفتت فيصير حصى انتهى.
وذكر أبو علي في الإيضاح أن وزنه افعل من النقض كأحمر، وقال السهيلي في «الروض» هو غلط وتحقيق ذلك في محله. والنون على هذا أصلية، والمراد من إرادة السقوط قربه من ذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة تسبب إرادة السقوط لقربه أو على سبيل الاستعارة بأن يشبه قرب السقوط بالإرادة لما فيهما من الميل، ويجوز أن يعتبر في الكلام استعارة مكنية وتخييلية، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم ومن ذلك قوله:
يريد الرمح صدر أبي براء ** ويعدل عن دماء بني عقيل

وقول حسان رضي الله تعالى عنه:
إن دهرًا يلف شملي بجمل ** لزمان يهم بالإحسان

وقول الآخر:
أبت الروادف والثدي لقمصها ** مس البطون وإن تمس ظهورا

وقول أبي نواس:
فاستنطق العود قد طال السكوت به ** لا ينطق اللهو حتى ينطق العود

إلى ما لا يحصى كثرة حتى قيل: إن من له أدنى اطلاع على كلام العرب لا يحتاج إلى شاهد على هذا المطلب.
ونقل بعض أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني أنه ينكر وقوع المجاز في القرآن فيؤول الآية بأن الضمير في يريد للخضر أو لموسى عليهما السلام، وجوز أن يكون الفاعل الجدار وأن الله تعالى خلق فيه حياة وإرادة والكل تكلف وتعسف تغسل به بلاغة الكلام.
وقال أبو حيان: لعل النقل لا يصح عن الرجل وكيف يقول ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدي في النظم والنثر، وقرأ أبي {يَنقَضَّ} بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيًا للمفعول، وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش {يُرِيدُ} كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وعكرمة. وخليد بن سعد. ويحيى بن يعمر {ينقاص} بالصاد المهملة مع الألف ووزنه ينفعل اللازم من قصته فانقاص إذا كسرته فانكسر، وقال ابن خالويه: تقول العرب: انقاصت السن إذا انشقت طولًا، قال ذو الرمة يصف ثور وحش:
يغشى الكناس بروقيه ويهدمه ** من هائل الرمل منقاص ومنكثب

وفي الصحاح قيص السن سقوطها من أصلها وأنشد قول أبي ذؤيب:
فراق كقيص السن فالصبر أنه ** لكل أناس عثرة وحبور

وقال الأموي: انقاصت البر انهارت، وقال الأصمعي: المناقص المنقعر والمنقاض بالضاد المعجمة المنشق طولًا، وقال أبو عمرو: هما عنى واحد. وقرأ الزهري {ينقاض} بألف وضاد معجمة، والمشهور تفسيره بينهدم.
وذكر أبو علي أن المشهور عن الزهري أنه ينقاص بالمهملة {يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس. وابن جبير، وقال القرطبي. إنه هو الصحيح وهو أشبه بأحوال الأنبياء عليهم السلام؛ واعترض بأنه غير ملائم لما بعد إذ لا يستحق ثله الأجر، ورد بأن عدم استحقاق الأجر مع حصول الغرض غير مسلم ولا يضره سهولته على الفاعل، وقيل: أقامه بعمود عمده به، وقال مقاتل: سواه بالشيد، وقيل هدمه وقعد يبنيه.
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} وكان طول هذا الجدار إلى السماء على ما نقل النووي عن وهب بن منبه مائة ذراع، ونقل السفيري عن الثعلبي أنه كان سمكه مائتي ذراع بذراع تلك القرية وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وكان عرضه خمسين ذراعًا وكان الناس يمرون تحته على خوف منه {مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ} موسى عليه السلام {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} تحريضًا للخضر عليه السلام وحثًا على أخذ الجعل والأجرة على فعله ليحصل لهما بذلك الانتعاش والتقوى بالمعاش فهو سؤال له لم لم يأخذ الأجرة واعتراض على ترك الأخذ فالمراد لازم فائدة الخبر إذ لا فائدة في الإخبار بفعله، وقيل: لم يقل ذلك حثًا وإنما قاله تعريضًا بأن فعله ذلك فضول وتبرع بما لم يطلب منه من غير فائدة ولا استحقاق لمن فعل له مع كمال الاحتياج إلى خلافه، وكان الكليم عليه السلام لما رأى الحرمان ومساس الحاجة والاشتغال بما لا يعني لم يتمالك الصبر فاعترض، واتخذ افتعل فالتاء الأولى أصلية والثانية تاء الافتعال أدغمت فيها الأولى ومادته تخذ لا أخذ وإن كان عناه لأن فاء الكلمة لا تبدل إذا كانت همزة أو ياء مبدلة منها، ولذا قيل إن ايتزر خطأ أو شاذ وهذا شائع في فصيح الكلام، وأيضًا إبدالها في الافتعال لو سلم لم يكن لقولهم تخذ وجه وهذا مذهب البصريين، وقال غيرهم: إنه الاتخاذ افتعال من الأخذ ولا يسلم ما تقدم، ويقول: المدة العارضة تبدل تاء أيضًا، ولكثرة استعماله هنا أجروه مجرى الأصلي وقالوا تخذ ثلاثيًا جريًا عليه وهذا كما قالوا: تقى من اتقى. وقرأ عبد الله. والحسن. وقتادة. وأبو بحرية. وابن محيصن. وحميد. واليزيدي. ويعقوب. وأبو حاتم. وابن كثير. وأبو عمرو {لتخذت} بتاء مفتوحة وخاء مكسورة أي لأخذت، وأظهر ابن كثير. ويعقوب. وحفص الذال وأدغمها باقي السبعة.