فصل: تفسير الآية رقم (78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (78):

{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)}
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} أي تبعهم ومعه جنوده على أن أتبع عنى تبع وهو متعد إلى واحد والباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال، ويؤيد ذلك أنه قرأ الحسن. وأبو عمرو في رواية فاتبعهم بتشديد التاء، وقرئ أيضًا {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ}، وقيل: أتبع متعد إلى اثنين هنا كما في قوله تعالى: {وأتبعناهم ذُرّيَّتُهُم} [الطور: 21] والثاني مقدر أي فأتبعهم رؤساء دولته أو عقابه، وقيل: نفسه والجار والمجرور في موضع الحال أيضًا، وعن الأزهري أن المفعول الثاني جنوده والباء سيف خطيب أي أتبعهم فرعون جنوده وساقهم خلفهم فكان معهم يحثهم على اللحوق بهم، وجوز أن يكون المفعول الثاني جنوده والباء للتعدية فيكون قد تعدى الفعل إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بالحرف، وأيًا ما كان فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوى ذكره ثقة بغاية ظهوره وإيذانًا بكمال مسارعة موسى عليه السلام إلى الامتثال بالأمر أي ففعل ما أمر به من الإسراءبعبادي وضرب الطريق لهم فاتبعهم فرعون بجنوده.
وزعم بعضهم أن الإيحاء بالضرب كان بعد أن أتبعهم فرعون وترائى الجمعان. والظاهر الأول، روى أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل يريد القلزم وكانوا قد استعاروا من قوم فرعون الحلى والدواب لعيد يخرجون إليه وكانوا ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيفًا ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين، وفي رواية أنهن خرجوا وهم ستمائة ألف وسبعون ألفًا وأخرجوا معهم جسد يوسف عليه السلام لأنه كان عهد إليهم ذلك ودلتهم عجوز على موضعه فقال لها موسى عليه السلام: احتكمي فقالت: أكون معك في الجحنة فاتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وخرج بهم وكان في خيله سبعون ألف أدهم وكانت مقدمته فيما يحكي سبعمائة ألف فارس، وقيل: ألف ألف وخمسمائة ألف فقص أثرهم حتى ترائى الجمعان فعظم فزع بني إسرائيل فضرب عليه السلام بعصاه البحر فانفق اثني عشر فرقًا كل فرق كالطود العظيم فدخلوا ووصل فرعون وجنوده إلى المدخل فرأوا البحر منفلقًا فاستعظموا الأمر فقال فرعون لهم: إنما انفلق من هيبتي فدخل على فرس حصان وبين يديه جبريل عليه السلام على فرس حجر وصاحت الملائكة عليهم اللاسم وكانوا ثلاثة وثلاثين ملكًا أن ادخلوا فدخلوا حتى إذا استكملوا دخولًا خرج موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين ولم يخرج أحد من فرعون وجنوده {فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} أي علاهم منه وغمرهم ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه.
وقيل: غشيهم ما سمعت قصته وليس بذاك فإن مدار التهويل والتفخيم خروجه عن حدود الفهم والوصف لا سماع القصة، والظاهر أن ضميري الجمع لفرعون وجنوده، وقيل: لجنوده فقط للقرب ولأنه ألقى بالساحل ولم يتغط بالبحر كما أشير إليه بقوله تعالى: {فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] وفيه أن الإنجاء بعدما غشيه ما غشى جنوده وشك بنو إسرائيل في هلاكه والقرب ليس بداع قوي، وقيل: الضمير الأول لفرعون وجنوده والثاني لموسى عليه السلام وقومه وفي الكلام حذف أي فنجا موسى عليه السلام وقومه وغرق فرعون وجنوده انتهى وليس بشيء كما لا يخفى. وقرأت فرقة منهم الأعمش {فغشاهم من اليم ما غشاهم} أي غطاهم ماغطاهم فالفعل {أُمَّةً واحدة ولكن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا} أيضًا وترك المفعول زيادة في الإبهام، وقيل: المفعول {مّنَ اليم} أي بعض اليم، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى شأنه وما مفعول؛ وقيل: هو ضمير فرعون والإسناد مجازي لأنه الذي ورطهم للهلكة، ويبعده الإظهار في قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (79):

{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)}
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} أي سلك بهم مسلكًا أداهم إلى الخسران في الدين والدنيا معًا حيث أغرقوا فأدخلوا نارًا {وَمَا هدى} أي وما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية والمراد بذلك التهكم به كما ذكر غير واحد، واعترض بأن التهكم أن يؤتي بما قصد به ضده استعارة ونحوها نحو {إنك لأنت الحليم الرشيد} [هود: 87] إذا كان الغرض الوصف بضد هذين الوصفين، وكونه لم يهد أخبار عما هو كذلك في الواقع.
وأجيب بأن الآمر كذلك ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرًا ثبوت كون زيد عالمًا بطريق الهداية مهتديًا في نفسه ولكنه لم يهد عمرًا وفرعون أضل الضالين في نفسه فكيف يتوهم أنه يهدي غيره، ويحقق ذلك أن الجملة الأولى كافية في الاخبار عن عدم هدايته إياهم بل مع زيادة إضلاله إياهم فإن من لا يهدي قد لا يضل وإذا تحقق إغناؤها في الاخبار على أتم وجه تعين كون الثانية عنى سواه وهو التهكم، وقال العلامة الطيبي: توضيح معنى التهكم أن قوله تعالى: {وَمَا هدى} من باب التلميح وهو إشارة إلى إدعاء اللعين إرشاد القوم في قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 29] فهو كم ادعى دعوى وبالغ فيها فإذا حان وقتها ولم يأت بها قيل له لم تأت بما ادعيت تهكمًا واستهزاء انتهى، ويعلم مما ذكر المغايرة بين الجملتين وأنه لا تكرير، وقيل: المراد وما هداهم في وقت ما ويحصل بذلك المغايرة لأنه لا دلالة في الجملة الأولى على هذا العموم والأول أولى، وقيل: هدى عنى اهتدى أي أضلهم وما اهتدى في نفسه وفيه بعد، وحمل بعضهم الإضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما، ويأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي. وجعلهما عبارة عن الإضلال في البحر والإنجاء منه مما لا يقبله الطبع المستقيم.
واحتج القاضي بالآية على أنه تعالى ليس خالقًا للكفر لأنه تعالى شأنه قد ذم فيها فرعون بإضلاله ومن ذم أحدًا بشيء يذم إذا فعله. وأجيب نع إطراد ذلك.

.تفسير الآية رقم (80):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)}
{مَعِىَ بَنِى إسراءيل} حكاية لما خاطبهم تعالى به بعد إغراق عدوهم وإنجائهم منه لكن لا عقيب ذلك بل بعدما أفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما أفاض.
وقيل: إنشاء خطاب اللذين كانوا منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على معنى أنه تعالى قدمن عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعًا، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ} [طه: 83] إلخ ضرورة استحالة حمله على الإنشاء وكذا السباق فالوجه هو الحكاية بتقدير قلنا عطفًا على {أَوْحَيْنَا} [طه: 77] أي وقلنا يا بني إسرائيل {قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ} فرعون وقومه حيث كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم.
وقرأ حميد {نجيناكم} بتشديد الجيم من غير همزة قبلها وبنون العظمة. وقرأ حمزة. والكسائي. والأعمش. وطلحة {أنجيتكم} بتاء الضمير {عَدُوّكُمْ وواعدناكم جَانِبَ الطور الايمن} بالنصب على أنه صفة المضاف. وقرئ بالجر وخرجه الزمخشري على الجوار نحو هذا جحرضب خرب. وتعقبه أبوحيان بأن الجر المذكور من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرج القراءة عليه وقال: الصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن، وإما لكونه عن يمين من يستقبل الجبل اه.
والحق أن القلة لم تصل إلى جد منع تخريج القراءة لاسيما إذا كانت شاذة على ذلك وتوافق القراءتين يقتضيه، قوله: وإما لكونه إلخ غير صحيح على تقدير أن يكون الطور هو الجبل ولو قال: وإما لكونه عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام لكان صحيحًا، ونصب {جَانِبٍ} على الظرفية بناء على ما نقل الخفاجي عن الراغب. وابن مالك في شرح التسهيل من أنه سمع نصب جنب وما عناه على الظرفية. ومنع بعضهم ذلك لأنه محدود وجعله منصوبًا على أنه مفعول واعدنا على الاتساع أو بتقدير مضاف أي إتيان جانب إلخ. وإلى هذا ذهب أبو البقاء. وإذا كان ظرفًا فالمفعول مقدرًا أي وواعدناكم بواسطة نبيكم في ذلك الجانب إتيان موسى عليه السلام للمناجاة وإنزال التوراة عليه، ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه السلام نظرًا إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم فكأنهم كلهم مواعدون فالمجاز في التسبة. وفي ذلك إيفاء مقام الامتنان حقه ما فيه.
وقرأ حمزة والمذكورون معه آنفًا {وواعدتكم} بتاء الضمير أيضًا. وقرئ {ووعدناكم} من الوعد.
{الايمن وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} الترنجبين والسماني حيث كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعث الجنوب عليهم السماني فيأخذ الواحد منهم ما يكفيه.

.تفسير الآيات (81- 82):

{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}
{كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} أي من لذائذه أو حلالاته على أن المراد بالطيب ما يستطيبه الطبع أو الشرع.
وجوز أن يراد بالطيبات ما جمعت وصفي اللذة والحل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكرهم وإتمامًا للنعمة عليهم، وقرأ من ذكر آنفًا {رزقتكم} وقدم سبحانه نعمة الانجاء من العدو لأنها من باب درء المضار وهو أهم من جلب المنافع ومن ذاق مرارة كيد الأعداء خذلهم الله تعالى ثم أنجاه الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم علم قدر هذه النعمة، نسأل الله تعالى أن يتم نعمه علينا وأن لا يجعل لعدو سبيلًا إلينا، وثنى جلا وعلا بالنعمة الدينية لأنها الأنف في وجه المنافع، وأخر عز وجل النعمة الدنيوية لكونها دون ذلك فتبًا لمن يبيع الدين بالدنيا {رزقناكم وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} أي فميا رزقناكم بالإخلال بشكره وتعدى حدود الله تعالى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على معاصي الله تعالى ومنع الحقوق الواجبة فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي لا يظلم بعضكم بعضًا فيأخذه من صاحبه بغير حق، وقيل: أي لا تدخروا.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {وَلاَ تَطْغَوْاْ} بضم الغين {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى} جواب للنهي أي فيلزمكم غضبي ويجب لكم من حل الدين يحل بكسر الحاء إذا وجب إداؤه وأصله من الحلو وهو في الأجسام ثم استعير لغيرها وشاع حتى صارت حقيقة فيه {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى} أي هلك وأصله الوقوع من علو كالجبل ثم استعمل في الهلاك للزومه له، وقيل: أي وقع في الهاوية وإليه ذهب الزجاج.
وفي بعض الآثار أن في جهنم قصرًا يرمي الكافر من أعلاه فيهوى في جهنم أربعين خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال فذلك قوله تعالى: {فَقَدْ هوى} فيكون عناه الأصلي إذا أريد به فرد مخصوص منه لا بخصوصه.
وقرأ الكسائي {فَيَحِلَّ} بضم الحاء {وَمَن يَحْلِلْ} بضم اللام الأولى وهي قراءة قتادة. وأبي حيوة والأعمش. وطلحة. ووافق ابن عبتبة في {يَحْلِلْ} فضم، وفي الاقناع لأبي على الأهوازي قرأ ابن غزوان عن طلحة {لا يَتْلُو عَلَيْكُمْ} بنون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء وهو من باب لا أرينك هنا، وفي «كتاب اللوامح» قرأ قتادة. وعبد الله بن مسلم بن يسار. وابن وثاب. والأعمش {فَيَحِلَّ} بضم الياء وكسر الحاء من الاحلال ففاعله ضمير الطغيان و{غَضَبِى} مفعوله، وجوز أن يكون هو الفاعل والمفعول محذوف أي العذاب أو نحوه، ومعنى يحل مضموم الحاء ينزل من حل بالبلد إذا نزل كما في الكشاف.
وفي المصباح حل العذاب يحل ويحل هذه وحدها بالكسر والضم والباقي بالكسر فقط، والغضب في البشر ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام، وفي الحديث {اتقوا الغضب فَإِنَّهُ} وإذا وصف الله تعالى به لم يرد هذا المعنى قطعًا وأريد معنى لاثق بشأنه عز شأنه، وقد يراد به الانتقام والعقوبة أو إرادتهما نعوذ بالله تعالى من ذلك، ووصف ذلك بالحلول حقيقة على بعض الاحتمالات ومجاز على بعض آخر، وفي الانتصاف أن وصفه بالحلو لا يتأتى على تقدير أن يراد به إرادة العقوبة ويكون ذلك نزلة قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» على التأويل المعروف أوعبر عن حلول أثر الإرادة بحلولها تعبيرًا عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى: انظر إلى قدرة الله تعالى يعني أثر القدرة لا نفسها {رزقناكم وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى وَإِنّى لَغَفَّارٌ} كثير المغفرة {لّمَن تَابَ} من الشرك على ما روى عن ابن عباس، وقيل: منه ومن المعاصي التي من جملتها الطغيان فيما رزق {وَامَنَ} بما يجب الايمان به. واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما يروى عنه على ذكر الايمان بالله تعالى ولعله من باب الاقتصادر على الأشرف وإلا فالأفيد إرادة العموم مع ذكر التوبة من الشرك {وَعَمِلَ صالحا} أي عملًا مستقيمًا عند الشرع وهو بحسب الظاهر شامل للفرض والنسة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير ذلك بإداء الفرائض {ثُمَّ اهتدى} أي لزم الهدى واستقام عليه إلى الموافاة وهو مروي عن الحبر.
والهدي يحتمل أن يراد به الايمان، وقد صرح بحانه دح المستقيمين على ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} [فصلت: 30].
وقال الزمخشري: الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والايمان والعمل الصالح وأيًا ما كان فكلمة ثم إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الانتهاء أو للدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعلى وأعظم من الشروع كما قيل:
لكل إلى شاو العلى وثبات ** ولكن قليل في الرجال ثبات

وقيل: المراد ثم عمل بالسنة، وأخرج سعيد بن منصور عن الحبر أن المراد من اهتدى علم أن لعمله ثوابًا يجزي عليه، وروي عنه غير ذلك، وقيل: المراد طهر قلبه من الأخلاق الذميمة. كالعجب والحسد. والكبر وغيرها، وقال ابن عطية: الذي يقوى في معنى {ثُمَّ اهتدى} أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل انتهى، ولا يخفى عليك أن هذا يرجع إلى قولنا ثم استقام على الإيمان بما يجب الإيمان به على الوجه الصحيح، وروى الإمامية من عدة طرق عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت فوالله لو أن رجلًا عبد الله تعالى عمره بين الركن والمقام ثم مات ولا يجيء بولايتنا لأكبه الله تعالى في النار على وجهه.
وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعي القول بأنه عز وجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولايتهم إذا ذاك ولم يثبت ذلك في «صحيح الأخبار».
نعم روى الإمامية من خبر جارود بن المنذر العبدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا جارود ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله عز وجل إلى أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا قلت: علام بعثوا؟ قال: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما ثم عرفني الله تعالى بهم باسمائهم» ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أسماءهم واحدًا بعد واحد إلى المهدي وهو خبر طويل يتفجر الكذب منه. ولهم أخبار في هذا المطلب كلها من هذا القبيل فلا فائدة في ذكرها إلا التطويل. والآية تدل على تحقق المغفرة لمن اتصف جموع الصفات المذكورة. وقصارى ما يفهم منها عند القائلين بالمفهوم عدم تحقيقها لمن لم يتصف بالمجموع وعدم التحقق اعم من تحقق العدم فالآية عزل عن أن تكون دليلًا للمعتزلي على تحقق عدم المغفرة لمرتك الكبيرة إذا مات من غير توبة فافهم واحتج بها من قال تجب التوبة عن الكفر أولًا ثم الإتيان بالإيمان ثانيًا لأنه قدم فيها التوبة على الإيمان، واحتج بها أيضًا من قال بعدم دخول العمل الصالح في الإيمان للعطف المقتضى للمغايرة.