فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (25):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} استئناف مقرر لما سبق من آي التوحيد وقد يقال إن فيه تعميمًا بعد تخصيص إذا أريد من {ذِكْرٍ مّنَ قَبْلِى} [الأنبياء: 24] الكتب الثلاثة، ولما كان {مِن رَّسُولٍ} عامًا معنى فكان هناك لفظ ومعنى أفرد على اللفظ في نوحي إليه ثم جمع على المعنى في {فاعبدون} ولم يأت التركيب فاعبدني وهذا بناء على أن {فاعبدون} داخل في الموحى وجوز عدم الدخول على الأمر له صلى الله عليه وسلم ولأمته، وقرأ أكثر السبعة {يُوحَى} على صيغة الغائب مبنيًا للمفعول، وأيًا ما كان فصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورة الوحي.

.تفسير الآية رقم (26):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)}
{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا} حكاية جناية فريق من المشركين لإضهار بطلانها وبيان تنزهه سبحانه عن ذلك إثر بيانه تنزهه جل وعلا عن الشركاء على الإطلاق وهم حي من خزاعة قالوا الملائكة بنات الله سبحانه. ونقل الواحدي أن قريشًا وبعض العرب جهينة وبني سلامة. وخزاعة. وبني مليح قالوا ذلك.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن قتادة قال: قالت اليهود إن الله عز وجل صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة فنزلت والمشهور الأول. والآية مشنعة على كل من نسب إليه سبحانه ذلك كالنصارى القائلين عيسى ابن الله واليهود القائلين عزير ابن الله تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن جميع ما سواه تعالى مربوبًا له تعالى لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة {سبحانه} أي تنزهه بالذات تنزهه اللائق به على أن السبحان مدر سبح أي بعد أن أسبحه تسبيحه على أنه علم للتسبيح وهو مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحه. وقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ} إضراب وإبطال لما قالوا كأنه قيل: ليست الملائكة كما قالوا بل هم عباد من حيث أنهم مخلوقون له تعالى فهم ملكه سبحانه والولد لا يصح تملكه، وفي قوله تعالى: {مُّكْرَمُونَ} أي مقربون عندهم تعالى تنبيه على منشأ غلطهم وقرأ عكرمة مكرمون بالتشديد.

.تفسير الآية رقم (27):

{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)}
{لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} أي لا يقولون شيئًا حتى يقولوه تعالى أو يأمرهم به كما هو ديدن العبيد المؤدبين ففيه تنبيه على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره عز وجل وتأدبهم معه تعالى، والأصل لا يسبق قولهم قوله تعالى فأسند السبق إليهم منسوبًا إليه تعالى تنزيلًا لسبق قولهم قوله سبحانه منزلة سبقهم إياه عز وجل لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبق المعرض به للذين يقولون ما لم يقله تعالى، وجعل القول محل السبق وآلته التي يسبق بها وأنيبت اللام عن الإضافة إلى الضمير على ماذهب إليه الكوفيون للاختصاص والتجافي عن التكرار. وقرئ {لاَ يَسْبِقُونَهُ} بضم الباء الموحدة على أنه من باب المغالبة يقال سابقني فسبقته وأسبقه ويلزم فيه ضم عين المضارع ما لم تكن عينه أو لامه ياء، وفيه مزيد استهجان للسبق وإشعار بأن من سبق قوله تعالى فقد تصدى لمغالبته تعالى في السبق وزيادة تنزيه عما نفى عنهم ببيان أن ذلك عندهم نزلة الغلبة بعد المغالبة فإنى يتوهم صدوره عنهم {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} بيان لتبعيتهم له تعالى في الأعمال إثر بيان تبعيتهم له سبحانه في الأقوال كأنه قيل هم بأمره يعملون لا بغير أمره تعالى أصلًا بأن يعملوا من تلقاء أنفسهم، فالحصر المستفاد من تقديم الجار بالنبسة إلى غير أمره تعالى لا إلى أمر غيره سبحانه:

.تفسير الآية رقم (28):

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)}
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} استئناف وقع تعليلًا لما قبله وتمهيدًا لما بعده كأنه قيل إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه سبحانه لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث أنهم يعلمون ذلك {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} الله تعالى أن يشفع له.
وهو كما أخرج ابن جرير. وابن المنذر. والبيهقي في البعث. وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قال لا إله إلا الله وشفاعتهم الاستغفار، وهي كما فيالصحيح تكون في الدنيا والآخرة ولا متمسك للمعتزلة في الآية على أن الشفاعة لا تكون لأصحاب الكبائر فإنها لا تدل على أكثر من أن لا يشفعوا لمن لا ترتضي الشفاعة له مع أن عدم شفاعة الملائكة لا تدل على عدم شفاعة غيرهم {وَهُمْ} مع ذلك {مّنْ خَشْيَتِهِ} أي بسبب خوف عذابه عز وجل: {مُشْفِقُونَ} متوقعون من إمارة ضعيفة كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله تعالى؛ فمن تعليلية والكلام على حذف مضاف، وقد يراد من خشيته تعالى ذلك فلا حاجة إليه.
وقيل: يحتمل أن يكون المعنى أنهم يخشون الله تعالى ومع ذلك يحذرون من وقوع تقصير في خشيتهم وعلى هذا تكون {مِنْ} صلة لمشفقون، وفرق بين الخشية والاشفاق بأن الأول خوف مشوب بتعظيم ومهابة ولذلك خص به العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] والثاني خوف مع اعتناء ويعدي بمن كما يعدى الخوف وقد يعدى بعلى لاحظة الحنو والعطف، وزعم بعضهم أن الخشية هاهنا مجاز عن سببها وأن المراد من الاشفاق شدة الخوف أي وهم من مهابته تعالى شديدو الخوف، والحق أنه لا ضرورة لارتكاب المجاز، وجوز أن تكون المعنى وهم خائفون من خوف عذابه تعالى على أن من صلة لما بعدها وإضافة خشية إلى المضاف المحذوف من إضافة الصفة إلى الموصوف أي خائفون من العذاب المخوف، ولا يخفى ما قيه من التكلف المستغنى عنه، ثم ان هذا الاشفاق صفة لهم دنيا وأخرى كما يشعر به الجملة الاسمية، وقد كثرت الأخبار الدالة على شدة خوفهم، ومن ذلك ما أخرج ابن أبي حاتم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري بي «مررت بجبريل عليه السلام وهو بالملأ الأعلى ملقى كالحلس البالي من خشية الله تعالى».

.تفسير الآية رقم (29):

{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}
{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ} أي من الملائكة عليهم السلام، وقيل من الخلائق، والأول هو الذي يقتضيه السياق إذ الكلام في الملائكة عليهم السلام وفي كونهم عزل عما قالوه في حقهم، والمراد ومن يقل منهم على سبيل الفرض {إِنّى إله مّن دُونِهِ} أي متجاوزًا إياه تعالى: {فَذَلِكَ} أي الذي فرض قوله ما ذكر فرض محال {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} كسائر المجرمين ولا يغنى عنه ما سبق من الصفات السنية والأفعال المرضية. وعن الضحاك. وقتادة عدم اعتبار الفرض وقالا: إن الآية خاصة بإبليس عليه اللعنة فإنه دعا إلى عبادة نفسه وشرع الكفر، والمعول عليه ما ذكرنا، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما يتوهم أولئك الكفرة ما لا يخفي.
وقرأ أبو عبد الرحمن المقري {نَجْزِيهِ} بضم النون أراد نجزئه بالهمز من أجزاني كذا كفاني ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء {كذلك نَجْزِى الظالمين} مصدر مؤكد لمضمون ما قبله أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها ويتعدون أطوارهم، والقصر المستفاد من التقديم يعتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي لا جزاء أنقص منه.

.تفسير الآية رقم (30):

{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)}
{أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ} تجهيل لهم بتقصيرهم عن التدبر في الآيات التكوينية الذالة على عظيم قدرته وتصرفه وكون جميع ما سواه مقهورًا تحت ملكوته على وجه ينتفعون به ويعلمون أن من كان كذلك لا ينبغي أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه مما لا يضر ولا ينفع، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر. وقرأ ابن كثير. وحميد. وابن ميصن بغير واو، والرواية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا {ءانٍ السموات والأرض كَانَتَا} الضمير للسموات والأرض، والمراد من السموات طائفتها ولذا ثنى الضمير ولم يجمع، ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض *أَن تَزُولاَ} [فاطر: 40] وكذا قول الأسود بن يعفر:
إن المنية والحئوف كلاهما ** دون المحارم يرقبان سوادي

وأفرد الخبر أعني قوله تعالى: {رَتْقًا} ولم يثن لأنه مصدر، والحمل إما بتأويله شتق أو لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أي ذاتي رتق، وهو في الأصل الضم والالتحام خلقة كان أم صنعة، ومنه الرتقاء الملتحمة محل الجماع. وقرأ الحسن. وزيد بن علي. وأبو حيوة. وعيسى {رَتْقًا} بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنقض والنقض فكان قياسه أن يثني هنا ليطابق الاسم فقال الزمخشري: هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئًا رتقًا وشيء اسم جنس شامل للقليل والكثير فيصح الاخبار به عن المثنى كالجمع، ويحسنه أنه في حالة الرتقية لا تعدد فيه.
وقال أبو الفضل الرازي: الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسمًا عنى المفعول والساكن مصدرًا وقد يكونان مصدرين، والأولى هنا كونهما كذلك وحينئذ لا حاجة إلى ما قاله الزمخشري في توجيه الأخبار، وقد أريد بالرتق على ما نقل عن أبي مسلم الأصفهاني حالة العدم إذ ليس فيه ذوات متميزة فكان السموات والأرض أمر واحد متصل متشابه وأريد بالفتق وأصله الفصل في قوله تعالى: {ففتقناهما} الايجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض به فيكون كحقوله تعالى: {فَاطِرَ السموات والأرض} [الأنعام: 14] بناء على أن الفطر الشق وظاهره نفي تمايز المعدومات، والذي حققه مولانا الكوراني في جلاء الفهوم وذب عنه حسب جهده أن المعدوم الممكن متميز في نفس الأمر لأنه متصور ولا يمكن تصور الشيء إلا بتميزه عن غيره وإلا لم يكن بكونه متصورًا أولى من غيره ولأن بعض المعدومات قد يكون مرادًا دون بعض ولولا التميز بينها لما عقل ذلك إن القصد إلى إيجاد غير المتعين ممتنع لأن ما ليس بتعين في نفسه لم يتميز القصد إليه عن القصد إلى غيره، وقد يقال على هذا: يكفي في تلك الإرادة عدم تمايز السموات والأرض في حالة العدم نظرًا إلى الخارج المشاهد، وأيًا ما كان فمعنى الآية ألم يعلموا أن السموات والأرض كانتا معدومتين فأوجدناهما، ومعنى علمهم بذلك تمكنهم من العلم به بأدنى نظر لأنهما ممكنان والممكن باعتبار ذاته وحدها يكون معدومًا واتصافه بالوجود لا يكون إلا من واجب الوجود.
قال ابن سينا في المقالة الثامنة من «إلهيات الشفاء»: سائر الأشياء غير واجب الوجود لا تستحق الوجود بل هي في أنفسها ومع قطع اضافتها إلى الواجب تستحق العدم ولا يعقل أن يكون وجود السموات والأرض مع أمكانهما الضروري عن غير علة، وأما ما ذهب إليه ذيمقرطيس من أن وجود العالم إنما كان بالاتفاق وذلك لأن مباديه أجرام صغار لا تتجزأ لصلابتها وهي مبثوثة في خلاء غير متناه وهي متشاكلة الطبائع مختلفة الأشكال دائمة الحركة فاتفق أن تضامت جملة منها واجتمعت على هيئة مخصوصة فتكون منها هذا العالم فضرب من الهذيان، ووافقه عليه على ما قيل ابناذقلس لكن الأول زعم أن تكون الحيوان والنبات ليس بالاتفاق وهذا زعم أن تكون الإجرام الاسطقسية بالاتفاق أيضًا إلا أن ما اتفق إن كان ذا هيئة احتماعية على وجه يصلح للبقاء والنسل بقي وما اتفق إن لم يكن كذلك لم يبق، وهذا الهذيان بعيد من هذا الرجل فانهم ذكروا أنه من رؤساء يونان كان في زمن داود عليه السلام وتلقى العلم منه واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة، ثم ان وجودهما عن العلة حادث بل العالم المحسوس منه وغيره حادث حدوثان زمانيًا باجماع المسلمين وما يتوهم من بعض عبارات بعض الصوفية من أنه حادث بالذات قديم بالزمان مصروف عن ظاهره إذ هم أجل من أن يقولوا به لما أنه كفر. والفلاسفة في هذه المسألة على ثلاثة آراء فجماعة من الأوائل الذين هم أساطين من الملطية وساميًا صاروا إلى القول بحدوث موجودات العالم مباديها وبسائطها ومركباتها وطائفة من الأتينينية وأصحاب الرواق صاروا إلى قدم مباديها من العقل والنفس والمفارقات والبسائط دون المتوسطات والمركبات فإن المبادي عندهم فوق الدهر والزمان فلا يتحقق فيها حدوث زماني بخلاف المركبات التي هي تحت الدهر والزمان ومنعوا كون الحركات سرمدية، ومذهب أرسطو ومن تابعه من تلامذته أن العالم قديم وأن الحركات الدورية سرمدية، وهذا بناء على المشهور عنه وإلا فقد ذكر في الاسفار أن أساطين الحكمة المعتبرين عند الطائفة ثمانية ثلاثة من الملطيين ثالس. وانكسيمائس. واغاثاذيمون، وخمسة من اليونانيين ابناذقلس. وفيثغورس. وسقراط. وأفلاطون. وأرسطو وكلهم قائلون بما قال به الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من حدوث العالم بجميع جواهره وأعراضه وأفلاكه وأملاكه وبسائطه ومركباته، ونقصل عن كل كلمات تؤيد ذلك، وكذا نقل عن غير أولئك من الفلاسفة وطال الكلام في هذا المقام، ولولا مخافة السآمة لنقلت ذلك ولعلي أنقل شيئًا منه في محله الأليق به إن شاء الله تعالى، وجاء عن ابن عباس في رواية عكرمة.
والحسن وقتادة. وابن جبير أن السموات والأرض كانتا شيئًا واحدًا ملتزقتين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماء إلى حيث هي واقر الأرض. وقال كعب: خلق الله تعالى السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحًا فتوسطهما ففتقهما. وعن الحسن خلق الله تعالى الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة القهر عليها دخان ملتصق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا ففتقناهما} فجعل سبع سموات، وكذلك الأرض كانت مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين، والمراد من العلم على هذه الأقوال التمكن منه أيضًا إلا أن ذلك ليس بطريق النظر بل بالاستفسار من علماء أهل الكتاب الذين كانوا يخالطونهم ويقبلون أقوالهم؛ وقيل بذلك أو طالعة الكتب السماوية ويدخل فيها القرآن وإن لم يقبلوه لكونه معجزة في نفسه وفي ذلك دغدغة لا تخفى.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. وأبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمران رجلًا أتاه فسأله عن الآية فقال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فاخبرني وكان ابن عباس فذهب إليه فسأله فقال: نعم كانت السموات رتقًا لا تمطر وكانت الأرض رَتْقًا لا تنبت فلما خلق الله تعالى للأرض أهلًا فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال ابن عمر: الآن علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علمًا صدق ابن عباس هكذا كانت، وروي عنه ما هو عنى ذلك جماعة منهم الحاكم وصححه وإليه ذهب أكثر المفسرين.
وقال ابن عطية: هو قول حسن يجمع العبرة والحجة وتعديد النعمة ويناسب ما يذكر بعد والرتق والفتق مجازيان عليه كما هما كذلك على الوجه الأول، والمراد بالسماوات جهة العلو أو سماء الدنيا، والجمع باعتبار الآفاق أو من باب ثوب أخلاق، وقيل هو على ظاهره ولكل من السموات مدخل في المطر، والمراد بالرؤية العلم أيضًا وعلم الكفرة بذلك ظاهر.
وجوز أن تكون الرؤية بصرية وجعلها علمية أولى، ومن البعيد ما نقل عن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة والفتق افتراقهما المقتضى لا مكان العمارة وتميز الفصول بل لا يكاد يصح على الأصول الإسلامية التي أصلها السلف الصالح كما لا يخفى.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَىّ} عطف على {ءانٍ السموات} إلخ ولا حاجة إلى تكلف عطفه على فتقنا، والجعل عنى الخلق المتعدى لمفعول واحد، ومن ابتدائية والماء هو المعروف أي خلقنا من الماء كل حيوان أي متصف بالحياة الحقيقية.
ونقل ذلك عن الكلبي. وجماعة ويؤيده قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء} [النور: 45] ووجه كون الماء مبدأ ومادة للحيوان وتخصيصه بذلك أنه أعظم مواده وفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ولابد من تخصيص العام لأن الملائكة عليهم السلام وكذا الجن أحياء وليسوا مخلوقين من الماء ولا محتاجين إليه على الصحيح.
وقال قتادة: المعنى خلقنا كل نام من الماء فيدخل النبات ويراد بالحياة النمو أو نحوه، ولعل من زعم أن في النبات حسا وشعورًا أبقى الحياة على ظاهرها، وقال قطرب. وجماعة: المراد بالماء النطفة ولابد من التخصيص بما سوى الملائكة عليهم السلام والجن أيضًا بل بما سوى ذلك والحيوانات المخلوقة من غير نطفة كأكثر الحشرات الأرضية. ويجوز أن يكون الجعل عنى التصيير المتعدى لمفعولين وهما هنا {كُلٌّ وَمِنْ الماء} وتقديم المفعول الثاني للاهتمام به ومن اتصالية كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا من دد ولا الدد مني» والمعنى صيرنا كل شيء حي متصلًا بالماء أي مخالطًا له غير منفك عنه، والمراد أنه لا يحيا دونه، وجوز أبو البقاء على الوجه الأول أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من {كُلٌّ} وجعل الطيبي من على هذا بيانية تجريدية فيكون قد جرد من الماء الحي مبالغة كأنه هو، وقرأ حميد {حَيًا} بالنصب على أنه صفة {كُلٌّ} أو مفعول ثان لجعل، والظرف متعلق بما عنده لا بحيا، والشيء مخصوص بالحيوان لأنه الموصوف بالحياة، وجوز تعميمه للنبات.
وأنت تعلم أن من الناس من يقول: إن كل شيء من العلويات والسفليات حي حياة لائقة به وهم الذين ذخبوا إلى أن تسبيح الأشياء المفاد بقوله تعالى: {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] قالى لا حالي، وإذا قيل بذلك فلابد من تخصيص الشيء أيضًا إذ لم يجعل من الماء كل شيء حيا؛ ولم أقف على مخالف في ذلك منا، نعم نقل عن ثالس الملطي وهو أول من تفلسف لطية أن أصل الموجودات الماء حيث قال: الماء قابل كل صورة ومنعه أبدعت الجواهر كلها من السماء والأرض انتهى.
ويمكن تخريجه على مشرب صوفي بأن يقال إنه أراد بالماء الوجود الانبساطي المعبر عنه في اصطلاح الصوفية بالنفس الرحماني، وحينئذ لو جعلت الإشارة في الآية إلى ذلك عندهم لم يبعد {أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده مع ظهور ما يوجبه حتمًا من الآيات، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكار أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون.