فصل: تفسير الآية رقم (164):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (164):

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بما يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
{إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} أخرج البيهقي عن أبي الضحى معضلًا أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلثمائة وستون صنمًا، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقًا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت. ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان، وإنما جمع السموات وأفرد الأرض للانتفاع بجميع أجزاء الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها وهي ما نشاهده منها وقال أبو حيان: لم تجمع الأرض لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد، وجمع لم يقع مفرده كالألباب وفي المثل السائر نحوه، وقال بعض المحققين: جمع السموات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات} [البقرة: 29] سواء كانت متماسة كما هو رأي الحكيم أو لا كما جاء في الآثار أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى: {وأوحى فِي كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} [فصلت: 12] يدل عليه، ولم يجمع الأرض لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك فإنها، سواء كانت متفاصلة بذواتها، كما ورد في الأحاديث من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءين أو لا تكون متفاصلة كما هو رأي الحكيم غير مختلفة في الحقيقة اتفاقًا.
{واختلاف الليل والنهار} أي تعاقبهما وكون كل منهما خلفًا للآخر، أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازديادًا وانتقاصًا، أو ظلمة ونورًا، وقدم الليل لسبقه في الخلق أو لشرفه.
{والفلك التي تَجْرِى فِي البحر} عطف على {خُلِقَ السموات} لا على {السموات} أو عطف على {وَسَخَّر لَكُمُ} والفلك من الألفاظ التي استعملت مفردًا وجمعًا، وقدر بينهما تغاير اعتباري، فإن اعتبر أن ضمته أصلية كضمة قفل فمفرد، وإن اعتبر أنها عارضة كضمة أسد فجمع، ومن الأول: قوله تعالى: {فِى الفلك المشحون} [يس: 41] ومن الثاني: قوله تعالى: {إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] وقيل: إنه جمع فلك بفتح الفاء وسكون اللام وقيل: إنه اسم جمع، زعم بعضهم أنه قرئ {فَلَكٍ} بضمتين وهو عند بعض مفرد لا غير. وقال الكواشي: الفلك والفلك بضمتين لغتان الواحد والجمع سواء في اللفظ، ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما وإفراده.
{ا يَنفَعُ الناس} ما إما مصدرية أي بنفعهم أو موصولة أي بالذي ينفعهم وعلى الأول: ضمير الفاعل إما للفلك لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى كما قيل أو للجري أو للبحر واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الاستدلال {وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاء} عطف على {الفلك} وقيل: وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعًا لما فيه من مزيد تفضيل، وقيل: المقصود من الأول الاستدلال بالبحر وأحواله لا بالفلك الجاري فيه لأن الاستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء، أو العلم بكيفية إجرائه، أو بتسخير الريح والبحر لذلك، أو توسله إلى ما ينفع الناس وشيء منها ليس من حاله في نفسه، ولأن الاستدلال بالفلك الجاري في البحر استدلال بحال من أحوال البحر بخلاف ما لو استدل بالبحر وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام، إلا أنه خص الفلك بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذٍ أن يقال: والعجائب التي في البحر لأنه سبب الاطلاع على أحواله وعجائبه فكان ذكره ذكرًا لجميع أحواله، وطريقًا إلى العلم بوجوه دلالته، ولذلك قدم على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وإلا فالمناسب بعد ذكر اختلاف الليل والنهار الذي هو من الآيات العلوية ذكر المطر والسحاب اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم الفلك في البين لكونها من الآيات السفلية.
وعندي أن هذا خلاف الظاهر جدًا وإن جل قائله إذ يؤول المعنى إلى والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعوّل عليه، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة، متعلقة بحبال الهواء على لطفه، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه، وكون شيء من ذلك ليس حالًا لها في نفسها غير مسلم، ووجه الترتيب على ما أرى أنه سبحانه ذكر أولًا: خلق أمرين علوي وسفلي، واختلاف شيئين دخلية أمرين سماوي وأرضي ثانيًا: إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما ازديادًا وانتقاصًا أو ظلمة ونورًا إنما هو دخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابًا وإيابًا بما ينفع الناس في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم، وهو الفلك التي تجري على كبد البحر بذلك، ويختلف جريانها شرقًا وغربًا على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك، فالآية حينئذٍ على حد قوله تعالى: {وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم والقمر قدرناه مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} [يس: 37- 41] إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحًا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي، وله مناسبة لذكر البحر بل ولذكر الفلك التي تجري فيه بما ينفع الناس وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفينًا في الأرض بالإحياء، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. ومن الأولى: ابتدائية والثانية: بيانية، وجوّز أن تكون تبعيضية وأن تكون بدلًا من الأولى، والمراد من السماء جهة العلو، وقد تقدم تحقيق ذلك.
{فَأَحْيَا بِهِ الأرض} بتهييج قواها النامية، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار {بَعْدَ مَوْتِهَا} وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسا تقتضيه طبيعتها {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ} عطف إما على {أَنَزلَ} والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل، وأحيا من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعًا للعطف، إما على أحياء فيدخل تحت فاء السببية، وسببية إنزال الماء للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب والبث فرع الحياة، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لإغناء فاء السببية عنه في المشهور، وقيل: يحتاج إلى تقدير به أي بالماء ليشعر بارتباطه بأنزل استقلالًا كأحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما، وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول ثله أكثري لا كلي، ومن بيانية على التقدير الأول على الصحيح، والمراد {مِن كُلّ دَابَّةٍ} كل نوع من الدواب، ومعنى بثها تكثيرها بالتوالد والتولد، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض، وقيل: تبعيضية لأن الله تعالى لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته، على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضًا في سورة {حم عسق} [الشورى: 1، 2]، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرًا ولا وجوده في السماء، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءًا من مدخولها لا فردًا منه، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين، وعدم صحة التبعيض، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخش.
{وَتَصْرِيفِ الرياح} أي تقليب الله تعالى لها جنوبًا وشمالًا وقبولًا ودبورًا، حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقيمًا ولواقح، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي {الريح} على الإفراد وأريد به الجنس، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الرياح للرحمة والريح للعذاب، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت ريح قال: «اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا» ولعله قصد بالأول والثاني قوله تعالى: {وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات} [الروم: 46] وقوله تعالى: {وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} [الذاريات: 41] وعقب إحياء الأرض بالمطر، وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك الله تعالى الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار.
{والسحاب} عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له {المسخر بَيْنَ السماء والأرض} صفة للسحاب باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كـ {سَحَابًا ثِقَالًا} [الأعراف: 57]، و{بين} ظرف لغو متعلق بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفًا وهبوطه إن كان كثيفًا، وقيل: الظرف مستقر وقع حالًا من ضمير المسخر ومتعلقه محذوف أي المسخر للرياح حيث تقلبه في الجو شيئة الله تعالى، وتعقيب تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم: 48] ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدئ به منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه، وا ذكرنا علم وجه الترتيب في الآية، وقال بعض الفضلاء: لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لرا توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة، ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى: {لايات} اسم أن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كمًا وكيفًا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الإلهية به سبحانه.
{لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي يتفكرون، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته، أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلًا منها مشتملًا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى عن سائرها، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعًا لآثار معينة، وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضي ذاته وجوده فضلًا عن وجوده على النمط الكذائي فإذًا لابد له من موجد لامتناع وجود الممكن بلا موجد قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح يوجده حسا يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة وتقتضيه مشيئته، متعال عن مقابلة غيره إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر الحق تعالى عليه فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه مخصوص أراده الآخر فالتأثير إن كان لكل منهما لزم اجتماع فاعلين على أثر واحد وهو يستلزم اجتماع العلتين التامتين، وإن كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لاستوائهما في إرادة إيجاده على الاستقلال، وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه إيقاع ما أراده، وإن اختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده على نحو، وأراد الآخر وجوده على نحو آخر لزم التمانع والتطارد لعدم المرجح فيلزم عجزهما والعجز مناف للألوهية بديهة، وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله ورا أشارت إلى شرف علم الهيئة.

.تفسير الآية رقم (165):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}
{وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا} بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الدالة على توحيده تعالى، و{مِن دُونِ الله} حال من ضمير {يَتَّخِذِ} والأنداد الأمثال والمراد بها الأصنام كما هو الشائع في القرآن، والمروي عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين، وقيل: الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال، وروي عن السدي ونسب إلى الصادق رضي الله تعالى عنه وقيل: المراد أعم منهما وهو ما يشغل عن الله تعالى والمعنى: ومن الناس من يتخذ متجاوزين الإله الواحد الذي ذكرت شؤونه الجليلة أمثالًا فلا يقصرون الطاعة عليه سبحانه بل يشاركونهم إياه، وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غِبّ تعيينه بالصفات.
{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله} إما جملة مستأنفة أو صفة الأنداد، أو صفة لِمنْ إذا جعلتها نكرة موصوفة مسوقة لبيان وجه الاتخاذ، والمحبة ميل القلب من الحب واحد الحبوب استعير لحبة القلب وسويدائه ثم اشتق منه الحب لأنه يؤثر في صميم القلب ويرسخ فيه، ومحبة العباد لله تعالى عند جمهور المتكلمين نوع من الإرادة سواء قلنا إنها نفس الميل التابع لاعتقاد النفع كما هو رأي المعتزلة، أو صفة مرجحة مغايرة له كما هو مذهب أهل السنة فلا تتعلق إلا بالجائزات ولا يمكن تعلقها بذاته تعالى فمحبة العبد له سبحانه إرادة طاعته وتحصيل مراضيه وهذا مبني على انحصار المطلوب بالذات في اللذة ورفع الألم، والعارفون بالله سبحانه قالوا: إن الكمال أيضًا محبوب لذاته فالعبد يحب الله تعالى لذاته لأنه الكامل المطلق الذي لا يداني كماله كمال، وأما محبة خدمته وثوابه فمرتبة نازلة، ومحبة الله تعالى للعباد صفة له عز شأنه لا تتكيف ولا يحوم طائر الفكر حول حماها، وقيل: إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي، والمراد بالمحبة هنا التعظيم والطاعة أي أنهم يسوون بين الله تعالى وبين الأنداد المتخذة فيعظمونهم ويطيعونهم كما يعظمون الله تعالى ويميلون إلى طاعته، وضمير الجمع المنصوب راجع إلى الأنداد فإن أريد بها الرؤساء فواضح وإلا فالتعبير عنها بضمير العقلاء باعتبار ذلك الزعم الباطل أنهم أنداد الله تعالى والمصدر المضاف من المبني للفاعل وفاعله ضميرهم بقرينة سبق الذكر وإن المشركين يعترفون به تعالى ويلجأون إليه في الشدائد {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [الزمر: 38] {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65]، وقيل هو الخلاف الظاهر وعدول عما يقتضيه كون جملة يحبونهم بيانًا لوجه الاتخاذ إنه مصدر المبني للمفعول واستغنى عن ذكر من يحب لأنه غير ملبس، والمعنى على تشبيه محبوبية الأنداد من جهة المشركين حبوبيته تعالى من جهة المؤمنين، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} لأن التشبيه إنما وقع بين المحبوبيتين وذلك يقتضي أن يكون محبوبية الأصنام مماثلًا لمحبوبيته تعالى، والترجيح بين المحبتين لكن باعتبار رسوخ إحداهما دون الأخرى فإن المراد بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرءون منها عند معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زمانًا ثم يرفضونه إلى غيره ورا أكلوه كما يحكى: أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها ولله أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته كانتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر، وليس المراد من شدة المحبة شدتها وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال: إن محبتهم؟ أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه اختيار أشد حبًا على أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر، ولهذا نزل: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وكان أحب الأعمال إليه صلى الله عليه وسلم أدومها، وقال العلامة: عدل عن أحب إلى أشد لأنه شاع في الأشد محبوبية فعدل عنه احترازًا عن اللبس، وقيل: إن أحب أكثر من حب، فلو صيغ منه أفعل لتوهم أنه من المزيد.
{وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ} أي لو يعلم هؤلاء الذين ظلموا بالاتخاذ المذكور؛ ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلك الاتخاذ ظلم عظيم، وأن اتصاف المتخذين به أمر معلوم مشهور حيث عبر عنه طلق الظلم، والموصول والصلة للإشعار بسبب رؤيتهم العذاب المفهومة من قوله سبحانه: {إِذْ يَرَوْنَ العذاب} أي عاينوا العذاب المعد لهم وأبصروه يوم القيامة، وأورد صيغة المستقبل بعد {لَوْ} و{إِذْ} المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضيًا تأويلًا مستقبلًا تحقيقًا فروعي الجهتان.
{أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا} ساد مسد مفعولي يرى، وجواب {لَوْ} محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف، وقيل: هو متعلق الجواب والمفعولان محذوفان والتقدير ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع لعلموا أن القوة لله جميعًا لا ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب {تَرَى} على أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، فالجواب حينئذٍ لرأيت أمرًا لا يوصف من الهول والفظاعة وابن عامر {إِذْ يَرَوْنَ} بالبناء للمفعول، ويعقوب {ءانٍ} بالكسر، وكذا {وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} على الاستئناف أو إضمار القول أي قائلين ذلك وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوًا مع القدرة عليه.