فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (42):

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)}
{إِذْ قَالَ} وتعقبه صاحب الفرائد بأن الاعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع، وفيه منع ظاهر، وفي البحر أن بدلية إذ من {إبراهيم} [مريم: 41] تقتضي تصرفها والأصح أنها لا تتصرف وفيه بحث، وقيل: إذ ظرف لكان وهو مبني على إن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلافية، وقيل: ظرف لـِ {نبيًا} [مريم: 41] أي منبئ في وقت قوله: {لاِبِيهِ} وتعقب بأنه يقتضي أن الاستنباء كان في ذلك الوقت، وقيل: ظرف لـِ {صديقًا} [مريم: 41]، وفي البحر لا يجوز ذلك لأنه قد نعت الأعلى رأى الكوفيين، وفيه أن {نَبِيًّا} خبر كما ذكرنا لا نعت، نعم تقييد الصديقية بذلك الوقت لا يخلو عن شيء.
وقيل ظرف لصديقًا نبيًا وظاهره أنه معمول لهما معًا، وفيه أن توارد عاملين على معمول واحد غير جائز على الصحيح، والقول بأنهما جعلا بتأويل اسم واحد كتأويل حلو حامض بمز أي جامعًا لخصائص الصديقين والأنبياء عليهم السلام حين خاطب أباه لا يخفى ما فيه، والذي يقتضيه السياق ويشهد به الذوق البدلية وهو بدل اشتمال، وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارًا فتذكر.
{يَا أَبَت} أي يا أبي فإن التاء عوض من ياء الإضافة ولذلك لا يجمع بينهما إلا شذوذًا كقوله: يا أبتي أرقني القذان، والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض، وقيل: الألف للإشباع وأنت تعلم حال العلل النحوية.
وقرأ ابن عامر. والأعرج. وأبو جعفر {يا أبت} بفتح التاء، وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد الله {واأبت} بوا بدل ياء والنداء بها في غير الندبة قليل، وناداه عليه السلام بذلك استعطافًا له.
وأخرج أبو نعيم. والديلمي عن أنس مرفوعًا حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا اسمى إبراهيم عليه السلام به أباه يا أبت ولا يسميه باسمه، وهذا ظاهر في أنه كان أباه حقيقة، وصحح جمع أنه كان عمه وإطلاق الأب عليه مجاز {ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ} ثناءك عليك عند عبادتك له وجؤارك إليه {وَلاَ يَبْصِرُ} خضوعك وخشوعك بين يديه أولًا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولًا أوليًا، وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة {وَلاَ يُغْنِى} أي لا يقدر على أن يغني {عَنكَ شَيْئًا} من الأشياء أو شيئًا من الاغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية. ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناف ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلًا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والانعام العام الخالق الرازق المحيء المميت المثيب المعاقب ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيًا مميزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضر لكن كان ممكنًا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر. ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظًا من العلم الإلهي مستقلًا بالنظر السوي مصدرًا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال:

.تفسير الآية رقم (43):

{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)}
{ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال: {فاتبعنى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أي مستقيمًا موصلًا إلى أسنى المطالب منحيًا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب. وقوله: {جَاءنِى} ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبئ عليه السلام، والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله. وقيل: العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها. وقيل: العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال:

.تفسير الآية رقم (44):

{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)}
{سَوِيًّا ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} فإن عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها.
وقوله: {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيًّا} تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء بالرحمن. وفيه أيضًا إشارة إلى كمال شناعة عصيانه. وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه السلام فتذكيره داع لأبيه عن الاحتراز عن موالاته وطاعته، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير.
وقوله:

.تفسير الآية رقم (45):

{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)}
{عَصِيًّا ياأبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن} تحذي من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف. ومن هنا قيل: إن في اختياره مجاملة. وحمله الفراء. والطبري على العلم وليس بذاك. وتنوين {عَذَابِ} على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14] ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد اه.
واختار أبو السعود أنه للتعظيم، وقال: كلمة من متعلقة ضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذتية بالفخامة الإضافية، وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز وجل: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} [الانفطار: 6] انتهى، وفي الكشف أن الحمل على التفخيم {فِى عَذَابِ} كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال: {مّنَ الرحمن} لقوله أولًا {كَانَ للرحمن عَصِيًّا} [مريم: 44] وللدلالة على أنه ليس على وجه الانتقام بل ذلك أضيًا رحمة من الله تعالى على عباده وتنبيه على سبق الرحمة الغضب وإن الرحمانية لا تنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة. الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل القضية الأخرى والجلال إلى آخر ما قال، وأيد الحمل على التفخيم بقوله: {فَتَكُونَ للشيطان وَلِيًّا} أي قرينًا تليه ويليك في العذاب فإن الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم. وأجيب عن كون المقام مقام إظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة أحيانًا من الشفقة أيضًا كما قيل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ** فليقس أحيانًا على من يرحم

وقد تقدم هذا مع أبيات أخر بهذا المعنى، ويكفى في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق. والمس وإن كان مشعرًا بالقلة عند الجلة لكن قالوا: إن الكثرة والعظمة باعتبار ما يلزمه ويتبعه لا بالنظر إليه في نفسه فإنه غير مقصود بالذات وإنما هو كالذوب مقدمة للمقصود فيصح وصفه بكل من الأمرين باعتبارين. وكأني بك تختار التفخيم لأنه أنسب بالتخويف وتدعى أنه هاهنا من معدن الشفقة فتدبر وجوز أن يكون {فَتَكُونُ} إلخ مترتبًا على مس العذاب القليل والولي من الموالاة وهي المتابعة والمصادقة. والمراد تفريع الثبات على حكم تلك الموالاة وبقاء آثارها من سخط الله تعالى وغضبه، ولا مانع من أن يتفرع من قليل أمر عظيم. ثم الظاهر أن المراد بالعذاب عذاب الآخرة وتأوله بعضهم بعذاب الدنيا وأراد به الخذلان أو شيئًا آخر مما أصاب الكفرة في الدنيا من أنواع البلاء وليس بذاك، وزعم بعضهم أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا والأصل إني أخاف أن تكون وليًا للشطان أي تابعًا له في الدنيا فيمسك عذاب من الرحمن أي في العقبى وكأنه أشكل عليه أمر التفريع فاضطر لما ذكر وقد أغناك الله تعالى عن ذلك بما ذكرنا.

.تفسير الآية رقم (46):

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا قال أبوه عندما سمع منه عليه السلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل؟ قال مصرًا على عناده مقابلًا الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} اختار الزمخشري كون {راغب} خبرًا مقدمًا {الحق وَأَنتَ} مبتدأ وفيه توجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجيب. وذهب أبو البقاء وابن مالك وغيرهما إلى أن {أَنتَ} فاعل الصفة لتقدم الاستفهام وهو مغن عن الخبر وذلك لئلا يلزم الفصل بين {أَرَاغِبٌ} ومعموله وهو {عَنْ الِهَتِى} بأجنبي هو المبتدأ وأجيب بأن {عَنْ} متعلق قدر بعد أنت يدل عليه أراغب.
وقال صاحب الكشف: المبتدأ ليس أجنبيًا من كل وجه لاسيما والمفصول ظرف والمقدم في نية التأخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحًا. ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان لقوة أثره على القيا، ولا خفاء أن زيادة الإنكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قبل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبهًا له على الخطأ في صدوفه ذلك ولو قيل: أترغب لم يكن من هذا الباب في شيء انتهى، ورجح أبو حيان إعراب أبي البقاء ومن معه بعدم لزوم الفل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتأخير، وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وإن خلا عن فصل أو محذور آخر كما في أطالع الشمس وذلك نحو أقائم زيد للزوم التباس المبتدا بالفاعل كما في ضرب زيد فإنه لا يجوز فيه ابتدائية زيد. وأجاب الشمني بأن زيدًا في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك إجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ} تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إليه لأرجمنك بالحجارة على ما روى عن الحسن، وقيل: باللسان والمراد لأشتمنك وروى ذلك عن ابن عباس. وعن السدي. والضحاك. وابن جريج، وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبة عن الآلهة أي لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي لأرحمنك وليس بذاك {واهجرنى} عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني وارتكني وإليك ذهب الزمخشري.
ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح أو لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية وإخبارية، وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشاء وليست الفاء في فاحذرني عاطفة حتى يعود المجذور.
ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الاخبار والإنشاء والتقدير أوقع في النفس {مَلِيًّا} أي دهرًا طويلًا عن الحسن. ومجاهد. وجماعة، وقال السدي: أبدًا وكأنه المراد، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي عناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته ** وبكت عليه المرملات مليًا

وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطولًا ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجرًا مليًا، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالمًا سويًا والمراد قادرًا على الهجر مطيقًا له وهو حينئذ حال من فاعل {اهجرني} أي اهجرني مليًا بالهجران والذهاب عني قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح، وكأنه على هذا من تملي بكذا تمتع به ملاوة من الدهر.