فصل: تفسير الآية رقم (68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (68):

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)}
{قَالُواْ} أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وضاقت بهم الحيل وهذا ديدن المبطل المحجوج إذا بهت بالحجة وكانت له قدرة يفزع إلى المناصبة {حَرّقُوهُ} فإن النار أشد العقوبات ولذا جاء لا يعذب بالنار إلا خالقها {وانصروا ءالِهَتَكُمْ} بالانتقام لها {إِن كُنتُمْ فاعلين} أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرًا مؤزرًا فاختاروا له ذلك وإلا فرطتم في نصرتها وكأنكم لم تفعلوا شيئًا ما فيها، ويشعر بذلك العدول عن إن تنصروا آلهتكم فحرقوه إلى ما في «النظم الكريم»، وأشار بذلك على المشهور ورضي به الجميع نمروذ بن كنعان بن سنحاريب بن نمروذ بن كوس بن حام بن نوح عليه السلام.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر فقال: أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار؟ قلت: لا قال: رجل من أعراب فارس يعني الأكراد ونص على أنه من الأكراد ابن عطية، وذكر أن الله تعالى خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، واسمه على ما أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن شعيب الجباري هيون، وقيل: هدير. وفي البحر أنهم ذكروا له اسمًا مختلفًا فيه لا يوقف منه على حقيقة، وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتًا كالحظيرة بكوثى قرية من قرى الأنباط في حدود بابل من العراق وذلك قوله تعالى: {قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} [الصافات: 97] فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يومًا فأوقدوا نارًا عظيمة لا يكاد يمر عليها طائر في أقصى الجو لشدة وهجها فلم يعلموا كيف يلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه، وقيل: صنعه الكردي الذي أشار بالتحريق ثم خسف به ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه في المنجنيق مقيدًا مغلولًا فصاحت ملائكة السماء والأرض إلهنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم عليه السلام وأنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته فقال جل وعلا: أن استغاث بأحد منكم فلينصره وأن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فإنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فأتاه خازن الرياح وخازن المياه يستأذنانه في إعدام النار فقال عليه السلام لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل، وروي عن أبي بن كعب قال: حين أوثقوه ليلقوه في النار قال عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ثم رموا به فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا قال: جبريل عليه السلام فاسأل ربك فقال: حسبي من سؤال علمه بحالي، ويروى أن الوزغ كان ينفخ في النار، وقد جاء ذلك في رواية البخاري.
وفي البحر ذكر المفسرون أشياء صدرت عن الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط والله تعالى أعلم بذلك، فلما وصل عليه السلام الحظيرة جعلها الله تعالى ببركة قوله عليه السلام روضة، وذلك قوله سبحانه وتعالى:

.تفسير الآية رقم (69):

{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)}
{قُلْنَا ياذا نَّارٍ كُونِى بَرْدًا وسلاما على إبراهيم} أي كوني ذات برد وسلام أي ابردي بردًا غير ضار، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه أحمد وغيره: لو لم يقل سبحانه: {وسلاما} لقتله بردها.
وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته تعالى مأسورة مطاوعة وإقامة كوني ذات برد مقام ابردي ثم حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وقيل: نصب {سَلاَمًا} بفعله أي وسلمنا سلامًا عليه، والجملة عطف على {قُلْنَا} وهو خلاف الظاهر الذي أيدته الآثار. روي أن الملائكة عليهم السلام أخذوا بضبعي إبراهيم عليه السلام فاقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا وثاقه كما روي عن كعب، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يومًا أو خمسين يومًا، وقال عليه السلام: ما كنت أطيب عيشًا مني إذ كنت فيها، قال ابن إسحاق: وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم عليهما السلام يؤنسه، قالوا: وبعث الله عز وجل جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه، وقال جبريل عليه السلام: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي، ثم أشرف نمروذ ونظر من صرح له فرآه جالسًا في روضة والملك قاعد إلى جنبه والنار محيطة به فنادى يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال إبراهيم عليه السلام: نعم قال: هل تخشى إن نمت فيها أن تضرك؟ قال: لا قال: فقم فاخرج منها فقام عليه السلام يمشي فيها حتى خرج منها فاستقبله نمروذ وعظمه، وقال له: يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعدًا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظل أرسله إلى ربي ليؤنسني فيها فقال: يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانًا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال له إبراهيم عليه السلام: إنه لا يقبل الله تعالى منك ما كنت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ستة عشرة سنة، وفي بعض الآثار أنهم لما رأوه عليه السلام لم يحترق قالوا: إنه سحر النار فرموا فيها شيخًا منهم فاحترق، وفي بعضها أنهم لما رأوه عليه السلام سالمًا لم يحرق منه غير وثاقه قال هاران أبو لوط عليه السلام: إن النار لا تحرقه لأنه سحرها لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق تبن وأوقدوا تحته فطارت شرارة إلى لحية هارون فأحرقته، وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن صرد وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا لوط قال وكان عمه: إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني فأرسل الله تعالى عنقًا من النار فأحرقه، والأخبار في هذه القصة كثيرة لكن قال في البحر: قد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم عليه السلام، والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه عليه السلام ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه عليه السلام بردًا وسلامًا.
ثم الظاهر أن الله تعالى هو القائل لها {كُونِى بَرْدًا} إلخ وأن هناك قولًا حقيقة، وقيل القائل جبرائيل عليه السلام بأمره سبحانه، وقيل قول ذلك مجاز عن جعلها باردة، والظاهر أيضًا أن الله عز وجل سلبها خاصتها من الحرارة والإحراق وأبقى فيها الإضاءة والإشراق، وقيل إنها انقلبت هواءً طيبًا وهو على هذه الهيئة من أعظم الخوارق، وقيل كانت على حالها لكنه سبحانه جلت قدرته دفع أذاها كما ترى في السمندر كما يشعر به قوله تعالى: {على إبراهيم} وذلك لأن ما ذكر خلاف المعتاد فيختص بمن خص به ويبقى بالنسبة إلى غيره على الأصل لا نظرًا إلى مفهوم اللقب إذ الأكثرون على عدم اعتباره. وفي بعض الآثار السابقة ما يؤيده، وأيًا ما كان فهو آية عظيمة وقد يقع نظيرها لبعض صلحاء الأمة المحمدية كرامة لهم لمتابعتهم النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وما يشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره من الفسقة الذين الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفارًا فقيل إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح ولا يبعد أن تكون كفرًا وإن كان معها ما لا كفر فيه، وقد ذكر بعضهم أنهم يقولون عند ذلك تلسف تلسف هيف هيف أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من شر ما خلق أقسمت عليك يا أيتها النار أو أيها السلاح بحق حي حلي ونور سبحي ومحمد صلى الله عليه وسلم أن لا تضري أو لا تضر غلام الطريقة، ولم يكن ذلك في زمن الشيخ الرفاعي قدس سره العزيز فقد كان أكثر الناس اتباعًا للسنة وأشدهم تجنبًا عن مظان البدعة وكان أصحابه سالكين مسلكه متشبثين بذيل اتباعه قدس سره ثم طرأ على بعض المنتسبين إليه ما طرأ، قال في «العبر»: قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ قدس سره وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التاتار العراق من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه فنعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم انتهى.
والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطًا لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه فكثير منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف يا شيخ أحمد يا رفاعي أو يا شيخ فلان لشيخ أخذ منه الطريق ويدخل النار ولا يتأثر من دون تلاوة شيء أصلًا، والأكثر منهم إذا قرأ الأسماء على النار ولم تضرب له الدفوف ولم يحصل له تغير حال لم يقدر على مس جمرة، وقد يتفق أن يقرأ أحدهم الأسماء وتضرب له الدفوف وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر، والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف واستغاثوا شايخهم وعربدوا يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون، وقد رأيت منهم من يأخذ زق الخمر ويستغيث بمن يستغيث ويدخل تنورًا كبيرًا تضطرم فيه النار فيقعد في النار فيشرب الخمر ويبقى حتى تخمد النار فيخرج ولم يحترق من ثيابه أو جسده شيء، وأقرب ما يقال في مثل ذلك: إنه استدراج وابتلاء، وأما أن يقال: إن الله عز وجل أكرم حضرة الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره بعدم تأثر المنتسبين إليه كيفما كانوا بالنار ونحوها من السلاح وغيره إذا هتفوا باسمه أو اسم منتسب إليه في بعض الأحوال فبعيد بل كأني بك تقول بعدم جوازه، وقد يتفق ذلك لبعض المؤمنين في بعض الأحوال إعانة له، وقد يأخذ بعض الناس النار بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلي بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلى بها فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة.
هذا واستدل بالآية من قال: إن الله تعالى أودع في كل شيء خاصة حسا اقتضته حكمته سبحانه فليس الفرق بين الماء والنار مثلًا جرد أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق ونحوه عند النار والري ونحوه عند الماء بل أودع في هذا خاصة الري مثلًا وفي تلك خاصة الإحراق مثلًا لكن لا تحرق هذه ولا يروى ذاك إلا بإذنه عز وجل فإنه لو لم يكن أودع في النار الحرارة والإحراق ما قال لها ما قال. ولا قائل بالفرق فتأمل.

.تفسير الآية رقم (70):

{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}
{وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا} مكرًا عظيمًا في الإضرار به ومغلوبيته {فجعلناهم الاخسرين} أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفار نور الحق قولًا وفعلًا برهانًا قاطعًا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل وموجبًا لارتفاع درجته عليه السلام واستحقاقهم لأشد العذاب، وقيل جعلهم الأخسرين من حيث أنه سبحانه سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم وسلط على نمروذ بعوضة أيضًا فبقيت تؤذيه إلى أن مات لعنه الله تعالى، والمعول عليه التفسير الأول.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)}
{ونجيناه وَلُوطًا} وهو على ما تقدم ابن عمه، وقيل: هو ابن أخيه وروي ذلك في «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ضمن {نجيناه} معنى أخرجناه فلذا عدى بإلى في قوله سبحانه: {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين} وقيل: هي متعلقة حذوف وقع حالًا أي منتهيًا إلى الأرض فلا تضمين، والمراد بهذه الأرض أرض الشام، وقيل: أرض مكة، وقيل: مصر والصحيح الأول، ووصفها بعموم البركة لأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيها وانتشرت في العالم شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية ولم يقل التي باركناها للمبالغة بجعلها محيطة بالبركة، وقيل: المراد بالبركات النعم الدنيوية من الخصب وغيره، والأول أظهر وأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام، روي أنه عليه السلام خرج من العراق ومعه لوط وسارة بنت عمه هاران الأكبر وقد كانا مؤمنين به عليه السلام يلتمس الفرار بدينه فنزل حران فمكث بها ما شاء الله تعالى. وزعم بعضهم أن سارة بنت ملك حران تزوجها عليه السلام هناك وشرط أبوها أن لا يغيرها عن دينها والصحيح الأول، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب، وفي الآية من مدح الشام ما فيها، وفي الحديث: «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم» أخرجه أبو داود.
وعن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لأهل الشام» فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «لأن الملائكة عليهم السلام باسطة أجنحتها عليها» أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وأما العراق فقد ذكر الغزالي عليه الرحمة في باب المحنة من الاحياء اتفاق جماعة من العلماء على ذمة وكراهة سكناه واستحباب الفرار منه ولعل وجه ذلك غني عن البيان فلا ننقب فيه البنان.