فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (26):

{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)}
{فَكُلِى} من ذلك الرطب {واشربى} من ذلك السرى. وقيل: من عصير الرطب وكان في غاية الطراوة فلا يتم الاستدلال بذكر الشرب على تعين تفسير السرى بالجدول وما ألطف ما أرشد إليه النظم الكريم من إحضار الماء أولًا والطعام ثانيًا ثم الأكل ثالثًا والشرب ربابعًا فإن الاهتمام بالماء أشد من الاهتمام بالأكل لاسيما ممن يريد أن يأكل ما يحوج إلى الماء كالأشياء الحلوة الحارة، والعادة قاضية بأن الأكل بعد الشرب ولذا قدم الأكل على الشرب حيث وقع، وقيل: قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه، وقد كان جاريًا وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة. وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاكله وهو الرطب.
والأمر قيل يحتمل الوجوب والندب. وذلك باعتبار حالها، وقيل هو للإباحة {وَقَرّى عَيْنًا} وطيبي نفسًا وارفضي عنها ما أحزنك. وقرئ بكسر القاف وهي لغة نجدوهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر عنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى: {تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} [الأحزاب: 19] من الحزن أو عنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. ويشهد له قولهم قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه. وتسليتها عليها السلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث أنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن الله تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية، وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير. ومن فسر السرى برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسرى من حيث أن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن الله سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالا وحالا.
وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال: قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني فقالت: كيف لا أحزن وأنت معى ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السلام: أنا أكفيك الكلام {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَدًا} أي آدميًا كائنًا من كان. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ابن الرومي {ترئن} بالإبدال من الياء همزة. وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين.
وقال الزمخشري: إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الابدال.
وقرأ طلحة. وأبو جعفر. وشيبة {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جنى: هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي:
أما ترى رأسي أزري به ** مأس زمان ذي انتكاس مؤوس

{فَقُولِى} له إن استنطقك {إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا} وقرأ زيد بن على رضي الله تعالى عنه {صِيَامًا} والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف عبد الله. وقرأ به أنس بن مالك. فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة. وقيل اطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك. وقال بعضهم: المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فهو منسوخ في شرعنا كما ذكره الجصاص في كتاب الأحكام. وروي عن أبكي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي.
وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام. وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان قربة في شرع من قبلنا. فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشئ من قلة الإطلاع، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السلام خاصة. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم. ما لصاحبك لم يسلم؟ قال: إنه نذر صومًا لا يكلم اليوم انسيا فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرًا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون وله من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر فإنه خير لك. والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيًّا} أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تلكم انسيا بغير هذا الأخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس ندور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته. وقالت فرقة: امرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل: وهو الأظهر. قال الفراء: العرب تسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلامًا بأن طريق وصل ما لم يأكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. ويفهم من قوله تعالى: {إِنسِيًّا} دون أحدًا أن المراد فلن أكلم اليوم انسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي. وإنما أمرت عليها السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.

.تفسير الآية رقم (27):

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)}
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضًا. والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها. وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور. وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يومًا حين طهرت من نفاسها قيل: إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا، وقيل: هموا يرجمها حتى تلكم عيسى عليه السلام. وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال: لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم بجدوها فاتهموه فاخذوه ووبخوه فقال رجل: إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان. فظاهر الآية والاخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم، وقيل: أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما {قَالُواْ يأَبَانَا مَرْيَمَ لَقَدْ جِئْتَ} فعلت {شَيْئًا فَرِيًّا} قال قتادة: عظيمًا، وقيل: عجيبا. وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد، وقيل: من أفراه كذلك. واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياسًا من الثلاثي. وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس.
وفي الصحاح عن الكسائي أن الفرى القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد. وعن الراغب مثل ذلك. وقيل الإفراء عام. وإيًا ما كان فقد استعير الفرى لما ذكر في تفسيره. وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شرًا أو خيرًا قولًا أو فعلًا، ومنه في وصف عمر رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريًا يفري فريه، وفي المثل جاء يفري الفرى. ونصب {شَيْئًا} على أنه مفعول به. وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئًا عجيبًا، وعبر عنه بالشيء تحقيقًا للاستغراب.
وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية {فَرِيًّا} بسكون الراء وفيما نقل ابن خالويه {فرأ} بالهمزة.

.تفسير الآية رقم (28):

{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)}
{يَا أخْتَ هارون} استئناف لتجديد التعيير وتأكيد التوبيخ. وليس المراد بهرون أخا موسى بن عمران عليهما السلام لما أخرج أحمد. ومسلم. والترمذي. والنسائي. والطبراني. وابن حبان. وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون {فَأَرْسِلْ إلى هارون} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» بل هو على ما روي عن الكلبي أخ لها من أبيها. وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد عن قتادة قال: هو رجل صالح في بني إسرائيل. وروي عنه أنه قال ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفًا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون. والأخت على هذا عنى المشابهة وشبهو هابه تهكمًا أو لما رأوا قبل من صلاحها، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه رجل طالح فشبهوها به شتمًا لها. وقيل: المراد له هارون أخو موسى عليهما السلام، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم أيضًا عن السدى. وعلي بن أبي طلحة. وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة فوصفها بالأخوة لكونها وصف أصلها. وجوز أن يكون هارون مطلقًا على نسله كهاشم. وتميم، والمراد بالأخت أنها واحدة منهم كما يقال أخا العرب وهو المروى عن السدى.
{مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} تقرير لكون ما جاءت به فريا أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش. وفيه دليل على أن الفروع غالبًا تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك. وقرأ عمر بن بجاء التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريرًا {مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ سُوء} بجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة. وحسن ذلك قليلًا وجود مسوغ الابتداء فيها وهو الإضافة.

.تفسير الآية رقم (29):

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)}
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي إلى عيسى عليه السلام أن كلموه. قال شيخ الإسلام: والظاهر أنها بينت حينئذ نذرها وأنها عزل من محاورة الإنس حسا أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به {قَالُواْ} منكرين لجوابها، وفي بعض الآثار أنها لما أشارت إليه أن كلموه قالوا: استخفافها بنا أشد من زناها حاشاها ثم قالوا: {كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيًّا} قال قتادة: المهد حجر أمه، وقال عكرمة: المرباة أي المرجحة، وقيل: سريره. وقيل: المكان الذي يستقر عليه. واستشكلت الآية بأن كل من يكلمه الناس كان في المهد صبيًا قبل زمان تكليمه فلا يكون محلًا للتعجب والإنكار.
وأجاب الزمخشري عن ذلك بوجهين، الأول أن كان الإيقاع مضمون لجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو هاهنا لقريبه خاصة والدال عليه أن الكلام مسوق للتعجب فيكون المعنى كيف نكايم من كان بالأمس وقريبًا منه من هذا الوقت في المهد وغرضهم من ذلك استمرار حال الصبي به لم يبرح بعد عنه ولو قيل: من هو في المهد لم يكن في تلك الوكادة من حيث السابق كالشاهد على ذلك، ومن على هذا موصولة يراد بها عيسى عليه السلام. الثاني أن يكون {نُكَلّمُ} حكاية حال ماضية ومن موصوفة، والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي ما كلمناهم إلى الأن حتى نكلم هذا، وفي العدول عن الماضي إلى الحال إفادة التصوير والاستمرار. وهذا كما في الكشف وجه حسن ملائم.
وقال أبو عبيدة: كان زائدة لمجرد التأكيد من غير دلالة على الزمان و{صَبِيًّا} حال مؤكدة والعامل فيها الاستقرار، فقول ابن الأنباري. إن كان نصبت هنا الخبر والزائدة لا تنصبه ليس بشيء، والمعنى كيف نكلم من هو في المهد الآن حال كونه صبيًا، وعلى قول من قال: إن كان الزائدة لا تدل على حدث لكنها تدل على زمان ماض مقيد به ما زيدت فيه كالسيرافي لا يندفع الإشكال بالقول بزيادتها.
وقال الزجاج: الأجود أن تكون من شرطية لا موصولة ولا موصوفة أي من كان في المهد فكيف نكلمه وهذا كما يقال كيف أعظم من لا يعمل وعظتي والماضي عنى المستقبل في باب الجزاء فلا إشكال في ذلك، ولا يخفى بعده.