فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (19):

{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)}
{قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} المالك لأمرك والناظر في مصلحتك الذي استعذت به ولست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر. روى عن ابن عباس أنها لما قالت: {إني أعوذ} [مريم: 18] إلخ تبسم جبريل عليه السلام وقال: {قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} {لاِهَبَ لَكِ غلاما} أي لأكون سببًا في هبته بالنفخ في الدرع، ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى بتقدير القول أي ربك الذي قال أرسلت هذا الملك لأهب لك، ويؤيده قراءة شيبة. وأبي الحسن. وأبي بحرية. والزهري. وابن مناذر. ويعقوب. واليزيدي. وأبي عمرو. ونافع في رواية ليهب بالياء فإن فاعله ضمير الرب تعالى. وما قيل: من أصل {ليهب} لأهب فقلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها تعسف من غير داع له.
وفي بعض المصاحب: أمرني أن أهل لك غلامًا {غلاما زَكِيًّا} طاهرًا من الذنوب، وقيل: نبيًا. وقيل: ناميًا على الخير أي مترقيًا من سن إلى سن على الخير والصلاح فالزكا شامل للزيادة المعنوية والحسية. واستدل بعضهم برسالة الملك إليها على نبوتها.
وأجيب: بأن الرسالة لمثل ذلك لا تستدعي النبوة.

.تفسير الآية رقم (20):

{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)}
{قَالَتْ أنى يَكُونُ لِى غلام وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مبادئ الولادة {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} أي ولم أكن زانية، والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] {أَوْ لامستم النساء} [النساء: 43] ونحوه كما قيل دخلتم بهن وبنى عليها.
وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه أما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صرحية فيه ومنها ما في الظن الكريم، ولا يرد على ذلك ما في سورة آل عمران من قولها {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب، ولم يجعل كناية عن الزنا وحده، ولقائل أن يقول: أنه ثم كناية عن النكاح فقد كما هنا واستوعبت الأقسام هاهنا لأنه مقام البسط واقتصرت على نفي النكاح ثم لعدم التهمة ولعلمها أنهم ملائكة ينادون لا يتخيلون فيها التهمة بخلاف هذه الحالة فإن جبريل عليه السلام كان قد أتاها في صورة شاب أمرد، ولهذا تعوذت منه ولم يكن قد سكن روعها بالكلية إلى أن قال: {إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} [مريم: 19] على أنه قيل: إن ما في آل عمران من الاكتفاء وترك الاكتفاء في هذه لأنه تقدم نزولها فهي محل التفصيل بخلاف تلك لسبق العلم، وقيل: المساس هنا كناية عن الأمرين على سبيل التغليب كما في تلك السورة {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} تخصيص بعد التعميم لزيادة الاعتناء بتنزيه ساحتها عن الفحشاء، ولذا آثرت كان في النفي الثاني فإن في ذلك إيذانًا بأن انتفاء الفجور لازم لها.
وكأنها عليها السلام من فرط تعجبها وغاية استبعادها لم تلتفت إلى الوصف في قول الملك عليه السلام {لأهب لك غلامًا زكيًا} [مريم: 19] النافي كل ريبة وتهمة ونبذته وراء ظهرها وأتت بالموصوف وحده وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه أي ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع بله الوصف، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم.
وبغى فعول عند المبرد وأصله بغوى فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الغين اتباعًا ولذا لم تلحقه هاء التأنيث لأن فعولًا يستوي فيه المذكور والمؤنث وإن كان عنى فاعل كصبور، واعترضه ابن جني في كتاب التمام بأنه لو كان فعولًا قيل بغو كما قيل نهو عن المنكر ورد بأنه لا يقال على الشاذ وقد نصوا على شذوذ نهو لمخالفته قاعدة اجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون واختار أنه فعيل وهو على ما قال أبو البقاء عنى فاعل، وكان القياس أن تلحقه هاء التأنيث لأنه حينئذ ليس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كفعول، ووجه عدم اللحوق بأن للمبالغة التي فيه حمل على فعول فلم تلحقه الهاء، وقال بعضهم: هو من باب النسب كطالق ومثله يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقيل ترك تأنيثه لاختصاصه في الاستعمال بالمؤنث ويقال للرجل باغ وقيل فعيل نى مفعول كعين كحيل وعلى هذا معنى بغى يبغيها الرجال للفجور بها، وعلى القول بأنه عنى فاعل فاجرة تبغي الرجال، وأيًا ما كان فهو للشيوع في الزانية صار حقيقة صريحة فيه فلا يرد أن اعتبار المبالغة فيه لا يناسب المقام لأن نفي الأبلغ لا يستلزم نفي أصل الفعل، ولا يحتاج إلى الجواب بالتزام أن ذلك من باب النسب أو بأن المراد نفي القيد والمقيد معًا أو المبالغة في النفي لا نفي المبالغة.

.تفسير الآية رقم (21):

{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}
{قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} اطلقوا الكلام في أنه نظير ما تقدم في قصة زكريا عليه السلام. وفي الكشف أنه لا يجري فيه تمام الأوجه التي ذكرها الزمخشري هناك لأن {قَالَ} أولًا فيه ضمير الرسول إليها فكذلك إن علق بالثاني يكون المعنى قال الرسول قال ربك كذلك ثم فسره بقوله: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} أو المعنى مثل ذلك القول العجيب الذي سمعته ووعدتك قال ربك على إقحام الكاف ثم استأنف هو على هين ولابد من إضمار القول لأن المخاطب لها جبريل عليه السلاكم وقوله: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} كلام الحق تعالى شأنه حكاه لها. وإن علق بالأول يكون المعنى الأمر كذلك تصديقًا لها أو كما وعدت تحقيقًا له ثم استأنف قال ربك هو على هين لإزالة الاستبعاد أو لتقرير التحقيق ولاي بعد أن يجعل {قَالَ رَبُّكِ} على هذا تفسيرًا وكذلك مبهمًا انتهى. ولا أرى ما نقل عن ابن المنير هناك وجهًا هنا {وَلِنَجْعَلَهُ} تعليل لمعلل محذوف أي لنجعل وهب الغلام {ءايَةً} وبرهانًا {لِلنَّاسِ} جميعهم أو المؤمنين على ما روى عن ابن عباس يستدلون به على كمال قدرتنا {وَرَحْمَةً} عظيمة كائنة {مِنَّا} عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده فعلنا ذلك.
وجوز أن يكون معطوفًا على علة أخرى مضمرة أي لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله آية إلخ. قال في الكشف: إن مثل هذا يطرد فيه الوجهان ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف أيضًا فليس قبل ما يصلح فهو تطويل للمسافة. وهذه الجملة أعني العلة مع معللها معطوفة على قوله: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} وفي إيثار الأولى اسمية دالة على لزوم الهون مزيلة للاستبعاد والثانية فعلية دالة على أنه تعالى أنشأه لكونه آية ورحمة خاصة لا لأمر آهر ينافيه مرادًا بها التجدد لتجدد الوجود لينتقل من الاستبعاد إلى الاستحماد ما لا يخفى من الفخامة انتهى.
ولا يرد أنه إذا قدر علة نحو لنبين جاز أن يكون ذلك متعلقًا بما يدل عليه {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} من غير حذف شيء فلا يصح قوله لم يكن بد من معلل محذوف لظهور ما فيه. وما ذكره من العطف خالف فيه بعضهم فجعل الواو على الأول اعتراضية. ومن الناس من قال: إن {لنجعله} على قراءة {ليهب} [مريم: 19] عطف عليه على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وجوز أيضًا العطف على {لأهَبَ} [مريم: 19] على قراءة أكثر السبعة. ولا يخفى بعد هذا العطف على القراءتين {وَكَانَ} ذلك {أَمْرًا مَّقْضِيًّا} محكمًا قد تعلق به قضاؤنا الأزلي أو قدر وسطر في اللوح لابد لك منه أو كان أمرًا حقيقًا قتضى الحكمة والتفضل أن يفعل لتضمنه حكمًا بالغة. وهذه الجملة تذييل إما لمجموع الكلام أو للأخير.

.تفسير الآية رقم (22):

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)}
{فَحَمَلَتْهُ} الفاء فصيحة أي فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيبها فدخلت النفخة في جوفها فحملته. وروى هذا عن ابن عباس. وقيل: لم يدن عليه السلام بل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت. وقيل: إن النفخة كانت في كمها وروى ذلك عن ابن جريج. وقيل كانت في ذيلها. وقيل كانت في فمها.
واختلفوا في سنها إذ ذاك فقيل ثلاث عشرة سنة، وعن وهب ومجاهد خمس عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة سنة، وقيل: اثنتا عشرة سنة، وقيل؛ عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، وحكى محمد بن الهيصم رئيس الهيصمية من الكرامية إنها لم تكن حاضت بعد، وقيل: إنها عليها السلام لم تكن تحيض أصلًا بل كانت مطهرة من الحيض. وكذا اختلفوا في مدة حملها ففي رواية عن ابن عباس أنها تسعة أشهر كما في سائر النساء وهو المروى عن الباقر رضي الله تعالى عنه لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب ذكرها في أثناء هذه القصة الغريبة. وفي رواية أخرى عنه أنها كانت ساعة واحدة كما حملته نبذته. واستدل لذلك بالتعقيب الآتي وبأنه سبحانه قال في وصفه: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فإنه ظاهر في أنه عز وجل قال له كن فيكون فلا يتصور فيه مدة الحمل. وعن عطاء. وأبي العالية. والضحاك أنها كانت سبعة أشهر، وقيل. كانت ستة أشهر، وقيل: حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، والمشهور أنها كانت ثمانية أشهر، قيل: ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره عليه السلام.
ونقل النيسابوري عن أهل التنجيم أن ذلك لأن الحمل يعود إلى تربية القمر فتستولى عليه البرودة والرطوبة وهو ظاهر في أن مر بي الحمل في أول الشهور منسوب إلى زحل والثاني إلى المشتري وهكذا إلى السابع وهو منسوب إلى القمر ثم ترجع النسبة إلى زحل ثم إلى المشتري: وفيها أيضًا أن جهال المنجمين يقولون إن النطفة في الشهر الأول تقبل البرودة من زحل فتجمد، وفي الثاني تقبل القوة النامية من المشتري فتأخذ في النمو، وفي الثالث تقبل القوة الغضبية من المريخ. وفي الرابع قوة الحياة من الشمس. وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة. وفي السادس قوة النطق من عطارد. وفي السابع قوة الحركة من القمر فتتم خلقة الجنين فإن ولد في ذلك الوقت عاش وإلا فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل وإن ولد في التاسع عاش لأنه قبل قوة المشتري.
ومثل تلك الكلمات خرافات وكل امرأة تعرف أن النطفة إذا مضت عليها ثلاثة أشهر تتحرك.
وقد ذكر حكماء الطبيعة أن أقل مدة الولادة ستة أشهر ومدة الحركة ثلث مدة الولادة فيكون أقلها شهرين ومن امتحن الاسقاط يعلم أن الخلقة تتم في أقل من خمسين يومًا انتهى.
وكلام المتشرعين لا يخفى عليك في هذا الباب.
وقد يعيش المولود لثمان إلا أنه قليل فليس ذلك من خواصه عليه السلام إن صح. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال المضطربة المتناقضة بيد أني أميل إلى أولها والاستدلال للثاني ممال سمعت لا يخلو عن نظر.
{فانتبذت بِهِ} أي فاعتزلت وهو في بطنها فالباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قوله تعالى: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] وقول المتنبي يصف الخيول:
فمرت غير نافرة عليهم ** تدوس بنا الجماجم والرؤسا

والجار والمجرور ظرف مستقر وقع حالًا من ضميرها المستتر أي فانتبذت ملتبسة به {مَكَانًا قَصِيًّا} بعيدًا من أهلها وراء الجبل، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن نوف أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فحملت حتى إذا أثقلت وجعت مايجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وخرج قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد كان من أخبر الله تعالى به.
وروى الثعلبي في العرائس عن وهب قال: إن مريم لما حملت كان معها ابن عمر لها يسمى يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكانا معًا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم أن أحدًا من أهل زمانهما أشد اجتهادًا وعبادة منهما وأول من علم أمرها يوسف فتحير في ذلك لعلمه بكمال صلاحها وعفتها وأنه لم تغب عنه ساعة فقال لها: قد وقع في نفسي شيء من أمرك لم أستطع كتمانه وقد رأيت الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولًا جميلًا فقال: يا مريم اخبريني هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر: فقالت؟ نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما على حدة أتقول: إن الله سبحانه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى يستعين بالماء: قال؟ لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على ما يشاء بقول كن فيكون فقالت: ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زال ما يجده وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فكان ما قص سبحانه، وقيل: انتبذت أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل.