فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (10):

{إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)}
{إِذْ رَءا نَارًا} ولم يجوز تعلقه على تقدير كونه اسمًا للكلام والخبر لأنه حينئذ الجوامد لا يعمل، والأظهر أنه اسم لما ذكر لأنه هو المعروف مع أن وصف القصة بالاتيان أولى من وصف التحدث والتكلم به وأمر التعلق سهل فإن الظرف يكفي لتعلقه رائحة الفعل، ولذا نقل عن بعضهم أن القصة والحديث والخبر والنبأ يجوز أعمالها في الظروف خاصة وإن لم يرد بها المعنى المصدري لتضمن معناها الحصول والكون.
وجوز أن يكون ظرفًا لمضمر مؤخر أي حين رأى نارًا كان كيت وكيت، وأن يكون مفعولًا لمضمر متقدم أي فاذكر وقت رؤيته نارًا. وروى أن موسى عليه السلام استأذن شعيبًا عليه السلام في الخروج من مدين إلى مصر لزيارة أمه وأخيه وقد طالت مدة جنايته صر ورجا خفاء أمره فأذن له وكان عليه السلام رجلًا غيورًا فخرج بأهله ولم يصحب رفقة لئلا ترى امرأته وكانت على أتان وعلى ظاهرها جوالق فيها أثاث البيت ومعه غنم له وأخذ عليه السلام على غير الطريق مخافة من ملوك الشام فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له ابن في ليلة مظلمة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصله زنده فبينما هو كذلك إذ رأى نارًا على يسار الطريق من جانب الطور {فَقَالَ لاِهْلِهِ امكثوا} أي أقيموا مكانكم أمرهم عليه السلام بذلك لئلا يتبعوه فيما عزم عليه من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخر فإنه مما لا يخطر بالبال، والخطاب قيل: للمرأة والولد والخادم، وقيل: للمرأة وحدها والجمع إما لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم كما في قوله من قال:
وإن شئت حرمت النساء سواكم

وقرأ الأعمش. وطلحة. وحمزة. ونافع في رواية {لاِهْلِهِ امكثوا} بضم الهاء {إِنّى ءانَسْتُ نَارًا} أي أبصرتها إبصارًا بينًا لا شبهة فيه، ومن ذلك إنسان العين والإنس خلاف الجن، وقيل: الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به، وقيل: هو عنى الوجدان، قال الحارث بن حلزة:
آنست نبأة وقد راعها القن ** اص يومًا وقد دنا الإمساء

والجملة تعليل للأمر والمأمور به ولما كان الإيناس مقطوعًا متيقنًا حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم وإن لم يكن ثمت تردد أو إنكار {لَّعَلّى ءاتِيكُمْ مّنْهَا} أي أجيئكم من النار {بِقَبَسٍ} بشعلة مقتبسة تكون على رأس عود ونحوه ففعل عنى مفعول وهو المراد بالشهاب القبس وبالجذوة في موضع آخر وتفسيره بالجمرة ليس بشيء، وهذا الجار والمجرور متعلق بآتيكم، وأما منها فيحتمل أن يكون متعلقًا به وأن يكون متعلقًا حذوف وقع حالًا من {قَبَسٍ} على ما قاله أبو البقاء {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} هاديًا يدلني على الطريق على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذا هداية أو على أنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدي، وعن الزجاج أن المراد هاديًا يدلني على الماء فإنه عليه السلام قد ضل عن الماء، وعن مجاهد.
وقتادة أن المراد هاديًا يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم الدينية في عامة أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل وهو بعيد فإن مساق النظم الكريم تسلية أهله مع أنه قد نص في سورة القصص على ما يقتضي ما تقدم حيث قال: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الاجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} الآية، والمشهور كتابة هذه الكلمة بالياء.
وقال أبو البقاء: الجيد أن تكتب بالألف ولا تمال لأن الألف بدل التنوين في القول المحقق، وقد أمالها قوم وفيه ثلاثة أوجه، الأول: أن يكون شبه ألف التنوين بلام الكلمة إذا اللفظ بهما في المقصور واحد، الثاني: أن يكون لام الكلمة ولم يبدل من التنوين شيء في النصب، والثالث: أن يكون على رأي من وقف في الأحوال الثلاثة من غير إبدال انتهى، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وعلي على بابها من الاستعلاء والاستعلاء على الناء مجاز مشهور صار حقيقة عرفية في الاستعلاء على مكان قريب ملاصق لها كما قال سيبويه في مررت بزيد: إنه لصوق كان يقرب منه، وقال غير واحد: إن الجار والمجرور في موضع الحال من {هُدِىَ} وكان في موضع الفة له فقدم والتقدير أو أجد هاديًا أو ذا هدى مشرفًا على النار، والمراد مصطليًا بها وعادة المصطلي الدنو من النار والإشراف عليها.
وعن ابن الانباري أن علي هاهنا عنى عند أو عنى مع أو عنى الباء ولا حاجة إلى ذلك وكان الظاهر عليها إلا أنه جيء بالظاهر تصريحًا بما هو كالعلة لوجدان الهدي إذ النار لا تخلو من أناس عندها، وصدرت الجملة بكلمة الترجي لما أن الاتيان وماعطف عليه ليسا محققي الوقوع بل هما مترقبان متوقعان. وهي على ما في إرشاد العقل السليم إما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والإخبار بإيناس النار وتفاديًا عن التصريح بما يوحشهم، وإما حال من فاعله أي فاذهب إليها لآتيكم أو كي آتيكم أو راجيًا أن آتيكم منها بقبس الآية، وقيل: هي صفة لنارًا، ومتى جاز جعل جملة الترجي صلة كما في قوله:
وإني لراج نظرة قبل التي ** لعلي وإن شطت نواها أزورها

فليجز جعلها صفة فإن الصلة والصفة متقاربان ولا يخفى ما فيه.

.تفسير الآية رقم (11):

{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)}
{فَلَمَّا أتاها} أي النار التي آنسها وكانت كما في بعض الروايات عن ابن عباس في شجرة عناب خضراء يانعة، وقال عبد الله بن مسعود: كانت في سمرة، وقيل: في شجرة عوسج. وأخرج الإمام أحمد في الزهد. وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: لما رأى موسى عليه السلام النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبًا فإذا هو بنار عظيمة تفور من ورق شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق لا تزداد النار فيما يرى إلا عظمًا وتضرمًا ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنًا فوقف ينظر لا يدري علام يضع أمرها إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق وأوقد إليها بوقد فنالها فاحترقت وأنه إنما يمنع النار شدة خضرتها وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جذعها فوضع أمرها على هذا فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه فلما طال عليه ذلك أهوى إليها بضغث في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها فلما فعل ذلك مالت نحوه كأنها تريده فاستأخر عنها وهاب ثم عاد فطاف بها ولم تزل تطمعه ويطمع بها ثم لم يكن شيء باوشك من خمودها فاشتد عند ذلك عجبه وفكر في أمرها فقال: هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين فلما رأى ذلك قال إن لهذه لشأنا ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة لا يدري من أمرها ولا أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت فوقف متحيرًا لا يدري أيرجع أم يقيم فبينما هو على ذلك إذ رمى بطرفة هو فرعها فإذا أشد ما كان خضرة ساطعة في السماء ينظر إليها تغشى الظلام ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبيض حتى صارت نورًا ساطعًا عمودًا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكل دونه الأبصار كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه فرد يده على عينيه ولصق بالأرض وسمع حينئذ شيئًا لم يسمع السامعون ثله عظمًا فلما بلغ موسى عليه السلام الكرب واشتد عليه الهول كان ما قص الله تعالى. وروى أنه عليه السلام كان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبرا تبعته فأيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة ووقف متحيرًا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة وكان ما كان.
وقالوا: النار أربعة أصناف صنف يأكل ولا يشرب وهي نار الدنيا، وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر، وصنف يأكل ويشرب وهي نار جهنم، وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى عليه السلام.
وقالوا أيضًا هي أربعة أنواع. نوع له نور وإحراق وهي نار الدنيا، ونوع لا نور له ولا إحراق وهي نار الأشجار ونوع له إحراق بلا نور وهي نار جهنم. ونوع له نور بلا إحراق وهي نار موسى عليه السلام بل قال بعضهم: إنها لم تكن نارًا بل هي نور من نور الرب تبارك وتعالى. وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذكر ذلك بلفظ النار بناء على حسبان موسى عليه السلام وليس في إخباره عليه السلام حسب حسبانه محذور كما توهم واستظهر ذلك أبو حيان وإليه ذهب الماوردي.
وقال سعيد بن جبير. هي النار بعينها وهي إحدى حجب الله عز وجل واستدل له بما روى عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ذكر ذلك البغوي وذكر في تفسير الخازن أن الحديث أخرجه مسلم وظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام حين أتاها {نُودِىَ} من غير ريث وبذلك رد بعض المعتزلة الأخبار السابقة الدالة على تخلل زمان بين المجيء والنداء، وأنت تعلم أن تخلل مثل ذلك الزمان مما لا يضر في مثله ما ذكر، وزعم أيضًا امتناع تحقق ظهور الخارق عند مجيئه النار قبل أن ينبأ إلا أن يكون ذلك معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السلام، وعندنا أن ذلك من الإرهاص الذي ينكره المعتزلة، والظاهر أن القائم مقام فاعل {نُودِىَ} ضمير موسى عليه السلام، وقيل: ضمير المصدر أي نودي النداء، وقيل: هو قوله تعالى: {حَدِيثُ موسى} إلخ وكأن ذلك على اعتبار تضمين النداء معنى القول وإرادة هذا اللفظ من الجملة وإلا فقد قيل: إن الجملة لا تكون فاعلًا ولا قائمًا مقامه في مثل هذا التركيب إلا بنحو هذا الضرب من التأويل.
وفي البحر مذهب الكوفيين معاملة النداء معاملة القول ومذهب البصريين إضمار القول في مثل هذه الآية أي نودي فقيل: {حَدِيثُ موسى}.

.تفسير الآية رقم (12):

{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)}
{إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} ولذلك كسرت همزة إن في قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو بفتحها على تقدير حرف الجر أي بأني، والجار والمجرور على ما قال أبو البقاء. وغيره متعلق بـِ {نودي} [طه: 11] والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي:
ناديت باسم ربيعة بن مكرم ** إن المنوه باسمه الموثوق

ولا يخفى على ذي ذوق سليم حال التركيب على هذا التخريج وإنه أنما يحلو لو لم يكن المنادي فاصلًا.
وقيل: على تقدير حرف التعليل وتعلقه بفعل الأمر بعد وهو كما ترى. واختير أن الكلام على تقدير العلم أي أعلم أني إلخ، وتكرير ضمير المتكلم لتأكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة، واستظهر أن علمه عليه السلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقًا منه تعالى فيه، وقيل: بالاستدلال بما شاهد قبل النداء من الخارق، وقيل: بما حصل له من ذلك بعد النداء، فقد روى أنه عليه السلام لما نودي يا موس قال عليه السلام: من المتكلم؟ فقال: أنا ربك فوسوس إليه إبليس اللعين لعلك تسمع كلام شيطان فقال عليه السلام: أنا عرفت أنه كلام الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء، والخارق فيه أمران سماعه من جميع الجهات وكون ذلك بجميع الأعضاء التي من شأنها السماع والتي لم يكن من شأنها، وقيل: الخارق فيه أمر واحد وهو السماع بجميع الأعضاء، وهو المراد بالسماع من جميع الجهات، وأيًا ما كان فلا يخفى صحة الاستدلال بذلك على المطلوب إلا أن في صحة الخبر خفاء ولم أر له سندًا يعول عليه، وحضور الشيطان ووسوسته لموسى عليه السلام في ذلك الوادي المقدس والحضرة الجليلة في غاية البعد. والمعتزلة أوجبوا أن يكون العلم بالاستدلال بالخارق ولم يجوزوا أن يكون بالضرورة قالوا لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع القادر العالم لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلومًا بالضرورة لخرج موسى عليه السلام عن كونه مكلفًا لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وبالاتفاق أنه عليه السلام لم يخرج عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالخارق وفي تعيينه اختلاف.
وقال بعضهم: لا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك الخارق ما هو، وأخرج أحمد. وغيره عن وهب أنه عليه السلام لما اشتد عليه الهول نودي من الشجرة فقيل: يا موسى فأجاب سريعًا وما يدري من دعاه وما كان سرعة إجابته إلا استئناسًا بالإنس فقال: لبيك مرارًا إني لأسمع صوتك وأحس حسك ولا أرى مكانك فأين أنت: قال: أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك فلما سمع هذا موسى عليه السلام علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تعالى فايقن به فقال: كذلك أنت يا إلهي فكلامك أسمع أم رسولك؟ قال: بل أنا الذي أكلمك، ولا يخفى تخريج هذا الأثر على مذهب السلف ومذهب الصوفية وأنه لا يحصل الإيقان جرد سماع ما لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى من الصفات إذا فتح باب الوسوسة، ثم إن هذا الأثر ظاهر في أن موسى عليه السلام سمع الكلام اللفظي منه تعالى بلا واسطة ولذا اختص عليه السلام باسم الكليم وهو مذهب جماعة من أهل السنة وذلك الكلام قديم عندهم.
وأجابوا عن استلزام الحدوث لأنه لا يوجد بعضه إلا بتقضي بعض آخر بأنه إنما يلزم من التلفظ بآلة وجارحة وهي اللسان أما إذا كان بدونها فيوجد دفعة واحدة كما ياهد في الحروف المرسومة بطبع الخاتم دون القلم ويلزمهم أن يؤولوا قوله تعالى: {فَلَمَّا أتاها نُودِىَ} [طه: 11] إلخ بأن يقولوا: المراد فلما أتاها أسمع أتاها أسمع النداء أو نحو ذلك وإلا فمجيء النار حادث والمرتب على الحادث حادث، ولذا زعم أهل ما وراء النهر من أهل السنة القائلين بقدم الكلام أن هذا الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام حادث وهو صوت خلقه الله تعالى في الشجرة، وأهل البدعة أجمعوا على أن الكلام اللفظي حادث بيد أن منهم من جوز قيام الحوادث به تعالى شأنه ومنهم من لم يجوز، وزعم أن الذي سمعه موسى عليه السلام خلقه الله عز وجل في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها.
وقال الأشعري: إن الله تعالى أسمع موسى عليه السلام كلامه النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت ولا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك، وقد حققه بعضهم بأنه عليه السلام تلقى ذلك الكلام تلقيًا روحانيًا كما تتلقى الملائكة عليهم السلام كلامه تعالى لا من جارحة ثم أفاضته الروح بواسطة قوة العقل على القوى النفسية ورسمته في الحس المشترك بصور ألفاظ مخصوصة فصار لقوة تصوره كأنه يسمعه من الخارج وهذا كما يرى النائم أنه يكلم ويتكلم، ووجه وقوف الشيطان المار في الخبر الذي سمعت ما فيه على هذا بأنه يحتمل أن يكون كذلك، ويحتمل أن يكون بالتفرس من كون هيئته عليه السلام على هيئة المصغي المتأمل لما يسمعه وهو كما ترى، وقد تقدم لك في المقدمات ما عسى ينفعك مراجعته هنا فراجعه وتأمل، واعلم أن شأن الله تعالى شأنه كله غريب وسبحان الله العزيز الحكيم {فاخلع نَعْلَيْكَ} أزلهما من رجليك والنعل معروفة وهي مؤنثة يقال في تصغيرها نعيلة ويقال فيها نعل: بفتح العين أنشد الفراء:
له نعل لا يطبي الكلب ريحها ** وإن وضعت بين المجالس شمت

وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ كما روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه. وعكرمة. وقتادة. والسدي. ومقاتل. والضحاك. والكلبي، وروى كونهما من جلد حمار في حديث غريب. فقد أخرج الترمذي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان على موسى عليه السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف أي قلنسوة صغيرة وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار» وعن الحسن. ومجاهد. وسعيد بن جبير. وابن جريج أنهما كانتا من جلد بقرة ذكيت ولكن أمر عليه السلام بخلعهما ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الوادي المقدس.
وقال الأصم: لأن الحفوة أدخل في التواضع. وحسن الأدب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين، ولا يخفى أن هذا ممنوع عند القائل بأفضلية الصلاة بالنعال كما جاء في بعض الآثار، ولعل الأصم لم يسمع ذلك أو يجيب عنه.
وقال أبو مسلم: لأنه تعالى أمنه من الخوف وأوقفه بالموضع الطاهر وهو عليه السلام إنما لبسهما اتقاء من الانجاس وخوفًا من الحشرات، وقيل: المعنى فرغ قلبك من الأهل والمال. من الدنيا والآخرة.
ووجه ذلك أن يراد بالنعل كل ما يرتفق به، وغلب على ما ذكر تحقيرًا، ولذا أطلق على الزوجة نعل كما في كتب اللغة، ولا يخفى عليك أنه بعيد وإن وجه بما ذكر وهو أليق بباب الإشارة، والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه السلام من موجبات الأمر ودواعيه، وقوله تعالى: {إِنَّكَ بالواد المقدس} تعليل لموجب الخلع المأمور به وبيان لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها. روي أنه عليه السلام حين أمر خلعهما وألقاهما وراء الوادي {طُوًى} بضم الطاء غير منون.
وقرأ الكوفيون. وابن عامر بضمها منونًا. وقرأ الحسن. والأعمش. وأبو حيوة. وابن أبي إسحاق. وأبو السمال. وابن محيصن بكسرها منونًا. وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون؛ وهو علم لذلك الوادي فيكون بدلًا أو عطف بيان، ومن نونه فعلى تأويل المكان ومن لم ينونه فعلى تأويل البقعة فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل: {طُوًى} المضموم الطاء الغير المنون ممنوع من الصرف للعلمية والعدل كزفر وقثم، وقيل: للعلمية والعجمة؛ وقال قطرب: يقال طوى من الليل أي ساعة أي قدس لك ساعة من الليل وهي ساعة أن نودي فيكون معملًا للمقدس، وفي «العجائب» للكرماني قيل: هو معرب معناه ليلًا وكأنه أراد قول قطرب، وقيل: هو رجل بالعبرانية وكأنه على هذا منادي، وقال الحسن: طوى بكسر الطاء والتنوين مصدر كثنى لفظًا ومعنى، وهو عنده معمول للمقدس أيضًا أي قدس مرة بعد أخرى، وجوز أن يكون معمولًا لنودي أي نودي نداءين، وقال ابن السيد: إنه ما يطوى من جلد الحية ويقال: فعل الشيء طوى أي مرتين فيكون موضوعًا موضع المصدر، وأنشد الطبرسي لعدي بن زيد:
أعاذل إن اللوم في غير كنهه ** على طوى من غيك المتردد

وذكر الراغب أنه إذا كان عنى مرتين يفتح أوله ويكسر، ولا يخفى عليك أن الأظهر كونه اسمًا للوادي في جميع القراءات.