فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (5):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)}
{السعير ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ البعث} إلخ إقامة للحجة التي تلقم المجادلين في البعث حجرًا إثر الإشارة إلى ما يؤل إليه أمرهم، واستظهر أن المراد بالناس هنا الكفرة المجادلون المنكرون للبعث، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب أي الشك مع أنهم جازمون بعدم إمكانه إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الارتياب في شأنه، وأما الجزم بعدم الإمكان فخارج من دائرة الاحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفًا مشكوك الوقوع، وإما للتنبيه على أن جرمهم ذلك نزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإمكان ونهاية قوتها. وإنما لم يقل وإن ارتبتم في البعث للمبالغة في تنزيه أمره عن شائبة وقوع الريب والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته، واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، ومن ابتدائية متعلقة حذوف وقع صفة للريب، واستظهر أن المراد في ريب من إمكان البعث لأنه الذي يقتضيه ما بعد، وجوز أن يكون المراد من وقوع البعث، واعترض بأن الدليل المشار إليه فيما بعد إنما يدل على الإمكان مع ما يلزم من التكرار مع قوله تعالى الآتي: {إِنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} [الحج: 7] وفيه تأمل فتأمل، وقرأ الحسن {مّنَ البعث} بفتح العين وهي لغة فيه كالجلب والطرد في الجلب والطرد عند البصريين، وعند الكوفيين إسكان العين تخفيف وهو قياسي في كل ما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر.
وقوله تعالى: {فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ} دليل جواب الشرط أو هو الجواب بتأويل أي وإن كنتم في ريب من البعث فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم فإنا خلقناكم إلخ، وقيل: التقدير فأخبركم وأعلمكم أنا خلقناكم إلخ وليس بذاك، وخلقهم من تراب في ضمن خلق آدم عليه السلام منه أو بخلق الأغذية التي يتكون منها المني منه وهي وإن تكونت من سائر العناصر معه إلا أنه أعظم الأجزاء على ما قيل فلذلك خصه بالذكر من بينها، واختير الأول وجعل المعنى خلقناكم خلقًا إجماليًا من تراب {ثُمَّ} خلقناكم خلقًا تفصيليًا {مِن نُّطْفَةٍ} أي منى من النطف عنى التقاطر، وقال الراغب: النطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل، قيل والتخصيص على هذا مع أن الخلق من ماءين لأن معظم أجزاء الإنسان مخلوق من ماء الرجل، والحق أن النطفة كما يعبر بها عن منى الرجل يعبر بها عن المنى مطلقًا وكلام الراغب ليس نصًا في نفي ذلك، والظاهر أن المراد النطفة التي يخلق منها كل واحد بلا واسطة، وقيل: المراد نطفة آدم عليه السلام وحكى ذلك عن النقاش وهو من البعد في غايته.
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي قطعة من الدم جامدة متكونة من المنى {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} أي قطعة من اللحم متكونة من العلقة وأصلها قطعة لحم بقدر ما يمضغ {مُّخَلَّقَةٍ} بالجر صفة {مُضْغَةً} وكذا قوله تعالى: {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}.
وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما على الحال من النكرة المتقدمة وهو قليل وقاسه سيبويه، والمشهور المتبادر أن المخلقة المستبينة الخلق أي مضغة مستبينة الخلق مصورة ومضغة لم يستبن خلقها وصورتها بعد، والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولًا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئًا فشيئًا وكان مقتضى الترتيب المبني على التدرج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة وإنما أخرت لكونها عدم ملكة، وصيغة التفعيل لكثرة الأعضاء المختص كل منها بخلق وصورة، وقيل: المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود سواه وملسه وصخرة خلقاء أي ملساء وجبل أخلق أي أملس؛ فالمعنى من نطفة مسواة لا نقص فيها ولا عيب في ابتداء خلقها ونطفة غير مسواة فيها عيب فالنطف التي يخلق منها الإنسان متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، وعن مجاهد. وقتادة. والشعبي. وأبي العالية. وعكرمة أن المخلقة التي تم لها مدة الحمل وتوارد عليها خلق بعد خلق وغير المخلقة التي لم يتم لها ذلك وسقطت، واستدل له بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك الأرحام بكفه فقال: يا رب مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفها الرحم دمًا وإن قيل: مخلقة قال: يا رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل وما الأثر وما الرزق وبأي أرض تموت؟ الخبر وهو في حكم المرفوع، والمراد أنهم خلقوا من جنس هذه النطفة الموصوفة بالتامة والساقطة لا أنهم خلقوا من نطفة تامة ومن نطفة ساقطة إذ لا يتصور الخلق من النطفة الساقطة وهو ظاهر، وكان التعرض على هذا لوصفها بما ذكر لتعظيم شأن القدرة وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب كما في قوله تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة} [المؤمنون: 14] الآية مزيد دلالة على عظم قدرته تعالى: {لّنُبَيّنَ لَكُمْ} متعلق بخلقنا، وترك المفعول لتفخيمه كمًا وكيفًا أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم ما لا يحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها أمر البعث فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي جزم بأن من قدر على خلق البشر أولًا من تراب لم يذق ماء الحياة قط وإنشائه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوار والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته بل هي أهون في القياس، وقدر بعضهم المفعول خاصًا أي لنبين لكم أمر البعث وليس بذاك.
وأبعد جدًا من زعم أن المعنى لنبين لكم أن التخليق اختيار من الفاعل المختار ولولا ذلك ما صار بعض أفراد المضغة غير مخلق، وقرأ ابن أبي عبلة {لِيُبَيّنَ} بالياء على طريق الالتفات وكذا قرأ قوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الارحام مَا نَشَاء} وقرأ الجمهور بالنون، والجملة استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم وتوارد الأطوار عليهم أي ونقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر وأقصاه عندنا سنتان وعند الشافعي عليه الرحمة أربع سنين، وعن يعقوب أنه قرأ {وَنُقِرُّ} بفتح النون وضم القاف من قررت الماء إذا صببته، وقرأ يحيى بن وثاب ما نشاء بكسر النون.
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} أي من الأرحام بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى {طِفْلًا} حال من ضمير المخاطبين، والإفراد إما باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس الصادق على الكثير أو لأنه مصدر فيستوي فيه الواحد وغيره كما قال المبرد أو لأن المراد طفلًا طفلًا فاختصر كما نقله الجلال السيوطي في الأشباه النحوية.
وقرأ عمر بن {شبة} يخرجكم بالياء {طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} أي كمالكم في القوة والعقل والتمييز، وفي القاموس حتى يبلغ أشده ويضم أوله أي قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما أو جمع لا واحد له من لفظه أو واحده شدة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل أي قياسًا فلا يرد نعمة وأنعم أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب وما هما سموعين بل قياس و{لِتَبْلُغُواْ}، قال العلامة: أبو السعود: علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة لها كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئًا فشيئًا ثم لتبلغوا إلخ، وقيل علة لمحذوف والتقدير ثم نمهلكم لتبلغوا إلخ.
وجوز العلامة الطيبي أن يكون التقدير {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} كان ذلك الإقرار والإخراج؛ وقيل إنه عطف على نبين، وتعقبه العلامة بأنه مخل بجزالة النظم الكريم وجعله كغيره عطفًا عليه على قراءة {نُقِرَ}.
ونخرج بالنصب وهي قراءة المفضل. وأبي حاتم إلا أن الأول قرأ بالنون والثاني قرأ بالياء، وكذا جعل الفعلين عطفًا عليه وقال: المعنى خلقناكم على التدريج المذكور لأمرين، أحدهما: أن نبين شؤوننا، والثاني: أن نقركم في الأرحام ثم نخرجكم صغارًا ثم لتبلغوا أشدكم، وتقديم التبيين على ما بعده مع أن حصوله بالفعل بعد الكل للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات، وإعادة اللام في {لِتَبْلُغُواْ} مع تجريد نقر {وَنُخْرِجُ} عنها للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدي إلى السعادة والشقاوة، وإيثار البلوغ مسندًا إلى المخاطبين على التبليغ مسندًا إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنه المناسب لبيان حال اتصافهم بالكمال واستقلالهم بدئية الآثار والأفعال اه.
وما ذكره من عطف {نُقِرَ} ونخرج. بالنصب على {نُبَيّنُ} لم يرتضه الشيخ ابن الحاجب، قال في «شرح المفصل»: أنه مما يتعذر فيه النصب إذ لو نصب عطفًا على {نُبَيّنُ} ضعف المعنى إذ اللام في لنبين للتعليل لما تقدم والمقدم سبب للتبيين فلو عطف {وَنُقِرُّ} عليه لكان داخلًا في مسببية {إِنَّا خلقناكم} إلخ وخلقهم من تراب ثم ما تلاه لا يصلح سببًا للإقرار في الأرحام، وقال الزجاج: لا يجوز في {وَنُقِرُّ} إلا الرفع ولا يجوز أن يكون معناه فعلنا ذلك لنقر في الأرحام لأن الله تعالى لم يخلق الأنام ليقرهم في الأرحام وإنما خلقهم ليدلهم على رشدهم ولاصحهم وهو قول بعدم جواز عطفه على نبين.
وأجيب بأن الغرض في الحقيقة هو بلوغ الأشد والصلوح للتكليف لكن لما كان الإقرار وما تلاه من مقدماته صح إدخاله في التعليل، وما ذكره من أن العطف على نبين على قراءة الرفع مخل بجزالة النظم الكريم فالظاهر أنه تعريض بالزمخشري حيث جعل العطف على ذلك، وقال فإن قلت: كيف يصح عطف {لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} على {لّنُبَيّنَ} ولا طباق قلت: الطباق حاصل لأن قوله تعالى: {وَنُقِرُّ} قرين للتعليل ومقارنته له والتباسه به ينزلانه منزلة نفسه فهو راجع من هذه الجهة إلى متانة القراءة بالنصب اه. وفيه ما يومئ إلى أن قراءة النصب أوضح كما أنها أمتن، ولم يرتض ذلك المحققون ففي الكشف أن القراءة بالرفع هي المشهورة الثابتة في السبع وهي الأولى وقد أصيب بتركيبها هكذا شاكلة الرمي حتى لم يجعل الإقرار في الأرحام علة بل جعل الغرض منه بلوغ الأشد وهو حال الاستكمال علمًا وعملًا وحيث لم يعطف على {لّنُبَيّنَ} إلا بعد أن قدم عليه {وَنُقِرُّ} ثم نخرج مجعولًا {نُقِرَ} عطفًا على {إِنَّا خلقناكم} والعدول إلى المضارع لتصوير الحال والدلالة على زيادة الاختصاص فالطباق حاصل لفظًا ومعنى مع أن في الفصل بين العلتين من النكتة ما لا يخفى على ذي لب حسن موقعها بعد التأمل، وكذلك في الإتيان بثم في قوله سبحانه: {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ} دلالة على أنه الغرض الأصيل الذي خلق الإنسان له.
{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ولما كانت الأوائل في الدلالة على البعث أظهر قدم قوله تعالى: {لّنُبَيّنَ} على الإقرار والإخراج اه.
ويعلم منه ما في قول العلامة: إن عطف {لِتَبْلُغُواْ} إلخ على {لّنُبَيّنَ} مخل بجزالة النظم الكريم وأنه لا يتعين الاستئناف في {وَنُقِرُّ} وفيه أيضًا أن قوله تعالى: {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} إلخ استئناف لبيان أقسام الإخراج من الرحم كما استوفى أقسام الأول وفيه تبيين تفصيل حال بلوغ الأشد وأنها الحقيق بأن تكون مقصودة من الإنشاء لكن منهم من لا يصل إليها فيحتضر ومنهم من يجاوزها فيحتقر أي منكم من يموت قبل بلوغ الأشد {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} أي أرداه وأدناه، والمراد يرد إلى مثل زمن الطفولية {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ} أي علم كثير {شَيْئًا} أي شيئًا من الأشياء أو شيئًا من العلم، واللام متعلقة بيرد وهي لام العاقبة والمراد المبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله وليس لزمان ذلك الرد حد محدود بل هو مختلف باختلاف الأمزجة على ما في البحر وإيراد الرد والتوفي على صيغة المبني للمفعول للجري على سنن الكبرياء لتعين الفاعل كما في إرشاد العقل السليم، وفي شرح الكشاف للطيبي بعد تجويز أن يكون {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ} بتقدير {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ} كان ذلك الإقرار والإخراج أن فائدة ذلك الإيذان بأن بلوغ الأشد أفضل الأحوال والإخراج أبدعها والرد إلى أرذل العمر أسوؤها وتغيير العبارة لذلك ومن ثم نسب الإخراج إلى ذاته تعالى المقدسة وحذف المعلل في الثاني ولم ينسب الثالث إلى فاعله وسلب فيه ما أثبت للإنسان في تلك الحالة من اتصافه بالعلم والقدرة المومئ إليه بالأشد كأنه قيل ثم يخرجكم من تلك الأطوار الخسيسة طفلًا إنشاء غريبًا كما قال سبحانه: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] ثم لتبلغوا أشدكم دبر ذلك التدبير العجيب لأنه أوان رسوخ العلم والمعرفة والتمكن من العمل المقصودين من الإنشاء ثم يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل اه.
ويفهم منه جواز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى بعد بلوغ الأشد، ومن الناس من جوز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى عند البلوغ، وقيل: إن ذلك بجعل الجملة حالية ومن صيغة المضارع وهو كما ترى. وقرئ {يَتَوَفَّى} على صيغة المعلوم وفاعله ضمير الله تعالى أي من يتوفاه الله تعالى، وجوز أن يكون ضمير من أي {مِنْ} يستوفي مدة عمره، وروي عن أبي عمرو. ونافع تسكين ميم العمر.
هذا ثم لا يخفى ما في اختلاف أحوال الإنسان بعد الإخراج من الرحم من التنبيه على صحة البعث كما في اختلافها قبل فتأمل جميع ما ذكر ولله تعالى در التنزيل ما أكثر احتمالاته {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} حجة أخرى على صحة البعث معطوفة على {إِنَّا خلقناكم} وهي حجة آفاقية وما تقدم حجة أنفسية والخطاب لكل أحد من تتأتى منه الرؤية، وقيل: للمجادل، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وهي بصرية لا علمية كما قيل، و{هَامِدَةً} حال من {الأرض} أي ميتة يابسة يقال همدت الأرض إذا يبست ودرست وهمد الثوب إذا بلى؛ وقال الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا ** وأرى ثيابك باليات همدا

وأصله من همدت النار إذا صارت رمادًا {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء} أي ماء المطر، وقيل: ما يعمه وماء العيون والأنهار وظاهر الإنزال يقتضي الأول {اهتزت} تحرك نباتها فالإسناد مجازي أو تخلخلت وانفصل بعض أجزائها عن بعض لأجل خروج النبات وحمل الاهتزاز على الحركة في الكيف بعيد {وَرَبَتْ} ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات.
وقرأ أبو جعفر. وعبد الله بن جعفر. وخالد بن الياس. وأبو عمرو في رواية {وربأت} بالهمز أي ارتفعت يقال فلأن يربأ بنفسه عن كذا أي يرتفع بها عنه، وقال ابن عطية: هو من ربأت القوم إذا علوت شرفًا من الأرض طليعة عليهم فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو {وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ} أي صنف {بَهِيجٍ} حسن سار للناظر.