فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (34):

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)}
{وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} عطف على قوله سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا منافع} أو على قوله تعالى: {وَمَن يُعَظّمْ} [الحج: 32] إلخ وما في البين اعتراض على ما قيل، وكأني بك تختار الأول؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام عليه عند نظير الآية، والمنسك موضع النسك إذا كان اسم مكان أو النسك إذا كان مصدرًا، وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى فجعله مصدرًا وحمل النسك على عبادة خاصة وهو أحد استعمالاته وإن كان في الأصل عنى العبادة مطلقًا وشاع في أعمال الحج. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير وبر وفسره هنا بالعيد، وقال قتادة: هو الحج. وقال ابن عرفة {مَنسَكًا} أي مذهبًا من طاعته تعالى.
واختار الزمخشري ما روي عن مجاهد وهو الأوفق أي شرع لكل أهل دين أن يذبحوا له تعالى على وجه التقرب لا لبعض منهم، فتقديم الجار والمجرور على الفعل للتخصيص. وقرأ الأخوان وابن سعدان. وأبو حاتم عن أبي عمرو. ويونس. ومحبوب. وعبد الوارث {مَنسَكًا} بكسر السين، قال ابن عطية وهو في هذا شاذ ولا يجوز في القياس ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب، قال الأزهري: الفتح والكسر فيه لغتان مسموعتان {لّيَذْكُرُواْ اسم الله} خاصة دون غيره تعالى كما يفهمه السياق والسياق، وفي تعليل الجعل بذلك فقط تنبيه على أن المقصود الأهم من شرعية النسك ذكره عز وجل: {على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الانعام} عند ذبحها، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام فلا يجوز بالخيل ونحوها. والفاء في قوله تعالى: {فإلهكم إله واحد} قيل للتعليل وما بعدها علة لتخصيص اسم الله تعالى بالذكر، والفاء في قوله سبحانه: {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} لترتيب ما بعدها من الأمر بالإسلام على وحدانيته عز وجل، وقيل: الفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها أيضًا فءن جعله تعالى لكل أمة من الأمم منسكًا يدل على وحدانيته جل وعلا، ولا يخفى ما في وجه الدلالة من الخفاء، وتكلف بعضهم في بيانه بأن شرع المنسك لكل أمة ليذكروا اسم الله تعالى يقتضي أن يكون سبحانه إلهًا لهم لئلا يلزم السفه ويلزم من كونه تعالى إلهًا لهم أن يكون عز وجل واحدًا لأنه لا يستحق الألوهية أصلًا من لم يتفرد بها فإن الشركة نقص وهو كما ترى، وفي الكشف لما كانت العلة لقوله سبحانه: {لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} ذكر اسمه تعالى على المناسك ومعلوم أن الذكر إنما يكون ذكرًا عند مواطأة القلب اللسان وذكر القلب إشعار بالتعظيم جاء قوله تعالى: {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} مسببًا عنه تسببًا حسنًا.
واعترض بقوله تعالى: {فإلهكم إله واحد} لأنه يؤكد الأمر بالإخلاص ويقوي السبب تقوية بالغة ويؤكد أيضًا كون الذكر هو المقصود من شرعية النسك انتهى، وهو يشعر بأن الفاء الأولى للاعتراض والفاء الثانية للترتيب. ولعل ما ذكر أولًا أظهر، وأما ما قيل من أن الفاء الأولى للتعليل والمعلل محذوف والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله فإن إلهكم إله واحد فمما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى الجليل كما لا يخفى، وإنما قيل: {إله واحد} ولم يقل واحد لما أن المراد بيان أنه تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته؛ وتقديم الجار على الأمر للقصر، والمراد اخلصوا له تعالى الذكر خاصة واجعلوه لوجهه سالمًا خالصًا لا تشوبوه بإشراك {وَبَشّرِ المخبتين} خطاب له صلى الله عليه وسلم، والمخبتون المطمئنون كما روي عن مجاهد أو المتواضعون كما روي عن الضحاك. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون الناس وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال سفيان: هم الراضون بقضاء الله تعالى. وقال الكلبي: هم المجتهدون في العبادة، وهو من الإخبات وأصله كما قال الراغب: نزول الخبت وهو المطمئن من الأرض، ولا يخفى حسن موقع ذلك هنا من حيث أن نزول الخبت مناسب للحاج.

.تفسير الآية رقم (35):

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ} أي خافت {قُلُوبِهِمْ} منه عز وجل لإشراق أشعة الجلال عليها {والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ} من مشاق التكاليف ومؤنات النوائب كالأمراض والمحن والغربة عن الأوطان ولا يخفى حسن موقع ذلك هنا أيضًا، والظاهر أن الصبر على المكاره مطلقًا ممدوح. وقال الرازي: يجب الصبر على ما كان من قبل الله تعالى، وأما على ما يكون من قبل الظلمة فغير واجب بل يجب دفعه على من يمكنه ذلك ولو بالقتال انتهى وفيه نظر {والمقيمى الصلاة} في أوقاتها، ولعل ذكر ذلك هنا لأن السفر مظنة التقصير في إقامة الصلاة.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية {الصلاة} بالنصب على المفعولية لمقيمي وحذفت النون منه تخفيفًا كما في بيت الكتاب:
الحافظو عورة العشيرة لا ** تأتيهم من ورائهم نطف

بنصب عورة ونظير ذلك قوله:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم مالك

وقوله:
ابني كليب أن عمي اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وقرأ ابن مسعود. والأعمش {والمقيمين الصلاة} بإثبات النون ونصب الصلاة على الأصل، وقرأ الضحاك {إِلَى الصلاة} بالإفراد والإضافة {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} في وجوه الخير ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون فيها.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}
{والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله} أي من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى، والبدن جمع بدنة وهي كما قال الجوهري. ناقة أو بقرة تنحر كة. وفي القاموس هي من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدي إلى مكة وتطلق على الذكر والأنثى وسميت بذلك لعظم بدنها لأنهم كانوا يسمنونها ثم يهدونها، وكونها من النوعين قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب الحنفية فلو نذر نحر بدنة يجزئه نحر بقرة عندهم وهو قول عطاء. وسعيد بن المسيب، وأخرج عبد بن حميدة وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال: وهل هي إلا من البدن، وقال صاحب البارع من اللغويين: إنها لا تطلق على ما يكون من البقر، وروي ذلك عن مجاهد. والحسن وهو مذهب الشافعية فلا يجزى عندهم من نذر نحر بدنة نحر بقرة، وأيد بما رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» فإن العطف يقتضي المغايرة وفيما يأتي آخرًا تأييد لذلك أيضًا، والظاهر أن استعمال البدنة فيما يكون من الإبل أكثر وإن كان أمر الإجزاء متحدًا.
ولعل مراد جابر بقوله في البقرة وهل هي إلا من البدن أن حكمها حكمها وإلا فيبعد جهل السائل بالمدلول اللغوي ليرد عليه بذلك، ويمكن أن يقال فيما روي عن ابن عمر: أن مراده بالبدن فيه البدن الشرعية، ولعله إذا قيل باشتراكها بين ما يكون من النوعين يحكم العرف أو نحوه في التعيين فيما إذا نذر الشخص بدنة ويشير إلى ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد عن يعقوب الرياحي عن أبيه قال: أوصى إلى رجل وأوصى ببدنة فأتيت ابن عباس فقلت له: إن رجلًا أوصى إلي وأوصى ببدنة فهل تجزى عني بقرة؟ قال: نعم ثم قال: ممن صاحبكم؟ فقلت: من رياح قال: ومتى اقتنى بنور رياح البقر إلى الإبل وهم صاحبكم إنما البقر لأسد. وعبد القيس فتدبر.
وقرأ الحسن. وابن أبي إسحاق. وشيبة. وعيسى {البدن} بضم الباء والدال، قيل وهو الأصل كخشب وخشبة وإسكان الدال تخفيف منه، ورويت هذه القراءة عن نافع. وأبي جعفر.
وقرأ ابن أبي إسحاق أيضًا بضم الباء والدال وتشديد النون فاحتمل أن يكون اسمًا مفردًا بنى على فعل كعتل واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب {البدن} على الاشتغال أي وجعلنا البدن جعلناها، وقرئ بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى: {الله لَكُمْ} ظرف متعلق بالجعل، و{مِن شَعَائِرِ الله} في موضع المفعول الثاني له، وقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} أي نفع في الدنيا وأجر في الآخرة كما روي عن ابن عباس.
وعن السدي الاقتصار على الأجر جملة مستأنفة مقررة لما قبلها.
{فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} بأن تقولوا عند ذبحها بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك. وقد أخرج ذلك جماعة عن ابن عباس، وفي البحر بأن يقول: عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك.
{صَوَافَّ} أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن فهو جمع صافة ومفعوله مقدر. وقرأ ابن عباس، وابن عمر وابن مسعود. والباقر. ومجاهد. وقتادة. وعطاء. والكلبي. والأعمش بخلاف عنه {صوافن} بالنون جمع صافنة وهو إما من صفن الرجل إذا صف قدميه فيكون عنى صواف أو من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة عند الذبح تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وعقلها عند النحر سنة، فقد أخرج البخاري. ومسلم. وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رأى رجلًا قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قيامًا مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. والأكثرون على عقل اليد اليسرى، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن سابط رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعقلون يد البدنة اليسرى وينحرونها قائمة على ما بقي من قوائمها. وأخرج عن الحسن قيل له: كيف تنحر البدنة؟ قال: تعقل يدها اليسرى إذا أريد نحرها، وذهب بعض إلى عقل اليمنى؛ فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضًا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان ينحرها وهي معقولة يدها اليمنى، وقيل لا فرق بين عقل اليسرى وعقل اليمنى، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضًا عن عطاء قال: اعقل أي اليدين شئت.
وأخرج جماعة عن ابن عمر أنه فسر {عَلَيْهَا صَوَافَّ} بقائمات معقولة إحدى أيديهن فلا فرق في المراد بين صواف وصوافن على هذا أصلًا، لكن روي عن مجاهد أن الصواف على أربع والصوافن على ثلاث. وقرأ أبو موسى الأشعري. والحسن. ومجاهد. وزيد بن أسلم. وشقيق. وسليمان التيمي. والأعراج {صوافي} بالياء جمع صافية أي خوالص لوجه الله عز وجل لا يشرك فيها شيء كما كانت الجاهلية تشرك، ونون الياء عمر. وابن عبيد وهو خلاف الظاهر لأن {صوافي} ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وخرج على وجهين، أحدهما: أنه وقف عليه بألف الإطلاق لأنه منصوب ثم نون تنوين الترنم لا تنوين الصرف بدلًا من الألف، وثانيهما أنه على لغة من يصرف ما لا ينصرف لاسيما الجمع المتناهي ولذا قال بعضهم:
والصرف في الجمع أتى كثيرا ** حتى ادعى قوم به التخييرا

وقرأ الحسن أيضًا {عَلَيْهَا صَوَافَّ} بالتنوين والتخفيف على لغة من ينصب المنقوص بحركة مقدرة ثم يحذف الياء فأصل {صَوَافَّ} صوافي حذفت الياء لثقل الجمع واكتفى بالكسرة التي قبلها ثم عوض عنها التنوين ونحوه.
ولو أن واش باليمامة داره ** وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا

وقد تبقى الياء ساكنة كما في قوله:
يا باري القوس بريا ليست تحسنها ** لا تفسدنها وأعط القوس باريها

وعلى ذلك قراءة بعضهم {صوافي} بإثبات الياء ساكنة بناءً على أنه كما في القراءة المشهورة حال من ضمير {وَجَدْنَا عَلَيْهَا} ولو جعل كما قيل بدلًا من الضمير لم يحتج إلى التخريج على لغة شاذة {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت. وظاهر ذلك مع ما تقدم من الآثار يقتضي أنها تذبح وهي قائمة، وأيد به كون البدن من الإبل دون البقر لأنه لم تجز عادة بذبحها قائمة وإنما تذحب مضطجعة وقلما شوهد نحر الإبل وهي مضطجعة {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع} أي الراضي بما عنده وا يعطى من غير مسألة ولا تعرض لها، وعليه حمل قول لبيد:
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ** ومنهم شقي بالمعيشة قانع

{والمعتر} أي المعترض للسؤال من اعتره إذا تعرض له، وتفسيرهما بذلك مروى عن ابن عباس. وجماعة، وقال محمد بن كعب. ومجاهد. وإبراهيم. والحسن. والكلبي: {القانع} السائل كما في قول عدي بن زيد:
وما خنت ذا عهد وأيت بعهده ** ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعًا

{والمعتر} المعترض من غير سؤال، فالقانع قيل على الأول من قنع يقنع كتعب يتعب قنعًا إذا رضي بما عنده من غير سؤال، وعلى الثاني من قنع يقنع كسأل يسأل لفظًا ومعنى قنوعًا. وعلى ذلك جاء قول الشاعر:
العبد حر إن قنع ** والحر عبد إن قنع

فاقنع ولا تطمع فما ** شيء يشين سوى الطمع

فلا يكون {القانع} على هذا من الأضداد لاختلاف الفعلين، ونص على ذلك الخفاجي حاكمًا بتوهم من يقول بخلافه. وفي الصحاح نقل القول بأنه من الأضداد عن بعض أهل العلم ولم يتعقبه بشيء، ونقل عنه أيضًا أنه يجوز أن يكون السائل سمي قانعًا لأنه يرضى بما يعطي قل أو كثر ويقبله ولا يرد فيكون معنى الكلمتين راجعًا إلى الرضا، وإلى كون قنع بالكسر عنى رضي وقنع بالفتح عنى سأل ذهب الراغب وجعل مصدر الأول قناعة وقنعانا ومصدر الثاني قنوعًا. ونقل عن بعضهم أن أصل ذلك من القناع وهو ما يغطى به الرأس فقنع بالكسر لبس القناع ساترًا لفقره كقولهم: خفي إذا لبس الخفاء وقنع إذا رفع قناعه كاشفًا لفقره بالسؤال نحو خفي إذا رفع الخفاء، وأيد كون القانع عنى الراضي بقراءة أبي رجاء {القانع} بوزن الحذر بناءً على أنه لم يرد عنى السائل بخلاف القانع فإنه ورد بالمعنيين والأصل توافق القراءات، وعن مجاهد {القانع} الجار وإن كان غنيًا وأخرج ابن أبي شيبة عنه وعن ابن جبير أن القانع أهل مكة والمعتر سائر الناس، وقيل: المعتر الصديق الزائر، والذي اختاره من هذه الأقوال أولها.
وقرأ الحسن {والمعتري} اسم فاعل من اعترى وهو واعتر عنى. وقرأ عمرو. وإسماعيل كما نقل ابن خالويه {المعتر} بكسر الراء بدون ياء، وروى ذلك المقري عن ابن عباس، وجاء ذلك أيضًا عن أبي رجاء وحذفت الياء تخفيفًا منه واستغناءً بالكسرة عنها. واستدل بالآية على أن الهدى يقسم أثلاثًا ثلث لصاحبه وثلث للقانع والمعتر ثلثًا والبائس الفقير ثلثًا وأهلي ثلثًا وفي القلب من صحته شيء.
وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدى منه إلا الربع وكأنه عد القانع والمعتر والبائس الفقير ثلاثة وهو كما ترى، قال ابن عطية: وهذا كله على جهة الاستحسان لا الفرض، وكأنه أراد بالاستحسان الندب فيكون قد حمل كلا الأمرين في الآية على الندب.
وفي التيسير أمر {وَفَرْشًا كُلُواْ} للإباحة ولو لم يأكل جاز وأمر {أطعموا} للندب ولو صرفه كله لنفسه لم يضمن شيئًا، وهذا في كل هدى نسك ليس بكفارة وكذا الأضحية، وأما الكفارة فعليه التصدق بجميعها فما أكله أو أهداه لغنى ضمنه. وفي الهداية يستحب له أن يأكل من هدى التطوع والمتعة والقران وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا وهو قول بنحو ما يقتضيه كلام ابن عطية في كلا الأمرين. وأباح مالك الأكل من الهدى الواجب الأجزاء الصيد والأذى والنذر، وأباحه أحمد إلا من جزاء الصيد والنذر، وعند الحسن الأكل من جميع ذلك مباح وتحقيق ذلك في كتب الفقه {قَالَ كذلك} أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى: {صَوَافَّ} {سخرناها لَكُمْ} مع كمال عظمها ونهاية قوتها فلا تستعصى عليكم حتى إنكم تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها ولولا تسخير الله تعالى لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرمًا وأقل قوة وكفى ما يتأبد من الإبل شاهدًا وعبرة.
وقال ابن عطية: كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرناها لكم ولا يخفى بعده {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروا أنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص.