فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (39):

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}
{أَذِنَ} أي رخص، وقرأ ابن عباس وابن كثير. وابن عامر. وحمزة والكسائي {أَذِنَ} بالبناء للفاعل أي أذن الله تعالى: {لِلَّذِينَ يقاتلون} أي يقاتلهم المشركون والمأذون فيه القتال وهو في قوة المذكور لدلالة المذكور عليه دلالة نيرة.
وقرأ أبو عمرو. وأبو بكر. ويعقوب {يقاتلون} على صيغة المبنى للفاعل أي يريدون أن يقاتلوا المشركين في المستقبل ويحرصون عليه فدلالته على المحذوف أنور {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} أي بسبب أنهم ظلموا. والمراد بالموصول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين في مكة فقد نقل الواحدي. وغيره أن المشركين كانوا يؤذونهم وكانوا يؤتون النبي عليه الصلاة والسلام بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فانزلت هذه الآية وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية على ما روى الحاكم في «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه عبد الرزاق. وابن المنذر عن الزهري.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت فيه {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] وفي الأكليل للحاكم أن أول آية نزلت في ذلك {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} [التوبة: 111]، وروى البيهقي في الدلائل. وجماعة أنها نزلت في أناس مؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاتبعهم كفار قريش فأذن الله تعالى لهم في قتالهم وعدم التصريح بالظالم لمزيد السخط تحاشيًا عن ذكره.
{وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وعد لهم بالنصر وتأكيد لما مر من العدة وتصريح بأن المراد به ليس مجرد تخليصهم من أيدي المشركين بل تغليبهم وإظهارهم عليهم، وقد أخرج الكلام على سنن الكبرياء فإن الرمزة والابتسامة من الملك الكبير كافية في تيقن الفوز بالمطلوب وقد أوكد تأكيدًا بليغًا زيادة في توطين نفوس المؤمنين.

.تفسير الآية رقم (40):

{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}
{الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} في حيز الجر على أنه صفة للموصول قبل أو بيان له أو بدل منه أو في محل النصب على المدح أو في محل الرفع بإضمار مبتدأ، والجملة مرفوعة على المدح، والمراد الذين أخرجهم المشركون من مكة {بِغَيْرِ حَقّ} متعلق بالإخراج أي أخرجوا بغير ما يوجب إخراجهم.
وجوز أن يكون صفة مصدر محذوف أي أخرجوا إخراجًا كائنًا بهذه الصفة، واختار الطبري كونه في موضع الحال أي كائنين بغير حق مترتب عليهم يوجب إخراجهم، وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} استثناء متصل من {حَقّ} وأن وما بعدها في تأويل مصدر بدل منه لما في غير من معنى النفي، وحاصل المعنى لا موجب لإخراجهم إلا التوحيد وهو إذا أريد بالموجب الموجب النفس الأمري على حد قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وجوز أن يكون الإبدال من غير وفي أخرجوا معنى النفي أي لم يقروا في ديارهم إلا بأن يقولوا إلخ وهو وهو كما ترى، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا وأوجبه أبو حيان أي ولكن أخرجوا بقولهم ربنا الله، وأوجب نصب ما بعد إلا كما أوجبوه في قولهم: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، ورد كونه متصلًا وكون ما بعد ءلا بدلًا من {حَقّ} بما هو أشبه شيء بالمغالطة، ويفهم من كلامه جواز أن تكون إلا عنى سوى صفة لحق أي أخرجوا بغير حق سوى التوحيد، وحاصله أخرجوا بكونهم موحدين.
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ} تحريض على القتال المأذون فيه بإفادة أنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية لينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم فكأنه لما قيل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون} [الحج: 39] إلخ قيل فليقاتل المؤمنون فلولا القتال وتسليط الله تعالى المؤمنين على المشركين في كل عصر وزمان لهدفت متعبداتهم ولذهبوا شذر مذر، وقيل: المعنى لولا دفع الله بعض الناس ببعض بتسليط مؤمني هذه الأمة على كفارها لهدمت المتعبدات المذكورة إلا أنه تعالى سلط المؤمنين على الكافرين فبقيت هذه المتعبدات بعضها للمؤمنين وبعضها لمن في حمايتهم من أهل الذمة وليس بذاك، وقال مجاهد: أي لولا دفع ظلم قوم بشهادة العدول ونحو ذلك لهدمت إلخ.
وقال قوم: أي لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقالت فرقة: أي لولا دفع العذاب عن الأشرار بدعاء الأخيار، وقال قطرب: أي لولا الدفع بالقصاص عن النفوس. وقيل بالنبيين عليهم السلام عن المؤمنين والكل مما لا يقتضيه المقام ولا ترتضيه ذوو الأفهام.
والصوامع جمع صومعه بوزن فعولة وهي بناء مرتفع حديد الأعلى والأصمع من الرجال الحديد القول، وقال الراغب: هي كل بناء متصمع الرأس أي متلاصقة والأصمع اللاصقة إذنه برأسه وهو قريب من قريب، وكانت قبل الإسلام كما قال قتادة مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئة ثم استعملت في مئذنة المسلمين، والمراد بها هنا متعبد الرهبان عند أبي العالية ومتعبد الصابئة عند قتادة ولا يخفى أنه لا ينبغي إرادة ذلك حيث لم تكن الصابئة ذات ملة حقة في وقت من الأوقات، والبيع واحدها بيعة بوزن فعلة وهي مصلى النصارى ولا تختص برهبانهم كالصومعة، قال الراغب: فإن يكن ذلك عربيًا في الأصل فوجه التسمية به لما قال سبحانه: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الآية، وقيل هي كنيسة اليهود.
وقرأ أهل المدينة. ويعقوب {وَلَوْلاَ} بالألف. وقرأ الحرميان. وأيوب. وقتادة. وطلحة. وزائدة عن الأعمش. والزعفراني {بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ} بالتخفيف، والتضعيف باعتبار كثرة المواضع.
{وصلوات} جمع صلاة وهي كنيسة اليهود، وقيل: معبد للنصارى دون البيعة والأول أشهر، وسميت الكنيسة بذلك لأنها يصلى فيها فهي مجاز من تسمية المحل باسم الحال، وقيل: هي عناها الحقيقي وهدمت عنى عطلت أو في الكلام مضاف مقدر وليس بذاك، وقيل: {صلوات} معرب صلوثا بالثاء المثلثة والقصر ومعناها بالعبرانية المصلى. وروى عن أبي رجاء. والجحدري. وأبي العالية. ومجاهد أنهم قرأوا بذلك. والظاهر أنه على هذا القول اسم جنس لا علم قبل التعريب وبعده لكن ما رواه هرون عن أبي عمرو من عدم تنوينه ومنع صرفه للعلمية والعجمة يقتضي أنه علم جنس إذ كونه اسم موضع بعينه كما قيل بعيد فعليه كان ينبغي منع صرفه على القراءة المشهورة فلذا قيل إنه صرف لمشابهته للجمع لفظًا فيكون كعرفات، والظاهر أنه نكر إذ جعل عامًا لما عرب، وأما القول بأن القائل به لا ينونه فتكلف قاله الخفاجي.
وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما {صلوات} بضم الصاد واللام، وحكى عنه ابن خالويه بكسر الصاد وسكون اللام وحكيت عن الجحدري، وحكى عنه أيضًا {صلوات} بضم الصاد وفتح اللام وحكيت عن الكلبي، وقرأ أبو العالية في رواية {صلوات} بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأ الحجاج بن يوسف {صلوات} بضم الصاد واللام من غير ألف وحكيت عن الجحدري أيضًا، وقرأ مجاهد {صلوتا} بضمتين وتاء مثناة بعدها ألف، وقرأ الضحاك. والكلبي {صلوث} بضمتين من غير ألف وبثاء مثلثة، وقرأ عكرمة {صلويثا} بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف، وحكى عن الجحدري أيضًا {صلوث} بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة، وحكى عن مجاهد أنه قرأ كذلك إلا أنه بكسر الصاد، وحكى ابن خالويه.
وابن عطية عن الحجاج. والجحدري {صلوب} بضمتين وباء موحدة على أنه جمع صليت كظريف وظروف وجمع فعيل على فعول شاذ فهذه عدة قراآت قلما يوجد مثلها في كلمة واحدة {وصلوات ومساجد} جمع مسجد وهو معبد معروف للمسلمين، وخص بهذا الاسم اعتناء بشأنه من حيث أن السجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه عز وجل، وقيل: لاختصاص السجود في الصلاة بالمسلمين، ولد بقوله تعالى: {العالمين يامريم اقنتى لِرَبّكِ واسجدى واركعى} [آل عمران: 43] مع الراكعين وحمل السجود فيها على المعنى اللغوي بعيد، وقال ابن عطية: الأسماء المذكورة تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف كل لغة، والأكثرون على أن الصوامع للرهبان والبيع للنصارى والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين.
ولعل تأخير ذكرها مع أن الظاهر تقديمها لشرفها لأن الترتيب الوجودي كذلك أو لتقع في جوار مدح أهلها أو للتبعيد من قرب التهديم، ولعل تأخير {صلوات} عن {بَيْعٌ} مع مخالفة الترتيب الوجودي له للمناسبة بينها وبين المساجد كذا قيل، وقيل إنما جيء بهذه المتعبدات على هذا النسق للانتقال من شريف إلى أشرف فإن البيع أشرف من الصوامع لكثرة العباد فيها فإنها معبد للرهبان وغيرهم والصوامع معبد للرهبان فقد وكنائس اليهود أشرف من البيع لأن حدوثها أقدم وزمان العبادة فيها أطول، والمساجد أشرف من الجميع لأن الله تعالى قد عبد فيها بما لم يعبد به في غيرها.
ولعل المراد من قوله تعالى: {لَّهُدّمَتْ} إلخ المبالغة في ظهور الفساد ووقوع الاختلال في أمر العباد لولا تسليط الله تعالى المحقين على المبطلين لا مجرد تهديم متعبدات للمليين {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيرًا} في موضع الصفة لمساجد، وقال الضحاك: ومقاتل. والكلبي: في موضع الصفة للجميع واستظهره أبو حيان، وكون كون بيان ذكر الله عز وجل في الصوامع والبيع والكنائس بعد انتساخ شرعيتها مما لا يقتضيه المقام ليس بشيء لأن الانتساخ لا ينافي بقاءها ببركة ذكر الله تعالى فيها مع أن معنى الآية عام لماقبل الانتساخ كما مر.
{وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} وبالله أي لينصرن الله تعالى من ينصر دينه أو من ينصر أولياءه ولقد أنجز الله تعالى وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ} على كل ما يريده من مراداته التي من جملتها نصرهم {عَزِيزٌ} لا يمانعه شيء ولا يدافعه.

.تفسير الآية رقم (41):

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
{الذين إِنْ مكناهم فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَءاتُواْ *الذين إِنْ مكناهم فِي الأرض أَقَامُواْ} وصف للذين أخرجوا مقطوع أو غير مقطوع. وجوز أن يكون بدلًا، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر، والمراد بالأرض جنسها، وقيل مكة، والمراد بالصلاة الصلاة المكتوبة وبالزكاة الزكاة المفروضة وبالمعروف التوحيد وبالمنكر الشرك على ما روى عن زيد بن أسلم.
ولعل الأولى في الأخيرين التعميم، والوصف بما ذكر كما روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه ثناء قبل بلاء يعني أن الله تعالى أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا قالوا: وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذلك على مافي الكشف لأن الآية مخصوصة بالمهاجرين لأنهم المخرجون بغير حق والممكنون في الأرض منهم الخلفاء دون غيرهم فلو لم تثبت الأوصاف الباقية لزم الخلف في المقال تعالى الله سبحانه عنه لدلالته على أن كل ممكن منهم يلزمه التوالي لعموم اللفظ، ولما كان التمكين واقعًا تم الاستدلال دون نظر إلى استدعاء الشرطية الوقوع كالكلام المقرون بلعل وعسى من العظماء فإن لزوم التالي مقتضى اللفظ لا محالة ولما وقع المقدم لزم وقوعه أيضًا، وفي ثبوت التالي ثبوت حقية الخلافة البتة وهي واردة على صيغة الجمع المنافية للتخصيص بعلى وحده رضي الله تعالى عنه، وعن الحسن. وأبي العالية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأولى على هذا أن يجعل الموصول بدلًا من قوله تعالى: {مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40] كما أعربه الزجاج، وكذا يقال على ما روى عن ابن عباس أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون، وعلى ما روى عن أبي نجيح أنهم الولاة.
وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي إلا الأول {وَللَّهِ} خاصة {عاقبة الامور} فإن مرجعها إلى حكمه تعالى وتقديره فقط، وفيه تأكيد للوعد بإعلاء كلمته وإظهار أوليائه.