فصل: تفسير الآية رقم (72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (72):

{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)}
{قَالُواْ} غير مكترثين بوعيده {لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك بالإيمان والانقياد {على مَا جَاءنَا} من الله تعالى على يد موسى عليه السلام {مِنَ البينات} من المعجزات الظاهرة التي اشتملت عليها العصا. وإنما جعلوا المجيء إليهم وإن عم لأنهم المنتفعون بذلك والعارفون به على أتم وجه من غير تقليد. وما موصولة وما بعدها صلتها والعائد الضمير المستتر في جاء. وقيل العائد محذوف وضمير {جَاءنَا} لموسى عليه السلام أي على الذي جاءنا به موسى عليه السلام وفيه بعد. وإن كان صنيع بعضهم اختياره مع أن في صحة حذف مثل هذا المجرور كلامًا.
{والذى فَطَرَنَا} أي أبدعنا وأوجدنا وسائر العلويات والسفليات. وهو عطف على {مَا جَاءنَا} وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهدوه آية حسية ظاهرة. وإبراده تعالى بعنوان الفاطرية لهم للإشعار بعلة الحكم فإن إبداعه تعالى لهم. وكون فرعون من جملة مبدعاته سبحانه مما يوجب عدم إيثارهم إياه عليه عز وجل. وفيه تكذيب للعين في دعواه الربوبية. وقيل: الواو للقسم وجوابه محذوف لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك إلخ. ولا مساغ لكون المذكور جوابًا عند من يجوز تقديم الجواب أيضًا لما أن القسم لإيجاب كما قال أبو حيان: بلن إلا في شاذ من الشعر. وقولهم: هذا جواب لتوبيخ اللعين بقوله: {آمنتم} [طه: 71] إلخ. وقوله تعالى: {فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ} جواب عن تهديده بقوله: {لأقطعن} [طه: 71] إلخ أي فاصنع ما أنت بصدد صنعه أو فاحكم بما أنت بصدد الحكم به فالقضاء إما عنى الإيجاد الإبداعي كما في قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} [فصلت: 12] وأما عناه المعروف. وعلى الوجهين ليس المراد من الأمر حقيقته، وما موصولة والعائد محذوف.
وجوز أبو البقاء كونها مصدري وهو مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة من جواز وصل المصدرية بالجملة الاسمية ومنع ذلك بعضهم، وقوله تعالى: {إِنَّمَا تَقْضِى هذه الحياة الدنيا} مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفاد مما سبق من الأمر بالقضاء، وما كافة و{هذه الحياة} منصوب محلًا على الظرفية لتقضي والقضاء على ما مر ومفعوله محذوف أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب وما لنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها، وجوز أن تكون ما مصدرية فهي وما في حيزها في تأويل مدر اسم أن وخبرها {هذه الحياة} أي أن قضاءك كائن في هذه الحياة، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم فلا حذف.
وقرأ ابن حيوة. وابن أبي عبلة {إِنَّمَا تَقْضِى} بالبناء للمفعول {هذه الحياة} بالرفع على أنه اتسع في الظرف فجعل مفعولًا به ثم بنى الفعل له نحو صيم يوم الخميس.

.تفسير الآية رقم (73):

{إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)}
{إنَّا ءَامَنَّا برَبِّنَا ليَغْفرَ لَنَا خَطَايَانَا} التي اقترفناه من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بهذا في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتأثر بما أوعدتنا به.
وقوله تعالى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} عطف على {خطايانا} أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام بإكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهارًا لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته، وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستفغار مع صدوره عنهم بالإكراه، وفيه نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة، وقيل: إن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل فأمر أن يتعلمو السحر وقال: علموهم تعليمًا لا يغلبهم أحد من أهل الأرض وهم من الذين آمنوا وسى عليه السلام وهو الذين قالوا: {إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} [طه: 37]، وقال الحسن: كان يأخذ ولدار الناس ويجبرهم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المهعارضة حيث روى أنهم قالوا له: أرنا موسى نائم ففعل بوجوده تحرسه عصاه فقالوا: ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضو ولا ينافي ذلك قولهم: {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44] لًاكما أن قولهم: {إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} [الأعراف: 113] قبله كما قيل: وزعم أبو عبيد أن مجرد أمر السلطان شخصًا إكراه وإن لم يتوعده وإلى ذلك ذهب ساداتنا الحنفية كما في عامة كتبهم لما في مخالفة أمره من توقع المكروه لاسيما إذا كان السلطان جبارًا طاغيًا {والله خَيْرُ} في حَد ذاته تعالى: {وأبقى} أي وأدوم جزاء ثوابًا كان أو عقابًا أو خير ثوابًا وأبقى عذابًا، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (74):

{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)}
{أَنَّهُ} إلى آخر الشرطيتين تعليل من جهتهم لكونه تعالى شأنه خير وأبقى وتحقيق له وإبطال لما ادعاه اللعين، وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونهما ولزيادة تقرير له أي إن الشيطان الخطير هذا أي قوله تعالى: {مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} بأن مات على الكفر والمعاصي.
{فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه تعالى أبقى {وَلاَ يحيى} حياة ينفتع بها.

.تفسير الآية رقم (75):

{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75)}
{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} به عز وجل وا جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدنا {قَدْ عَمِلَ الصالحات} من الأعمال {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى {مِنْ} والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها، وما فيها من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للأعمال الصالحات {لَهُمْ} بسبب إيمانهم وعملهم ذلك {الدرجات العلى} أي المنازل الرفيعة.

.تفسير الآية رقم (76):

{جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}
{جنات عَدْنٍ} بدل من {الدرجات العلى} [طه: 75] أو بيان وقد تقدم في عدن {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} حال من الجنات، وقوله تعالى: {خالدين فِيهَا} تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وهو حال من الضمير في {لهم} [طه: 75]، والعالم فيه معنى الاستقرار في الظرف أو ما في {أولئك} [طه: 75] من معنى أشير والحال مقدرة ولا يجوز أن يكون {جنات} خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات لخلو الكلام حينئذ عن عامل في الحال ما ذكره أبو البقاء {وَذَلِكَ} إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر ومعنى البعد لما أشير إليه من قرب من التفخيم {جَزَاء مَن تزكى} أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر فيمن الايمان والأعمال الصالحة.
وهذا تصريح بما أفادته الشرطية، وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه عز وجل ودوامه ردًا على ما ادعاه فرعون بقوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى} [طه: 71]، وقال بعضهم: إن الشرطيتين إلى هنا ابتداء كلام منه جل وعلا تنبيهًا على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة والأول أولى خلافًا لما حسبه النيسابوري.
هذا واستدل المعتزلة بالشرطية الأولى على القطع بعذاب مرتكب الكبيرة قالوا: مرتكب الكبيرة مجرم لأن أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ثم استعير لاكتساب المكروه وكل مجرم فإن له جهنم للآية فإن من الشرطية فيها عامة بدليل صحة الاستثناء فينتج مرتكب الكبيرة إن له جهنم وهو دال على القطع بالوعيد.
وأجاب أهل السنة بأنا لا نسلم الصغرى لجواز أن يراد بالمجرم الكافر فكثيرًا ما جاء في القرآن بذلك المعنى كقوله تعالى: {يَتَسَاءلُونَ عَنِ المجرمين مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} إلى قوله سبحانه: {وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين} [المدثر: 40: 46] وقوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] إلى آخر السورة، وعلى تقدير تسليم هذه المقدمة لا نسلم الكبرى على إطلاقها وإنما هي كلية بشرط عدم العفو مع أنا لا نسلم أن من الشرطية قطعية في العموم كما قال الإمام وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد مطلقًا، وعلى تقدير تسليم المقدمتين يقال يعارض ذلك الدليل عموم الوعد في قوله تعالى ومن يأته مؤمنًا إلخ ويجعل الكلام فيمن آمن وعمل الصالحات وارتكب الكبيرة وهو داخل في عموم {مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالحات} [طه: 75] ولا يخرجه عن العموم ارتكابه الكبيرة ومتى كانت له الجنة فهي لمن آمن وارتكب الكبيرة ولم يعمل الأعمال الصالحة أيضًا إذ لا قائل بالفرق، فإذا قالوا: مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كما لا يقال كافر لإثباتهم المنزلة بين المنزلتين فلا يدخل ذلك في العموم أبطلنا ذلك وبرهنا على حصر المكلف في المؤمن والكافر ونفى المنزلة بين الايمان والكفر بما هو مذكور في محله.
وعلى تقدير تسليم أن {مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} [طه: 75] إلخ لا يعم مرتكب الكبيرة يقال: إن قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ لهم الدرجات العلى} [طه: 75] يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى وجنات عدن لمن أتى بالايمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات الغير العالية والجنات لابد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الايمان.
ولقد أخرج أبو داود. وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر. وعمر منهم. وأنعما» واستدل على شمول {مِنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} [طه: 75] صاحب الكبيرة بقوله تعالى: {وذلك جَزَاء مَن تزكى} بناء على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بمن تزكى من قال لا إله إلا الله كأنه أراد من تطهر عن دنس الكفر والله تعالى أعلم.
ثم إن العاصي إذا دخل جهنم لا يكون حاله كحال المجرم الكافر إذا دخلها بل قيل: إنه يموت احتجاجًا بما أخرج مسلم. وأحمد. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية أنه {مَن يَأْتِ} إلخ فقال عليه الصلاة والسلام: «أما أهلها يعني جهنم الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما تنبت القثاء بحميل السيل» وحمل ذلك القائل تميتهم فيه على الحقيقة وجعل المصدر تأكيدًا لدفع توهم المجاز كما قيل في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وذكر أن فائدة بقائهم في النار بعد إماتتهم إلى حيث شاء الله تعالى حرمانهم من الجنة تلك المدة وذلك منضم إلى عذابهم بإحراق النار إياهم.
وقال بعضهم: إن تميتهم مجاز والمراد أنها تجعل حالهم قريبة من حال الموتى بأن لا يكون لهم شعور تام بالعذاب، ولا يسلم أن ذكر المصدر ينافي في التجوز فيجوز أن يقال قتلت زيدًا بالعصا قتلًا والمراد ضربته ضربًا شديدًا ولا يصح أن يقال: المصدر لبيان النوع أي تميتهم نوعًا من الإماتة لأن الإماتة لا أنواع لها بل هي نوع واحد وهو إزهاق الروح ولهذا قلي:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ** تعددت الأسباب والموت واحد

واستدل المجسمة بقوله سبحانه: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ على} [طه: 74]، وأجيب بأن المراد من إتيانه تعالى إتيان موضع وعده عز وجل أو نحو ذلك.

.تفسير الآية رقم (77):

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)}
{فِيهَا وذلك جَزَاء مَن تزكى وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى} حكاية إجمالية لما انتهى إليه فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم بعد أن غلبت السحرة من الآيات المفصلة الظاهرة على يد موسى عليه السلام في نحو من عشرين سنة حسا فصل في سورة الأعراف، وكان فرعن كلما جاءت آية وعد أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب حتى إذا انكشف نكث فلما كملت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية ضمونها.
وأن إما مفسرة لما في الوحي من معنى القول، وإما مصدرية حذف عنها الجار، والتعبير عن بني إسرائيل بعنوان العبودية لله تعالى لإظهار الرحمة والاعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ولم يراقب فيهم مولاهم الحقيقي جل جلاله، والظاهر أن الإيحاء بما ذكر وكذا ما بعده كان صر أي وبالله تعالى لقد أوحينا إليه عليه السلام أن سر بعبادي الذي أرسلتك لانقاذهم من ملكة فرعون من مصر ليلًا {فاضرب لَهُمْ} بعصاك {طَرِيقًا فِي البحر} مفعول به لأضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والأصل اضرب البحر ليصير لهم طريقًا {يَبَسًا} أي يابسًا وبذلك قرأ أبو حيوة على أنه مصدر جعل وصفًا لطريقًا مبالغة وهو يستوي فيه الواحد المذكر وغيره.
وقرأ الحسن {يَبَسًا} بسكون الباء وهو إما مخفف منه بحذف الحركة فيكون مصدرًا أيضًا أو صفة مشبهة كعصب أو جمع يابس كصحب وصاحب. ووصف الواحد به للمبالغة وذلك أنه جعل الطريق لفرط يبسها كأشياء يابسة كما قيل في قول القطامي:
كأن قتود رحلى حين ضمت ** حوالب غرزًا ومعي جياعا

أنه جعل المعي لفرط جوعه كجماعة جياع أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقًا يابسًا كما قيل في {نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] وثوب أخلاق أو حيث أريد بالطريق الجنس وكان متعددًا حسب تعدد الأسباط لا طريق واحدة على الصحيح جاء وصفه جمعًا، وقيل: يحتمل أن يكون اسم جمع، والظاهر أنه لا فرق هنا بين اليبس بالتحريك واليبس بالتسكين معنى لأن الأصل توافق القراءتين، وإن كانت إحداهما شاذة، وفي القاموس اليبس بالإسكان ما كان أصله رطبًا فجف وما أصله اليبوسة ولم يعهد رطبًا يبس بالتحريك، وأما طريق موسى عليه السلام في البحر فإنه لم يعهد طريقًا لا رطبًا ولا يابسًا إنما أظهره الله تعالى لهم حينئذ مخلوقًا على ذلك اه.
وهذا مخالف لما ذكره الراغب من أن اليبس بالتحريك ما كان فيه رطوبة فذهبت، والمكان إذا كان فيه ماء فذهب، وروى أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر وإنفاق حتى صارت فيه طرق بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست.
وذهب غير واحد أن الضرب عنى الجعل من قولهم: ضرب له في ماله سهمًا وضرب عليهم الخراج أو عنى الاتخاذ فينصب مفعولين أولهما {طَرِيقًا} وثانيهما {لَهُمْ}.
واختار أبو حيان بقاءه على المعنى المشهور وهو أوفق بقوله تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63]، وزعم أبو البقاء أن {طَرِيقًا} على هذا الوجه مفعول فيه، وقال: التقدير {فاضرب لَهُمْ} موضع طريق {لاَّ تَخَافُ دَرَكًا} في موضع الحال من ضمير {فاضرب} أو الصفة الأخرى لطريقًا والعائد محذوف أي فيها أو هو استئناف كما قال أبو البقاء وقدمه على سائر الاحتمالات. وقرأ الأعمش. وحمزة. وابن أبي ليلى {لاَ تَخَفْ} بالجزم على جواب الأمر أعني {أَسَرَّ}، ويحتمل أنه نهي مستأنف كما ذكره الزجاج. وقرأ أبو حيوة. وطلحة. والأعمش {دَرَكًا} بسكون الراء وهو اسم من الإدراك أي اللحوق كالدرك بالتحريك، وقال الراغب: الدرك بالتحريك في الآية ما يلحق الإنسان من تبعة أي لا تخاف تبعة، والجمهور على الأول أي لا تخاف أن يدرككم فرعون وجنوده من خلفكم {وَلاَ تخشى} أن يغرقكم البحر من قدامكم وهو عطف على {لاَّ تَخَافُ}، وذلك ظاهر على الاحتمالات الثلاثة في قراءة الرفع؛ وأما على قراءة الجزم فقيل هو استئناف أي وأنت لا تخشى، وقيل: عطف على المجزم والألف جيء بها للإطلاق مراعاة لأواخر الآي كما في قوله تعالى: {فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] {وتَظُنُّونَ باللهِ الظُّنونَا} [الأحزاب: 10] أو هو مجزوم بحذف الحركة المقدرة كما في قوله:
إذا العجوز غضبت فطلق ** ولا ترضاها ولا تملق

وهذا لغة قليلة عند قوم وضرورة عند آخرين فلا يجوز تخرجي التنزيل الجليل الشأن عليه أو لا يليق مع وجود مثل الاحتمالين السابقين أو الأول منهما. والخشية أعظم الخوف وكأنه إنما اختيرت هنا لأن الغرق أعظم من إدراك فرعون وجنوده لما أن ذاك مظنة السلامة، ولا ينافي ذلك أنهم إنما ذكروا أولًا ما يدل على خوفهم منه حيث قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ولذا سورع في إزاحته بتقديم نفيه كما يظهر بالتأمل.