فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (44):

{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} إلخ إضراب على ما في الكشف عن الضرب السابق من الكلام إلى وعيدهم وأنهم من أهل الاستدراج وأخرجهم عن الخطاب عدم مبالاة بهم، وفي العدول إلى الإشارة عن الضمير إشارة إلى تحقيرهم. وفي غير كتاب أنه إضراب عما توهموه من أن ما هم فيه من الكلاءة من جهة أن لهم آلهة تمنعهم من تطرق البأس إليهم كأنه قيل دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم بل ما هم فيه من الحفظ منا لا غير حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السراء لكونهم من أهل الاستدراج والانهماك فيما يؤديهم إلى العذاب الأليم.
ويحتمل أن يكون إضرابًا عما يدل عليه الاستئناف السابق من بطلان توهمهم كأنه قيل دع ما يبين بطلان توهمهم من أن يكون لهم آلهة تمنعهم واعلم أنهم إنما وقعوا في ورطة ذلك التوهم الباطل بسبب أنا منعناهم بما يشتهون حتى طالت مدة عمارة أبدانهم بالحياة فحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا وأعرضوا عن الحق واتبعوا ما سولت لهم أنفسهم وذلك طمع فارغ وأمل كاذب {أَفَلاَ يَرَوْنَ} أي ألا ينظرون فلا يرون {أَنَّا نَأْتِى الأرض} أي أرض الكفرة أو أرضهم {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بتسليط المسلمين عليها وحوز ما يحوزونه منها ونظمه في سلك ملكهم، والعدول عن أنا ننقص الأرض من أطرافها إلى ما في النظم الجليل لتصوير كيفية نقصها وانتزاعها من أيديهم فإنه بإتيان جيوش المسلمين واستيلائهم، وكان الأصل يأتي جيوش المسلمين لكنه أسند الإتيان إليه عز وجل تعظيمًا لهم وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاه، وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين.
والآية كما قدمنا أول السورة مدنية وهي نازلة بعد فرض الجهاد فلا يرد أن السورة مكية والجهاد فرض بعدها حتى يقال: إن ذلك إخبار عن المستقبل أو يقال: إن المراد ننقصها بإذهاب بركتها كما جاء في رواية عن ابن عباس أو بتخريب قراها وموت أهلها كما روي عن عكرمة، وقيل ننقصها وت العلمخاء وهذا إن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنه وإلا فالأظهر نظرًا إلى المقام ما تقدم ويؤيده قوله تعالى: {أَفَهُمُ الغالبون} على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم، وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها.

.تفسير الآية رقم (45):

{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)}
{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم} بعد ما بين من جهته تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ونهاية سوء حالهم عند إتيانه ونعى عليهم جهلهم بذلك وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار وغير ذلك من مساويهم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم: إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة {بالوحى} الصادق الناطق بإثباتها وفظاعة ما فيها من الأهوال أي إنما شأني أن أنذركم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية فإن الإيمان برهاني لا عياني.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء} إما من تتمة الكلام الملقن تذييل له بطريق الاعتراض قد أمر صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم توبيخًا وتقريعًا وتسجيلًا عليهم بكمال الجهل والعناد، وإما من جهته تعالى على طريقة قوله سبحانه: {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] كأنه قيل قل لهم ذلك وهم عزل عن السماع، واللام في الصم إما للجنس المنتظم لهؤلاء الكفرة انتظامًا أوليًا وإما للعهد فوضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالتصامم، وتقييد نفي السماع بقوله تعالى: {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} مع أن الصم لا يسمعون مطلقًا لبيان كمال شدة الصمم كا أن إيثار الدعاء الذي هو عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك، فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئات دالة عليه فإذا لم يسمعوها يكن صممهم في غاية لم يسمع ثلها، وقيل لأن الكلام في الإنذار ألا ترى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى} وفيه دغدغة لا تخفى.
وقرأ ابن عامر. وابن جبير عن أبي عمرو. وابن الصلت عن حفص {تُسْمِعُ} بالتاء عن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم من الاسماع {الصم الدعاء} بنصبهما على المفعولية، وهذه القراءة تؤيد احتمال كون الجملة من جهته تعالى. وقرئ {يَسْمَعُ} بالياء على الغيبة وإسناد الفعل إلى ضميره صلى الله عليه وسلم {الصم الدعاء} بنصبهما على ما مر. وذكر ابن خالويه أنه قرئ {يَسْمَعُ} مبنيًا للمفعول {الصم} بالرفع على النيابة عن الفاعل {الدعاء} بالنصب على المفعولية. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو {يَسْمَعُ} بضم ياء الغيبة وكسر الميم {الصم} بالنصب على المفعولية {الدعاء} بالرفع على الفاعلية بيسمع، وإسناد الإسماع إليه من باب الاتساع والمفعول الثاني محذوف كأنه قيل ولا يسمع الصم الدعاء شيئًا وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (46):

{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)}
{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ} بيان لسرعة تأثرهم من مجيء نفس العذاب إثر بيان عدم تأثرهم من مجيء خبره على نهج التوكيد القسمي أي وبالله لئن مسهم أدنى شيء من عذابه تعالى: {لَيَقُولُنَّ ياويلنا قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين} أي ليدعن على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفن عليها بالظلم السابق، وفي {مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ} ثلاث مبالغات كما قال الزمخشري وهي كما في الكشف ذكر المس وهو دون النفوذ ويكفي في تحققه إيصال ما، وما في النفح من معنى النزارة فإن أصله هبوب رائحة الشيء ويقال نفحته الدابة ضربته بحد حافرها ونفحه بعطية رضخه وأعطاه يسيرًا، وبناء المرة وهي لأقل ما ينطلق عليه الاسم، وجعل السكاكي التنكير رابعتها لما يفيده من التحقير، واستفادة ذلك إن سلمت من بناء المرة ونفس الكلمة لا يعكر عليه كما زعم صاحب الإيضاح.
واعترض بعضهم المبالغة في المس بأنه أقوى من الإصابة لما فيه من الدلالة على تأثر حاسة الممسوس ومما ذكر في الكشف يعلم اندفاعه لمن مسته نفحة عناية، ولعل في الآية مبالغة خامسة تظهر بالتأمل؛ ثم الظاهر أن هذا المس يوم القيامة كما رمزنا إليه، وقيل في الدنيا بناءً على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من تفسير النفحة بالجوع الذي نزل كة وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (47):

{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}
{وَنَضَعُ الموازين القسط} بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه.
وجعل الطيبي الجملة حالًا من الضمير في {لَّيَقُولَنَّ} [الأنبياء: 46] بتقدير ونحن نضع، وهي في الخلو عن العائد نحو جئتك والشمس طالعة، ويجوز أن يقال: أقيم العموم في {نَفْسٌ} الآتي بعد مقام العائد وهو كما ترى أي ونحضر الموازين العادلة التي توزن بها بها صحائف الأعمال كما يقضي بذلك حديث السجلات والبطاقة التي ذكره مسلم وغيره أو نفس الأعمال كما قيل، وتظهر بصور جوهرية مشرفة إن كانت حسنات ومظلمة إن كانت سيئات، وجمع الموازين ظاهر في تعدد الميزان حقيقة وقد قيل به فقيل لكل أمة ميزان، وقيل لكل مكلف ميزان، وقيل للمؤمن موازين بعدد خيراته وأنواع حسناته، والأصح الأشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال كفتاه كإطباق السموات والأرض لصحة الإخبار بذلك، والتعدد اعتباري وقد يعبر عن الواحد بما يدل على الجمع للتعظيم كقوله تعالى: {رَبّ ارجعون لَّعَلّى أَعْلَمُ صالحا} [المؤمنون: 99، 100] وقوله:
فارحموني يا إله محمد

وإحضار ذلك تجاه العرش بين الجنة والنار ويأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظرًا إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه كما في نوادر الأصول، وهل هو مخلوق اليوم أو سيخلق غدًا؟.
قال اللقاني: لم أقف على نص في ذلك كما لم أقف على نص في أنه من أي الجواهر هو اه، وما روي من أن داود عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال تعالى: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة نص في أنه مخلوق اليوم لكن لا أدري حال الحديث فلينقر.
وأنكر المعتزلة الميزان بالمعنى الحقيقي وقالوا: يجب أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك على رعاية العدل والإنصاف، ووضع الموازين عندهم تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال، وروي هذا عن الضحاك. وقتادة. ومجاهد. والأعمش ولا داعي إلى العدول عن الظاهر، وإفراد القسط مع كونه صفة الجمع لأنه مصدر ووصف به مبالغة، ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي ذوات القسط، وجوز أبو حيان أن يكون مفعولًا لأجله نحو قوله:
لا أقعد الجبن عن الهيجاء

وحينئذٍ يستغني عن توجيه إفراده، وقرئ {القصط} بالصاد، واللام في قوله تعالى: {القسط لِيَوْمِ القيامة} عنى في كما نص عليه ابن مالك وأنشد لمجيئها كذلك قول مسكين الدارمي:
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم ** كما قد مضى من قبل عاد وتبع

وهو مذهب الكوفيين ووافقهم ابن قتيبة أي نضع الموازين في يوم القيامة التي كانوا يستعجلونها؛ وقال غير واحد: هي للتعليل أي لأجل حساب يوم القيامة أو لأجل أهله وجعلها بعضهم للاختصاص كما هو أحد احتمالين في قولك جئت لخمس ليال خلون من الشهر، والمشهور فيه وهو الاحتمال الثاني أن اللام عنى في.
{فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس {شَيْئًا} من الظلم فلا ينقص ثوابها الموعود ولا يزاد عذابها المعهود. فالشيء منصوب على المصدرية والظلم هو عناه المشهور.
وجوز أن يكون {شَيْئًا} مفعولًا به على الحذف والإيصال والظلم بحاله أي فلا تظلم في شيء بأن تمنع ثوابًا أو تزاد عذابًا، وبعضهم فسر الظلم بالنقص وجوز في {شَيْئًا} المصدرية والمفعولية من غير اعتبار الحذف والإيصال أي فلا تنقص شيئًا من النقص أو شيئًا من الثواب، ويفهم عدم الزيادة في العقاب من إشارة النص واللزوم المتعارف، واختير ما لا يحتاج فيه إلى الإشارة واللزوم. والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين.
ورا يفهم من ذلك أن كل أحد توزن أعماله، وقال القرطبي: الميزان حق ولا يكون في حق كل أحد بدليل الحديث الصحيح فيقال: «يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن» الحديث وأحرى الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم فَيُؤْخَذُ بالنواصى والاقدام} [الرحمن: 41] وقوله تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105] وقوله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله سبحانه من الفريقين.
وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صبًا، وظواهر أكثر الآيات والأحاديث تقتضي وزن أعمال الكفار، وأول لها ما اقتضى ظاهره خلاف ذلك وهو قليل بالنسبة إليها، وعندي لا قاطع في عموم الوزن وأميل إلى عدم العزوم، ثم إنه كما اختلف في عمومه بالنسبة إلى أفراد الأنس اختلف في عمومه بالنسبة إلى نوعي الإنس والجن، والحق أن مؤمني الجن كمؤمني الإنس وكافرهم ككافرهم كما بحثه القرطبي واستنبطه من عدة آيات، وبسط اللقاني القول في ذلك في شرحه الكبير للجوهرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الخلاف في كيفية الوزن {وَإِن كَانَ} أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين، وقيل الضمير راجع لشيئًا بناءً على أن المعنى فلا تظلم جزاء عمل من الأعمال {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} أي مقدار حبة كائنة من خردل فالجار والمجرور متعلق حذوف وقع صفة لحبة، وجوز أن يكون صفة لمثقال والأول أقرب، والمراد وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وأبو جعفر. وشيبة. ونافع {مِثْقَالَ} بالرفع على أن كان تامة {أَتَيْنَا بِهَا} أي جئنا بها وبه قرأ أبي، والمراد أحضرناها، فالباء للتعدية والضمير للمثقال وأنث لاكتساب التأنيث من المضاف إليه والجملة جواب إن الشرطية، وجوز أن تكون إن وصلية والجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر.
وقرأ ابن عباس. ومجاهد. وابن جبير. وابن أبي إسحاق. والعلاء بن سيابة. وجعفر بن محمد. وابن شريح الأصبهاني {ءاتَيْنَا} دة على أنه مفاعلة من الإتيان عنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه تعالى بالأعمال وأتاهم بالجزاء، وقيل هو من الإيتاء وأصله أأتينا فأبدلت الهمزة الثانية ألفًا، والمراد جازينا أيضًا مجازًا ولذا عدى بالباء ولو كان المراد أعطينا كما قال بعضهم لتعدى بنفسه كما قال ابن جني وغيره. وقرأ حميد {أثبنا} من الثواب {بِهَا وكفى بِنَا حاسبين} قيل أي عادين ومحصين أعمالهم على أنه من الحساب مرادًا به معناه اللغوي وهو العد وروي ذلك عن السدي، وجوز أن يكون كناية عن المجازاة. وذكر اللقاني أن الحساب في عرف الشرع توقيف الله تعالى عباده إلا من استثنى منهم قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيرًا كانت أو شرًا تفصيلًا لا بالوزن، وأنه كما ذكر الواحدي وغيره وجزم به صاحب كنز الإسرار قبل الوزن، ولا يخفى أن في الآية إشارة ما إلى أن الحساب المذكور فيها بعد وضع الموازين فتأمل، ونصب الوصف إما على أنه تمييز أو على أنه حال واستظهر الأول في البحر.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] إلخ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين بحب الدنيا عن الاستعداد للأخرى فغفلوا عن إصلاح أمرهم وأعرضوا عن طاعة ربهم وغدت قلوبهم عن الذكر لاهية وعن التفكير في جلاله وجماله سبحانه ساهية، وفي قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] إشارة إلى سوء حال بعض المنكرين على أولياء الله تعالى فإن نفوسهم الخبيثة الشيطانية تأبى اتباعهم لما يرون من المشاركة في العوارض البشرية {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظالمة} [الأنبياء: 11] فيه إشارة إلى أن في الظلم خراب العمران فمتى ظلم الإنسان خرب قلبه وجر ذلك إلى خراب بدنه وهلاكه بالعذاب، وفي قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] إشارة إلى أن مداومة الذكر سبب لانجلاء الظلمة عن القلب وتطهره من دنس الأغيار بحيث لا يبقى فيه سواه سبحانه ديار {وَمَنْ عِندَهُ} [الأنبياء: 19] قيل هم الكاملون الذين في الحضرة فإنهم لا يتحركون ولا يسكنون إلا مع الحضور ولا تشق عليهم عبادة ولا تلهيهم عنه تعالى تجارة بواطنهم مع الحق وظواهرهم مع الخلق أنفاسهم تسبيح وتقديس وهو سبحانه لهم خير أنيس، وفي قوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] إشارة إلى أن الكامل لا يختار شيئًا بل شأنه التفويض والجريان تحت مجاري الأقدار مع طيب النفس، ومن هنا قيل إن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا بره لم يتوف حتى ترقى عن مقام الإدلال إلى التفويض المحض، وقد نص على ذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه «الجواهر واليواقيت».
{وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَىّ} [الأنبياء: 30] قد تقدم ما فيه من الإشارة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} قال الجنيد قدس سره: من كانت حياته بروحه يكون مماته بذهابها ومن كانت حياته بربه تعالى فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة على الحقيقة {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] قيل أي بالقهر واللطف والفراق والوصال والإدبار والإقبال والجهل والعلم إلى غير ذلك، ولا يخفى أنه كثيرًا ما يمتحن السالك بالقبض والبسط فينبغي له التثبت في كل عما يحطه عن درجته، ولعل فتنة البسط أشد من فتنة القبض فليتحفظ هناك أشد تحفظ {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 41] قال بعض الصوفية: الموازين متعددة فللعاشقين ميزان وللوالهين ميزان وللعاملين ميزان وهكذا، ومن ذلك ميزان للعارفين توزن به أنفاسهم ولا يزن نفسًا منها السموات والأرض.
وذكروا أن في الدنيا موازين أيضًا وأعظم موازينها الشريعة وكفتاه الكتاب والسنة، ولعمري لقد عطل هذا الميزان متصوفة هذا الزمان أعاذنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلال أنه عز وجل المتفضل بأنواع الإفضال.