فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (7):

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}
{يَا زَكَرِيَّا} على إرادة القول أي قيل له أو قال الله تعالى يا زكريا {إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} لكن لا بأن يخاطبه سبحانه وتعالى بذلك بالذات بل بواسطة الملك كما يدل عليه آية أخرى على أن يحكي عليه السلام العبارة عنه عز وجل على نهج قوله تعالى: {قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية وهذا جواب لندائه عليه السلام ووعد بإجابة دعائه كما يفهمه التعبير بالبشارة دون الإعطاء أو نحوه وما في الوعد من التراخي لا ينافي التعقيب في قوله تعالى: {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 90] الآية لأنه تعقيب عرفي كما في تزوج فولد له ولأن المراد بالاستجابة الوعد أيضًا لأن وعد الكريم نقد، والمشهور أن هذا القول كان إثر الدعاء ولم يكن بين البشارة والولادة إلا أشهر، وقيل: إنه رزق الولد بعد أربعين سنة من دعائه، وقيل: بعد ستين. والغلام الولد الذكر، وقد يقال للأنثى: غلامة كما قال:
تهان لها الغلامة والغلام

وفي تعيين اسمه عليه السلام تأكيد للوعد وتشريف له عليه السلام، وفي تخصيصه به حسا يعرب عنه قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} أي شريكًا له في الاسم حيث لم يسم أحد قبله بيحيى على ما روي عن ابن عباس. وقتادة. والسدي. وابن أسلم مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام، وهذا كما قال الزمخشري شاهد على أن الأسماء النادرة التي لا يكاد الناس يستعملونها جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز حتى قال القائل في مدح قوم:
شنع الأسامي مسبلي أزر ** حمر تمس الأرض بالهدب

وقيل للصلت بن عطاء: كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك؟ فقال: كنت غريب الدار غريب الاسم خفيف الجرم شحيحًا بالإشلاء فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم؛ وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر. وغيرهما عن مجاهد أن {سَمِيًّا} عنى شبيهًا. وروي عن عطاء. وابن جبير مثله أي لم نجعل له شبيهًا حيث أنه لم يعص ولم يهم عصية، فقد أخرج أحمد. والحكيم. والترمذي في نوادر الأصول. والحاكم. وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أوهم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام لم يهم بخطيئة ولم يعملها» والأخبار في ذلك متظافرة، وقيل: لم يكن له شبيه لذلك ولأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر.
وقيل لأنه كان كما وصف الله تعالى: {مصدقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين} [آل عمران: 39] فيكون هذا إجمالًا لذلك وإنما قيل للشبيه سمي لأن المتشابهين يتشاركان في الاسم.
ومن هذا الإطلاق قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] لأنه الذي يقتضيه التفريع، والأظهر أنه اسم أعجمي لأنه لم تكن عادتهم التسمية بالألفاظ العربية فيكون منعه الصرف على القول المشهور في مثله للعلمية والعجمة، وقيل إنه عربي ولتلك العادة مدخل في غرابته وعلى هذا فهو منقول من الفعل كيعمر ويعيش وقد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع بن أخت الجاحظ ووجه تسميته بذلك على القول بعربيته قيل الإشارة بأنه يعمر، وهذا في معنى التفاؤل بطول حياته، وكان في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام يرث حسا سأل زكريا عليه السلام، وقيل: سمي بذلك لأنه حي به رحم أمه. وقيل لأنه حي بين شيخ فان وعجوز عاقر، وقيل لأنه يحيا بالحكمة والعفة، وقيل لأنه يحيا بإرشاد الخلق وهدايتهم، وقيل لأنه يستشهد والشهداء أحياء، وقيل غير ذلك، ثم لا يخفى أنه على العربية والعجمة يختلف الوزن والتصغير كما بين في محله.

.تفسير الآية رقم (8):

{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)}
{قَالَ} استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال عليه السلام حينئذٍ؟ فقيل قال: {رَبّ} ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بواسطة الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجد في التبتل إليه عز وجل، وقيل لذلك والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه تعالى بما يصدر عنه متوقف على توسطه كما أن علم البشر بما يصدر عنه تعالى متوقف على ذلك في عامة الأوقات؛ ولا يخفى أن الاقتصار على الأول أولى {أنى يَكُونُ لِي غلام} كلمة {إِنّى} عنى كيف أو من أين، وكان إما تامة وأنى واللام متعلقان بها، وتقديم الجار على الفاعل لما مر غير مرة أي كيف أو من أين يحدث لي غلام، ويجوز أن يتعلق اللام حذوف وقع حالًا من {غُلاَمٌ} أي أنى يحدث كائنًا لي غلام أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما أنى و{لِى} متعلق حذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصب على الظرفية، وقوله تعالى: {وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا} حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} حال منه مؤكدة للاستبعاد إثر تأكيد، ومن للابتداء العلي، والعتي من عتى يعتو اليبس والقحول في المفاصل والعظام.
وقال الراغب: هو حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها، وقيل إلى رياضتها وهي الحالة المشار إليها بقول الشاعر:
ومن العناء رياضة الهرم

وأصله عتوو كقعود فاستثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها ثم انقلبت الثانية أيضًا لاجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون وكسرت العين اتباعًا لما بعدها أي كانت امرأتي عاقرًا لم تلد في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوز وقد بلغت أنا من أجل كبر السن يبسًا وقحولًا أو حالة لا سبيل إلى إصلاحها وقد تقدم لك الأقوال في مقدار عمره عليه السلام إذ ذاك. وأما عمر امرأته فقد قيل إنه كان ثماني وتسعين.
وجوز أن تكون {مِنْ} للتبعيض أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيًا، وجعلها بعضهم بيانية تجريدية وفيه بحث والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو حذوف وقع حالًا من {عِتِيًّا} وهو نصب على المفعولية وأصل المعنى متحد مع قوله تعالى في آل عمران حكاية عنه بلغني الكبر والتفاوت في المسند إليه لا يضر فإن ما بلغك من المعاني فقد بلغته نعم بين الكلامين اختلاف من حيثية أخرى لا تخفى فيحتاج اختيار كل منهما في مقام إلى نكتة فتدبر ذاك، وكذا وجه البداءة هاهنا بذكر حال امرأته عليه السلام على عكس ما في تلك السورة.
وفي إرشاد العقل السليم لعل ذلك لما أنه قد ذكر حاله في تضاعيف دعائه وإنما المذكور هاهنا بلوغه أقصى مراتب الكبر تتمة لما ذكر قبل وأما هنا لك فلم يسبق في الدعاء ذكر حاله فلذلك قدمه على ذكر حال امرأته لما أن المسارعة إلى بيان قصور شأنه أنسب اه.
وقال بعضهم: يحتمل تكرر الدعاء والمحاورة واختلاف الأسلوب للتفنن مع تضمن كل ما لم يتضمنه الآخر فتأمل والله تعالى الموفق، والظاهر أنه عليه السلام كان يعرف من نفسه أنه لم يكن عاقرًا، ولذلك ذكر الكبر ولم يذكر العقر وإنما قال عليه السلام ما ذكر مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى لاسيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران استعظامًا لقدرة الله تعالى واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محض فضل الله تعالى ولطفه مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة ولم يكن ذلك استبعادًا كذا قيل.
وقيل: هو استبعاد لكنه ليس راجعًا إلى المتكلم بل هو بالنسبة إلى المبطلين، وإنما طلب عليه السلام ما يزيل شوكة استبعادهم ويجلب ارتداعهم من سيء عادتهم، وذلك مما لا بأس به من النبي خلافًا لابن المنير، نعم أورد على ذلك أن الدعاء كان خفيًا عن المبطلين.
وأجيب بأنه يحتمل أنه جهر به بعد ذلك إظهارًا لنعمة الله تعالى عليه وطلبًا لما ذكر فتذكر، وقيل: هو استبعاد راجع إلى المتكلم حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة، وكان قد نسي عليه السلام دعاءه وهو بعيد جدًا.
وقال في الانتصاف: الظاهر والله تعالى أعلم أن زكريا عليه السلام طلب ولدًا على الجملة وليس في الآية ما يدل أنه يوجد منه وهو هرم ولا إنه من زوجته وهي عاقر ولا أنه يعاد عليهما قوتهما وشبابهما كما فعل بغيرهما أو يكون الولد من غير زوجته العاقر فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما فاستخبر أيكون وهما كذلك فقيل له {كذلك} [مريم: 9] أي يكون الولد وأنتما كذلك. وتعقب بأن قوله: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ} ظاهر في أنه طلب الولد وهما على حالة يستحيل عادة منهما الولد.
والظاهر عندي كونه استبعادًا من حيث العادة أو هو بالنسبة إلى المبطلين وهو كما في الكشف أولى. وقرأ أكثر السبعة {عِتِيًّا} بضم العين. وقرأ ابن مسعود بفتحها وكذا بفتح صاد {صِلِيًّا} [مريم: 70] وأصل ذلك كما قال ابن جني ردًا على قول ابن مجاهد لا أعرف لهما في العربية أصلًا ما جاء من المصادر على فعيل نحو الحويل والزويل. وعن ابن مسعود أيضًا. ومجاهد أنهما قرآ {عسيا} بضم العين وبالسين مكسورة. وحكى ذلك الداني عن ابن عباس. والزمخشري عن أبي، ومجاهد وهو من عسا العود يعسو إذا يبس.

.تفسير الآية رقم (9):

{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)}
{كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} قرأ الحسن {وَهُوَ على هَيّنٌ} بالواو، وعنه أنه كسر ياء المتكلم كما في قول النابغة:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة ** لوالده ليست بذات عقارب

ونحو ذلك قراءة حمزة {وَمَا أَنتُمْ صْرِخِىَّ} [إبراهيم: 22] بكسر الياء، والكاف إما رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وضمير {قَالَ} للرب عز وجل لا للملك المبشر لئلا يفك النظم، وذلك إشارة إلى قول زكريا عليه السلام، والخطاب في {قَالَ رَبُّكِ} له عليه السلام لا لنبينا صلى الله عليه وسلم بدليل السابق واللاحق، وجملة {هُوَ عَلَىَّ حِينٍ} مفعول {قَالَ} الثاني وجملة الأمر كذلك مع جملة {قَالَ رَبُّكِ} إلخ مفعول {قَالَ} الأول وإن لم يتخلل بين الجملتين عاطف كما في قوله تعالى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41] وقوله سبحانه وتعالى: {قَالُواْ لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا} [المؤمنون: 82، 83] الآية وكم وكم، وجيء بالجملة الأولى تصديقًا منه تعالى لزكريا عليه السلام وبالثانية جوابًا لما عسى يتوهم من أنه إذا كان ذلك في الاستبعاد بتلك المنزلة وقد صدقت فيه فإنى يتسنى فهي في نفسها استئنافية لذلك، ولا يحسن تخلل العاطف في مثل هاتين الجملتين إذا كان المحكي عنه قد تكلم بهما معًا من غير عاطف ليدل على الصورة الأولى للقول بعينها، وكذلك لا يحسن إضمار قول آخر لأنه يكون استئنافًا جوابًا للمحكي له فلا يدل على أنه الاستئناف أيضًا في الأول إلا نفصل أما لو تكلم بهما في زمانين أو بدون ذلك الترتيب فالظاهر العطف أو الاستئناف بإضمار القول.
ثم لو كان الاقتصار في جواب زكريا عليه السلام على {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} من دون إقحام {قَالَ رَبُّكِ} لكان مستقيمًا لكن إنما عدل إليه للدلالة على تحقيق الوعد وإزالة الاستبعاد بالكلية على منوال ما إذا وعد ملك بعض خواصه ما لا يجد نفسه تستأهل ذلك فأخذ يتعجب مستبعدًا أن يكون من الملك بتلك المنزلة فحاول أن يحقق مراده ويزيل استبعاده فأما أن يقول لا تستبعد أنه أهون شيء علي على الكلام الظاهر وإما أن يقول لا تستبعد قد قلت إنه أهون شيء على إشارة منه إلى أنه وعد سبق القول به وتحتم وإنه من جلالة القدر بحيث لا يرى في إنجازه لباغيه كائنًا من كان وقعًا فكيف لمن استحق منه لصدق قدمه في عبوديته إجلالًا ورفعًا، وهذا قول بلسان الإشارة يصدق وإن لم يكن قد سيق منه نطق به لأن المقصود أن علو المكانة وسعة القدرة وكمال الجود يقضي بذلك قيل: أولًا أولًا ثم إذا أراد ترشيح هذا المعنى عدل عن الحكاية قائلًا: قد قال من أنت غرس نعمائه أنه أهون شيء على ثم إذا حكى الملك القصة مع بعض خلصائه كان له أن يقول: قلت لعبدي فلان كيت وكيت قال: إني وليت قلت قال من أنت إلخ وأن يقول بدله قال سيد فلان له ويسرد الحديث فهذا وزان الآية فيما جرى لزكريا عليه السلام وحكى لنبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل والسلام، وقد لاح من هذا التقرير أن فوات نكتة الإقحام مانع من أن يجعل المرفوع من صلة {قَالَ} الثاني والمجموع صله الأول، والظاهر في توجيه قراءة الحسن على هذا أن جملة {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} عطف على محذوف من نحو أفعل وأنا فاعل، ويجوز أن يقال ورا أشعر كلام الزمخشري بإيثاره أنه عطف على الجملة السابقة نظرًا إلى الأصل لما مر من أن {قَالَ} مقحم لنكتة فكأنه قيل الأمر كذلك وهو على ذلك يهون علي، وأما نصب بقال الثاني وهي الكاف التي تستعمل مقحمة في الأمر العجيب الغريب لتثبيته وذلك إشارة إلى مبهم يفسر ما بعده أعني {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} وضمير قال للرب كما تقدم والخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم أيضًا أي قال رب زكريا له قال ربك مثل ذلك القول العجيب الغريب هو على هين علي أن {قَالَ} الثاني مع ما في صلته مقول القول الأول وإقحام القول الثاني لما سلف ولا ينصب الكاف بقال الأول وإلا لكان {قَالَ} ثانيًا تأكيدًا لفظيًا لئلا يقع الفصل بين المفسر والمفسر بأجنبي وهو ممتنع إذ لا ينتظم أن يقال: قال رب زكريا قال ربك ويكون الخطاب لزكريا عليه السلام والمخاطب غيره كيف وهذا النوع من الكلام يقع فيه التشبيه مقدمًا لاسيما في التنزيل الجليل من نحو:{وكذلك جعلناكم أُمَّةً} [البقرة: 143] {كذلك الله يفعل ما يشاء} [آل عمران: 40] إلى غير ذلك، وهذا الوجه لا يتمشى في قراءة الحسن لأن المفسر لا يدخله الواو ولا يجوز حذفه حتى يجعل عطفًا عليه لأن الحذف والتفسير متنافيان، وجوز على احتمال النصب أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من وعد الله تعالى إياه عليه السلام بقوله: {إِنَّا نُبَشّرُكَ} [مريم: 7] إلخ أي قال ربه سبحانه له قال ربك مثل ذلك أي مثل ذلك القولب العجيب الذي وعدته وعرفته وهو {إِنَّا نُبَشّرُكَ} إلخ، وأداة التشبيه مقحمة كما مر فيكون المعنى وعد ذلك وحققه وفرغ منه فكن فارغ البال من تحصيله على أوثق بال ثم قال: هو على هين أي قال ربك هو على هين فيضمر القول ليتطابقا في البلاغة، ولأن قوله مثل ذلك مفرد فلا يحسن أن تقرن الجملة به وينسحب عليه ذلك القول بعينه بل إنما يضمر مثله استئنافًا إيفاءًا بحق التناسب.
وإن شئت لم تنوه ليكون محكيًا منتظمًا في سلك {قَالَ رَبُّكِ} منسحبًا عليه القول الأول أي قال رب زكريا له هو على هين لأن الله تعالى هو المخاطب لزكريا عليه السلام أفلا منع من جعله مقول القول الأول من غير إضمار لأن القولين أعني قال ربك مثل ذلك هو على هين صادران معًا محكيان على حالهما. ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى أعني الملك تعين إضمار القول لامتناع أن يكون هو على هين من مقوله فلا ينسحب عليه الأول. وأما على قراءة الحسن فإن جعل عطفًا على {قَالَ رَبُّكِ} لم يحتج إلى إضمار لصحة الانسحاب وإن أريد تأكيده أيضًا قدر القول لئلا تفوت البلاغة ويكون التناسب حاصلًا، وجعله عطفًا ما بعد {قَالَ} الثاني من دون التقدير يفوت به رعاية التناسب لفظًا فإن ما بعده مفرد والملاءمة معنى لما عرفت أن لا قول على الحقيقة. والمعنى قال ربه قد حقق الموعود وفرغ عنه فلابد من تقديره على {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} ليفيد تحقيقه أيضًا. ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى تعين الإضمار لعدم الانسحاب دونه فافهم، وهذا ما حققه صاحب الكشف وقرر به عبارة الكشاف بأدنى اختصار، ثم ذكر أن خلاصة ما وجده من قول الأفاضل أن التقدير على احتمال أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الوعد قال رب زكريا له قال ربك قولًا مثل قوله سبحانه وتعالى السابق عدة في الغرابة والعجب فاتجه له عليه السلام أن يسأل ماذا قلت يا رب وهو مثله فيقول: هو على هين أي قلت أو قال ربك. والأصل على هذا التقدير قلت قولًا مثل الوعد في الغرابة فعدل إلى الالتفات أو التجريد أيًا شئت تسميه لفائدته المعلومة. وليس في الإتيان بأصل القول خروج عن مقتضى الظاهر إذ لابد منه لينتظم الكلام وذلك لأن المعنى على هذا التقدير ولا تعجب من ذلك القول وانظر إلى مثله واعجب فقد قلناه. وكذلك يتجه لنبينا صلى الله عليه وسلم السؤال فيجاب بأنه قال له ربه هو على هين وصحة وقوعه جوابًا عن سؤال نبينا عليه الصلاة والسلام وهو الأظهر على هذا الوجه لأن الكلام معه، وإذ قد صح أن يجعل جوابًا له جاز إضمار القول لأنه جواب له صلى الله عليه وسلم بما يدل على أنه خوطب به زكريا عليه السلام أيضًا وجاز أن لا يضمر لأن المخاطب لهما واحد والخطاب مع نبينا صلى الله عليه وسلم وعلم من ضرورة المماثلة أنه قيل لزكريا أيضًا هذه المقالة ولو كان الحاكي والقائل الأول مختلفين في هذه الصورة لم يكن بد من إضماره لأنه إذا قال عمرو لبكر ماذا قال زيد لخالد مما يماثل مقالته السابقة له؟ فيقول: إنك محبب مرضي وجب أن يكون التقدير قال زيد لخالد هذه المقالة لا محالة، ولا بعد في تنزيل كلام الزمخشري عليه، وهذا ما لوح إليه صاحب التقريب وآثره الإمام الطيبي وفيه فوات النكتة المذكورة في {قَالَ رَبُّكِ} ثم إنه إن لم يكن سبق القول كان كذبًا من حيث الظاهر إذ ليس من القول بلسان الإشارة إلى أن يؤول بأنه مستقبل معنى، هذا والكلام مسوق لما يزيل الاستبعاد ويحقق الموعود المرتاد وفي ذلك التقدير خروج عنه إلى معنى آخر را يستلزم هذا المعنى تبعًا وما سيق له الكلام ينبغي أن يجعل الأصل انتهى.
وهو كلام تحقيق وتدقيق لا يرشد إليه إلا توفيق، وفي الآية وجه آخر هو ما أشار إليه صاحب الانتصاف، و{هَيّنٌ} فيعل من من هان الشيء يهون إذا لم يصعب، والمراد أني كامل القدرة على ذلك إذا أردته كان.
{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} تقرير لما قبل، والشيء هنا عنى الموجود أي ولم تك موجودًا بل كنت معدومًا، والظاهر أن هذا إشارة إلى خلقه بطريق التوالد والانتقال في الأطوار كما يخلق سائر أفراد الإنسان، وقال بعض المحققين: المراد به ابتداء خلق البشر، إذ هو الواقع إثر العدم المحض لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالد المعتاد فكأنه قيل: وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم ولم تك إذ ذاك شيئًا أصلًا بل كنت عدمًا بحتًا، وإنما لم يقل: وقد خلقت أباك أو آدم من قبل ولم يك شيئًا مع كفايته في إزالة الاستبعاد بقياس حال ما بشر به على حاله عليه السلام لتأكيد الاحتجاج وتوضيح منهاج القياس من حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه السلام من العدم لأنه عليه السلام أبدع أنموذجًا منطويًا على سائر احاد الجنس فكان إبداعه على ذلك الوجه إبداعًا لكل أحد من فروعه كذلك، ولما كان خلقه عليه السلام على هذا النمط الساري إلى جميع ذريته أبدع من أن يكون مقصورًا على نفسه كما هو المفهوم من نسبه الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته وكان عدم زكريا حينئذٍ أظهر عنه وكان حاله أولى بأن يكون معيارًا لحال ما بشر به نسب الخلق المذكور إليه كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} [الأعراف: 11] توفية لمقام الامتنان حقه انتهى، ولا يخلو عن تكلف، وجوز أن يكون الشيء عنى المعتد به وهو مجاز شائع، ومنه قول المتنبي:
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ** إذا رأى غير شيء ظنه رجلًا

وقولهم: عجبت من لا شيء وليس بشيء إذ يأباه المقام ويرده نظم الكلام. وقرأ الأعمش. وطلحة. وابن وثاب. وحمزة. والكسائي {خلقناك}.