فصل: تفسير الآية رقم (125):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (125):

{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)}
{قَالَ} استئناف كما مر {رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} أي في الدنيا كما هو الظاهر، ولعل هذا باعتبار أكثر أفراد من أعرض لأن من أفراده من كان أكمه في الدنيا. والظاهر أن هذا سؤال عن السبب الذي استحق به الحسر أعمى لأنه جهل أو ظن أن لا ذنب له يستحق به ذلك.

.تفسير الآية رقم (126):

{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}
{قَالَ} الله تعالى في جوابه {كذلك أَتَتْكَ ءاياتنا} الكاف مقحمة كما في مثلك لا يبخل وذلك إشارة إلى مصدر أتتك أي مثل ذلك الاتيان البديع أتتك الآيات الواضحة النيرة. وعند الزمخشري لا إقحام وذلك إشارة إلى حشره أعمى أي مثل ذلك الفعل فعلت أنت. وقوله تعالى: {أَتَتْكَ} إلخ جواب سأال مقدر كأنه قيل: يا رب ما فعلت أنا؟ فقيل: أتتك آياتنا {فَنَسِيتَهَا} أي تركتها ترك المنى الذي لا يذكر أصلًا، والمراد فعميت عنها إلا أنه وضع المسبب موضع السبب لأن من عمي عن شيء نسيه وتركه. والإشارة في قوله تعالى: {وكذلك} إلى النسيان المفهوم من نسيتها والكاف على ظاهرها أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا {اليوم تنسى} أي تترك في العمى جزاء وفاقًا، وقيل: الكاف عنى اللام الأجلية كما قيل في قوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] أي ولأجل ذلك النسيان الصادر منك تنسى. وهذا الترك يبقى إلى ما شاء الله تعالى ثم يزال العمى عنه فيرى أهوال القيامة ويشاهد النار كما قال سبحانه: {وَرَأَى المجرمون النار فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] الآية ويكون ذلك له عذابًا فوق العذاب وكذا البكم والصمم يزيلهما الله تعالى عنهم كما يدل عليه قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38].
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الكافر يحشر أولًا بصيرًا ثم يعمى فيكون الأخبار بأنه قد كان بصيرًا إخبارًا عما كان عليه في أول حشره، والظاهر أن ذلك العمى يزول أيضًا، وعن عكرمة أنه لا يرى شيئًا إلا النار، ولعل ذلك أيضًا في بعض أجزاء ذلك اليوم وإلا فكيف يقرأ كتابه، وروي عن مجاهد. ومقاتل. والضحاك. وأبي صالح وهي رواية عن ابن عباس أيضًا أن المعنى نحشره يوم القيامة أعمى عن الحجة أي لا حجة له يهتدي بها. وهو مراد من قال: أعمى القلب والبصيرة، واختار ذلك إبراهيم ابن عرفة وقال كلما ذكر الله سبحانه في كتابه العمى فذمه فإنما يراد به عمى القلب قال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46] وعلى هذا فالمراد بقوله: {وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه: 125] وقد كنت عالما بحجتي بصيرًا بها أحاج عن نفسي في الدنيا. ومنه يعلم اندفاع ما قاله ابن عطية في رد من حمل العمى على عمى البصيرة من أنه لو كان كذلك لم يحس الكافر به لأنه كان في الدنيا أعمى البصيرة ومات وهو كذلك.
وحاصل الجواب عليه إني حشرتك أعمى القلب لا تهتدي إلى ما ينجيك من الحجة لأنك تركت في الدنيا آياتي وحججي وكما تركت ذلك تترك على هذا العمى أبدًا، وقيل: المراد بأعمى متحيرًا لا يدري ما يصنع من الحيل في دفع العذاب كالأعمى الذي يتحير في دفع ما لا يراه.
وليس في الآية دليل كما يتوهم على عد نسيان القرآن أو آية منه كبيرة كما ذهب إليه الإمام الرافعي ويشعر كلام الإمام النووي في الروضة باختياره لأن المراد بنسيان الآيات بعد القول بشمولها آيات القرآن تركها وعدم الإيمان بها. ومن عد نسيان شيء من القرآن كبيرة أراد بالنسيان معناه الحقيقي نعم تجوز أبو شامة شيخ النووي فحمل النسيان في الأحاديث الواردة في ذم نسيان شيء من القرآن على ترك العمل به. وتحقيق هذه المسألة وأن كون النسيان بالمعنى الأول كبيرة عند من قال به مشروط كما قال الجلال البلقيني والزركشي وغيرهما بما إذا كان عن تكاسل وتهاون يطلب من محله وكذا تحقيق حال الأحاديث الواردة في ذلك.
وقرأ حمزة. والكسائي. وخلف {أعمى} بالإمالة في الموضعين لأنه من ذوات الياء. وأمال أبو عمرو في الأول فقط لكونه جديرًا بالتغيير لكونه رأس الآية وحل الوقف.

.تفسير الآية رقم (127):

{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)}
{وكذلك} أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للجنابة {نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ} بالانهماك في الشهوات {وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ} بل كذبها وأعرض عنها، والمراد تشبيه الجازء العام بالجزاء الخاص {وَلَعَذَابُ الاخرة} على الاطلاق أو عذاب النار {أَشَدُّ مِنَ عَذَابِ الاولى وأبقى} أي أكثر بقاء منه أو أشد وأبقى من ذلك ومن عذاب القبر أو منهما ومن الحشر على العمي.

.تفسير الآية رقم (128):

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)}
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من قوله تعالى: {وكذلك نَجْزِى} [طه: 127] الآية والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام. واستعمال الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللازم فلا حاجة إلى المفعول أو لأنها عنى التبيين والمفعول الثاني محذوف. وأيًا ما كان فالفاعل ضميره تعالى وضمير {لَهُمْ} للمشركين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى أغفلوا فلم يفعل الله تعالى لهم الهداية أو فلم يبين عز وجل لهم العبر.
وقوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} إما بيان بطريق الالتفات لتلك الهداية أو كالتفسير للمعفول المحذوف، وقيل: فاعل {يَهْدِ} ضميره صلى الله عليه وسلم، وقيل: ضمير الاهلاك المفهوم من قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا} والجملة مفسره له، وقيل: الفاعل محذوف أي النظر والاعتبار ونسب ذلك إلى المبرد، وففيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين، وقال الزمخشري: الفاعل جملة {كَمْ أَهْلَكْنَا} إلخ ووقوع الجلمة فاعلًا مذهب كوفي، والجمهور على خلافه لكن رجح ذلك هنا بأن التعليل فيما بعد يقتضيه. ورجح كون الفاعل ضميره تعالى شأنه بأنه قد قرأ فرقة منهم ابن عباس. والسلمي {أَفَلَمْ} بالنون. واختار بعضهم عليه كون الفعل منزلًا منزلة اللازم وجملة {لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} بيانًا لتلك الهداية، وبعض آخر كونه متعديًا والمفعول مضمون الجملة أي أفلم يبين الله تعالى لهم مضمون هذا الكلام، وقيل: الجملة سادة مسد المفعول والفعل معلق عنها، وتعقب بأن {كَمْ} هنا خبرية وهي لا تعلق عن العمل وإنما التي تعلق عنه كم الاستفهامية على ما نص عليه أبو حيان في البحر لكن أنت تعلم أنه إذا كان مدار التعليق الصدارة كما هو الظاهر فقد صرح ابن هشام بأن لكل من كم الاستفهامية وكم الخبرية ما ذكر ورد في المغنى قول ابن عصفور: {ءانٍ كَمْ} في الآية فاعل يهد بأن لها الصدر ثم قال: وقوله إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول ملكت كم عبيد فيخرجها عن الصدرية خطأ عظيم إذ خرج كلام الله تعالى شأنه على هذه اللغة انتهى. وهو ظاهر في أنه قائل بأن كم هنا خبرية ولها الصدر. نعم نقل الحوفي عن بعضهم أنه رد القائل بالفاعلية بأنها استفهامية لا يعمل ما قبلها فيها والظاهر خبريتها وهي مفعول مقدم لأهلكنا و{مّنَ القرون} متعلق حذوف وقع صفة لمميزها أي كن قرن كائن من القرون {يَمْشُونَ فِي مساكنهم} حال من {القرون} أو من مفعول {أَهْلَكْنَا} أي أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم.
واختار في البحر كونه حالًا من الضمير في {لَهُمْ} مؤكدًا للإنكار والعامل في «يهد» أي أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين في مساكن من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر. وثمود. وقوم لوط مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى الشام وغيره، وتوهم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة للقرون وليس كذلك، وقرأ ابن السميقع «يمشون» بالتشديد والبناء للمفعول أي يمكنون في المشي {إِنَّ فِي ذَلِكَ} تعليل للإنكار وتقرير للهداية مع عدم اهتدائهم. {وَذَلِكَ} اشارة إلى مضمون قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا} إلخ، وما فيه من معنى البعد للاشعار ببعد منزلته وعلو شأنه في بابه.
{لاَيَاتٍ} كثيرة عظيمة ظاهرات الدالالة على الحق، وجوز أن تكون كلمة في تجريدية كما فيل في قوله عز وجل: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} {لاِوْلِى النهى} أي لذوي العقول الناهية عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه هؤلاء المنكر عليهم من الكفر بآيات الله تعالى والتعامي عنها وغير ذلك من فنون المعاصي.

.تفسير الآية رقم (129):

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)}
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} كلام مستأنف سيق لبيان حكمة عدم وقوع ما يشعر به قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [طه: 128] الآية من أن يصيبهم مثل ما أصاب القرون المهلكة والكلمة السابقة هي العدة بتأخير عذاب الاستئصال عن هذه الامة إما إكرامًا للنبي صلى الله عليه وسلم كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] أو لأن من نسلهم من يؤمن أو لحكمة أخرى الله تعالى أعلم بها أي لولا الكلمة السابقة والعدة بتأخير العذاب {لَكَانَ} أي عقاب جناياتهم {لِزَامًا} أي لازمًا لهؤلاء الكفرة بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة لزوم ما نزل باضرابهم من القرون السالفة، واللزام إما مصدر لازم كالخصام وصف به للمبالغة أو اسم آلة كحزام وركاب والوصف به للمبالغة أيضًا كلزاز خصم عنى ملح على خصمه.
وجوز أبو البقاء كونه جمع لازم كقيام جمع قائم وهو خلاف الظاهر {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطف على {كَلِمَةَ} كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة. والسدى أي لولا العدة بتأخير عذابهم والأجل المسمى لأعمارهم لما تأخر عذابهم أصلًا، وفصله عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جواب لولا، والاشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآي الكريم، وقيل: أي ولولا أجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة.
وتعقب بأنه يتحد حينئذ بالكلمة السابقة فلا يصح إدراج استقلال كل منهما بالنفي في عداد نكت الفصل. وأجيب بأنه لا يلزم من تأخير العذاب عن الدينا أن يكون له وقت لا يتأخر عنه ولا يتخلف فلا مانع من الاستقلال. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أن الأجل المسمى هي الكلمة التي سبقت، وقيل: الأجل المسمى للعذاب هو يوم بدر. وتعقب بأنه ينافي كون الكلمة هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة. وأجيب بأن المراد من ذلك العذاب هو عذاب الاستئصال ولم يقع يوم بدر وجوز الزمخشري كون العطف على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلًا للفصل بالخبر منزلة التأكيد أي لكان الأخذ العاجل والأجل المسمى لازمين لهم كدأب عاد. وثمود. وأضرابهم، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل، وأنت تعلم أن هذا لا يتسنى إذا كان {لزمًا} اسم ءالة للزوم التثنية حينئذ.

.تفسير الآية رقم (130):

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)}
{مُّسَمًّى فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال وأنه لازم لهم البتة {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} من كلمات الكفر فإن علمه صلى الله عليه وسلم بأنهم معذبون لا محالة مما يليه ويحمله على الصبر، والمراد به عدم الاضطراب لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة {وَسَبّحْ} ملتبسًا {بِحَمْدِ رَبّكَ} أي صل وأنت حامد لربك عز وجل الذي يبلغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقه سبحانه: {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} أي صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} أي صلاة المغرب، والظاهر أن الظرف متعلق بسبح.
وقد أخرج «تفسير التسبيح» في هذين الوقتين بما ذكر الطبراني. وابن عساكر. وابن مردويه عن جرير مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الحاكم عن فضالة بن وهب الليثي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: «حافظ على العصرين قلت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها»، وقيل: المراد بالتسبيح قبل غروبا صلاتا الظهر والعصر لأن وقت كل منهما قبل غروبها وبعد زوالها وجمعهما لمناسبة قوله تعالى: {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس}، وأنت تعلم أن قبل الغروب وإن كان باعتبار معناه اللغوي صادقًا على وقت الظهر ووقت العصر إلا أن الاستعمال الشائع فيه وقت العصر، وقوله تعالى: {وَمِنْ ءانَاء اليل} أي من ساعاته جمع إني وأنو بالياء والواو وكسر الهمزة وإنا بالكسر والقصر و{ءانَاء} بالفتح والمد ولم يشتهر اشتهار الثلاثة الأول، وذكره من يوثق به من المفسرين، وقال الراغب في مفرداته: قال الله تعالى: {غَيْرَ ناظرين إناه} [الأحزاب: 53] أي وقته، والاناه إذا كسر أوله قصر وإذا فتح مد نحو قول الحطيئة:
وآنيت العشاء إلى سهيل ** أو الشعري فطار بي الاناء

ثم قال: ويقال ءانيت الشيء إيناء أي أخرته عن أوانه ويانيت تأخرت اه، وفي «المصباح» آنيته بالفتح والمد أخرته، والاسم إناء بوزن سلام قيل منصوب على الظرفية ضمر، وقوله بحانه {فَسَبّحْ} عطف عليه أي قم بعض آناء الليل فسبح وهو كما ترى، وقيل: منصوب بسبح على نسق {وإياى فارهبون} [البقرة: 40]، والفاء على الأول عاطفة وعلى الثاني مفسرة، وقيل: إنه معمول {فَسَبّحْ}، والفاء زائدة فائدتها الدلالة على لزوم ما بعدها لما قبلها.
وذكر الخفاجي أنه معمول لما ذكر من غير حاجة لدعوى زيادة الفاء لأنها لا تمنع عمل ما بعدها فيما قبلها كما صرح به النحاة، والمراد من التسبيح في بعض آناء الليل صلاة المغرب وصلاة العشاء وللاعتناء بشأنهما لم يكتف في الأمر بفعلهما بالفعل السابق بأن يعطف {مِنْ ءانَاء اليل} على أحد الظرفين السابقين من غير ذكر فسبح وللاهتمام بشأن ءاناء الليل وأمنيازها على سائر الأوقات بأمور خاصية وعامية قدم ذكرها على الأمر ولم يسلك بها مسلك ما تقدم.
وقوله تعالى: {وَأَطْرَافَ النهار} عطف على محل قوله سبحانه: {مِنْ ءانَاء اليل} وقيل: على قوله عز وجل: {قَبْلَ طُلُوعِ} والمراد من التبيح أطراف النهار على ما أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن قتادة صلاة الظهر واختاره الجبائي، ووجه إطلاق الطرف على وقتها بأنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير منه، وجمعه باعتبار النصفين أو لأن تعريف النهار للجنس الشامل لكل نهار فيكون الجمع باعتبار تعدد النهار وأن لكل طرفا كذا قيل. وأورد على ذلك أن البداية والنهاية فيه ليست على وتيرة واحدة لأن كون ذلك نهاية باعتبار أن النصف الأول انتهى عنده وهو خارج عنه وبداية باعتبار أن النصف الثاني ابتدأ منه وهو داخل فيه، ولا شك في بعض كون الجمع ثل هذا الاعتبار على أنه لابد مع ذلك من القول بأن أقل الجمع اثنان، وأيضًا أن إطلاق الطرف على طرف أحد نصفيه تكلف فإنه ليس طرفًا له بل لنصفه.
وقيل: هذا تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إيذانًا باختصاصهما زيد مزية، والمراد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها وبالطرف ما يلاصق أول الشيء وآخره، والاتيان بلفظ الجمع مع أن المراد إثنان لا من اللبس إذ النهار ليس له إلا طرفان، ونظيره قول العجاج:
ومهمهين فدفدين مرتين ** ظهراهما مثل ظهور الترسين

والمرجح المشاكلة لآناء الليل، واختار هذا من أدخل الظهر فيما قبل الغروب، وفيه أن الطرف حقيقة فيما ينتهي به الشيء وهو منه ويطلق على أوله وآخره وإطلاقه على الملاصق المذكور ليس بحقيقة، وأجيب بأنه سائغ شائع وإن لم يكن حقيقة؛ وجوز أن يكون تكريرًا لصلاتي الصبح والعصر ويراد بالنهار ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وبالطرف الأول، والآخر بحسب العرف وإذا أريد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها يبعد هذا التجويز إذ لا يكون الطرفان حينئذ على وتيرة واحدة، وقيل: هو أمر بالتطوع في الساعات الأخيرة للنهار وفيه صرف الأمر عن ظاهره مع أن في كون الساعات الأخيرة للنهار زمن تطوع باللاصة كلامًا لا يخفى على الفقيه.
وقال أبو حيان: الظاهر أن قوله تعالى: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} أمر بالتسبيح مقرونًا بالحمد وحينئذ إما أن يراد اللفظ أي قل سبحانه الله والحمد لله أو يراد المعنى أي نزهه سبحانه عن السوء وأثن عليه بالجميل.
وفي خبر ذكره ابن عطية «من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه» وقال أبو مسلم: لا يبعد حمل ذلك على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات وعلى ذلك حمله أيضًا العز بن عبد السلام وجعل الباء في قوله سبحانه: {بِحَمْدِ رَبّكَ} للآلة، وقال: إن ذلك لتعيين سلب صفات النقص لأن من سلب شيئًا فقد أثبت ضده وأشداد صفات النقص صفات الكمال فمن نزهه سبحانه فقد أثبت صفات الكمال، وجوز في إضافة الحمد إلى الرب أن تكون من إضافة المصدر إلى الفاعل أو من إضافة المصدر إلى المفعول أو من إضافة الاختصاص بأن يكون الحمد عنى المحامد؛ ثم استحسن الأول لأن الحمد الحق الكامل حمد الله تعالى نفسه، والمتبادر جعل الباء للملابسة والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول.
واختار الإمام حمل التسبيح على التنزيه من الشرك، وقال: إنه أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه سبحانه صبره أولًا على ما يقولون من التكذيب وإظهار الكفر والشرك والذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه تعالى عن قولهم: حتى يكون مظهرًا لذلك وداعيًا إليه. واعترض بأنه لا وجه حينئذ لتخصيص هذه الأوقات بالذكر، وأجيب بأن المراد بذكرها الدلالة على الدوام كما في قوله تعالى: {بالغداة والعشى} [الأنعام: 52] مع أن لبعض الأوقات مزية لأمر لا يعلمه إلا الله تعالى. ورد بأنه يأباه من التبعيضية في قوله سبحانه: {مِنْ أَمَّنْ هُوَ} على أن هذه الدلالة يكفيها أن يقال: قبل طلوع الشمس وبعده لتناوله الليل والنهار فالزيادة تدل على أن المراد خصوصية الوقت، ولا يخفى أن قوله سبحانه: {مِنْ أَمَّنْ هُوَ} متعلق بسبح الثاني فليكن الأول للتعميم، والثاني لتخصيص البعض اعتناء به، نعم يرد أن التنزيه عن الشرك لا معنى لتخيصه إلا إذا أريد به قول: سبحانه الله مرادًا به التنزيه عن الشكر، وقيل: يجوز أن يكون المراد من الحمد الصلاة والظرف متعلق به فتكون حكمة التخصيص ظاهرة كذا في «الحواشي الشهابية». وقد عورض ما قاله الإمام بأن الأنسب بالأمر بالصبر الأمر بالصلاة ليكون ذلك إرشادًا لما تصمنه قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] وأيضًا الأمر الآتي أوفق بحمل الأمر بالتسبيح على الأمر بالصلاة وقد علمت أن الآثار تقتضي ذلك ثم إنه يجوز أن يراد بالطرف طائفة من الشيء فإنه أحد معانيه كما في الصحاح والقاموس وإذا كان تعريف النهار للجنس على هذا لم يبق الكلام فيما روى عن قتادة كما كان فتدبر.
{لَعَلَّكَ ترضى} قيل: هو متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك من الثواب. واستدل به على عدم الوجوب على الله تعالى، وجوز أن يكون متعلقًا بالأمر بالصبر والأمر بالصلاة، والمراد {لَعَلَّكَ ترضى} في الدنيا بحصول الظفر وانتشار أمر الدعوة ونحو ذلك، وقرأ أبو حيوة. وطلحة. والكسائي. وأبو بكر. وإبان. وعصمة. وأبو عمارة عن حفص. وأبو زيد عن المفضل. وأبو عبيد. ومحمد بن عيسى الأصفهاني {ترضى} على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يرضيك ربك.