فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (61):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)}
{إصلاح بَيْنَ الناس وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إشارة إلى النصر المدلول عليه بقوله تعالى: {لَيَنصُرَنَّهُ} [الحج: 60] وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته، وقيل لعدم ذكر المشار إليه صريحًا، ومحله الرفع على الإبتداء وخبره قوله سبحانه: {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِى} والباء فيه سببية، والسبب ما دل عليه ما بعد بطريق اللزوم أي ذلك النصر كائن لسبب أن الله تعالى شأنه قادر على تغليب بعض مخلوقاته على بعض والمداولة بين الأشياء المتضادة ومن شأنه ذلك.
وعبر عن ذلك بإدخال أحد الملوين في يالآخر بأن يزيد فيه ما ينقص من الآخر كما هو الأوفق بالإيلاج أو بتحصيل أحدهما في مكان الآخر كما قيل لا بأن يجعل بن كل نهارين ليلًا وبين كل ليلين نهارًا كما قد توهم لكونه أظهر المواد وأوضحها أو كائن بسبب أنه تعالى خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار كما قيل، وعلى الأول قوله تعالى: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} بكل المسموعات التي من جملتها ما يقول المعاقب {بَصِيرٌ} بكل المبصرات التي من جملتها ما يقع منه من الأفعال من تتمة الحكم لابد منه إذ لابد للناصر من القدرة على نصر المظلوم ومن العلم بأنه كذلك، وعلى الثاني هو تتميم وتأكيد والأول أولى، وقيل: لا يبعد أن يكون المعنى ذلك النصر بسبب تعاقب الليل والنهار وتناوب الأزمان والأدوار إلى أن يجيء الوقت الذي قدوه الملك الجبار لانتصار المظلوم وغلبته، وفيه أنه لا محصل له ما لم يلاحظ قدرة الفاعل لذلك، وقيل: يجوز أن تكون الإشارة إلى الاتصاف بالعفو والغفران أي ذلك الاتصاف بسبب أنه تعالى لم يؤاخذ الناس بذنوبهم فيجعل الليل والنهار سرمدًا فتتعطل المصالح، وفيه أنه مع كون لا يناسب السياق غير ظاهر لاسيما إذا لوحظ عطف قوله تعالى: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} على مدخول الباء فيما قبل، نعم الإشارة إلى الاتصاف في قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (62):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}
{ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} فالمعنى ذلك الاتصاف بكمال القدرة الدال عليه قوله تعالى: {يُولِجُ اليل فِي النهار} [الحج: 61] إلخ وكمال العلم الدال عليه {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61] بسبب أن الله تعالى الواجب لذاته الثابت في نفسه وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يستلزمان أن يكون سبحانه هو الموجد لسائر المصنوعان ولابد في إيجاده لذلك حيث كان على أبدع وجه وأحكمه من كمال العلم على ما بين في موضعه، وقيل: إن وجوب الوجود وحده متكفل بكل كمال حتى الوحدة أو المعنى ذلك الاتصاف بسبب أن الله تعالى الثابت الإلهية وحده ولا يصح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلهًا {هُوَ الباطل} أي المعدوم في حد ذاته أو الباطل الإلهية، والحصر يحتمل أن يكون غير مراد وإنما جيء به للمشاكلة ويحتمل أن يكون مرادًا على معنى أن جميع ما يدعون من دونه هو الباطل لا بعضه دون بعض. وقيل هو باعتبار كمال بطلانه وزيادة هو هنا دون ما في سورة لقمان من نظير هذه الآية لأن ما هنا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضًا زيدت اللام في قوله تعالى الآتي {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى الحميد} [الحج: 64] دون نظيره في تلك السورة، ويمكن أن يقال تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف سورة لقمان فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر هاهنا قاله النيسابوري، ويجوز أن يكون زيادة {هُوَ} في هذا الموضع لأن المعلل فيه أزيد من في ذلك الموضع فتأمل {وَأَنَّ الله هُوَ العلى} على جميع الأشياء {الكبير} عن أن يكون له سبحانه شريك لا شيء أعلى منه تعالى شأنًا وأكبر سلطانًا.
وقرأ الحسن {وَإِن مَّا} بكسر الهمزة، وقرأ نافع. وابن كثير. وابن عامر. وأبو بكر {تَدْعُونَ} بالتاء على خطاب المشركين. وقرأ مجاهد. واليماني. وموسى الإسواري {يَدَّعُونَ} بالياء التحتية مبنية للمفعول على أن الواو لما فإنه عبارة عن الآلهة، وأمر التعبير عنها بما ثم إرجاع ضمير العقلاء إليها ظاهر فلا تغفل.

.تفسير الآية رقم (63):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء} أي من جهة العلو {مَاء} أي ألم تعلم ذلك، وجوز كون الرؤية بصرية نظرًا للماء المنزل، والاستفهام للتقرير، وقوله تعالى: {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} أي فتصير، وقيل تصبح على حقيقتها والحكم بالنظر إلى بعض الأماكن تمطر السماء فيها ليلًا فتصبح الأرض مخضرة، والأول أولى عطف على {أَنَزلَ} والفاء مغنية عن الرابط فلا حاجة إلى تقدير بإنزاله، والتعقيب عرفي أو حقيقي وهو إما باعتبار الاستعداد التام للإخضرار أو باعتباره نفسه وهو كما ترى، وجوز أن تكون الفاء لمحض السبب فلا تعقيب فيها، والعدول عن الماضي إلى المضارع لإفادة بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان كما تقول: أنعم على فلان عام كذا فاروح وأغدو شاكرًا له ولو قلت: فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع أو لاستحضار الصورة البديعة ولم ينصب الفعل في جواب الاستفهام هنا في شيء من القراءات فيما نعلم وصرح غير واحد بامتناعه، ففي البحر أنه يمتنع النصب هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريرًا في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى قوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب فإذا قلت: ما تأتينا فتحدثنا بالنصب فالمعنى ما تأتينا محدثًا إنما تأتينا ولا تحدث، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتينا فكيف تحدثنا فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته همزة الاستفهام وينفي الجواب فيلزم من ذلك هنا إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المراد، وأيضًا جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام شرط وجزاء ولا يصح أن يقال هنا إن رك إنزال الماء تصبح الأرض مخضرة لأن إخضرارها ليس مترتبًا على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال اه.
وإلى انعكاس المعنى على تقدير النصب ذهب الزمخشري حيث قال: لو نصب الفعل جوابًا للاستفهام لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الإخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الإخضرار لكن تعقبه «صاحب الفرائد» حيث قال: لا وجه لما ذكره صاحب الكشاف ولا يلزم المعنى الذي ذكر بل يلزم من نصبه أن يكون مشاركًا لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} تابعًا له ولم يكن تابعًا لإنزال ويكون مع ناصبه مصدرًا معطوفًا على المصدر التي تضمنه {أَلَمْ تَرَ} والتقدير ألم تكن لك رؤية إنزال الماء من السماء وإصباح الأرض مخضرة وهذا غير مراد من الآية بل المراد أن يكون إصباح الأرض مخضرة بأنزال الماء فيكون حصول إخضرار الأرض تابعًا للإنزال معطوفًا عليه اه وفيه بحث.
وقال صاحب التقريب في ذلك: إن النصب بتقدير إن وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقبًا والرفع جزم بأخباره وتلخيصه أن الرفع جزم بإثباته والنصب ليس جزمًا بإثباته لا أنه جزم بنفيه، ولا يخفى أنه إن صح في نفسه لا يطابق مغزى الزمخشري، وعلل أبو البقاء امتناع النصب بأمرين، أحدهما انتفاء سببية المستفهم عنه لما بعد الفاء كما تقدم عن البحر، والثاني أن الاستفهام المذكور عنى الخبر فلا يكون له جواب وإلى هذا ذهب الفراء فقال: {أَلَمْ تَرَ} خبر كما تقول في الكلام أعلم أن الله تعالى يفعل كذا فيكون كذا، وقال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} فقال هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت: أتسمع؟ وفي النسخة الشرقية من الكتاب انتبه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
وقال بعض المتأخرين: يجوز أن يعتبر تسبب الفعل عن النفي ثم يعتبر دخول الاستفهام التقريري فيكون المعنى حصل منك رؤية إنزال الله تعالى الماء فإصباح الأرض مخضرة لأن الاستفهام المذكور الداخل على النفي يكون في معنى نفي النفي وهو إثبات، فإن قلت: الرؤية لا تكون سببًا لا نفيًا ولا إثباتًا للإخضرار، قلت: الرؤية مقحمة والمقصود هو الإنزال أو هي كناية عنه لأنها تلزمه مع أنه يكفي التشبيه بالسبب كما نص عليه الرضى في ما تأتينا فتحدثنا في أحد اعتباريه، واختار هذا في الاستدلال على عدم جواز النصب أن النصب مخلص المضارع للاستقبال اللائق بالجزائية على ما قرر في علم النحو ولا يمكن ذلك في الآية الكريمة كما ترى.
وبالجملة إن الذي عليه المحققون أن من جوز النصب هنا لم يصب، وأن المعنى المراد عليه ينقلب. وقرئ {مُخْضَرَّةً} بفتح الميم وتخفيف الضاد مثل مبقلة ومجزرة أي ذات خضرة {إِنَّ الله لَطِيفٌ} أي متفضل على العباد بايصال منافعهم إليهم برفق ومن ذلك إنزال الماء من السماء وإخضرار الأرض بسببه {خَبِيرٌ} أي عليم بدقائق الأمور ومنها مقادير مصالح عباده.
وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط، وقال مقاتل: لطيف باستخراج النبات خبير بكيفية خلقه، وقال الكلبي: لطيف بأفعاله خبير بأعمال عباده، وقال ابن عطية: اللطيف هو المحكم للأمور برفق، ونقل الآمدي أنه العالم بالخفيات، وأنت تعلم أنه المعنى المشهور للخبير، وفسره بعضهم بالمخبر ولا يناسب المقام كتفسير اللطيف بما لا تدركه الحاسة.

.تفسير الآية رقم (64):

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)}
{لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} خلقًا وملكًا وتصرفًا فاللام للاختصاص التام {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى} الذي لا يفتقر إلى شيء أصلًا {الحميد} الذي حمده بصفاته وأفعاله جميع خلقه قالا أو حالا.

.تفسير الآية رقم (65):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض} أي جعل ما فيها من الأشياء مذللة لكم معدة لمنافعكم تتصرفون فيها كيف شئتم، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر {والفلك} بالنصب وإسكان اللام. وقرأ ابن مقسم. والكسائي عن الحسن بضمها وهو معطوف على {مَا} عطف الخاص على العام تنبيهًا على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها.
وجوز أن يكون عطفًا على الاسم الجليل، وقوله تعالى: {تَجْرِى فِي البحر بِأَمْرِهِ} على الأول حال منه وعلى الثاني خبر لأن وتكون الواو قد عطفت الاسم على الاسم والخبر على الخبر وهو خلاف الظاهر. وفي البحر هو إعراب بعيد عن الفصاحة. وقرأ السلمي. والأعرج. وطلحة. وأبو حيوة. والزعفراني {والفلك} بالرفع على الابتداء وما بعده خبره والجملة مستأنفة.
وجوز أن تكون حالية، وقيل: يجوز أن يكون الرفع بالعطف على محل أن مع اسمها وهو على طرز العطف على الاسم {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} أي عن أن تقع عليها فالكلام على حذف حرف الجر وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب أو مجرور على القولين المشهورين في ذلك، وجعل بعضهم ذلك في موضع المفعول لأجله بتقدير كراهة أن تقع عند البصريين، والكوفيون يقدرون لئلا تقع.
وقال أبو حيان: الظاهر أن {تَقَعَ} في موضع نصب بدل اشتمال من السماء أي ويمنع وقوع السماء على الأرض. ورد بأن الإمساك عنى اللزوم يتعدى بالباء وعنى الكف بعن وكذا عنى الحفظ والبخل كما في تاج المصادر وأما عنى المنع فهو غير مشهور. وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه مشهور مصرح به في كتب اللغة، قال الراغب: يقال أمسكت عنه كذا أي منعته قال تعالى: {هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38] وكنى عن البخل بالإمساك اه، وصرح به الزمخشري. والبيضاوي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض *أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] نعم الأظهر هو الإعراب الأول، والمراد بإمساكها عن الوقوع على الأرض حفظ تماسكها بقدرته تعالى بعد أن خلقها متماسكة آنًا فآنًا. وعدم تعلق إرادته سبحانه بوقوعها قطعًا قطعًا، وقيل إمساكه تعالى إياها عن ذلك بجعلها محيطة لا ثقيلة ولا خفيفة، وهذا مبني على اتحاد السماء والفلك وعلى قول الفلاسفة المشهور بأن الفلك لا ثقيل ولا خفيف: وبنوا ذلك على زعمهم استحالة قبوله الحركة المستقيمة وفرعوا عليه أنه لا حال ولا بارد ولا رطب ولا يابس، واستدلوا على استحالة قبوله الحركة المستقيمة بما أبطله المتكلمون في كتبهم.
والمعروف من مذهب سلف المسلمين أن السماء غير الفلك وأن لها أطيطًا لقوله عليه الصلاة والسلام:
«أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد» وأنها ثقيلة محفوظة عن الوقوع حض إرادته سبحانه وقدرته التي لا يتعاصاها شيء لا لاستمساكها بذاتها.
وذكر بعض المتكلمين لنفي ذلك أنها مشاركة في الجسمية لسائر الأجسام القابلة للميل الهابط فتقبله كقبول غيرها وللبحث فيه على زعم الفلاسفة مجال، والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار التجددي أي يمسكها آنًا فآنًا من الوقوع {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي شيئته، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب، وصح ذلك في الموجب قيل لصحة إرادة العموم أو لكون {يُمْسِكُ} فيه معنى النفي أي لا يتركها تقع بسبب من الأسباب كمزيد مرور الدهور عليها وكثقلها بما فيها إلا بسبب مشيئته وقوعها، وقيل: استثناء من أعم الأحوال أي لا يتركها تقع في حال من الأحوال إلا في كونها ملتبسة شيئته تعالى ولعل ما ذكرناه أظهر. وفي البحر أن الجار والمجرور متعلق بتقع، وقال ابن عطية: يحتمل أن يتعلق بيمسك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه فكأنه أراد إلا بإذنه فبه يمسكها ولو كان كما قال لكان التركيب بدون إلا انتهى، ولعمري أن ما قاله ابن عطية لا يقوله من له أدنى روية كما لا يخفى، ثم إنه لا دلالة في الآية على وقوع الإذن بالوقوع، وقيل فيها إشارة إلى الوقوع وذلك يوم القيامة فإن السماء فيه تتشقق وتقع على الأرض، وأنا ليس في ذهني من الآيات أو الأخبار ما هو صريح في وقوع السماء على الأرض في ذلك اليوم وإنما هي صريحة في المور والانشقاق والطي والتبدل وكل ذلك لا يدل على الوقوع على الأرض فضلًا عن أن يكون صريحًا فيه، والظاهر أن المراد بالسماء جنسها الشامل للسموات السبع، ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: إذا أتيت سلطانًا مهيبًا تخاف أن يسطو بك فقل: الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعًا الله أكبر مما أخاف وأحذر أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو الممسك السموات السبع أن يقعن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس إلهي كن لي جارًا من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وبارك اسمك لا إله غيرك ثلاث مرات.
والظاهر أيضًا أن مساق الآية للامتنان لا للوعيد كما جوزه بعضهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الله بالناس لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} حيث سخر لهم ما سخر ومن عليهم بالأمن مما يحول بينهم وبين الانتفاع به من وقوع السماء على الأرض، وقيل حيث هيأ لهم أسباب معايشهم وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية، وجعل الجملة تعليلية لما في ضمن {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ} إلخ أظهر فيما قلنا، والرأفة قيل ما تقتضي درء المضار والرحمة قيل ما تقتضي جلب المصالح ولكون درء المضرة أهم من جلب المصلحة قدم رؤوف على رحيم، وفي كل مما امتن به سبحانه درء وجلب، نعم قيل إمساك السماء عن الوقوع أظهر في الدرء ولتأخيره وجه لا يخفى، وقال بعضهم: الرأفة أبلغ من الرحمة وتقديم {رؤف} للفاصلة. وذهب جمع إلى أن الرحمة أعم ولعله الظاهر، وتقديم {الله بالناس} للاهتمام وقيل للفاصلة والفصل بين الموضعين مما لا يستحسن.