فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (51):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)}
{واذكر فِي الكتاب موسى} قيل قدم ذكره على إسمعيل عليهما السلام لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب عليه السلام. وقيل: تعجيل لاستجلال أهل الكتاب بعدما فيه استجلاب العرب.
{إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا} موحدًا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه لله عز وجل وأخلص عن سواه.
وقرأ الكوفيون. وأبو رزين. ويحيى. وقتادة {مُخْلِصًا} بفتح اللام على أن الله تعالى أخلصه {وَكَانَ رَسُولًا} مرسلًا من جهة الله تعالى إلى الخلق بتبليغ ما يشاء من الأحكام {نَبِيًّا} رفع القدر على كثير الرسل عليهم السلام أو على سائر الناس الذين أرسل إليهم فالنبي من النبوة عنى الرفعة. ويجوز أن يكون من النبأ وأصله نبئ أي المنبئ عن الله تعالى بالتوحيد والشرائع ورجح الأول بأنه أبلغ قيل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لست بنبيء الله تعالى بالهمزة ولكن نبي الله تعالى» لمن خاطبه بالهمز وأراد أن يغض منه. والذي ذكره الجوهري أن القائل أراد أنه عليه الصلاة والسلام أخرجه قومه من نبأ فأجابه صلى الله عليه وسلم بما يدفع ذلك الاحتمال. ووجه الاتيان بالنبي بعد الرسول على الأول ظاهر ووجه ذلك على الثاني موافقة الواقع بناء على أن المراد أرسله الله تعالى إلى الخلق فأتبأهم عنه سبحانه.
واختار بعضهم أن المراد من كلا اللفظين معناهما اللغوي وأن ذكر النبي بعد الرسول لما أنه ليس كل مرسل نبيًا لأنه قد يرسل بعطية أو مكتوب أو نحوهما.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)}
{وناديناه مِن جَانِبِ الطور الايمن} الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن صفة لجانب لقوله تعالى في آية أخرى: {جَانِبِ الطور الايمن} [طه: 80] بالنصب أي ناديناه من ناحيته اليمنى من اليمين المقابل لليسار. والمراد به يمين موسى عليه السلام أي الناحية التي تلي يمينه إذ الجبل نفسه لا ميمنة له ولا ميسرة. ويجوز أن يكون الأيمن من اليمن وهو البركة وهو صفة لجانب أيضًا أي من جانبه الميمون المبارك.
وجوز على هذا أن يكون صفة للطور والأولى أولى، والمراد من ندائه من ذلك ظهور كلامه تعالى من تلك الجهة، والظاهر أنه عليه السلام إنما سمع الكلام اللفظي، وقال بعض: إن الذي سمعه كان بلا حرف ولا صوت وأنه عليه السلام سمعه بجميع أعضائه من جميع الجهات وبذلك يتيقن أن المنادي هو الله تعالى، ومن هنا قيل: إن المراد ناديناه مقبلًا من جانب الطور المبارك وهو طور ما وراء طور العقل، وفي الاخبار ما ينادي على خلافه {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} تقريب تشريف مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ورفع الوسائط بينه وبينه، {ونجيا} فعيل عنى مفاعل كجليس عنى مجالس ونديم عنى منادم من المناجاة المسارة بالكلام ونصبه على الحالية من أحد ضميري موسى عليه السلام في ناديناه وقربناه أي ناديناه أو قربناه حال كونه مناجيًا، وقال غير واحد، مرتفعًا على أنه من النجو وهو الارتفاع.
فقد أخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن جبرائيل عليه السلام أردفه حتى سمع صرير القلم والتوراة تكتب له أي كتابة ثانية وإلا ففي الحديث الصحيح الوارد في شأن محاجة آدم وموسى عليهما السلام أنها كتبت قبل خلق آدم عليه السلام بأربعين سنة، وخبر رفعه عليه السلام إلى السماء حتى سمع صرير القلم رواه غير واحد وصححه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى ذلك لا يكون المعراج مطلقًا مختصًا بنبينا صلى الله عليه وسلم بل المعراج الأكمل، وقيل معنى {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} بصدقه وروى ذلك عن قتادة ولا يخفى بعده.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} أي من أجل رحمتنا له {أَخَاهُ} أي معاضدة أخيه وموازرته إجابة لدعوته بقوله: {واجعل لي وزيرًا من أهلي هرون أخي} [طه: 29، 30] لا نفسه عليه السلام لأنه كان أكبر من موسى عليه السلام سنا فوجوده سابق على وجوده وهو مفعول {وَهَبْنَا} وقوله تعالى: {هارون} عطف بيان له، وقوله سبحانه: {نَبِيًّا} حال منه، ويجوز أن تكون من للتبعيض قيل وحينئذ يكون {أَخَاهُ} بدل بعض من كل أو كل من كل أو اشتمال من من، وتعقب بأنها إن كانت اسمًا مرادفة لبعض فهو خلاف الظاهر وإن كانت حرفًا فإبدال الاسم من الحرم مما لم يوجد في كلامهم، وقيل: التقدير وهبنا له شيئًا من رحمتنا فأخاه بدل من شيئًا المقدر وأنت تعلم أن الظاهر هو كونه مفعولًا.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)}
{واذكر فِي الكتاب إسماعيل} الظاهر أنه ابن إبراهيم عليهما السلام كما ذهب إليه الجمهور وهو الحق، وفصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه عليهم السلام لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلًا، وقيل: إنه إسماعيل بن حزقيل بعثه الله تعالى إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه سبحانه وفوض أمرهم إليه عز وجل في العفو والعقوبة وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وغالب الظن أنه لا يصح عنه {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} تعليل لموجب الأمر، وإيراده عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرته بذلك.
وقد جاء في بعض الاخبار أنه وعد رجلًا أن يقيم له كان فغاب عنه حولًا فلما جاءه قال له: ما برحت من مكانك فقال: لا والله ما كنت لأخلف موعدي، وقيل: غاب عنه اثني عشر يومًا، وعن مقاتل ثلاثة أيام، وعن سهل بن سعد يومًا وليلة والأول أشهر ورواه الإمامية أيضًا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه؛ وإذا كان هو الذبيح فناهيك في صدقه أنه وعد أباه الصبر على الذبح بقوله: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] فوفى.
وقال بعض الأذكياء طال بقاؤه: لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى هذا الوعد والصدق فيه من أعظم ما يتصور.
{وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} الكلام فيه كالكلام في السابق بيد أنهم قالوا هنا: إن فيه دلالة على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة مستقلة فإن أولاد إبراهيم عليهم السلام كانوا على شريعته وقد اشتهر خلافه بل اشترط بعضهم فيه أن يكون صاحب كتاب أيضًا والحق أنه ليس بلازم، وقيل: إن المراد بكونه صاحب شريعة أن يكون له شريعة بالنسبة إلى المبعوث إليهم وإسماعيل عليه السلام كذلك لأنه بعث إلى جرهم بشريعة أبيه ولم يبعث إبراهيم عليه السلام إليهم ولا يخفى ما فيه.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة} اشتغالًا بالأهم وهو أن يبدأ الرجل بعد تكميل نفسه بتكميل من هو أقرب الناس إليه قال الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} [الشعراء: 214]. {وأمُرْ أهْلَكَ بالصَّلاَةِ} [طه: 132] {قُوا أنفسكم وأهليكم نارًا} [التحريم: 6] أو قصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم.
وقال الحسن: المراد بأهله أمته لكون النبي نزلة الأب لأمته، ويؤيد ذلك أن في مصحف عبد الله وكان يأمر قومه والمراد بالصلاة والزكاة قيل معناهما المشهور، وقيل: المراد بالزكاة مطلق الصدقة، وحكى أنه عليه السلام كان يأمر أهله بالصلاة ليلًا والصدقة نهارًا، وقيل المراد بها تزكية النفس وتطهيرها {وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا} لاستقامة أقواله وأفعاله وهو اسم مفعول وأصله مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وقلبت الضمة كسرة.

وقرأ ابن أبي عبلة {مرضوا} من غير إعلال، وعن العرب أنهم قالوا: أرض مسنية ومسنوة وهي التي تسقى بالسواني.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)}
{مَرْضِيًّا واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ} هو نبي قبل نوح وبينهما على ما في المستدرك عن ابن عباس ألف سنة وهو أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث ابن آدم عليه السلام، وعن وهب بن منبه أنه جد نوح عليه السلام، والمشهور أنه جد أبيه فإنه ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والجساب وجعل الله تعالى ذلك من معجزاته على ما في البحر وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط وكان خياطًا وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد آدم، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل، وعن ابن مسعود أنه الياس بعث إلى قومه أن يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا ما شاؤا فأبوا وأهلكوا والمعول عليه الأول وإن روى القول بأنه الياس بن أبي حاتم بسند حسن عن ابن مسعود، وهذا اللفظ سرياني عند الأكثرين وليس مشتقًا من الدرس لأن الاشتقاق من غير العربي مما لم يقل به أحد وكونه عربيًا مشتقًا من ذلك يرده منع صرفه، نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبًا من ذلك فلقب به لكثرة دراسته {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا} هو كما تقدم.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى كما روي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي. وأبو مسلم، وعن أنس. وأبي سعيد الخدري. وكعب. ومجاهد السماء الرابعة، وعن ابن عباس. والضحاك السماء السادسة وفي رواية أخرى عن الحسن الجنة لا شيء أعلا من الجنة، وعن النابغة الجعدي أنه لما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر الذي آخره:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ** وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا

قال عليه الصلاة والسلام له: «إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟» قال إلى الجنة يا رسول الله قال: «أجل إن شاء الله تعالى».
وعن قتادة أنه عليه السلام يعبد الله تعالى مع الملائكة عليهم السلام في السماء السابعة ويرتع تارة في الجنة حيث شاء، وأكثر القائلين برفعه حسا قائلون بأنه حيث حيث رفع، وعن مقاتل أنه ميت في السماء وهو قول شاذ. وسبب رفعه على ما روي عن كعب وغيره أنه مر ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب إني مشيت يومًا في الشمس فأصابني منها ما أصابني فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فماذا الذي قضيت فيه قال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته قال: يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس ثم إنه طلب منه رفعه إلى السماء فأذن الله تعالى له بذلك فرفعه، وأخرج ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن إدريس كان نبيًا تقيًا زكيًا وكان يقسم دهره على نصفين ثلاثة أيام يعلم الناس الخير وأربعة أيام يسيح في الأرض ويعبد الله تعالى مجتهدًا وكان يصعد من عمله وحده إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع أعمال بني آدم وأن ملك الموت أحبه في الله تعالى فأتاه حين خرج للسياحة فقال له: يا نبي الله إني أريد أن تأذن لي في صحبتك فقال له إدريس وهو لا يعرفه: إنك لن تقوى على صحبتي قال: بلى أني أرجو أن يقويني الله تعالى على ذلك فخرج معه يومه ذلك حتى إذا كان من آخر النهار مرا براعي غنم فقال ملك الموت: يا نبي الله إنا لا ندري حيث نمسي فلو أخذنا جفرة من هذه الغنم فافطرنا عليها فقال له: لا تعد إلى مثل هذا أتدعوني إلى أخذ ما ليس لنا من حيث نمسي يأتينا الله تعالى برزق فلما أمسى أتاه الله تعالى بالرزق الذي كان يأتيه فقال لملك الموت تقدم فكل فقال: لا والذي أكرمك بالنبوة ما اشتهى فأكل وحده وقاما جميعًا إلى الصلاة ففتر إدريس ونعس ولم يفتر الملك ولم ينعس فعجب منه وصغرت عنده عبادته مما رأى ثم أصبحا فساحا فلما كان آخر النهار مرا بحديقة عنب فقال له مثل ما قال أولًا فلما أمسيا أتاه الله تعالى بالرزق فدعاه إلى الأكل فلم يأكل وقاما إلى الصلاة وكان من أمرهما ما كان أولًا فقال له إدريس: لا والذي نفسي بيده ما أنت من بني آدم فقال: أجل لست منهم وذكر له أنه ملك الموت فقال: أمرت في بأمر فقال: لو أمرت فيك بأمر ما ناظرتك ولكني أحبك في الله تعالى وصحبتك له فقال له: إنك معي هذه المدة لم تقبض روح أحد من الخلق قال: بلى إني معك وإني أقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها وما الدنيا كلها عندي إلا كمائدة بين يدي الرجل يتناول منها ما شاء فقال له: يا ملك الموت أسألك بالذي أحببتني له وفيه إلا قضيت لي حاجة أسألكها فقال: سلني يا نبي الله فقال: أحب أن تذيقني الموت ثم ترد على روحي فقال: ما أقدر إلا أن أستأذن فاستأذن ربه تعالى فأذن له فقبض روحه ثم ردها الله تعالى إليه فقال له ملك الموت: يا نبي الله كيف وجدت الموت؟ قال: أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله رؤية النار فانطلق إلى أحد أبواب جهنم فنادى بعض خزنتها فلما علموا أنه ملك الموت ارتعدت فرائصهم وقالوا: أمرت فينا بأمر فقال لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم ولكن نبي الله تعالى إدريس سألني أن تروه لمحة من النار ففتحوا له قدر ثقب المخيط فأصابه ما صعق منه فقال ملك الموت: اغلقوا فغلقوا وجعل يمسح وجه إدريس ويقول: يا نبي الله تعالى ما كنت أحب أن يكون هذا حظك من صحبتي فلما أفاق سأله كيف رأيت؟ قال: أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله أن يريه لمحة من الجنة ففعل نظير ما فعل قبل فلما فتحوا له أصابه من بردها وطيبها وريحانها ما أخذ بقلبه فقال: يا ملك الموت إني أحب أن أدخل الجنة فآكل أكلة من ثمارها وأشرب شربة من مائها فلعل ذلك أن يكون أشد لطلبتي ورغبتي فدخل وأكل وشرب فقال له ملك الموت: أخرج يا نبي الله تعالى قد أصبت حاجتك حتى يردك الله عز وجل مع الأنبياء عليهم السلام يوم القيامة فاحتضن بساق شجرة من أشجارها وقال: ما أنا بخارج وإن شئت أن أخاصمك خاصمتك فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت قاضه الخصومة فقال له: ما الذي تخاصمني به يا نبي الله تعالى فقال إدريس: قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] وقد ذقته وقال سبحانه: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 17] وقد وردتها وقال جل وعلا لأهل الجنة {وَمَا هُمْ مّنْهَا خْرَجِينَ} [الحجر: 84] أفأخرج من شيء ساقه الله عز وجل إلي فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت خصمك عبدي إدريس وعزتي وجلالي إن في سابق علمي أن يكون كذلك فدعه فقد احتج عليك بحجة قوية.
الحديث والله تعالى أعلم بصحته وكذا بصحة ما قبله من خبر كعب، وهذا الرفع لاقتضائه علو الشأن ورفعة القدر كان فيه من المدح ما فيه وإلا فمجرد الرفع إلى مكان عال حسا ليس بشيء:
فالنار يعلوها الدخان وربما ** يعلو الغبار عمائم الفرسان

وادعى بعضهم أن الأقرب أن العلو حسي لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية؛ وتعقب بأن فيه نظرًا لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه كقوله:
وكن في مكان إذا ما سقطت ** تقوم ورجلك في عافية

فتأمل.