فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (25):

{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}
{يَوْمَئِذٍ} ظرف لقوله سبحانه: {يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} والتنوين عوض عن الجملة المضافة إليها، والتوفية إعطاء الشيء وافيًا، والدين هنا الجزاء ومنه كما تدين تدان، والحق الموجد بحسب مقتضى الحكمة، وقريب منه تفسيره بالثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة أي يوم إذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله تعالى جزاءهم المطابق لمقتضى الحكمة وافيًا تامًا؛ والكلام استئناف مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متضمن لبيان ذلك المبهم المحذوف فيما سبق على وجه الإجمال، وجوز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} بدلًا من {يَوْمَ تَشْهَدُ} [النور: 24] من جوز تعلق ذاك بيوفيهم. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {يُوَفّيهِمُ} مخففًا. وقرأ عبد الله. ومجاهد. وأبو روق. وأبو حيوة {الحق} بالرفع على أنه صفة للاسم الجليل، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته، ومعنى الحق على هذه القراءة على ما قال الراغب الموجد للشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، وفسره بعضهم بالعادل، والأكثرون على تفسيره بالواجب لذاته، وكذا في قوله سبحانه: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} والمبين إما من أبان اللازم أي الظاهر حقيته على تقدير جعله نعتًا للحق أو الظاهر ألوهيته عز وجل على تقدير جعله خبرًا ثانيًا أو من أبان المتعدي أي المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وجملة {يَعْلَمُونَ} معطوفة على جملة {يُوَفّيهِمُ الله} فإن كانت مقيدة بما قيدت به الأولى فالمعنى يوم إذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعلمون أن الله إلخ، وإن لم تكن مقيدة بذلك جاز أن يكون المعنى ويعلمون عند معاينتهم الأهوال والخطوب أن الله إلخ، والظاهر أن للشهادة على الأول وللمعاينة على الثاني دخلًا في حصول العلم ضمون ما في حيز {يَعْلَمُونَ} فتأمل لتعرف كيفية الاستدلال على ذلك فإن فيه خفاء لاسيما مع ملاحظة الحصر المأخوذ من تعريف الطرفين وضمير الفصل، وقيل: إن علم الخلق بصفاته تعالى يوم القيامة ضروري: وإن تفاوتوا في ذلك من بعض الوجوه فيعلمون ما ذكر من غير مدخلية أحد الأمرين، ولعل فائدة هذا العلم يأسهم من إنقاذ أحد إياهم مما هم فيه أو انسداد باب الاعتراض المروح للقلب في الجملة عليهم أو تبين خطئهم في رميهم حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عز وجل حقًا أي موجدًا للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة لما قدمنا من أن فجور زوجات الأنبياء عليهم السلام مخل بحكمة البعثة، وكذا تأتي كونه عز وجل حقًا أي واجبًا لذاته بناءً على أن الوجوب الذاتي يستتبع الاتصاف بالحكمة بل بجميع الصفات الكاملة، وهذه الجملة ظاهرة جدًا في أن الآية في ابن أبي وأضرابه من المنافقين الرامين حرم الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المؤمن عالم أن الله تعالى هو الحق المبين منذ كان في الدنيا لا أنه يحدث له علم ذلك يوم القيامة.
ومن ذهب إلى أنها في الرامين من المؤمنين أو فيهم وفي غيرهم من المنافقين قال: يحتمل أن يكون المراد من العلم بذلك التفات الذهن وتوجهه إليه ولا يأبى ذلك كونه حاصلًا قبل. وقد حمل السيد السند قدس سره في حواشي المطالع العلم في قولهم في تعريف الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر على ذلك لئلا يرد أنه يلزم على الظاهر أن لا يكون للفظ دلالة عند التكرار لامتناع علم المعلوم.
ويحتمل أن يكون قد نزل علمهم الحاصل قبل منزلة غير الحاصل لعدم ترتب ما يقتضيه من الكف عن الرمي عليه ومثل هذا التنزيل شائع في الكتاب الجليل، ويحتمل أن يكون المراد يعلمون عيانًا مقتضى أن الله هو الحق المبين أعني الانتقام من الظالم للمظلوم ويحتمل غير ذلك.
وأنت تعلم أن الكل خلاف الظاهر فتدبر وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (26):

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
{الخبيثات} إلخ كلام مستأنف مؤسس على السنة الجارية فيما بين الخلق على موجب أن لله تعالى ملكًا يسوق الأهل إلى الأهل، وقول القائل:
إن الطيور على أشباهها تقع

أي الخبيثات من النساء {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال أي مختصات بهم لا يتجاوزنهم إلى غيرهم على أن اللام للاختصاص {والخبيثون} أيضًا {للخبيثات} لأن المجانسة من دواعي الانضمام {والطيبات} منهن {لِلطَّيّبِينَ} منهم {والطيبون} أيضًا {للطيبات} منهن بحيث لا يتجاوزونهن إلى من عداهن وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة رضي الله تعالى عنها من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ماق يل فيها من الخرافات حسا نطق به قوله سبحانه: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ} على أن الإشارة إلى أهل البيت النبوي رجالًا ونساءً ويدخل في ذلك الصديقة رضي الله تعالى عنها دخولًا أوليًا، وقيل: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصديقة. وصفوان، وقال الفراء: إشارة إلى الصديقة. وصفوان والجمع يطلق على ما زاد على الواحد.
وفي الآية على جميع الأقوال تغليب أو أولئك منزهون مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة. وجعل الموصوف للصفات المذكورة النساء والرجال حسا سمعت رواه الطبراني عن ابن عباس ضمن خبر طويل. ورواه الإمامية عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما. واختاره أبو مسلم. والجبائي وجماعة وهو الأظهر عندي. وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها الطبراني أيضًا. وابن مردويه وغيرهما أن {الخبيثات والطيبات} صفتان للكلم {والخبيثون والطيبون} صفتان للخبيثين من الناس وروي ذلك عن الضحاك. والحسن، و{الخبيثون} عليه شامل للرجال والنساء على سبيل التغليب وكذا {الطيبون} و{بئاياتنا أولئك} إشارة إلى الطيبين وضمير {يَقُولُونَ} للخبيثين، وقيل للآفكين أي الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال والنساء أي مختصة ولائقة بهم لا ينبغي أن تقال في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحقاء بأن يقال في حقهم خبائث الكلم والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين مختصة وحقيقة بهم وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم أولئك الطيبون مبرؤن عن الاتصاف مما يقول الخبيثون وقيل الآفكون في حقهم فمآله تنزيه الصديقة رضي الله تعالى عنها أيضًا.
وقيل: المراد الخبيثات من القول مختصة بالخبيثين من فريقي الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون بالخبيثات من القول متعرضون لها والطيبات من القول للطيبين من الفريقين أي مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين مختصون بالطيبات من القول لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون مبرؤن مما يقول الخبيثون أي لا يصدر عنهم مثل ذلك، وروي ذلك عن مجاهد، والكلام عليه على حذف مضاف إلى ما؛ ومآله الحط على الآفكين وتنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمة لما لا يخلو البشر عنه من الذنب، وحسنات الأبرار سيئات المقربين {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هو الجنة كما قاله أكثر المفسرين، ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 13] فإن المراد به ثمت الجنة بقرينة {أَعْتَدْنَا} والقرآن يفسر بعضه بعضًا، وفي هذه الآيات من الدلالة على فضل الصديقة ما فيها، ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وهو دال على فضلها أيضًا، وكانت رضي الله تعالى عنها تتحدث بنعمة الله تعالى عليها بنزول ذلك في شأنها.
فقد أخرج ابن أبي شيبة عنها أنها قالت: خلال في لم تكن في أحد من الناس إلا ما آتى الله تعالى مريم ابنة عمران والله ما أقول هذا إني أفتخر على صواحباتي قيل: وما هن؟ قالت: نزل الملك بصورتي وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع سنين وأهديت له لتسع سنين وتزوجني بكرًا لم يشركه في أحد من الناس وأتاه الوحي وأنا وإياه في لحاف واحد وكنت من أحب الناس إليه ونزل في آيات من القرآن كادت الأمة تهلك فيهن ورأيت جبريل عليه السلام ولم يره أحد من نسائه غيري وقبض في بيتي لم يله أحد غير الملك وأنا.
وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت: لقد نزل عذرى من السماء ولقد خلقت طيبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة وأجرًا عظيمًا، وفي قوله سبحانه: {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} بناءً على شموله عائشة رضي الله تعالى عنها رد على الرافضة القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل مع أشياء افتروها ونسبوها إليها، ومما يرد زعم ذلك أيضًا قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرّم الله تعالى وجهه مع الحسن رضي الله تعالى عنه يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة: إني لأعلم أنها زوجة نبيكم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة ولكن الله تعالى ابتلاكم ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها، ومما يقضي منه العجب ما رأيته في بعض كتب الشيعة من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأمير كرم الله تعالى وجهه: قد أذنت لك أن تخرج بعد وفاتي من الزوجية من شئت من أزواجي فأخرجها كرم الله تعالى وجهه من ذلك لما صدر منها معه ما صدر، ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى، وفي حسن معاملة الأمير كرم الله تعالى وجهه إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر الذي صحبها الثابت عند الفريقين ما يكذب ذلك، ونحن لا نشك في فضلها رضي الله تعالى عنها لهذه الآيات ولما جاء في مدحها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن من ذلك سوى ما أخرجه ابن أبي شيبة.
وأحمد. والبخاري. ومسلم. والترمذي. والنسائي. وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام» لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته صلى الله عليه وسلم الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها والوجه لا يخفى، وفي هذا المقام أبحاث تطلب من محلها، ثم إن الذي أراه أن إنزال هذه الآيات في أمرها لمزيد الاعتناء بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام ولجبر قلب صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه وكذا قلب زوجته أم رومان فقد اعتراهما من ذلك الإفك ما الله تعالى أعلم به. ولمزيد انقطاع عائشة رضي الله تعالى عنها إليه عز وجل مع فضلها وطهارتها في نفسها، وقد جاء في خبر غريب ذكره ابن النجار في تاريخ بغداد بسنده عن أنس ابن مالك رضي الله تعالى قال: كنت جالسًا عند أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لأقر عينها بالبراءة وهي تبكي فقالت: هجرني القريب والبعيد حتى هجرتني الهرة وما عرض عليّ طعام ولا شراب فكنت أرقد وأنا جائعة ظامئة فرأيت في منامي فتى فقال لي: مالك؟ فقلت: حزينة مما ذكر الناس فقال: ادعى بهذه الدعوات يفرج الله تعالى عنك فقلت: وما هي؟ فقال قولي يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغمم ويا كاشف الظلم يا أعدل من حكم يا حسب من ظلم يا ولي من ظلم يا أول بلا بداية ويا آخر بلا نهاية يا من له اسم بلا كنية اللهم اجعل لي من أمري فرجًا ومخرجًا قالت: فانتبهت أنا ريانة شبعانة وقد أنزل الله تعالى فرجي، ويسمى هذا الدعاء دعاء الفرج فليحفظ وليستعمل، ثم إنه عز وجل إثر ما فصل الزواجر عن الزنا وعن رمي العفائف عنه شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال بالنساء ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات وتعليم الآداب الجميلة والأفاعيل المرضية المستتبعة لسعادة الدارين. فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (27):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)}
{كَرِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} إلخ، وسبب النزول على ما أخرج الفريابي. وغيره من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولا ولد ولا والد فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع؟ فنزلت: {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} إلخ، وإضافة البيوت إلى ضمير المخاطبين لامية اختصاصية، والمراد عند بعض الاختصاص الملكي، ووصف البيوت غايرة بيوتهم بهذا المعنى خارج مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه وإلا فالآجر والمعير أيضًا منهيان عن الدخول بغير إذن.
وقال بعضهم: المراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها لأن كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فيحمل ذلك على الاختصاص المذكور فلا حاجة إلى القول بأن ذاك خارج مخرج العادة، وقرئ {بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} بكسر الباء لأجل الياء {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها، وتفسيره بذلك أخرجه ابن أبي حاتم. وابن الأنباري في المصاحف. وابن جرير. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ويخالفه ما روى الحاكم وصححه والضياء في المختارة. والبيهقي في شعب الإيمان. وناس آخرون عنه أنه قال في {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} أخطأ الكاتب وإنما هي {حتى} لكن قال أبو حيان: من روى عن ابن عباس إنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس برئ من ذلك القول انتهى.
وأنت تعلم أن تصحيح الحاكم لا يعول عليه عند أئمة الحديث لكن للخبر المذكور طرق كثيرة، وكتاب الأحاديث المختارة للضياء كتاب معتبر، فقد قال السخاوي في فتح المغيث في تفسيم أهل المسانيد ومنهم من يقتصر على الصالح للحجة كالضياء في مختارته، والسيوطي يعد ما عد في ديباجة جمع الجوامع الكتب الخمسة وهي صحيح البخاري. وصحيح مسلم. و«صحيح ابن حبان». و«المستدرك». و المختارة للضياء قال: وجميع ما في الكتب الخمسة صحيح.
ونقل الحافظ ابن رجب في طبقات الحنابلة عن بعض الأئمة أنه قال: كتاب المختارة خير من «صحيح الحاكم» فوجود هذا الخبر هناك مع ما ذكر من تعدد طرقه يبعد ما قاله أبو حيان، وابن الأنباري أجاب عن هذا الخبر ونحوه من الأخبار الطاعنة بحسب الظاهر في تواتر القرآن المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسيأتي في تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى بعضها أيضًا بأن الروايات ضعيفة ومعارضة بروايات أخر عن ابن عباس أيضًا وغيره وهذا دون طعن أبي حيان.
وأجاب ابن اشته عن جميع ذلك بأن المراد الخطأ في الاختيار وترك ما هو الأولى بحسب ظنه رضي الله تعالى عنه لجمع الناس عليه من الأحرف السبعة لا أن الذي كتب خطأ خارج عن القرآن.
واختار الجلال السيوطي هذا الجواب وقال: هو أولى وأقعد من جواب ابن الأنباري، ولا يخفى عليك أن حمل كلام ابن عباس على ذلك لا يخلو عن بعد لما أن ما ذكر خلاف ظاهر كلامه، وأيضًا ظن ابن عباس أولوية ما أجمع سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على خلافه مما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة بعيد، وكأنهم رأوا أن التزام ذلك أهون من إنكار ثبوت الخبر عن ابن عباس مع تعدد طرقه وإخراج الضياء إياه في مختارته، ويشجع على هذا الإنكار اعتقاد جلالة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وثبوت الإجماع على تواتر خلاف ما يقتضيه ظاهر كلامه فتأمل.
واستعمال الاستئناس عنى الاستئذان بناءً على أنه استفعال من آنس الشيء بالمد علمه أو أبصره وإبصاره طريق إلى العلم فالاستئناس استعلام والمستأذن طالب العلم بالحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أولًا.
وقيل الاستئناس خلاف الاستيحاش فهو من الأنس بالضم خلاف الوحشة. والمراد به المأذونية فكأنه قيل: حتى يؤذن لكم فإن من يطرق بيت غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له استأنس، وهو في ذلك كناية أو مجاز، وقيل: الاستئناس من الانس بالكسر عنى الناس أي حتى تطلبوا معرفة من في البيوت من الانس. وضعف بأن فيه اشتقاقًا من جامد كما في المسرج أنه مشتق من السراج وبأن معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن فيوهم جواز الدخول بلا إذن. ومن الناس من رجحه ناسبته لقوله تعالى: {تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَدًا} [النور: 28] ولا يكافئ التضعيف بما سمعت.
وذهب الطبري إلى أن المعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم ولا يخفى ما فيه، وقيل: المعنى حتى تطلبوا علم أهل البيت، والمراد حتى تعلموهم على أتم وجه، ويرشد إلى ذلك ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قلنا يا رسول الله ما الاستئناس؟ فقال: «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت» وما أخرجه ابن المنذر. وجماعة عن مجاهد أنه قال: تستأنسوا تنحنحوا وتنخموا، وقيل المراد حتى تؤنسوا أهل البيت بإعلامهم بالتسبيح أو نحوه، والخبران المذكوران لا يأبيانه وكلا القولين كما ترى، وفي دلالة ما ذكر من تفسير الاستئناس في الخبر على ما سبق له بحث سنشير إليه إن شاء الله تعالى: {وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} أي الساكنين فيها، وظاهر الآية أن الاستئذان قبل التسليم وبه قال بعضهم.
وقال النووي: الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان، فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه. قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام قبل الكلام» وابن أبي شيبة. والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: لا يؤذن له حتى يسلم، وأخرج ابن أبي شيبة. وابن وهب في كتاب المجالس عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فجئته فقلت: أألج؟ فقال: ادخل فلما دخلت قال: مرحبًا يا ابن أخي لا تقل أألج ولكن قل: السلام عليكم فإذا قيل: وعليك فقل: أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل فادخل.
وأخرج قاسم بن اصبغ. وابن عبد البر في التمهيد عن ابن عباس قال: استأذن عمر رضي الله تعالى: عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر؟ واختار الماوردي التفصيل وهو أنه ءن وقعت عين المستأذن على من في البيت قبل دخوله قدم السلام واإلا قدم الاستئذان، والظاهر أن الاستئذان بما يدل على طلب الإذن صريحًا والمأثور المشهور في ذلك أأدخل؟ كما سمعت، وجوز أن يكون بما يفهم منه ذلك مطلقًا وجعلوا منه التسبيح والتكبير ونحوهما مما يحصل به إيذان أهل البيت بالجائي فإن في إيذانهم دلالة ما على طلب الإذن منهم، وحملوا ما تقدم من حديث أبي أيوب وكلام مجاهد على ذلك، وهو على ما روي عن عطاء واجب على كل محتلم ويكفي فيه المرة الواحدة على ما يقتضيه ظاهر الآية، وأخرج البيهقي في الشعب. وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: كان يقال الاستئذان ثلاثًا فمن لم يؤذن له فيهن فليرجع، أما الأولى: فيسمع الحي، وأما الثانية: فيأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاؤوا أذنوا إن شاؤوا ردوا. وفي الأمر بالرجوع بعد الثلاث حديث مرفوع أخرجه مالك. والبخاري. ومسلم. وأبو داود عن أبي سعيد الخدري.
وذكر أبو حيان أنه لا يزيد على الثلاث إلا إن تحقق أن من في البيت لم يسمع، وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول على المحارم، وقد أخرج مالك في «الموطأ» عن عطاء بن يسار «أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمي؟ قال: نعم قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا قال: فاستأذن عليها» وأخرج ابن جرير، والبيهقي عن ابن مسعود عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم، وهو أيضًا على ما يقتضيه بعض الآثار مشروع للنساء إذا أردن دخول بيوت غير بيوتهن: فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أم إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت: ندخل؟ فقالت: لا فقال واحد: السلام عليكم أندخل؟ قالت: ادخلوا ثم قالت: {كَرِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} إلخ؛ وإذا صح ذلك ففي الآية نوع تغليب، ووجه مشروعية الاستئذان لهن نحو وجه مشروعيته للرجال فإن أهل البيت قد يكونون على حال لا يحبون اطلاع النساء عليه كما لا يحبون اطلاع الرجال.
وصح من حديث أخرجه الشيخان وغيرهما «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» ومن هنا لا ينبغي النظر في قعر البيت قبل الاستئذان، وقد أخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يشهد أني رسول الله فلا يدخل على أهل بيت حتى يستأذن ويسلم فإذا نظر في قعر البيت فقد دخل» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرج أبو داود. والبخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن بشر إذا أتى باب قوم لم يستعمل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذٍ ستور فاستقبال الباب را يفضي إلى النظر، وظاهر الآية أيضًا مشروعية الاستئذان للأعمى لدخوله في عموم الموصول، ووجهها كراهة اطلاعه بواسطة السمع على ما لا يحب أهل البيت اطلاعه عليه من الكلام مثلًا.
وفي الكشاف إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة أحد ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وهو تعليل حسن إلا أنه يحتاج القول بذلك إلى القول بأن قوله عليه الصلاة والسلام إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» خارج مخرج الغالب.
وجيء بإنما لمزيد الاعتناء لا للحصر وقد صرحوا جيء إنما لذلك فلا تغفل؛ ثم اعلم أن الاستئذان والتسليم متغايران لكن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن الاستئذان داخل في التسليم كما أن بعضها يقتضي مغايرته له وعدم دخوله فيه، ووجه جعله من التسليم أنه بدونه كالعدم لما أن السنة فيه أن يقرن بالتسليم. هذا وفي مصحف عبد الله كما أخرج ابن جرير. وغيره عن إبراهيم {حتى} {يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر ذلكم} إشارة على ما قيل إلى الدخول بالاستئذان والتسليم المفهوم من الكلام، وقيل: إشارة إلى المذكور في ضمن الفعلين المغيابهما أي الاستئذان والتسليم {خَيْرٌ لَّكُمْ} من الدخول بغتة والدخول على تحية الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتًا غير بيته يقول: حييتم صباحًا حييتم مساءً فيدخل فرا أصاب الرجل مع امرأته في لحاف، وخيرية المفضل عليه قيل على زعمهم لما في الانتظار من المذلة ولعدم تحية الجاهلية حسنة كما هو عادة الناس اليوم في قولهم: صباح الخير ومساء الخير، ولعل الأولى أن يقال: إن ذلك من قبيل الخل أحلى من العسل.
وجوز أن يكون {خَيْرٌ} صفة فلا تقدير، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تعليل على ما اختاره جمع لمحذوف أي أرشدتم إلى ذلك أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا وجبه.