فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (51):

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}
{وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} حكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الاجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى وأمه عليهما السلام إلى الربوة إيذانًا بأن ترتيب مبادي النعم لم تكن من خصائص عيسى عليه السلام بل إباحة الطيبات شرع قديم جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام ووصوا به أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات واعمل صالحًا فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالًا للإيجاز أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عليهما السلام عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا كأنه قبل آويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وقلنا أو قائلين لهما هذا أي اعلمناهما أو معلميهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا فكلا واعملا اقتداء بهم، وجوز أن يكون نداء لعيسى عليه السلام وأمرًا له بأن يأكل من الطيبات، فقد جاء في حديث مرسل عن حفص ابن أبي جبلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل} إلخ: ذاك عيسى ابن مريم كان يأكل من غزل أمه، وعن الحسن. ومجاهد. وقتادة. والسدي. والكلبي أنه نداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخطاب له والجمع للتعظيم واستظهر ذلك النيسابوري، وما وقع في شرح التلخيص تبعًا للرضى من أن قصد التعظيم بصيغة الجمع في غير ضمير المتكلم لم يقع في الكلام القديم خطأ لكثرته في كلام العرب مطلقًا بل في جميع الألسنة وقد صرح به الثعالبي في فقه اللغة، والمراد بالطيبات على ما اختاره شيخ الإسلام وغيره ما يستطاب ويستلذ من مباحات المأكل والفواكه، واستدل له بأن السياق يقتضيه والأمر عليه للإباحة والترفيه وفيه إبطال للرهبانية التي ابتدعتها النصارى، وقيل المراد بالطيبات ما حل والأمر تكليفي، وأيد بتعقيبه بقوله تعالى: {واعملوا صالحا} أي عملًا صالحًا، وقد يؤيد بما أخرجه أحمد في الزهد. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والحاكم وصححه عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله تعالى عنها أنها بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم فرد إليها رسولها أنى لك هذا اللبن؟ قالت: من شاة لي فرد إليها رسولها أنى لك الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي فشرب منه عليه الصلاة والسلام فلما كان من الغد أتته أم عبد الله فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن فرددت إلى الرسول فيه فقال صلى الله عليه وسلم لها: «بذلك أمرت الرسل قبلي أن لا تأكل إلا طيبًا ولا تعمل إلا صالحًا».
وكذا بما أخرجه مسلم. والترمذي. وغيرهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا} وقال: {يَعْقِلُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطمعه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب فانى يستجاب لذلك» وتقديم الأمر بأكل الحلال لأن أكل الحلال معين على العمل الصالح.
وجاء في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام، وصح أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به. ولعل تقديم الأمر الأول على تقدير حمل الطيب على ما يستلذ من المباحات لأنه أوفق بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً وءاويناهما} [المؤمنون: 50] وفي الأمر بعده بالعمل الصالح حث على الشكر.
{إِنّى عَمَّا تَعْمَلُونَ} من الأعمال الظالهرة والباطنة {عَلِيمٌ} فأجازيكم عليه. وفي البحر أن هذا تحذير للرسل عليهم السلام في الظاهر والمراد أتباعهم.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}
{وَإِنَّ هذه} أي الملة والشريعة، وأشير إليها بهذه للإشارة إلى كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور الشماهدة {أُمَّتُكُمْ} أي ملتكم وشريعتكم والخطاب للرسل عليهم السلام على نحو ما مر؛ وقيل عام لهم ولغيرهم وروى ذلك عن مجاهد، والجملة على ما قال الخفاجي عطف على جملة {إِنّى بما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] فالواو من المحكى، وقيل هي من الحكاية وقد عطفت قولًا على قول، والتقدير قلنا يا أيها الرسل كلوا إلخ وقلنا لهم إن هذه أمتكم ولا يخفى بعده.
وقيل: الواو ليست للعطف والجملة بعدها مستأنفة غير معطوفة على ما قبلها وهو كما ترى، وقوله سبحانه: {أُمَّةً وَاحِدَةً} حال مبنية من الخبر والعامل فيها معنى الإشارة أي أشير إليها في حال كونها شريعة متحدة في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الأعصار؛ وقيل: {هذه} إشارة إلى الأمم الماضية للرسل، والمعنى أن هذه جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الايمان والتوحيد في العبادة {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} أي من غير أن يكون لي شريك في الربوبية، وهذه الجملة عطف على جملة {إِنَّ هذه} إلخ المعطوفة على ما تقدم وهما داخلان في حيز التعليل للعمل الصالح لأن الظاهر أن قوله سبحانه: {إِنّى بما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] تعليل لذلك، ولعل المراد بالعمل الصالح ما يشمل العقائد الحقة والأعمال الصحيحة، واقتضاء المجازاة والربوبية لذلك ظاهر وأما اقتضاء اتحاد الشريعة في الأصول التي لا تتبدل لذلك فباعتبار أنه دليل حقية العقائد وحقيتها تقتضي الاتيان بها والاتيان بها يقتضي الاتيان بغيرها من الأعمال الصالحة بل قيل لا يصح الاعتقاد مع ترك العمل، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {فاتقون} كالتصريح بالنتيجة فيكون الكلام نظير قولك: العالم حادث لأنه متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث.
وفي إرشاد العقل السليم أن ضمير الخطاب في قوله تعالى: {رَبُّكُمْ} وفي قوله سبحانه: {فاتقون} للرسل والأمم جميعًا على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب وفي حق الأمة للتحذير والإيجاب، والفاء لترتيب الأمر أو وجوب الامتثال به على ما قبله من اختصاص الربوبية به سبحانه واتحاد الأمة فإن كلًا منهما موجب للاتقاء حتمًا، والمعنى فاتقون في شق العصا والمخالفة بالإخلال وجب ما ذكر.
وقرأ الحرميان. وأبو عمرو {وَأَنْ} بفتح الهمزة وتشديد النون، وخرج على تقدير حرف الجر أي ولأن هذه إلخ، والجار والمجرور متعلق باتقون، قال الخفاجي: والكلام في الفاء الداخلة عليه كالكلام في فاء قوله تعالى: {فإياي فارهبون} [النحل: 51] وهي للسببية وللعطف على ما قبله وهو {اعملوا} [المؤمنون: 51] والمعنى اتقوني لأن العقول متفقة على ربوبيتي والعقائد الحقة الموجبة للتقوى انتهى، ولا يخلو عن شيء، وجوز أن تكون {إِنَّ هذه} إلخ على هذه القراءة معطوفًا على {مَا تَعْمَلُونَ} [المؤمنون: 51] والمعنى أني عليم بما تعملون وبأن هذه أمتكم أمة واحدة إلخ فهو داخل في حيز المعلوم. وضعف بأنه لا جزالة في المعنى عليه، وقيل: هو معمول لفعل محذوف أي واعملوا أن هذه أمتكم إلخ وهذا المحذوف معطوف على {اعملوا} ولا يخفى أن هذا التقدير خلاف الظاهر.
وقرأ ابن عامر {وَأَنْ} بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها المخففة من الثقيلة ويعلم توجيه الفتح مما ذكرنا.

.تفسير الآية رقم (53):

{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)}
{فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ} الضمير لما دل عليه الأمة من أربابها إن كانت عنى الملة أو لها إن كانت عنى الجماعة، وجوز أن يراد بالأمة أولًا الملة وعند عود الضمير عليها الجماعة على أن ذلك من باب الاستخدام، والمراد حكاية ما ظهر من أمم الرسل عليهم السلام من مخالفة الأمر، والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم، وتقطع عنى قطع كتقدم عنى قدم؛ والمراد بأمرهم أمر دينهم إما على تقدير مضاف أو على جعل الإضافة عهدية أي قطعوا أمر دينهم وجعلوه أديانًا مختلفة مع اتحاده، وجوز أن يراد بالتقطع التفرق، و{أَمَرَهُمْ} منصوب بنزع الخافض أي فتفرقوا وتحزبوا في أمرهم، ويجوز أن يكون {أَمَرَهُمْ} على هذا نصبًا على التمييز عند الكوفيين المجوزين تعريف التمييز {بَيْنَهُمْ زُبُرًا} أي قطعًا جمع زبور عنى فرقة، ويؤيده أنه قرئ {زُبُرًا} بضم الزاي وفتح الباء فإنه مشهور ثابت في جمع زبرة عنى قطعة وهو حال من {أَمَرَهُمْ} أو من واو {تقطعوا} أو مفعول ثان له فإنه مضمن معنى جعلوا، وقيل: هو جمع زبور عنى كتاب من زبرت عنى كتبت وهو مفعول ثان لتقطعوا المضمن معنى الجعل أي قطعوا أمر دينهم جاعلين له كتبًا.
وجوز أن يكون حالًا من {حَيْثُ أَمَرَهُمْ} على اعتبار تقطعوا لازمًا أي تفرقوا في أمرهم حال كونه مثل الكتب السماوية عندهم. وقيل: إنها حال مقدرة أو منصوب بنزع الخافض أي في كتب، وتفسير {زُبُرًا} بكتب رواه جماعة عن قتادة كما في الدر المنثور، ولا يخفى خفاء المعنى عليه ولا يكاد يستقيم إلا بتأويل فتدبر.
وقرئ {زُبُرًا} بإسكان الباء للتخفيف كرسل في رسل، وجاء {فَتَقَطَّعُواْ} هنا بالفاء إيذانًا بأن ذلك اعتقب الأمر وفيه مبالغة في الذم كما أشرنا إليه، وجاء في سورة الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر. وجاء هنا {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} [المؤمنون: 52] وهو أبلغ في التخويف والتحذير مما جاء هناك من قوله تعالى: هناك: {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} [الأنبياء: 92] لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي تلك السورة وإن تقدمت أيضًا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب. وزكريا. ومريم فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته عز وجل قاله أبو حيان، وما ذكره أولًا غير واف بالمقصود، وما ذكره ثانيًا قيل عليه: إنه مبني على أن الآية تذييل للقصص السابقة أو لقصة عيسى عليه السلام لا ابتداء كلام فإنه حينئذٍ لا يفيد ذلك إلا أن يراد أنه وقع في الحكاية لهذه المناسبة فتأمل.
{كُلُّ حِزْبٍ} من أولئك المتحزبين {ا لَدَيْهِمْ} من الأمر الذي اختاروه {فَرِحُونَ} مسرورون منشرحو الصدر، والمراد أنهم معجبون به معتقدون أنه الحق، وفي هذا من ذم أولئك المتحزبين ما فيه.

.تفسير الآية رقم (54):

{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)}
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} خطاب له صلى الله عليه وسلم في شأن قريش الذين تقطعوا في أمر الدين الحق، والغمرة الماء الذي يغمر القامة وأصلها من الستر والمراد بها الجهالة بجامع الغلبة والاستهلاك، وكأنه لما ذكر سبحانه في ضمن ما كان من أمم الأنبياء عليهم السلام توزعهم واقتسامهم ما كان يجب اجتماعه واتفاق الكلمة عليه من الدين وفرحهم بفعلهم الباطل ومعتقدهم العاطف قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فإذ ذاك دعهم في جهلهم هذا الذي لا جهل فوقه تخلية وخذلانًا ودلالة على الياس من أن ينجع القول فيهم وضمن التسلية في ذكر الغاية أعني قوله سبحانه: {حتى حِينٍ} فإن المراد بذلك حين قتلهم وهو يوم بدر على ما روي عن مقاتل أو موتهم على الكفر الموجب للعذاب أو عذابهم، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل.
وجوز أن يقال: شبه حال هؤلاء مع ما هم عليه من محاولة الباطل والانغماس فيه بحال من يدخل في الماء الغامر للعب والجامع تضييع الوقت بعد الكدح في العمل، والكلام حينئذٍ على منوال سابقه أعني قوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] لما جعلوا فرحين غرورًا جعلوا لاعبين أيضًا والأول أظهر؛ وقد يجعل الكلام عليه أيضًا استعارة تمثيلية بل هو أولى عند البلغاء كما لا يخفى.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وأبو حيوة. والسلمي {فِى} على الجمع لأن لكل واحد غمرة.

.تفسير الآية رقم (55):

{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)}
{حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} أي الذي نعطيهم إياه ونجعله مددًا لهم، فما موصولة اسم أن ولا يضر كونها موصولة لأنها في الأمام كذلك لسر لا نعرفه. وقوله تعالى: {مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} بيان لها. وتقديم المال على البينين مع كونهم أعز منه قد مر وجهه وقوله سبحانه: