فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (28):

{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}
{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَدًا} بأن كانت خالية من الأهل {فَلاَ تَدْخُلُوهَا} واصبروا {حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} من جهة من يملك الإذن عند وجدانكم إياه، ووجه ذلك أن الدخول في البيوت الخالية من غير إذن سبب للقيل والقال، وفيه تصرف لك الغير بغير رضاه وهو يشبه الغصب، وهذه الآية لبيان حكم البيوت الخالية عن أهلها كما أن الآية الأولى لبيان حكم البيوت التي فيها أهلها.
وجوز أن تكون هذه تأكيدًا لأمر الاستئناس وأنه لابد منه والأمر دائر عليه، والمعنى فإن لم تجدوا فيها أحدًا من الآذنين أي ممن يملك الإذن فلا تدخلوها إلخ ويفيد هذا حرمة دخول ما فيه من لا يملك الإذن كعبد وصبي من دون إذن من يملكه، ومن اختار الأول قال: إن حرمة ما ذكر ثابتة بدلالة النص فتأمل.
وقال سبحانه: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} إلى آخره دون فإن لم يكن فيها أحد لأن المعتبر وجد أنها خالية من الأهل مطلقًا أو ممن يملك الإذن سواء كان فيها أحد في الواقع أم لم يكن كذا قيل: وعليه فالمراد من قولهم في تفسير ذلك، بأن كانت خالية كونها خالية بحسب الاعتقاد، وكذا يقال في نظيره فلا تغفل، ثم أن ما أفادته الآيتان من الحكم قد خصصه الشرع فجوز الدخول لإزالة منكر توقفت على الدخول من غير إذن أهل البيت والدخول في البيت الخالي لإطفاء حريق فيه أو نحو ذلك.
وقد ذكر الفقهاء الصور التي فيها الدخول من غير إذن ممن يملك الإذن فلتراجع، وقيل: المراد بالإذن في قوله سبحانه: {حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} ما يعم الإذن دلالة وشرعًا ولذا وقع بصيغة المجهول وحينئذٍ لا حاجة إلى القول بالتخصيص وفيه خفاء {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الآمر من يملك الإذن أم لا فارجعوا ولا تلحوا {هُوَ} أي الرجوع {أزكى لَكُمْ} أي أطهر مما لا يخلو عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب بعد القول المذكور من دنس الدناءة والرذالة أو أنفع لدينكم ودنياكم على أن {أزكى} من الزكاة عنى النمو.
والظاهر أن صيغة أفعل في الوجهين للمبالغة، وقيدنا الوقوف على الأبواب بما سمعت لأنه ليس فيه دناءة مطلقًا، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فإذا خرج ورآه قال: يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني كانك فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم، وكأنه رضي الله تعالى عنه عغد ذلك من التواضع وهو من أقوى أسباب الفتوح لطالب العلم، وقد أعطاني الله عز وجل نصيبًا وافيًا منه فكنت أكثر التلامذة تواضعًا وخدمة للمشايخ والحمد لله تعالى على ذلك {والله بما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلمتموه فيجازيكم عليه.

.تفسير الآية رقم (29):

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}
{لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ} أي بغير استئذان {بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أي موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنًا من كان من غير أن يتخذها سكنًا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات وغيرها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبئ عنه قوله تعالى: {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لنفي الجناح أي فيها حق تمتع لكم كالاستكنان من الحر والبرد وايواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع والاغتسال وغيرها مما يليق بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها من قبل ولا ممن يتولى أمرها ويقوم بتدبيرها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: {رَّقِيبًا يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ} [النور: 27] إلخ قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} إلخ، وعنى الصديق رضي الله تعالى عنه بالبيوت المعلومة الخانات التي في الطرق وهي في الآية أعم من ذلك، ولا عبرة بخصوص السبب فما روي عن ابن جبير. ومحمد بن النفية. والضحاك. وغيرهم من تفسيرها فيها بذلك من باب التمثيل، وكذا ما أخرجه جماعة عن عطاء. وعبد بن حميد. وإبراهيم النخعي أنها البيوت الهربة التي تدخل للتبرز، وأما ما روي عن ابن الحنفية أيضًا من أنها دور مكة فهو من باب التمثيل أيضًا لكن صحة ذلك مبنية على القول بأن دور مكة غير مملوكة والناس فيها شركاء وقد علمت ما في المسألة من الخلاف.
وأخرج أبو داود في الناسخ. وابن جرير عن ابن عباس أن قوله سبحانه: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] قد نسخ بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إلخ واستثنى منه البيوت الغير المسكونة، وروي حديث الاستثناء عكرمة. والحسن وهو الذي يقتضيه ظاهر خبر مقاتل وإليه ذهب الزمخشري. وتعقبه أبو حيان أن لا يظهر ذلك لأن الآية الأولى في البيوت المملوكة والمسكونة وهذه الآية في البيوت المباحة التي لا اختصاص لها بواحد دون واحد. والذي يقتضيه النظر الجليل أن البيوت فيما تقدم أعم من هذه البيوت فيكون ما ذكر تخصيصًا لذلك وهو المعنى بالاستثناء فتدبر ولا تغفل.
{والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيد لمن يدخل مدخلًا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات.

.تفسير الآية رقم (30):

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بما يَصْنَعُونَ (30)}
{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ} شروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندارجًا أوليًا. وتلوين الخظاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفويض ما في حيزه من الأوامر والنواهي إليه عليه الصلاة والسلام قيل لأنها تكاليف متعلقة يأمور جزئية كثيرة الوقوع حرية بأن يكون الآمر بها والمتصدى لتدبيرها حافظًا ومهيمنًا عليهم. وقيل: إن ذلك لما أن بعض المؤمنين جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كالمستدعي لأن يقول له ما في حيز القول.
فقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة فنظر إلى امرأة ونظرت إليه فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابًا به فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أمري فأتاه فقص عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عقوبة ذنبك وأنزل الله تعالى: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ} {يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} ومفعول القول مقدر، و{يَغُضُّواْ} جواب لقل لتضمنه معنى حرف الشرط كأنه قيل: إن تقل لهم غصوا يغضوا، وفيه إيذان بأنهم لفرط مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة والسلام وأنه كالسبب الموجب له وهذا هو المشهور.
وجوز أن يكون {يَغُضُّواْ} جوابًا للأمر المقدر المقول للقول. وتعقب بأن الجواب لابد أن يخالف المجاب إما في الفعل والفاعل نحو ائتني أكرمك أو في الفعل نحو أسلم تدخل الجنة أو في الفاعل نحو قم أقم ولا يجوز أن يتوافقا فيه، وأيضًا الأمر للمواجهة و{يَغُضُّواْ} غائب ومثله لا يجوز، وقيل عليه: إنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل «من كانت هجرته» الحديث ولا نسلم أنه لا يجاب الأمر بلفظ الغيبة إذا كان محكيًا بالقول لجواز التلوين حنيئذ وفيه بحث، ومن أنصف لا يرى هذا الوجه وجيهًا وهو على ما فيه خلاف الظاهر جدًا، وجوز الطبرسي. وغيره أن يكون {يَغُضُّواْ} مجزومًا بلام أمر مقدرة لدلالة {قُلْ} أي قل لهم ليغضوا والجملة نصب على المفعولية للقول، وغض البصر إطباق الجفن على الجفن، و{مِنْ} قيل صلة وسيبويه يأبى ذلك في مثل هذا الكلام والجواز مذهب الأخفش، وقال ابن عطية: يصح أن تكون من لبيان الجنس ويصح أن تكون لابتداء الغاية. وتعقبه في البحر بأنه لم يتقدم مبهم لتكون من لبيان الجنس على أن الصحيح أنها ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس انتهى، والجل على أنها هنا تبعيضية، والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل، وجعل الغض عن بعض المبصر غض بعض البصر وفيه كما في الكشف كناية حسنة، ثم أن غض البصر عما يحرم النظر إليه واجب ونظرة الفجأة التي لا تعمد فيها معفو عنها، فقد أخرج أبو داود.
والترمذي. وغيرهما عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» وبدأ سبحانه بالإرشاد إلى غض البصر لما في ذلك من سد باب الشر فإن النظر باب إلى كثير من الشرور وهو بريد الزنا ورائد الفجور، وقال بعضهم:
كل الحوادث مبداها من النظر ** ومعظم النار من مستصغر الشرر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها ** في أعين العين موقوف على الخطر

كم نظرة فعلت في قلب فاعلها ** فعل السهام بلا قوس ولا وتر

يسر نظره ما ضر خاطره ** لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر

والظاهر أن الإرشاد لكل واحد من المؤمنين ولفظ الجمع لا يأبى ذلك، والظاهر أيضًا أن المؤمنين أعم من العباد وغيرهم، وزعم بعضهم جواز أن يكون المراد بهم العياد والمؤمنين المخلصين على أن يكون المعنى قل للمؤمنين الكاملين يغضوا من أبصارهم {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} أي عما لا يحل لهم من الزنا واللواطة، ولم يؤت هنا بمن التبعيضية كما أتى بها فيما تقدم لما أنه ليس فيه حسن كناية كما في ذلك. وفي الكشاف دخلت {مِنْ} في غض البصر دون حفظ الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس للبيع والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما اشتثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه انتهى، وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال المراد غض البصر عن الأجنبية والأجنبية يحل النظر إلى بعضها وأما الفرج فلا طريق إلى الحل فيه أصلًا بالنسبة إلى الأجنبية فلا وجه لدخول {مِنْ} فيه وفيه تأمل، وقيل: لم يؤت بمن هنا لأن المراد من حفظ الفروج سترها.
فقد أخرج ابن المنذر. وجماعة عن أبي العالية أنه قال: كل آية يذكر فيها حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية في النور {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] فهو أن لا يراها أحد، وروي نحوه عن أبي زيد، والستر مأمور به مطلقًا.
وتعقب بأنه يجوز الكشف في مواضع فلو جيء بمن لكان فيه إشارة إلى ذلك، وتفسير حفظ الفروج هنا خاصة بسترها قيل لا يخلو عن بعد لمخالفته لما وقع في القرآن الكريم كما اعترف به من فسره بما ذكر.
واختار بعض المدققين أن المراد من ذلك حفظ الفروج عن الافضاء إلى ما لا يحل وحفظها عن الإبداء لأن الحفظ لعدم ذكر صلته يتناول القسمين، وذكر أن الحفظ عن الابداء يستلزم الآخر من وجهين عدم خلوه عن الإبداء عادة وكون الحفظ عن الإبداء بل الأمر بالتستر مطلقًا للحفظ عن الإفضاء، ومن هنا تعلم أن من ضعف ما روي عن أبي العالية. وابن زيد بعدم تعرض الآية عليه بحفظ الفرج عن الزنا لم يصب المحز.
{ذلك} أي ما ذكر من الغض والحفظ {أزكى لَهُمْ} أي أطهر من دنس الريبة أو انفع من حيث الدين والدنيا فإن النظر بريد الزنا وفيه من المضار الدينية أو الدنيوية ما لا يخفى وافعل للمبالغة دون التفضيل.
وجوز أن يكون للتفضيل على معنى أزكى من كل شيء نافع أو مبعد عن الريبة، وقيل على معنى أنه أنفع من الزنا والنظر الحرام فانهم يتوهمون لذة ذلك نفعًا {إِنَّ الله خَبِيرٌ بما يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه شيء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التي من جملتها إجالة النظر واستعمال سائر الحواس وتحريك الجوارح وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذر منه عز وجل في كل ما يأتون وما يذرون.