فصل: تفسير الآية رقم (79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (79):

{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)}
{ففهمناها سليمان} عطف على {يَحْكُمَانِ} [الأنبياء: 78] فإنه في حكم الماضي كما مضى.
وقرأ عكرمة {فافهمناها} بهمزة التعدية والضمير للحكومة أو الفتيا المفهومة من السياق. روى أنه كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل وكانت قد تبتلت وكان لها جاريتان جميلتان فقالت أحدهما للأخرى: قد طال علينا البلاء أما هذه فلا تريد الرجال ولا نزال بشر ما كنا لها فلو أنا فضحناها فرجمت فصرنا إلى الرجال فأخذا ماء البيض فأتياها وهي ساجدة فكشفتا عنها ثوبها ونضحتاه في دبرها وصرختا انها قد بغت وكان من زنى فيهم حدّه الرجم فرفعت إلى داود وماء البيض في ثيابها فأراد رجمها فقال سليمان: ائتوا بنار فإنه إن كان ماء الرجل تفرق وإن كان ماء البيض اجتمع فأتى بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الرجم فعطف عليه داود عليه السلام فأحبه جدًا فاتفق أن دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما: إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلًا فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم فقال: كيف قضى بينكما أبي؟ فأخبراه فقال: غير هذا أرفق بالجانبين فسمعه داود عليه السلام فدعاه فقال له: بحق النبوة والابوه إلا أخبرتني بالذي هو أرفق فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان ثم يترادا فقال: القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ومال كثير إلى أن حكمهما عليهما السلام كان بالاجتهاد وهو جائز على الأنبياء عليهم السلام كما بين في الأصول وبذلك أقول فإن قول سليمان عليه السلام غير هذا أرفق، ثم قوله: أرى أن تدفع إلخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليه السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره بداء وحرم عليه كتمه، مع أن الظاهر أنه عليه السلام لم يكن نبيًا في ذلك السن ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضًا كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد، وفي الكشف أن القول بأن كلا الحكمين عن اجتهاد باطل لأن حكم سليمان نقض حكم داود عليهما السلام والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد البتة فدل على أنهما جميعًا حكمًا بالوحي، ويكون ما أوحى به لسليمان عليه السلام ناسخًا لحكم داود عليه السلام أو كان حكم سليمان وحده بالوحي، وقوله تعالى: {شاهدين ففهمناها} لا يدل على أن ذلك اجتهاد.
وتعقب بأنه إن أراد بعدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد عدم نقضه باجتهاد غيره حتى يلزم تقليده به فليس ما نحن فيه، وإن أراد عدم نقضه باجتهاد نفسه ثانيًا وهو عبارة عن تغير اجتهاده لظهور دليل آخر فهو غير باطل بدليل أن المجتهد قد ينقل عنه في مسألة قولان كمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه القديم والجديد ورجوع كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى آراء بعضهم وهم مجتهدون، وقيل: يجوز أن يكون أوحى إلى داود عليه السلام أن يرجع عن اجتهاده ويقضي بما قضى به سليمان عليه السلام عن اجتهاد، وقيل: إن عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد من خصائص شريعتنا، على أنه ورد في بعض الأخبار أن داود عليه السلام لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان عليه السلام ما سمع، وممن اختار كون كلا الحكمين عن اجتهاد شيخ الإسلام مولانا أبو السعود قدس سره ثم قال: بل أقول والله تعالى أعلم.
إن رأي سليمان عليه السلام استحسان كما ينبئ عنه قوله: أرفق بالجانبين ورأى داود عليه السلام قياس كما أن العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى المجني عليه أو يفديه ويبيعه في ذلك أو يفديه عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه.
وقد روى أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت، وأما سليمان عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك من الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزول الضرر الذي آتاه من قبله كما قال بعض أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدًا فأبق منه إنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق ترادًا انتهى.
وأما حكم المسألة في شريعتنا فعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لا ضمان إذا لم يكن معها سائق أو قائد لما روى الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم: «رجح العجماء جبار» ولا تقييد فيه بليل أو نهار، وعند الشافعي يجب الضمان ليلًا لا نهارًا لما في السنن من أن ناقة البراء دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى أهل المواشي بحفظها بالليل.
وأجيب بأن في الحديث اضطرابًا، وفي رجال سنده كلامًا، مع أنه يجوز أن يكون البراء أرسلها كما يجوز في هذه القصة أن يكون كذلك فلا دليل فيه {وَكُلًا} من داود وسليمان {ءاتَيْنَا} ـه {حُكْمًا وَعِلْمًا} كثيرًا ومنه العلم بطريق الاجتهاد لا سليمان عليه السلام وحده، فالجملة لدفع هذا التوهم وفيها دلالة على أن خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهدًا، وقيل: إن الآية دليل على أن كل مجتهد في مسألة لا قاطع فيها مصيب فحكم الله تعالى في حقه وحق مقلده ما أدى إليه اجتهاده فيها ولا حكم له سبحانه قبل الاجتهاد وهو قول جمهور المتكلمين منا كالأشعري.
والقاضي، ومن المعتزلة كأبي الهذيل. والجبائي وأتباعهم، ونقل عن الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم القول بتصويب كل مجتهد والقول بوحدة الحق وتخطئة البعض، وعد في الأحكام الأشعري ممن يقول كذلك. ورد بأن الله تعالى خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة بقوله سبحانه: {ففهمناها سليمان} وذلك يدل على عدم فهم داود عليه السلام ذلك فيها وإلا لما كان التخصيص مفيدًا. وتعقبه الآمدي بقوله: ولقائل أن يقول: إن غاية ما في قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} تخصيصه عليه السلام بالتفهيم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود عليه السلام إلا بطريق المفهوم وليس بحجة وإن سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكمًا بالنص حكمًا واحدًا ثم نسخ الله تعالى الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود عليهما السلام فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه، والذي يدل على هذا قوله تعالى: {وَكُلًا ءاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} ولو كان أحدهما مخطئًا لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكمًا وعلمًا وأن سلمنا أن حكمهما كان مختلفًا لكن يحتمل أنهما حكمًا بالاجتهاد مع الأذن فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به حقًا متعينًا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان عليه السلام بسبب ذلك، وإن سلمنا أن داود عليه السلام كان مخطئًا في تلك الواقعة غير أنه كان فيها نص اطلع عليه سليمان دون داود، ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص انتهى.
وأكثر الأخبار تساعد أن الذي ظفر بحكم الله تعالى في هذه الواقعة هو سليمان عليه السلام، وما ذكر لا يخلو مما فيه نظر فانظر وتأمل {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال} شروع في بيان ما يختص بكل منهما عليهما السلام من كراماته تعالى إثر ذكر الكرامة العامة لهما عليهما السلام {يُسَبّحْنَ} يقدسن الله تعالى بلسان القال كما سبح الحصا في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه الناس، وكان عند الأكثرين يقول: سبحان الله تعالى، وكان داود عليه السلام وحده يسمعه على ما قاله يحيى بن سلام، وقيل: يسمعه كل أحد، وقيل: بصوت يظهر له من جانبها وليس منها وهو خلاف الظاهر وليس فيه من إظهار الكرامة ما في الأول بل إذا كان هذا هو الصدا فليس بشيء أصلًا؛ ودونه ما قيل إن ذلك بلسان الحال، وقيل: {يُسَبّحْنَ} عنى يسرن من السباحة.
وتعقب خالفته للظاهر مع أن هذا المعنى لم يذكره أهل اللغة ولا جاء في آية أخرى وأو خبر سير الجبال معه عليه السلام.
وقيل: إسناد التسبيح إليهن مجاز لأنها كانت تسير معه فتحمل من رآها على التسبيح فأسند إليها وهو كما ترى.
وتأول الجبائي. وعلي بن عيسى جعل التسبيح عنى السير بأنه مجاز لأن السير سبب له فلا حاجة إلى القول بأنه من السباحة ومع هذا لا يخفى ما فيه، والجملة في موضع الحال من {الجبال} أو استئناف مبين لكيفية التسخير و{مَّعَ} متعلقة بالتسخير، وقال أبو البقاء: بيسبحن وهو نظير قوله تعالى: {فَضْلًا ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} [سبأ: 10] والتقديم للتخصيص ويعلم منه ما في حمل التسبيح على التسبيح بلسان الحال وعلى ما يكون بالصدا {والطير} عطف على {الجبال} أو مفعول معه، وفي الآثار تصريح بأنها كانت تسبح معه عليه السلام كالجبال. وقرئ {والطير} بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات، وقيل: على العطف على الضمير في {يُسَبّحْنَ} ومثله جائز عند الكوفيين، وقوله تعالى: {وَكُنَّا فاعلين} تذييل لما قبله أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعًا عندكم.

.تفسير الآية رقم (80):

{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)}
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} أي عمل الدرع وأصله كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت:
البس لكل حالة لبوسها ** أما نعيمها وإما بوسها

وقيل: هو اسم للسلاح كله درعًا كان أو غيره، واختاره الطبرسي وأنشد للهذلي يصف رمحًا:
ومعي لبوس للبئيس كأنه ** روق بجبهة ذي نعاج محفل

قال قتادة: كانت الدروع قبل ذلك صفائح فأول من سردها وحلقها داود عليه السلام فجمعت الخفة والتحصين، ويروى أنه نزل ملكان من السماء فمرا به عليه السلام فقال أحدهما للآخر: نعم الرجل داود إلا أنه يأكل من بيت المال فسأل الله تعالى أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدرع. وقرئ {لَبُوسٍ} بضم اللام {لَكُمْ} متعلق حذوف وقع صفة للبوس، وجوز أبو البقاء تعلقه بعلمنا أو بصنعة.
وقوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ} متعلق بعلمنا أو بدل اشتمال من {لَكُمْ} بإعادة الجار مبين لكيفية الاختصاص والمنفعة المستفادة من لام {لَكُمْ} والضمير المستتر للبوس، والتأنيث بتأويل الدرع وهي مؤنث سماعي أو للصنعة.
وقرأ جماعة {ليحصنكم} بالياء التحتية على أن الضمير للبوس أو لداود عليه السلام قيل أو التعليم، وجوز أن يكون لله تعالى على سبيل الالتفات، وأيد بقراءة أبي بكر عن عاصم {لنحصنكم} بالنون، وكل هذه القراءات بإسكان الحاء والتخفيف. وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو، وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء التحتية وفتح الحاء وتشديد الصاد، وابن وثاب. والأعمش بالتاء الفوقية والتشديد {لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ} قيل أي من جرب عدوكم، والمراد مما يقع فيها، وقيل الكلام على تقدير مضاف أي من آلة بأسكم كالسيف {فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون} أمر وارد صورة الاستفهام لما فيه من التقريع بالإيماء إلى التقصير في الشكر والمبالغة بدلالته على أن الشكر مستحق الوقوع بدون أمر فسأل عنه هل وقع ذلك الأمر اللازم الوقوع أم لا.

.تفسير الآية رقم (81):

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)}
{ولسليمان الريح} أي وسخرنا له الريح، وجيء باللام هنا دون الأول للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخري ما سخر له عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي له والامتثال بأمره ونهيه بخلاف تسخير الجبال والطير لداود عليه السلام فإنه كان بطريق التبعية والاقتداء به عليه السلام في عبادة الله عز وجل: {عَاصِفَةً} حال من الريح والعامل فيها الفعل المقدر أي وسخرنا له الريح حال كونها شديدة الهبوب، ولا ينافي وصفها بذلك هنا وصهفا في موضع آخر بأنها رخاء عنى طيبة لينة لأن الرخاء وصف لها باعتبار نفسها والعصف وصف لها باعتبار قطعها المسافة البعيدة في زمان يسير كالعاصفة في نفسها فهي مع كونها لينة تفعل فعل العاصفة.
ويجوز أن يكون وصفها بكل من الوصفين بالنسبة إلى الوقت الذي يريده سليمان عليه السلام فيه، وقيل وصفها بالرخاء في الذهاب ووصهفا بالعصف بالإياب على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن فهي عاصفة في وقت رخاء في آخر. وقرأ ابن هرمز. وأبو بكر في رواية {الريح} بالرفع مع الأفراد.
وقرأ الحسن. وأبو رجاء {الرياح} بالنصب والجمع، وأبو حيوة بالرفع والجمع،. ووجه النصب ظاهر، وأما الرفع فعلى أن المرفوع مبتدأ والخبر هو الظرف المقدم و{عَاصِفَةً} حال من ضمير المبتدا في الخبر والعامل ما فيه من معنى الاستقرار {تَجْرِى بِأَمْرِهِ} أي شيئته وعلى وفق إرادته وهو استعمال شائع، ويجوز أن يأمرها حقيقة ويخلق الله تعالى لها فهما لأمره كما قيل في مجيء الشجرة للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاها، والجملة إما حال ثانية أو بدل من الأولى على ما قيل وقد مر لك غير بعيد الكلام في إبدال الجملة من المفرد فتذكر أو حال من ضمير الأولى {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي الشام كما أخرج ابن عساكر عن السدي، وكان عليه السلام مسكنه فيها فالمراد أنها تجري بأمره إلى الشام رواحًا بعدما سارت به منها بكرة، ولشيوع كونه عليه السلام ساكنًا في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الامتنان، وقيل كان مسكنه اصطخر وكان عليه السلام يركب الريح منها فتجري بأمره إلى الشام.
وقيل: يحتمل أن تكون الأرض أعم من الشام، ووصفها بالبركة لأنها عليه السلام إذا حل أرضًا أمر بقتل كفارها وإثبات الايمان فيها وبث العدل ولا بركة أعظم من ذلك، ويبعد أن المتبادر كون تلك الأرض مباركًا فيها قبل الوصول إليها وما ذكر يقتضي أن تكون مباركًا فيها من بعد. وأبعد جدًا منذر بن سعيد بقوله إن الكلام قد تم عند قوله تعالى: {إِلَى الأرض} والتي باركنا فيها صفة للريح؛ وفي الآية تقديم وتأخير، والأصل ولسليمان الريح التي باركنا فيها عاصفة تجري بأمره بل لا يخفى أنه لا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى العزيز على مثل ذلك وكلام أدنى البلغاء يجل عنه، ثم الظاهر أن المراد بالريح هذا العنصر المعروف العام لجميع أصنافه المشهورة، وقيل: المراد بها الصبا.
وفي بعض الأخبار ما ظاهره ذلك، فعن مقاتل أنه قال نسجت لسليمان عليه السلام الشياطين بساطًا من ذهب وإبريسم فرسخًا في فرسخ ووضعت له منبرًا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء عليهم السلام وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء وحولهم سائر الناس وحول الناس الجن والشياطين والطير تظله من الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح.
وما ذكر من أنه يحمل على البساط هو المشهور ولعل ذلك في بعض الأوقات وإلا فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: كان لسليمان عليه السلام مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به فساروا معه فلا يدري القوم إلا وقد أظلهم منه الجيوش والجنود، وقيل في وجه الجمع: إن البساط في المركب المذكور وليس بذاك.
وذكر عن الحسن أن إكرام الله تعالى لسليمان عليه السلام بتسخير الريح لما فعل بالخيل حين فاتته بسببها صلاة العصر وذلك أنه تركها لله تعالى فعوضه الله سبحانه خيرًا منها من حيث السرعة مع الراحة، ومن العجب أن أهل لندن قد اتعبوا أنفسهم منذ زمان بعمل سفينة تجري مرتفعة في الهواء إلى حيث شاؤا بواسطة أبخرة يحبسونها فيها اغترارًا بما ظهر منذ سنوات من عمر سفينة تجري الماء بواسطة آلات تحركها أبخرة فيها فلم يتم لها ذلك ولا أظنه يتم حسب إرادتهم على الوجه الأكمل، وأخبرني بعض المطلعين أنهم صنعوا سفينة تجري في الهواء لكن لا إلى حيث شاؤا بل إلى حيث ألقت رحلها {وَكُنَّا بِكُلّ شَيْء عالمين} فماأعطيناه ما أعطيناه إلا لما نعلمه من الحكمة.