فصل: تفسير الآية رقم (89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (89):

{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)}
{وَزَكَرِيَّا} أي واذكر خبره عليه السلام {إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْدًا} أي وحيدًا بلا ولد يرثني كما يشعر به التذييل بقوله تعالى: {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} ولو كان المراد بلا ولد يصاحبني ويعاونني لقيل وأنت خير المعينين، والمراد بقوله: {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} وأنت خير حي يبقى بعد ميت، وفيه مدح له تعالى بالبقاء وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء. وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه عز وجل، وقيل أراد بذلك رد الأمر إليه سبحانه كأنه قال: إن لم ترزقني ولدًا يرثني فأنت خير وارث فحسبي أنت.
واعترض بأنه لا يناسب مقام الدعاء إذ من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه. ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له» وفي رواية في صحيح مسلم: «ولكن ليعزم المسألة وليعزم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه» ويمكن أن يقال: ليس هذا من قبيل ارزقني إن شئت إذ ليس المقصود منه إلا إظهار الرضا والاعتماد على الله عز وجل لو لم يجب دعاءه وليس المقصود من ارزقني إن شئت ذلك فتأمل.

.تفسير الآية رقم (90):

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)}
{فاستجبنا لَهُ} دعاءه {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} وقد مر بيان كيفية ذلك {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقها وكانت سيئة الخلق طويلة اللسان كما روى عن ابن عباس. وعطاء بن أبي رباح. ومحمد بن كعب القرظي. وعون بن عبد الله أو أصلحناها له عليه السلام برد شبابها إليها وجعلها ولودًا وكانت لا تلد كما روى عن ابن جبير. وقتادة، وعلى الأول تكون هذه الجملة عطفًا على جملة {استجبنا} لأنه عليه السلام لم يدع بتحسين خلق زوجه.
قال الخفاجي: ويجوز عطفها على {الله وَهَبْنَا} وحينئذ يظهر عطفه بالواو لأنه لما فيه من الزيادة على المطلوب لا يعطف بالفاء التفصيلية، وعلى الثاني العطف على {وَهَبْنَا} وقدم هبة يحيى مع توقفها على إصلاح الزوج للولادة لأنها المطلوب الأعظم، والواو لا تقتضي ترتيبًا فلا حاجة لما قيل: المراد بالهبة إرادتها، قال الخفاجي: ولم يقل سبحانه: فوهبنا لأن المراد الامتنان لا التفسير لعدم الاحتياج إليه مع أنه لا يلزم التفسير بالفاء بل قد يكون العطف التفسيري بالواو انتهى، ولا يخفى ما فيه فتدبر، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} تعليل لما فصل من فنون إحسانه المتعلقة بالأنبياء المذكورين سابقًا عليهم السلام، فضمائر الجمع للأنبياء المتقدمين.
وقيل: لزكريا. وزوجه. ويحيى، والجملة تعليل لما يفهم من الكلام من حصول القربى والزلفى والمراتب العالية لهم أو استئناف وقع جوابًا عن سؤال تقديره ما حالهم؟ والمعلول عليه ما تقدم، والمعنى إنهم كانوا يجدون ويرغبون في أنواع الأعمال الحسنة وكثيرًا ما يتعدى أسرع بفي لما فيه من معنى الجد والرغبة فليست في عنى إلى أو للتعليل ولا الكلام من قبيل:
يجرح في عراقيبها نصلي

{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي راغبين في نعمنا وراهبين من نقمنا أو راغبين في قبول أعمالهم وراهبين من ردها، فرغبا ورهبا مصدران في موضع الحال بتأويلهما باسم الفاعل، ويجوز أن يكون ذلك بتقدير مضاف أي ذوي رغب، ويجوز إبقاؤهما على الظاهر مبالغة، وجوز أن يكونا جمعين كخدم جمع خادم لكن قالوا. إن هذا الجمع مسموع في ألفاظ نادرة.
وجوز أن يكونا نصبًا على التعليل أي لأجل الرغبة والرهبة، وجوز أبو البقاء نصبهما على المصدر نحو قعدت جلوسًا وهو كما ترى.
وحكمى في مجمع البيان أن الدعاء رغبة ببطون الأكف ورهبة بظهورها، وقد قال به بعض علمائنا، والظاهر أن الجملة معطوفة على جملة {يسارعون} فهي داخلة معها في حيز {كَانُواْ}، وفي عدم إعادتها رمز إلى أن الدعاء المذكور من توابع تلك المسارعة، وقرأت فرقة {يدعونا} بحذف نون الرفع، وقرأ طلحة {يدعونا} بنون مشددة أدغم نون الرفع في نون ضمير النصب، وقرأ {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} بفتح الراء وإسكان ما بعدها و{رَغَبًا وَرَهَبًا} بالضم والإسكان {وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} أي مخبتين متضرعين أو دائمي الوجل، وحال التعليل أنهم نالوا من الله تعالى ما نوالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (91):

{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)}
{والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} نصب نصب نظائره السابقة، وقيل رفع على الابتداء والخبر محذوف أي مما يتلى عليكم أو هو قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} والفاء زائدة عند من يجيزه، والمراد بالموصول مريم عليها السلام، والإحصان عناه اللغوي وهو المنع مطلقًا، والفرج في الأصل الشق بين الشيئين كالفرجة وما بين الرجلين ويكنى به عن السوأة وكثر حتى صار كالصريح في ذلك وهو المراد به هنا عند جماعة أي منعت فرجها من النكاح بقسميه كما قالت {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] وكان التبتل إذ ذاك مشروعًا للنساء والرجال، وقيل الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل عليه السلام لما قرب منها لينفخ حيث لم تعرفه.
وعبر عنها بما ذكر لتفخيم شأنها وتنزيهها عما زعموه في حقها، والمراد من الروح معناه المعروف، والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء وليس هناك نفخ حقيقة. ثم هذا الاحياء لعيسى عليه السلام وهو لكونه في بظنها صح أن يقال: نفخنا فيها فإن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها وليس راد، وهذا كما يقول الزمار. نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته، وقال أبو حيان: الكلام على تقدير مضاف أي فنفخنا في ابنها.
ويجوز أن يكون المراد من الروح جبريل عليه السلام كما قيل في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] ومن ابتدائية وهناك نفخ حقيقة وإسناده إليه تعالى مجار أي فنفخنا فيها من جهة روحنا، وكان جبريل عليه السلام قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها فصح أن النفخ فيها من غير غبار يحتاج إلى النفخ، ثم النفخ لازم وقد يتعدى فيقال نفخنا الروح.
وقد جاء ذلك في بعض الشواذ ونص عليه بعض الأجلة فإنكاره من عدم الإطلاع {وجعلناها وابنها} أي جعلنا قصتهما أو حالهما {للعالمين إِنَّ} فإن من تأمل حالتهما تحقق كمال قدرته عز وجل، فالمراد بالآية ما حصل بهما من الآية التامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما، وقيل أريد بالآية الجنس الشامل ما لكل واحد منهما من الآيات المستقلة، وقيل: المعنى وجعلناها آية وابنها آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها واستدل بذكر مريم عليها السلام مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر.
وفيه أنه لا يلزم من ذكرها معهم كونها منهم ولعلها إنما ذكرت لأجل عيسى عليه السلام، وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه وابنهما يحيى للقرابة التي بينهم عليهم السلام.

.تفسير الآية رقم (92):

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}
{إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ} خطاب للناس قاطبة، والإشارة إلى ملة التوحيد والإسلام وذلك من باب {هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وهذا أخوك تصور المشار إليه في الذهن وأشير إليه، وفيه أنه متميز أكمل التمييز ولهذا لم يبين بالوصف، والأمة على ما قاله صاحب المطلع أصلها القوم يجمتمعون على دين واحد ثم اتسع فيها حتى أطلقت على نفس الدين، والأشهر أنها الناس المجمعون على أمر أو في زمان وإطلاقها على نفس الدين مجاز، وظاهر كلام الراغب أنه حقيقة أيضًا وهو المراد هنا، وأريد بالجملة الخبرية الأمر بالمحافظة على لك الملة ومراعاة حقوقها، والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها فافعلوا ذلك، وقوله تعالى: {أُمَّةً وَاحِدَةً} نصب على الحال من {أُمَّةٍ} والعامل فيها اسم الإشارة، ويجوز أن يكون العامل في الحال غير العامل في صاحبها وإن كان الأكثر الاتحاد كما في شرح التسهيل لأبي حيان، وقيل بدل من {هذه} ومعنى وحدتها اتفاق الأنبياء عليهم السلام عليها أي إن هذه أمتكم أمة غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام بل أجمعوا كلهم عليها فلم تتبدل في عصر من الأعصار كما تبدلت الفروع، وقيل: معنى وحدتها عدم مشاركة غيرها وهو الشرك لها في القبول وصحة الاتباع.
وجوز أن تكون الإشارة إلى طريقة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والمراد بها التوحيد أيضًا، وقيل: هي إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام والكلام متصل بقصته وهو بعيد جدًا، وأبعد منه راحل ما قيل إنها إشارة إلى ملة عيسى عليه السلام والكلام متصل بما عنده كأنه قيل وجعلناها وابنها آية العالمين قائلين لهم إن هذه أي الملة التي بعث بها عيسى أمتكم إلخ بل لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلًا، وقيل: إن {هذه} إشارة إلى جماعة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والأمة عنى الجماعة أي إن هؤلاء جماعتكم التي يلزمكم الاقتداء بهم مجتمعين على الحق غير مختلفين، وفيه جهة حسن كما لا يخفى، والأول أحسن وعليه جمهور المفسرين وهو المروى عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة، وجوز بعضهم كون الخطاب للمؤمنين كافة، وجعله الطيبي للمعاندين خاصة حيث قال في وجه ترتيب النظم الكريم: إن هذه السورة نازلة في بيان النبوة وما يتعلق بها والمخاطبون المعاندون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من بيان النبوة وتكريره تقريرًا ومن ذكر الأنبياء عليهم السلام مسليًا عاد إلى خطابهم بقوله تعالى شأنه: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ} إلخ أي هذه الملة التي كررتها عليهكم ملة واحدة أختارها لكم لتتمسكوا بها وبعبادة الله تعالى والقول بالتوحيد وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ لأن سائر الكتب نازلة في شأنها والأنبياء كلهم مبعثون للدعوة إليها ومتفقون عليها، ثم لما علم إصرارهم قيل:{وَتُقَطّعُواْ} [الأنبياء: 93] إلخ، وحاصل المعنى الملة واحدة والرب واحد والأنبياء عليهم السلام متفقون عليها وهؤلاء البعداء جعلوا أمر الدين الواحد فيما بينهم قطعًا كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد انتهى، والأظهر العموم، وأمر النظم عليه يؤخذ من كلام الطيبي بأدنى التفات. وقرأ الحسن {أُمَّتُكُمْ} بالنصب على أنه بدل من {هذه} أو عطف بيان عليه و{أُمَّةً وَاحِدَةً} بالرفع على أنه خبر إن. وقرأ هو أيضًا وابن إسحاق. والأشهب العقيلي. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. والجعفي. وهارون عن أبي عمرو. والزعفراني برفعهما على أنهما خبرا إن، وقيل: الأول خبر والثاني بدل منه بدل نكرة من معرفة أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هي أمة واحدة {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} أي أنا إلهكم إله واحد {فاعبدون} خاصة؛ وتفسير الرب بالإله لأنه رتب عليه الأمر بالعبادة، والدلالة على الوحدة من حدة الملة، وفي لفظ الرب إشعار بذلك من حيث أن الرب وإن توهم جواز تعدده في نفسه لا يمكن أن يكون لكل مربوب إلا رب واحد لأنه مفيض الوجود وكمالاته معًا، وفي العدول إلى لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة وأنه تعالى يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط قاله في الكشف.

.تفسير الآية رقم (93):

{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)}
{وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا على أن تقطع مضمن معنى الجعل فلذا تعدى إلى {أَمَرَهُمْ} بنفسه، وقال أبو البقاء: تقطعوا أمرهم أي في أمرهم أي تفرقوا، وقيل: عدى بنفسه لأنه عنى قطعوا أي فرقوا، وقيل: {أَمَرَهُمْ} تمييز محول عن الفاعل أي تقطع أمرهم انتهى، وما ذكر أولًا أظهر وأمر التمييز لا يخفى على ذي تمييز، ثم أصل الكلام وتقطعتم أمركم بينهم على الخطاب فالتفت إلى الغيبة لينعي عليهم ما فعلوا من الفرق في الدين وجعله قطعًا موزعة وينهى ذلك إلى الآخرين كأنه قيل ألا ترون إلى عظم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء عليهم السلام وفي ذلك ذم للاختلاف في الأصول.
{كُلٌّ} أي كل واحدة من الفرق المتقطعة أو كل واحد من آحاد كل واحدة من تلك الفرق {إِلَيْنَا راجعون} بالبعث لا إلى غيرنا فنجازيهم حينئذٍ بحسب أعمالهم، ولا يخفى ما في الجملة من الدلالة على الثبوت والتحقق. وقوله تعالى: