فصل: تفسير الآية رقم (47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (47):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} الضمير لقريش كان صلى الله عليه وسلم يحذرهم عذاب الله تعالى ويوعدهم ميجئه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار ويطلبون مجيئه استهزاء وتعجيزًا له صلى الله عليه وسلم فانكر عليهم ذلك، فالجملة خبر لفظًا واستفهام وإنشاء معنى، وقوله تعالى: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} جملة حالية جيء بها لبيان بطلان إنكارهم العذاب في ضمن استعجالهم به كأنه قيل: كيف تنكرون مجيء العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده، وقد سبق الوعد فلابد من مجيئة أو اعتراضية لما ذكر أيضًا، وقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} جملة مستأنفة إن كانت الأولى حالية ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لتحقيق إنكار الاستعجال وبيان خطئهم فيه ببيان كمال سعة ساحة حلمه تعالى وءظهار غاية ضيق عطنهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مددًا طوالًا عندهم حسا ينطق به قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6، 7] ولذا يرون مجيئه بعيدًا ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ويجترؤون على الاستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها وقوعًا وأخبارًا ما عنده من المقدار. وقراءة الأخوين. وابن كثير {يَعْدُونَ} على صيغة الغيبة أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى، وقد جعل الخطاب في قراءة الجمهور لهم أيضًا بطريق الالتفات لكن الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، وقيل: المراد بوعده تعالى ما جعل لهلاك كل أمة من موعد معين وأجل مسمى كما في قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] فتكون الجملة الأولى مطلقًا مبينة لبطلان الاستعجال به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود، والجملة الأخيرة بيان لبطلانه ببيان ابتنائه على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه المار بيانه، وحينئذ لا يكون في النظم الكريم تعرض لانكارهم مجيئه الذي دسوه تحت الاستعجال، ويكتفي في رد ذلك ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم، وأيًا ما كان فالعذاب المستعجل به العذاب الدنيوي وهو الذي يقتضيه السباق والسياق. وقيل: المراد بالعذاب العذاب الأخروي والمراد باليوم المذكور يوم ذلك العذاب واستطالته لشدته فإن أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة كما قيل:
تمتع بايام السرور فإنها ** قصار وأيام الهموم طوال

وعلى ذلك جاء قوله:
ليلى وليلى نفي نومي اختلافهما ** بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا

يجود بالطول ليلى كلما بخلت ** بالطول ليلى وأن جادت به بخلا

فيكون قد رد عليهم إنكار مجيء العذاب بالجملة الأولى وأنكر عليهم الاستعجال به وإن كان ذلك على وجه الاستهزاء بالجملة الثانية فكأنه قيل: كيف تنكرون مجيئه وقد سبق به الوعد ولن يخلف الله تعالى وعده فلابد من مجيئه حتمًا وكيف تستعجلون به واليوم الواحد من أيامه لشدته يرى كألف سنة مما تعدون، ويقال نحو ذلك على القول بأن المراد باليوم أحد أيام الآخرة فإنها اعتبرت طوالًا أو أنها تستطال لشدة عذابها.
واعترض بأن ذلك مما لا يساعده السباق ولا السياق، وقال الفراء: تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة وأريد بالعذاب المستعجل به عذاب الدنيا أي لن يخلف الله تعالى وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا وإن يومًا من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى.
واستدل المعتزلة بقوله تعالى: {لَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} على أن الله سبحانه لا يغفر للعصاة لأن الوعد فيه عنى الوعيد وقد أخبر سبحانه أنه لا يخلفه والمغفرة تستلزم الخلف المستلزم للكذب المحال عليه تعالى.
وأجاب أهل السنة بأن وعيدات سائر العصاة إنشاءات أو اخبارات عن استحقاقهم ما أوعدوا به لا عن إيقاعه أو هي إخبارات عن إيقاعه مشروطة بعدم العفو وترك التصريح بالشرط بزيادة الترعيب ولا كذلك وعيدات الكفار فإنها محض اخبارات عن الإيقاع غير مشروطة بشرط أصلًا كمواعيد المؤمنين، والداعي للتفرقة الجمع بين الآيات، وأنت تعلم أن ظاهر هذا أن وعيدات الكفار بالعذاب الدنيوي كوعيداتهم بالعذاب الأخروي لا يتطرقها عدم الوقوع فلا يجوز العفو عن عذابهم مطلقًا متى وعد به، وعندي في التسوية بين الأمرين تردد، ويعلم من ذلك حال هذا الجواب على تقدير حمل العذاب في الآية على العذاب الدنيوي الأوفق للمقام والوعد على الوعد به. وأجاب بعضهم هنا بأن المراد بالوعد وعده تعالى بالنظرة والامهال وهو مقابل للوعيد في نظر الممهل ولا خلاف في أن الله تعالى لا يخلف الوعد المقابل للوعيد وأن ما يؤدي به خبر محض لا شرط فيه؛ وقيل: المراد به وعده تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بإنزال العذاب المستعجل به عليهم وذلك مقابل للوعيد من حيث أن فيه خيرًا له عليه الصلاة والسلام، ولا مانع من أن يكون شيء واحد خيرًا وشرًا بالنسبة إلى شخصين فقد قيل:
مصائب قوم عند قوم فوائد

وحينئذ لا دليل للمعتزلة في الآية على دعواهم.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}
{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} أي كم من سكنة قرية {أَمْلَيْتُ لَهَا} كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجيء ما وعد من العذاب واستعجلوا به استهزاء وتعجيزًا لرسلهم عليهم السلام كما فعل هؤلاء، والجملة عطف على ما تقدمها جيء بها لتحقيق الرد كما تقدم فلذا جيء بالواو، وجيء في نظيرتها السابقة بالفاء قيل: لأنها أبدلت من جملة مقرونة بها، وفي إعادة الفاء تحقيق للبدلية، وقيل: جيء بالفاء هناك لأن الجملة مترتبة على ما قبلها ولم يجيء بها هنا لعدم الترتب، وقوله تعالى: {وَهِىَ ظالمة} جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين أي أمليت لها والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب والنكال بعد طول الاملاء والامهال {وَإِلَىَّ المصير} أي إلى حكمى مرجع جميع الناس أو جميع أهل القرية لا إلى أحد غيري لا استقلالًا ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق باعمالهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله مصرح بما أفاده ذلك بطريق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين أيضًا ما ذكر من الأخذ الوبيل.

.تفسير الآية رقم (49):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)}
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا أنَا لَكُمْ نَذيرٌ مُبينٌذ ظاهر السياق يقتضي أن المراد بالناس المشركون فإن الحديث مسوق لهم فكأنه قيل: قل يا أيها المشركون المستعجلون بالعذاب إنما أنا منذر لكم إنذارًا بينا بما أوحى إلي من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في اتيان ما تستعجلون من العذاب الموعود حتى تستعجلوني به فوجه الاقتصار على الإنذار ظاهر، وأما وجه ذكر المؤمنين وثوابهم} في قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (50):

{فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)}
{فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فالزيادة في إغاظة المشركين فهو بحسب المآل إنذار، ويجوز أن يقال: إن قوله سبحانه: {فالذين ءامَنُواْ} الآية تفصيل لمن نجع فيه الإنذار من الناس المشركين ومن بقي منهم على كفره غير ناجه فيه ذلك كأنه قيل: أنذر يا محمد هؤلاء الكفرة المستعجلين بالعذاب وبالغ فيه فمن آمن ورجع عما هو عليه فله كذا ومن داوم على كفره واستمر على ما هو عليه فله كذا، واختاره الطيبي وهو كما في الكشف حسن وعليه لا يكون التقسيم داخلًا في المقول بخلاف الوجه الأول.
وقال بعض المحققين: الناس عام للمؤمن والكافر والمنذر به قيام الساعة، وإنما كان صلى الله عليه وسلم نذيرًا مبينًا لأن بعثه عليه الصلاة والسلام من اشراطها فاجتمع فيه الإنذار قالا وحالا بقوله: {أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الحج: 49] كقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين «أنا النذير العريان» وقد دل على ذلك تعقيب الخطاب بالإنذار تفصيل حال الفريقين عند قيامها اه.
ولا مانع منه لولا ظاهر السياق، وكون المؤمنين لا ينذرون لاسيما وفيهم الصالح والطالح مما لا وجه له، ومن منع من العموم لذلك قال: التقدير عليه بشير ونذير ونقل هذا عن الكرماني؛ ثم المغفرة تحتمل أن تكون لما ندر من الذين آمنوا من الذنوب وذلك لا ينافي وصفهم بعمل الصالحات، وتحتمل أن تكون لما سلف منهم قبل الإيمان والرجوع عما كانوا عليه، والمراد بالرزق الكريم هنا الجنة كما يشعر به وقوعه بعد المغفرة وكذلك في جميع القرآن على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي، ومعنى الكريم في صفات غير الآدميين الفائق.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}
{والذين سَعَوْاْ فِي ءاياتنا} أي بذلوا الجهد في إبطالها فسموها تارة سحرًا وتارة شعرًا وتارة أساطير الأولين.
وأصل السعي الإسراع في المشي ويطلق على الاصلاح والإفساد يقال: سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه {معاجزين} أي مسابقين للمؤمنين؛ والمراد سابقتهم مشاقتهم لهم ومعارضتهم فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله، وأصله من عاجزه فاعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه فإن كلا من المتسابقين يريد إعجاز الآخر عن اللحاق.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. والجحدري. وأبو السالم. والزعفراني {معجزين} بالتشديد أي مثبطين الناس عن الإيمان. وقال أبو علي الفارسي: ناسبين المسلمين إلى العجز كما تقول: فسقت فلانًا إذا نسبته إلى الفسق وهو المناسب لقوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} [الحج: 47] وقرأ ابن الزبير {معاجزين} بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزك إذا سبقك ففاتك، قال صاحب اللوامح: والمراد هنا ظانين أنهم يعجزوننا وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون، وفسر {معاجزين} في قراءة الجمهور ثل ذلك، والوصف على جميع القراءات حال من ضمير {سَعَوْاْ} وليست مقدرة على شيء منها كما يظهر للمتأمل {أولئك} الموصوفون بما ذكر {أصحاب الجحيم} أي ملازمو النار الشديدة التأجج، وقيل هو اسم دركة من دركات النار.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ} «من» الأولى ابتدائية، والثانية مزيدة لاستغراق الجنس، والجملة المصدرة بإذا في موضع الحال عند أبي حيان، وقيل: في موضع الصفة وأفرد الضمير بتأويل كل واحد أو بتقدير جملة مثل الجملة المذكورة كما قيل في قوله تعالى: {والله أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] والظاهر أن «إذا» شرطية ونص على ذلك الحوفي لكن قالوا: إن «إلا» في النفي إما أن يليها مضارع نحو ما زيد إلا يفعل وما رأيت زيدًا إلا يفعل أو يليها ماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ} [الحجر: 11] إلخ أو «2» يكون الماضي مصحوبًا بقد نحو ما زيد إلا قد قام، ويشكل عليه هذه الآية إذ لم يليها فيها مضارع ولا ماض بل جملة شرطية فإن صح ما قالوه احتيج إلى التأويل، وأول ذلك في البحر بأن «إذا» جردت للظرفية وقد فصل بها وا أضيفت إليه بين إلا والفعل الماضي الذي هو «ألقى» وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد الشرط، وعطف «نبي» على «رسول» يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع، ويدل على المغايرة أيضًا ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا قيل: فكن الرسل منهم؟ قال: ثلثمائة وثلاثة عشر جمًا غفيرًا، وقد أخرج ذلك كما قال السيوطي أحمد. وابن راهويه في مسنديهما من حديث أبي أمامة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه. والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر.
وزعم ابن الجوزي أنه موضوع وليس كذلك، نعم قيل في سنده ضعف جبر بالمتابعة؛ وجاء في رواية الرسل ثلثمائة وخمسة عشر، واختلفوا هنا في تفسير كل منهما فقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى بشرع جديد يدعو الناس إليه والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كانبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، وقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدًا في نفسه كاسماعيل عليه السلام إذ بعث لجرهم أولا والنبي يعمه ومن بعث بشرع غير جديد كذلك، وقيل: الرسول ذكر حر له تبليغ في الجملة وإن كان بيانًا وتفصيلًا لشرع سابق والنبي من أوحى إليه ولم يؤمر بتبليغ أصلا أو أعم منه ومن الرسول، وقيل: الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتابًا منزلًا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له، وقيل: الرسول من له كتاب أو نسخ في الجملة والنبي من لا كتاب له ولا نسخ، وقيل الرسول من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة والنبي يقال له ولمن يوحي إليه في المنام لا غير: وهذا أغرب الأقوال ويقتضي أن بعض الأنبياء عليه السلام لم يوح إليه إلا منامًا وهو بعيد ومثله لا يقال بالرأي.
وأنت تعلم أن المشهور أن النبي في عرف الشرع أعم من الرسول فإنه من أوحى إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا والرسول من أوحى إليه وأمر بالتبليغ ولا يصح إرادة ذلك لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورًا بالتبليغ فيكون رسولًا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلابد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع جديد وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله أو يراد بالرسول من بعث بكتاب وبالنبي من بعث بغير كتاب أو يراد نحو ذلك مما يحصل به المقابلة مع تعلق الإرسال بهما، والتمني على ما قال أبو مسلم نهاية التقدير ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله تعالى، والأمنية على ما قال الراغب الصورة الحاصلة في النفس من التمني، وقال غير واحد: التمني القراءة وكذا الأمنية، وأنشدوا قول حسان في عثمان رضي الله تعالى عنهما.
تمني كتاب الله أول ليلة ** تمني داود الزبور على رسل

وفي البحر أن ذلك راجع إلى الأصل المنقول عن أبي مسلم فإن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئًا فشيئًا، والمراد بذلك هنا عند كثير القراءة، والآية مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود وأنه لسعي مردود، والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسولًا ولا نبيًا إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئًا من الآيات القى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم} [الأنعام: 121] وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوًّا شياطين الإنس والجن يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} [الأنعام: 112] وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} [القرة: 173] إنه يحل ذبيح نفسه ويحرم ذبيح الله تعالى، وقولهم على ما في بعض الروايات عند سماع قراءته عليه الصلاة والسلام: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] إن عيسى عبد من دون الله تعالى والملائكة عليهم السلام عبدوا من دون الله تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبي صلى الله عليه وسلم لرده أو بأنزال ما يرده {ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه، و{ثُمَّ} للتراخي الرتبي فإن الإحكام أعلا رتبة من النسخ، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي، وإظهار الجلالة في موقع الاضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات أحكام آياته تعالى الباهرة.
ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار «الشيطان» {والله عَلِيمٌ} مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه {حَكِيمٌ} في كل ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها، والإظهار هاهنا لما ذكر أيضًا مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي.