فصل: تفسير الآية رقم (125):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (125):

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
{وَإِذْ جَعَلْنَا البيت} عطف على {وَإِذِ ابتلى} [البقرة: 124] والبيت من الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا {مَثَابَةً لّلنَّاسِ} أي مجمعًا لهم قاله الخليل وقتادة أو معاذًا وملجأ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو مرجعًا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم قاله مجاهد وجبير أو مرجعًا يحق أن يرجع ويلجأ إليه قاله بعض المحققين أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره قال عطاء وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان كما في مقام ومقامة وهي لتأنيث البقعة وهو قول الفراء. والزجاج وقال الأخفش: إن التاء فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة، وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي، أو ظرف مكان، واللام في الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الاستغراق العرفي، وقرأ الأعمش، وطلحة {مثابات} على الجمع لأنه مثابة كل واحد من الناس لا يختص به أحد منهم {سَوَاء العاكف فِيهِ والباد} [الحج: 52] فهو وإن كان واحدًا بالذات إلا أنه متعدد باعتبار الإضافات، وقيل: إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة تعدد المحل أو باعتبار أن كل جزء منه مثابة، واختار بعضهم ذلك زعمًا منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة بالمملوكين ولم يعرف، وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم {وَأَمْنًا} عطف على {مَثَابَةً} وهو مصدر وصف به للمبالغة، والمراد موضع أمن إما لسكانه من الخطف؛ أو لحجاجه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح، أو للجاني الملتجيء إليه من القتل وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ عنده لا يستوفى قصاص النفس في الحرم لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجب عليه الحد والتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه، وعند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لا يستوفى من الملتجئ قصاص مطلقًا ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل {أمنا} مفعولًا ثانيًا لمحذوف على معنى الأمر أي واجعلوه أمنا كما جعلناه مثابة وهو بعيد عن ظاهر النظم، ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل، اكتفاء به أو إشارة إلى العموم أي أنه أمن لكل شيء كائنًا ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه أمن الناس دخولًا أوليًا.
{واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} عطف على جعلنا أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه السلام وأولاده كما قيل، أو عطف على اذكر المقدر عاملًا لـ {إِذْ}، أو معطوف على مضمر تقديره ثوبوا إليه {واتخذوا} وهو معترض باعتبار نيابته عن ذلك بين {جعلنا} و{عهدنا} ولم يعتبر الاعتراض من دون عطف مع أنه لا يحتاج إليه ليكون الارتباط مع الجملة السابقة أظهر، والخطاب على هذين الوجهين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم رأس المخاطبين.
و {مِنْ} إما للتبعيض أو عنى في أو زائدة على مذهب الأخفش والأظهر الأول، وقال القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقًا وأعطاني الله تعالى من فلان أخًا صالحًا، دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه، والمقام مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وفيه أثر قدميه قاله ابن عباس، وجابر، وقتادة، وغيرهم، وأخرجه البخاري وهو قول جمهور المفسرين وروي عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل عليه السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله الأخرى فيه أيضًا، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء البيت، وهو موضعه اليوم فالمقام في أحد المعنيين حقيقة لغوية وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما كذا قالوا إلا أنه استشكل تعيين الموضع بما هو الموضع بما هو الموضع اليوم لما في «فتح الباري» من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبد الرزاق بسند قوي، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حوله، فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان المحول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عمر رضي الله تعالى عنه، وأيضًا كيف يمكن رفع البناء حين القيام عليه حال كونه في موضعه اليوم؟ا وهو بعيد من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعًا، وأيضًا المشهور أن دعوة الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فإنه صعده بعد الفراغ من عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان الوقوف عليه فوق الجبل كما يشير إليه كلام روضة الأحباب، وبه يحصل الجمع أشكل التعيين اهو اليوم وغاية التوجيه أن يقال لا شك أنه عليه السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين، وكذا حين الدعوة لم يكن عند البيت بل فوق أبي قبيس فلابد من صرف عباراتهم عن ظاهرها بأن يقال الموضع الذي كان الحجر في أثناء زمان قيامه عليه واشتغاله بالدعوة، أو رفع البناء لا حالة القيام عليه، ووقع في بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم عليه السلام، وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه، وأن الحجر بعد إبراهيم كان موضوعًا في جوف الكعبة، ولعل هذا هو الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل، وما وقع في الفتح من أنه كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم كذا ذكره بعض المحققين فليفهم وسبب النزول ما أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر:
«أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا عمر هذا مقام إبراهيم فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى فقال: لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية» والأمر فيها للاستحباب إذ المتبادر من المصلى موضع الصلاة مطلقًا، وقيل: المراد به الأمر بركعتي الطواف لما أخرجه مسلم عن جابر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، وقرأ الآية» فالأمر للوجوب على بعض الأقوال، ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد بصلاة مخصوصة من غير دليل وقراءته عليه الصلاة والسلام الآية حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله، وابن عباس وعطاء إلى أنه مواقف الحج كلها، والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار، ومعنى اتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى عندها، والذي عليه الجمهور، هو ما قدمناه أولًا، وهو الموافق لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده، وقرأ نافع وابن عامر {واتخذوا} بفتح الخاء على أنه فعل ماض، وهو يحنئذ معطوف على {جَعَلْنَا} أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي عرف به وأسكن ذريته عنده وهو الكعبة قبلة يصلون إليها.
فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا المصلى عنى القبلة مجاز عن المحل الذي يتوجه إليه في الصلابة بعلاقة القرب والمجاورة.
{وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل} أي وصينا أو أمرنا أو أوحينا أو قلنا، والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى بـ {إلى} يكون عنى التوصية، ويتجوز به عن الأمر، وإسمعيل علم أعجمي قيل: معناه بالعربية مطيع الله، وحكي أن إبراهيم عليه السلام كان يدعو أن يرزقه الله تعالى ولدًا، ويقول: اسمع إيل أي استجب دعائي يا الله فلما رزقه الله تعالى ذلك سماه بتلك الجملة، وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون.
{أَن طَهّرَا بَيْتِىَ} أي بأن طهرا على أن {ءانٍ} مصدرية وصلت بفعل الأمر بيانًا للموصى المأمور به، وسيبويه وأبو علي جوزا كون صلة الحروف المصدرية أمرًا أو نهيًا والجمهور منعوا ذلك مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر، وبأنه يجب في الموصول الإسمي كون صلته خبرية. والموصول الحرفي مثله، وقدروا هنا قلنا ليكون مدخول الحرف المصدري خبرًا، ويردّ عليهم أولًا أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي اتحاد معناهما ضرورة عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه وثانيًا: أن وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الأسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك، وثالثًا: أن تقدير قلنا يفضي إلى أن يكون المأمور به القول، وليس كذلك، وجوز أن تكون {ءانٍ} هذه مفسرة لتقدم ما يتضمن معنى القول دون حروفه، وهو العهد، ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسرًا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئًا هو: أن طهرا والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعًا كالحائض؛ وخص مجاهد، وابن عطاء، ومقاتل، وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان، وذكروا أن البيت كان عامرًا على عهد نوح عليه السلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد فعبدت من دون الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها، وقيل: المراد بَخرَاهُ ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه، وقيل: أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسمعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} [الحج: 26] وكان إسمعيل حينئذ عزل من مثابة الخطاب، وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي، وتمام البناء باشرته كما ينبئ عنه إيراده إثر حكاية جعله مثابة وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف كـ {نَاقَةُ الله} [الأعراف: 73] لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
{لِلطَّائِفِينَ} أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له، والطائف اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله، والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد وإليه ذهب عطاء وغيره وقال ابن جبير: المراد الغرباء الوافدون مكة حجاجًا وزوارًا. {والعاكفين} وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير، وقال عطاء: هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب، وقال مجاهد: المجاورون له من الغرباء، وقيل: هم المعتكفون فيه {والركع السجود} وهم المصلون جمع راكع وساجد، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرًا ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع اختصاره إيذانًا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود. وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيأة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيآت وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدّ ولين.

.تفسير الآية رقم (126):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا ءامَنَّا} الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37] أي اجعل هذا المكان القفر بلدًا إلخ فالمدعو به البلدية مع الأمن، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم (53): {رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا} ولعل السؤال متكرر، وما في تلك السورة كان بعد، والأمن المسؤول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه. وإما غيره بأن يكون المسؤول أولًا: مجرد الأمن المصحح للسكنى، وثانيًا: الأمن المعهود، ولك أن تجعل {هذا البلد} في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه {رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ} [إبراهيم: 37] إلخ فتطابق الدعوتان حينئذٍ؛ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدًا والمطلوب كونه آمنًا على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلدًا كاملًا في الأمن كأنه قيل: اجعله بلدًا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورًا به كقولك كان هذا اليوم يومًا حارًا، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل: {فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [القارعة: 7] وإما على الاتساع والإسناد المجازي، والأصل آمنًا أهله فأسند {مَا} للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك، وهل الدعاء بأن يجعله آمنًا من الجبابرة والمتغلبين، أو من أن يعود حرمه حلالًا، أو من أن يخلو من أهله أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجذب، أو من دخول الدجال، أو من دخول أصحاب الفيل؟؟ أقوال، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج الثقفي والقرامطة وغيرهم وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان غرضه شيئًا آخر لا يجدي نفعًا كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل:
إذا مت عطشانًا فلا نزل القطر

وكان النداء بلفظ الرب مضافًا لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته، وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر.
{وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} أي من أنواعها بأن تجعل قريبًا منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجيء إليه من الأقطار الشاسعة قد حصل كلاهما حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روي أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين، وقيل: من الأردن وطاف بها حول البيت سبعًا فوضعها حيث وضعها رزقًا للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف، وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله؛ وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع، وجمع القلة إظهارًا للقناعة، وقد أشرنا إلى أنه كثيرًا ما يقوم مقام جمع الكثرة، و{مِنْ} للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس.
{مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله واليوم الاخر} بدل من {أَهْلِهِ} بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به {قَالَ} أي الله تعالى. {وَمَن كَفَرَ} عطف على {مَنْ ءامَنَ} أي وارزق من كفر أيضًا فالطلب عنى الخبر على عكس {وَمِن ذُرّيَتِى} [البقرة: 124] وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيم عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه السلام لما سمع {لاَ يَنَالُ} [البقرة: 124] إلخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضيًا عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل، وا ذكرنا اندفع ما في البحر من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير: قال إبراهيم وارزق فينافيه ما بعد، ولك أن تجعل العطف على محذوف أي أرزق من آمن ومن كفر بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون {مِنْ} مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى: {فَأُمَتّعُهُ قَلِيلًا} على الأول: معطوف على {كُفِرَ} وعلى الثاني: خبر للمبتدأ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير أنا لأن ابن الحاجب نص على أن المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحسانًا، وإلى عدم التقدير ذهب المبرد، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء، ثم الكفر وإن لم يكن سببًا للتمتع المطلق لكنه يصلح سببًا لتقليله وكونه موصولًا بعذاب النار وقليلًا صفة لمحذوف أي متاعًا أو زمانًا قليلًا وقرأ ابن عامر {فَأُمَتّعُهُ} مخففًا على الخبر، وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة، وقرأ أبيّ فنمتعه بالنون وابن عباس ومجاهد {فَأُمَتّعُهُ} على صيغة الأمر، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في {قَالَ} عائدًا إلى إبراهيم وحسن إعادة {قَالَ} طول الكلام وأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه أخذ في كلام آخر وكونه عائدًا إليه تعالى أي: قال الله فأمتعه يا قادر يا رازق خطابًا لنفسه على طريق التجريد بعيد جدًا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادرًا من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلًا مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبِكِلاَ المعنيين قال بعض، ويؤيد الأول قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] و{يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] و{فيؤخذ بالنواصى والاقدام} [الرحمن: 41] ويؤيد الثاني قوله تعالى: {وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أبوابها} [الزمر: 71] {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] الآية و{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعًا به وقوعًا محققًا حتى كأنه مربوط به، قيل: إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضًا كأنه شبه حال الكافر الذي أدَرّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلًا إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهرًا حمل ثم على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر إضطره بكسر الهمزة، ويزيد بن أبي حبيب اضطره بضم الطاء وأبيّ نضطره بالنون، وابن عباس ومجاهد على صيغة الأمر، وابن محيصن أطره بإدغام الضاد في الطاء خبرًا قال الزمخشري وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس، وفيه أن هذه الحروف ادغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في {نغفر لكم} [البقرة: 58] والضاد في الشين في {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور: 62] والشين في السين في {العرش سَبِيلًا} [الإسراد: 42] والكسائي الفاء في الباء في {نَخْسِفْ بِهِمُ} [سبأ: 9] ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا مضطجع ومطجع إلا أن عدم الإدغام أكثر، وأصل اضطر على هذا على ما قيل: اضتر فأبدلت التاء طاءًا، ثم وقع الإدغام {وَبِئْسَ المصير} المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي وبئس المصير النار إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدرًا على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.