فصل: تفسير الآيات (42- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآيات (42- 44):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)}
{وأصحاب مَدْيَنَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصيغة المضارع في الشرط مع تحقق التكذيب لما أن المقصود تسليته عليه الصلاة والسلام عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع أو للإشارة إلى أنه مما لا ينبغي تحققه وإلحاق {كَذَّبَ} تاء التأنيث لأن الفاعل وهو {قَوْمٌ} اسم جمع يحوز تذكيره وتأنيثه ولا حاجة لتأويله بالأمة أو القبيلة كما فعل أبو حيان ومن تبعه، وفي اختيار التأنيث حط لقدر المكذبين ومفعول كذب محذوف لكمال ظهور المراد.
وجوز أن يكون الفعل منزلًا منزلة اللازم أي فعلت التكذيب واستغنى في عاد وثمود عن ذكر القوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخصر والأصل في التعبير العلم فلذا لم يقل قوم صالح وقوم هود ولا علم لغير هؤلاء، ولم يقل وقوم شعيب قيل لأن قومه المكذبين له عليه السلام هم هؤلاء دون أهل الأيكة لأنهم وإن أرسل عليه السلام إليهم فكذبوه أجنبيون، وتكذيب هؤلاء أيضًا أسبق وأشد، والتخصيص لأن التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام عن تكذيب قومه أي وإن يكذبك قومك فاعلم أنك لست بأوحدى في ذلك فقد كذبت قبل تكذيب قومك إياك قوم نوح إلخ {وَكُذّبَ موسى} المكذب له عليه السلام هم القبط وليسوا قومه بل قومه عليه السلام بنو إسرائيل ولم يكذبوه بإسرهم ولم يكذبوه بأسرهم ومن كذبه منهم تاب إلا اليسير وتكذيب اليسير من القوم كلا تكذيب ألا ترى أن تصديق اليسير من المذكورين قبل عد كلا تصديق ولهذا لم يقل وقوم موسى كما قيل: {قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْمِ إبراهيم} وأما أنه لم يقل والقبط بل أعيد الفعل مبنيًا للمفعول فللإيذان بأن تكذيبهم له عليه الصلاة والسلام في غاية الشناعة لكون آياته في كمال الوضوح {فَأمْلَيْتُ للكافرين} أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم. والفاء لترتيب إمهال كل فريق من فرق المكذبين على تكذيب ذلك الفريق لا لترتيب إمهال الكل على تكذيب الكل. ووضع الظاهر موضع المضمر العائد على المكذبين لذمهم بالكفر والتصريح كذبي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل تصريحًا {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أخذت كل فريق من فريق المكذبين بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله. والأخذ كناية عن الإهلاك {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري عليهم بتغيير ما هم عليه من الحياة والنعمة وعمارة البلاد وتبديله لضده فهو مصدر من نكرت عليه إذا فعلت فعلًا يردعه عنى الإنكار كالنذير عنى الإنذار. وياء الضمير المضاف إليها محذوفة للفاصلة وأثبتها بعض القراء، والاستفهام للتعجب كأنه قيل فما أشد ما كان إنكاري عليهم، وفي الجملة إرهاب لقريش وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (45):

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}
{فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} منصوب ضمر يفسره قوله تعالى: {أهلكناها} أي فأهلكنا كثيرًا من القرى أهلكناها، والجملة بدل من قوله سبحانه: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] أو مرفوع على الابتداء وجملة {أهلكناها} خبره أي فكثير من القرى أهلكناها، واختار هذا أبو حيان قال: الأجود في إعراب {كأين} أن تكون مبتدأ وكونها منصوبة بفعل مضمر قليل.
وقرأ أبو عمرو. وجماعة {أهلكتها} بتاء المتكلم على وفق {موسى فَأمْلَيْتُ للكافرين ثم أخذتهم} [الحج: 44] ونسبة الإهلاك إلى القرى مجازية والمراد إهلاك أهلها، ويجوز أن يكون الكلام بتقدير مضاف، وقيل: الإهلاك استعارة لعدم الانتفاع بها بإهلاك أهلها، وقوله تعالى: {وَهِىَ ظالمة} جملة حالية من مفعول أهلكنا، وقوله تعالى: {فَهِىَ خَاوِيَةٌ} عطف على {أهلكناها} فلا محل له من الإعراب أو محله الرفع كالمعطوف عليه، ويجوز عطفه على جملة {كأين} إلخ الاسمية واختاره بعضهم لقضية التشاكل، والفاء غير مانعة بناء على ترتب الخواء على الإهلاك لأنه على نحو زيد أبوك فهو عطوف عليك، وجوز عطفه على الجملة الحالية، واعترض بأن خواءها ليس في حال إهلاك أهلها بل بعده، وأجيب بأنها حال مقدرة ويصح عطفها على الحال المقارنة أو يقال هي حال مقارنة أيضًا بأن يكون إهلاك الأهل بخوائها عليهم، ولا يخفى أن كلا الجوابين خلاف الظاهر، والخوار إما عنى السقوط من خوى النجم إذا سقط، وقوله تعالى: {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} متعلق به، والمراد بالعروش السقوف، والمعنى فهي ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإسناد السقوط على العروش إليها لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه، وإما عنى الخلو من خوت الدار تخوى خواء إذا خلت من أهلها، ويقال: خوى البطن يخوي خوى إذا خلا من الطعام، وجعل الراغب أصل معنى الخواء هذا وجعل خوى النجم من ذلك فقال: يقال خوى النجم وأخوى إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيهًا بذلك فقوله تعالى: {على عُرُوشِهَا} إما متعلق به أو متعلق حذوف وقع حالًا، و{على} عنى مع أي فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها، ويجوز على تفسير الخواء بالخلو أن يكون {على عُرُوشِهَا} خبرًا بعد خبر أي فهي خالية وهي على عروشها أي قائمة مشرفة على عروشها على أن السقوف سقطت إلى الأرض وبقيت الحيطان قائمة وهي مشرفة على السقوف الساقطة، وإسناد الإشراف إلى الكل مع كونه حال الحيطان لما مر آنفًا {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} عطف على {قَرْيَةٌ} والبئر من بأرت أي حفرت وهي مؤنثة على وزن فعل عنى مفعول وقد تذكر على معنى القليب وتجمع على أبار وآبار وأبؤر وأأبر وبيار، وتعطيل الشيء إبطال منافعه أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يسقى منها لهلاك أهلها.
وقرأ الجحدري. والحسن. وجماعة {مُّعَطَّلَةٍ} بها لتخفيف من أعطله عنى عطله.
{وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} عطف على ما تقدم أيضًا أي وكم قصر مرفوع البنيان أو مبنى بالشيد بالكسر أي الجص أخليناه عن ساكنيه كما يشعر به السياق ووصف البئر عطلة قيل، وهذا يؤيد كون معنى {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} خالية مع بقاء عروشها، وفي البحر ينبغي أن يكون {مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ} من حيث عطفهما على {قَرْيَةٌ} داخلين معها في حيز الإهلاك مخبرًا به عنهما بضرب من التجوز أي وكم بئر معطلة وقصر مشيد أهلكنا أهلهما.
وزعم بعضهم عطفهما على {عُرُوشِهَا} وليس بشيء، وظاهر التنكير فيهما عدم إرادة معين منهما، وعن ابن عباس أن البئر كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس، وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني.
وعن الضحاك. وغيره أن القصر على قلة جبل بحضرمون والبئر بسفحه وأن صالحًا عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب، وسميت حضرموت بفتح الراء والميم ويضمان ويبني ويضاف لأن صالحًا عليه السلام حين حضرها مات، وعند البئر بلدة اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليها جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانًا ثم كفروا وعبدوا صنمًا وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيًا فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى عن آخرهم وعطل سبحانه بئرهم وقصرهم.
وجوز أن يكون إرادة ذلك بطريق التعريض وفيه بعد.

.تفسير الآية رقم (46):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} حث لهم على السفر للنظر والاعتبار صارع الهالكين هذا إن كانوا لم يسافروا وإن كانوا سافروا فهو حث على النظر والاعتبار، وذكر المسير لتوقفه عليه، وجوز أن يكون الاستفهام للإنكار أو التقرير، وأيًا ما كان فالعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ} منصوب في جواب الاستفهام عند ابن عطية. وفي جواب التقرير عند الحوفي وفي جواب النفي عند بعض، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار أن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم. ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على {يَسِيرُواْ} وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب وهو كما ترى. ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها.
وقرأ مبشر بن عبيد {فَيَكُونُ} بالياء التحيتية {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي يعلمون بها ما يجب أن يعلم من التوحيد فمفعول {يَعْقِلُونَ} محذوف لدلالة المقام عليه، وكذا يقال في قوله تعالى: {أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي يسمعون بها ما يجب أن يسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الابصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} ضمير {فَإِنَّهَا} للقصة فهو مفسر بالجملة بعده، ويجوز في مثله التذكير باعتبار الشان، وعلى ذلك قراءة عبد الله {فَإِنَّهُ} وحسن التأنيث هنا وقوع ما فيه تأنيث بعده، وقيل: يجوز أن يكون ضميرًا مبهمًا مفسرًا بالإبصار، وكان الأصل فإنها الابصار لا تعمى على أن جملة {لاَ تَعْمَى} من الفعل والفاعل المستتر خبر بعد خبر فلما ترك الخبر الأول أقيم الظاهر مقام الضمير لعدم ما يرجع إليه ظاهرًا فصار فاعلًا مفسرًا للضمير. واعترضه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن الضمير المفسر فرد بعده محصور في أمور وهي باب رب وباب نعم وبئس وباب الأعمال وباب البدل وباب المبتدا والخبر وما هنا ليس منها. ورد بأنه من باب المبتدا والخبر نحو {إِنْ هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الانعام: 29] ولا يضره دخول الناسخ، وفيه نظر، والمعنى أنه لا يعتد بعمى الأبصار وإنما يعتد بعمى القلوب فكأن عمى الأبصار ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب، فالكلام تذييل لتهويل ما بهم من عدم فقه القلب وأنه العمى الذي لا عمى بعده بل لا عمى إلا هو أو المعنى إن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم فكأنه قيل: أفلم يسيروا فتكون لهم قلوب ذات بصائر فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بأبصار عيونهم وهي الآفة التي كل آفة دونها كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعي عليهم تقاعدهم عنها، ووصف القلوب بالتي في الصدور على ما قال الزجاج للتأكيد كما في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بأفواههم} [آل عمران: 167] وقولك: نظرت بعيني.
وقال الزمخشري: قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة ومثل فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك وهو في حكم قولك: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوًا مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدًا.
وهذه الآية على ما قيل نزلت في ابن أم مكتوم حين سمع قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الاخرة أعمى} [الإسراء: 72] فقال: يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ ورا يرجح بهذه الرواية إن صحت المعنى الأول إذ حصول الجواب بالآية عليه ظاهر جدًا فكأنه قيل له: أنت لا تدخل تحت عموم {وَمَن كَانَ} إلخ لأن عمى الأبصار في الدنيا ليس بعمى في الحقيقة في جنب عمى القلوب والذي يدخل تحت عموم ذلك من اتصف بعمى القلب، وهذا يكفي في الجواب سواء كان معنى قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الاخرة أعمى} ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة كذلك أو ومن كان في الدنيا أعمى للقلب فهو في الآخرة أعمى البصر لأنه فيها تبلى السرائر فيظهر عمى القلب بصورة عمى البصر، نعم في صحة الرواية نظر.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: ذكر لنا أنها نزلت في عبد الله بن زائدة يعني ابن أم مكتوم، ولا يخفى حكم الخبر إذا روى هكذا. واستدل بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} إلخ على استحباب السياحة في الأرض وتطلب الآثار.
وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب التفكر عن مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن التخذ نعلين من حديد وعصا ثم سح في الأرض فاطلب الآثار والعبر حتى تحفى النعلان وتنكسر العصا، وبقوله تعالى: {فَتَكُونُ} إلخ على أن محل العقل القلب لا الرأس، قاله الجلال السيوطي في أحكام القرآن العظيم.
وقال الإمام الرازي: في الآية دلالة على أن العقل هو العلم وعلى أن محله هو القلب، وأنت تعلم أن كون العقل هو العلم هو اختيار أبي إسحق الاسفرائيني واستدل عليه بأنه يقال لمن عقل شيئًا علمه ولمن علم شيئًا عقله، وعلى تقدير التغاير لا يقال ذلك وهو غير سديد لأنه إن أريد بالعلم كل علم يلزم منه أن لا يكون عاقلًا من فاته بعض العلوم مع كونه محصلًا لما عداه وإن أريد بعض العلوم فالتعريف غير حاصل لعدم التمييز وما ذكر من الاستدلال غير صحيح لجواز أن يكون العلم مغايرًا للعقل وهما متلازمان.
وقال الأشعري: لا فرق بين العقل والعلم إلا في العموم والخصوص والعلم أعم من العقل فالعقل إذًا علم مخصوص فقيل: هو العلم الصارف عن القبيح الداعي إلى الحسن وهو قول الجبائي، وقيل: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين وهو قول لبعض المعتزلة أيضًا ولهم أقوال أخر، والذي اختاره القاضي أبو بكر أنه بعض العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات وأن الموجود لا يخرج عن أن يكون قديمًا أو حادثًا ونحو ذلك. واحتج إمام الحرمين على صحة ذلك وإبطال ما عداه بما ذكره الآمدي في ابكار الأفكار بما له وعليه. واختار المحاسبي عليه الرحمة أنه غزيرة يتوصل بها إلى المعرفة، ورد بأنه إن أراد بالغريزة العلم لزمه ما لزم القائل بأنه العلم وإن أراد بها غير العلم فقد لا يسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة.
وقال صاحب القاموس بعد نقل عدة أقوال في العقل: والحق أنه نور روحاني به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، ولعنا نحقق ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى، ثم ان في محلية القلب للعلم خلافًا بين العقلاء فالمشهور عن الفلاسفة أن محل العلم المتعلق بالكليات والجزئيات المجردة النفس الناطقة ومحل العلم المتعلق بالجزئيات المادية قوى جسمانية قائمة بأجزاء خاصة من البدن وهي منقسمة إلى خمس ظاهرة وخمس باطنة وتسمى الأولى الحواس الظاهرة والثانية الحواس الباطنة وأمر كل مشهور.
وزعم بعض متفلسفة المتأخرين أن المدرك للكليات والجزئيات إنما هو النفس والقوى مطلقًا غير مدركة بل آلة في إدراك النفس وذهب إليه بعض منا. وفي أباكر الأفكار بعد نقل قولي الفلاسفة وأما أصحابنا فالبنية المخصوصة غير مشترطة عندهم بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك وعلم فهو مدرك عالم، وكون ذلك هما يقوم بالقلب أو غيره مما لا يجب عقلا ولا يمتنع لكن دل الشرع على القيام بالقلب لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] وقوله سبحانه: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وقوله عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] انتهى، ولا يخفى أن الاستدلال بما ذكر على محلية القلب للعلم لا يخلو عن شيء، نعم لا ينكر دلالة الآيات على أن للقلب الإنساني لما أودع فيه مدخلًا تامًا في الإدراك، والوجدان يشهد دخلية ما أودع في الدماغ في ذلك أيضًا، ومن هنا لا أرى للقول بأن لأحدهما مدخلًا دون الآخر وجهًا، وكون الإنسان قد يضرب على رأسه فيذهب عقله لا يدل على أن لما أودع في الدماغ لا غير مدخلًا في العلم كما لا يخفى على من له قلب سليم وذهن مستقيم فتأمل.