فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (18):

{قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)}
{قَالُواْ} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا في الجواب؟ فقيل قالوا: {سبحانك} وكان الظاهر أن يعبر بالمضارع لمكان {يِقُولُ} [الفرقان: 17] أولًا، وكأن العدول إلى الماضي للدلالة على تحقق التنزيه والتبرئة وأنه حالهم في الدنيا، وقيل: للتنبيه على أن إجابتهم بهذا القول هو محل الاهتمام فإن بها التبكيت والإلزام فدل بالصيغة على تحقق وقوعها، وسبحان إما للتعجب مما قيل لهم إما لأنهم جمادات لا قدرة لها على شيء أو لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون أو أولياء عن مثل ذلك محفوظون وإمّا هو كناية عن كونهم موسومين بتسبيحه تعالى وتوحيده فكيف يتأتى منهم إضلال عباده وإمّا هو على ظاهره من التنزيه والمراد تنزيهه تعالى عن الأضداد، وهو على سائر الأوجه جواب إجمالي إلا أن في كونه كذلك على الأخير نوع خفاء بالنسبة إلى الأولين، وقوله تعالى: {مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا} إلخ كالتأكيد لذلك والتفصيل له.
وجعل الطيبي قولهم: {سبحانك} توطئة وتمهيدًا للجواب لقولهم: {مَا كَانَ} إلخ أي ما صح وما استقام لنا {أَن تَتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} أي أولياء على أن {مِنْ} مزيدة لتأكيد النفي. ويحسن زيادتها بعد النفي والمنفي وإن كان {كَانَ} لكن هذا معمول معمولها فينسحب النفي عليه. والمراد نفي أن يكونوا هم مضليهم على أبلغ وجه كأنهم قالوا: ما صح وما استقام لنا أن نتخذ متجاوزين إياك أولياء نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليًا غيرك فضلًا أن يتخذنا وليًا، وجوز أن يكون المعنى ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أتباعًا فإن الولي كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع ومنه أولياء الشيطان أي أتباعه. وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ {يَنبَغِى} بالبناء للمفعول. وقال ابن خالويه: زعم سيبويه أن ذلك لغة.
وقرأ أبو الدرداء. وزيد بن ثابت. وأبو رجاء. ونصر بن علقمة. وزيد بن علي. وأخوه الباقر رضي الله تعالى عنهما. ومكحول. والحسن. وأبو جعفر. وحفص بن عبيد. والنخعي. والسلمي. وشيبة. وأبو بشر. والزعفراني {يَتَّخِذِ} مبنيًا للمفعول. وخرج ذلك الزمخشري على أنه من اتخذ المتعدي إلى مفعولين والمفعول الأول ضمير المتكلم القائم مقام الفاعل والثاني {مِنْ أَوْلِيَاء} ومن تبعضية لا زائدة أي أن يتخذونا بعض الأولياء، ولم يجوز زيادتها بناءً على ما ذهب إليه الزجاج من أنها لا تزاد في المفعول الثاني، وعلله في الكشف بأنه محمول على الأول يشيع بشيوعه ويخص كذلك، ومراده أنه إذا كان محمولًا لإيراد صدقه على غيره فيشيع ويخص كذلك في الإرادة فلا يرد زيد حيوان فإن المحمول باق على عمومه مع خصوص الموضوع، وقيل: مراده أن الاختلاف لا يناسب مع إمكان الاتحاد والمثال ليس كذلك.
والزمخشري لما بنى كلامه على ذلك المذهب والتزم التبعيض جاء الإشكال في تنكير {أَوْلِيَاء} فأجاب بأنه للدلالة على الخصوص وامتيازهم بما امتازوا وهو للتنويع على الحقيقة.
وقال السجاوندي: المعنى ما ينبغي لنا أن نحسب من بعض ما يقع عليه اسم الولاية فضلًا عن الكل فإن الولي قد يكون معبودًا ومالكًا وناصرًا ومخدومًا. والزجاج خفي عليه أمر هذه القراءة على مذهبه فقال: هذه القراءة خطأ لأنك تقول: ما اتخذت من أحد وليًا ولا يجوز ما اتخذت أحدًا من ولي لأن من إنما دخلت لأنها تنفي واحدًا في معنى جميع ويقال: ما من أحد قائمًا وما من رجل محبًا لما يضره ولا يقال: ما قائم من أحد وما رجل من محب لما يضره ولا وجه عندنا لهذا البتة ولو جاز هذا لجاز في {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} [الحاقة: 47] ما منكم أحد عنه من حاجزين. وأجاز الفراء هذه القراءة عن ضعف وزعم أن {مِنْ أَوْلِيَاء} هو الاسم وما في {يَتَّخِذِ} هو الخبر كأنه يجعله على القلب انتهى.
ونقل صاحب المطلع عن صاحب النظم أنه قال: الذي يوجب سقوط هذه القراءة أن من لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه نحو قوله تعالى: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم؛ 35] فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخولها كما في الآية على هذه القراءة. ولا يخفى عليك أن في الإقدام على القول بأنها خطأ أو ساقطة مع روايتها عمن سمعت من الأجلة خطرًا عظيمًا ومنشأ ذلك الجهل ومفاسده لا تحصى. وذهب ابن جني إلى جواز زيادة من في المفعول الثاني فيقال: ما اتخذت زيدًا من وكيل على معنى ما اتخذته وكيلًا أي وكيل كان من أصناف الوكلاء. ومعنى الآية على هذا المنول ما ينبغي لنا أن يتخذونا من دونك أولياء أي أولياء أي ما يقع عليه اسم الولاية. وجوز أن يكون {نَّتَّخِذَ} على هذه القراءة مما له مفعول واحد {وَمِنْ دُونِكَ} صلة و{مِنْ أَوْلِيَاء} حال و{مِنْ} زائدة وعزا هذا في البحر إلى ابن جني. وجوز بعضهم كون {نَّتَّخِذَ} في القراءة المشهورة من اتخذ المتعدي لمفعولين، وجعل أبو البقاء على هذا {مِنْ أَوْلِيَاء} المفعول الأول بزيادة من و{مِن دُونِكَ} المفعول الثاني وعلى كونه من المتعدي لواحد يكون هذا حالًا.
وقرأ الحجاج «أن نتخذ من دونك أولياء» فبلغ عاصمًا فقال: مقت المخدج أو ما علم أن فيها من. وقوله تعالى: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ} إلخ استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم على أبلغ وجه كما سمعت، وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابًا للضلالة أي ما أضللناهم ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ليعرفوا حقها ويشكروها فاستغرقوا في الشهوات وانهمكوا فيها {حتى نَسُواْ الذكر} أي غفلوا عن ذكرك والإيمان بك أو عن توحيدك أو عن التذكر لنعمك وآيات ألوهيتك ووحدتك.
وفي البحر الذكر ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء عليهم السلام أو الكتب المنزلة أو القرآن، ولا يخفى ما في الأخير إذا قيل: بعموم الكفار والمخبر عنهم في الآية وشمولهم كفار هذه الأمة وغيرهم {وَكَانُواْ} أي في علمك الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في أنفسها أو بما سيصدر عنهم فيما لا يزال باختيارهم وسوء استعدادهم من الأعمال السيئة {قَوْمًا بُورًا} هالكين على أن {بُورًا} مصدر وصف به الفاعل مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع، وأنشدوا:
فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم ** وكافوا به فالكفر بور لصانع

وقول ابن الزبعري:
يا رسول المليك إن لساني ** راتق ما فتقت إذ أنا بور

أو جمع بأثر كعوذ في عائذ وتفسيره بهالكين رواه ابن جرير. وغيره عن مجاهد، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق ساله عن ذلك فقال: هلكى بلغة عمان وهم من اليمن، وقيل: بورًا فاسدين في لغة الأزد ويقولون: أمر بائر أي فاسد وبارت البضاعة إذا فسدت. وقال الحسن: بورًا لا خير فيهم من قولهم: أرض بور أي متعطلة لا نبات فيها، وقيل: بورًا عميًا عن الحق، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله على ما قال أبو السعود.
وقال الخفاجي: هي حال بتقدير قد أو معطوفة على مقدر أي كفروا وكانوا أو على ما قبلها، وقد شنع الزمخشري بما ذكر من السؤال والجواب على أهل السنة فقال: فيه كسر بين لقول من يزعم أن الله تعالى يضل عباده على الحقيقة حيث يقول سبحانه للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتم أم هم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤن من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا برأت الملائكة والرسل عليهم السلام أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه فهم لربهم الغني العدل أشد تبرئة وتنزيهًا منه. ولقد نزهوه تعالى حين أضافوا إليه سبحانه التفضل بالنعمة والتمتيع بها وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله سبحانه: {يُضِلُّ مَن يَشَاء} [الرعد: 27] ولو كان سبحانه هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتهم انتهى. وأجاب صاحب الفرائد عن قوله: فيتبرؤن من إضلالهم إلخ بأنهم إنما تبرؤا لأنهم يستحقون العذاب بإضلالهم ولم يكن منهم فوجب عليهم أن يقولوا ذلك ليندفع عنهم ما يستحقون به من العذاب وذلك أنهم مسؤولون عما يفعلون والله عز وجل لا يسأل عما يفعل فيلحق بهم النقصان إن ثبت عليهم ولا يمكن لحوقه به تعالى لأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وعن قوله: ولقد نزهوه حيث أضافوا إلخ بأن قولهم ولكن متعتهم إلخ لا ينافي نسبة الإضلال إليه سبحانه على الحقيقة وأيضًا ما يؤدي إلى الضلال إذا كان منه تعالى وكان معلومًا له عز وجل أنهم يضلون به كان فيه ما في الإضلال بالحقيقة فوجب على مذهبه أنه لا يجوز عليه سبحانه مع أنهم نسبوه إليه سبحانه، وعن قوله: ولو كان تعالى هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أنت أضللتهم بأن هذا غير مستقيم لأنه تعالى ما سألهم إلا عن أحد الأمرين وما ذكر لا يصلح جوابًا له بل هو جواب لمن قال: من أضلهم انتهى، وذكر في الكشف جوابًا عن الأخير أنه ليس السؤال عن تعيين من أضل لأنه تعالى عالم به وإنما هو سؤال تقريع على نحو {قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى} [المائدة: 116] إلخ وقد اقتدى بالإمام في ذلك، وذكر أيضًا قبل هذا الجواب أنه لو قيل: إن في {مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ} ما يدل على أنه تعالى الفاعل الحقيقي للإضلال وأنه لا ينسب إليه سبحانه أدبًا لكان وجهًا ولا ينبغي أن يكون ذلك بعد التسليم المقصود من الجواب تعتهم إلخ بأن يكون المراد الجواب بأنت أضللتهم لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل أدبًا لأن الجواب بذلك مما لا يقتضيه السياق كما لا يخفى.
وقال ابن المنير: إن جواب المسؤولين بما ذكر يدل على معتقدهم الموافق لما عليه أهل الحق لأن أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى وإن خلق الضلال إلا أن للعباد اختيارًا فيه وعندهم أن كل فعل اختياري له نسبتان إن نظر إلى كونه مخلوقًا فهو منسوب إلى الله تعالى وإن نظر إلى كونه مختارًا للعبد فهو منسوب للعبد وهؤلاء المجيبون نسبوا النسيان أي الانهماك في الشهوات الذي ينشأ عنه النسيان إلى الكفرة لأنهم اختاروه لأنفسهم فصدقت نسبته إليهم ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهماكهم في الشهوات إلى الله تعالى وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم وصبها صبًا فلا تنافي بين معتقد أهل الحق ومضمون ما قالوا في الجواب بل هما متواطئان على أمر واحد انتهى.
ولا يخفى ما في بيان التوافق من النظر، وقد يقال: حيث كان المراد من الاستفهام تقريع المشركين وعلم المستفهمين بذلك مما لا ينبغي أن ينكر لاسيما إذا كانوا الملائكة والأنبياء عليهم السلام جيء بالجواب متضمنًا ذلك على أتم وجه مشتملًا على تحقق الأمر في منشأ ضلالهم كل ذلك للاعتناء راده تعالى من تقريعهم وتبكيتهم ولذا لم يكتفوا في الجواب بـ {هم ضلوا} [الفرقان: 17] بل افتتحوا بالتسبيح ثم نفوا عن أنفسهم الإضلال على وجه من المبالغة ليس وراءه وراء ثم أفادوا أنهم ضلوا بعد تحقق ما ينبغي أن يكون ذريعة لهم إلى الاهتداء من تمتيعهم بأنواع النعم وذلك من أقبح الضلال ونبهوا على زيادة قبحه فوق ما ذكر بالتعبير عنه بنسيان الذكر ثم ذكروا منشأ ضلالهم والأصل الأصيل فيه بقولهم: {وَكَانُواْ قَوْمًا بُورًا} أما على معنى كانوا في نفس الأمر قومًا فاسدين وإن شئت قلت هالكين ونحوه مما تقدم فظهروا على حسب ما كانوا لأن ما في نفس الأمر لا يتغير أو على معنى كانوا في العلم التابع للمعلوم في نفسه كذلك فظهروا على حسب ذلك لئلا يلزم الانقلاب المحال، وحاصله أن منشأ ضلالهم فساد استعدادهم في نفسه من غير مدخلية للغير في التأثير فيه وهذا شأن جميع ماهيات الأشياء في أنفسها فإن مدخلية الغير إنما هي في نحو وجودها الخارجي لا غير، وإلى هذا ذهب جمع من الفلاسفة والصوفية وشيد أركانه الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في أكثر كتبه فإن كان مقبولًا فلا بأس في تخريج الآية الكريمة عليه فتدبر وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (19):

{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بما تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)}
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} حكاية لاحتجاجه تعالى على العبدة بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن المعبودين عند تمام جوابهم وتوجيهه إلى العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك: قد كذبكم المعبودون أيها الكفرة، وقال بعض الأجلة: الفاء فصيحة مثلها في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

والتقدير هنا قلنا أو قال تعالى إن قلتم إنهم آلهة فقد كذبوكم {ا تَقُولُونَ} أي في قولكم على أن الباء عنى في وما مصدرية والجار والمجرور متعلق بالفعل والقول عنى المقول، ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف أي في الذي تقولونه، وجوز أن تكون الباء صلة والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب في كذبوكم، والمراد قولهم أنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا، وتعقب بأن تكذيبهم في هذا القول لا تعلق له بما بعده من عدم استطاعتهم للصرف والنصر أصلًا وإنما الذي يستتبعه تكذيبهم في زعمهم أنهم آلهتهم وناصروهم وفيه نظر كما سنشير إليه قريبًا إن شاء الله تعالى، وقيل: الخطاب للمعبودين أي فقد كذبكم العابدون أيها المعبودون في قولكم {سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} [الفرقان: 18] حيث زعموا أنكم آلهة، والمراد الحكم على أولئك المكذبين بالكفر على وجه فيه استزادة غيظ المعبودين عليهم وجعله مفرعًا عليه ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والفاء أيضًا فصيحة، والجملة جزاء باعتبار الأخبار، وقيل: هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفرة في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد وجيء بالكلام ليفرع عليه ما بعد وكلا القولين كما ترى والثاني أبعدهما، وقرأ أبو حيوة {يَقُولُونَ} بالياء آخر الحروف وهي رواية عن ابن كثير. وقنبل، والخطاب في {كَذَّبُوكُمْ} للعابدين وضمير الجمع فيه وفي {يَقُولُونَ} للمعبودين أي فقد كذبكم أيها العبدة المعبودون بزعمكم بقولهم {سبحانك} [الفرقان: 18] إلخ والباء للملابسة أو الاستعانة، وفيه أيضًا القولان السابقان أي فقد كذبكم أيها المعبودون العبدة بقولهم إنكم آلهة أو فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في التوحيد بقولهم. إن هؤلاء المحكي عنهم آلهة {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} أي فما تملكون أيها العبدة {صَرْفًا} أي دفعًا للعذاب عن أنفسكم بوجه من الوجوه كما يعرب عنه التنكير أي لا بالذات ولا بالواسطة، وقيل: حيلة من قولهم: إنه ليصرف في أموره أي يحتال فيها، وقيل: توبة، وقيل: فدية والأول أظهر فإن أصل الصرف رد الشيء من حالة إلى أخرى وإطلاقه على الحيلة أو التوبة أو الفدية مجاز، والمراد فما تملكون دفعًا للعذاب قبل حلوله {وَلاَ نَصْرًا} أي فردًا من أفراد النصر أي العون لا من جهة أنفسكم ولا من جهة غيركم بعد حلوله، وقيل: نصرًا جمع ناصر كصحب جمع صاحب وليس بشيء، والفاء لترتيب عدم الاستطاعة على ما قبلها من التكذيب لكن لا على معنى أنه لولاه لوجدت الاستطاعة حقيقة بل في زعمهم حيث كانوا يزعمون أنهم يدفعون عنهم العذاب وينصرونهم وفيه ضرب تهكم بهم، والمراد من التكذيب المرتب عليه ما ذكر تكذيبهم بقولهم إنهم آلهة، ويجوز أن يراد به تكذيبهم بقولهم: هؤلاء أضلونا وهو متضمن نفي كونهم آلهة وبذلك يتم أمر الترتيب.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأكثر السبعة {يَسْتَطِيعُونَ} بالياء التحتية أي فما يستطيع آلهتكم دفعًا للعذاب عنكم، وقيل حيلة لدفعه، وقيل فدية عنكم ولا نصرًا لكم، وقيل في معنى الآية على تقدير كون الخطاب السابق للمؤمنين إنه سبحانه أراد أن هؤلاء الكفرة شديد والشكيمة في التكذيب الموجب للتعذيب فما تستطيعون أنتم صرفهم عنه ولا نصرًا لكم فيما يصيبهم مما يستوجبه من العذاب هذا على قراءة حفص {تَسْتَطِيعُونَ} بالتاء الفوقية؛ وأما على قراءة الجماعة {يَسْتَطِيعُونَ} بالياء فالمعنى ما يستطيعون صرفًا لأنفسهم عما هم عليه ولا نصرًا لها فيما استوجبوه بتكذيبهم من العذاب أو فيما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه ولا نصرًا لأنفسهم من العذاب انتهى وهو كما ترى {وَمَن يَظْلِم} أي يكفر {مّنكُمْ} أيها المكلفون ويعبد من دون الله تعالى إلهًا آخر كهؤلاء الكفرة {نُذِقْهُ} في الآخرة {عَذَابًا كَبِيرًا} لا يقادر قدره وهو عذاب النار، وقرئ {يذقه} على أن الضمير لله عز وجل، وقيل: لمصدر يظلم أي يذقه الظلم والإسناد مجازي، وتفسير الظلم بالكفر هو المروى عن ابن عباس، والحسن. وابن جريج. وأيد بأن المقام يقتضيه فإن الكلام في الكفر ووعيده من مفتتح السورة، وجوز أن يراد به ما يعم الشرك وسائر المعاصي والوعيد بالعذاب لا ينافي العفو بالنسبة إلى غير المشرك لما حقق في موضعه. واختار الطيبي التفسير الأول وجعل الخطاب للكفار أيضًا لأن الكلام فيهم من أول وقد سبق {بُورًا فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} وهذه الآية لما يجري عليهم من الأهوال والنكال من لدن قوله تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] ومعنى {وَمَن يَظْلِم} حينئذٍ ومن يدم على الظلم، وفي الكشف الوجه أن الخطاب عام والظلم الكفر {وَمَن يَظْلِم} مظهر أقيم مقام المضمر تنبيهًا على توغلهم في الكفر وتجاوزهم حد الإنصاف والعدل إلى محض الاعتساف والجدل فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الأصل فلا يستطيعون صرفًا ولا نصرًا ونذيقهم عذابًا كبيرًا أو نذيقكم على اختلاف القرائتين والحمل على من يدم على الظلم منكم ليختص الخطاب بالكفار صحيح أيضًا ولكن تفوته النكتة التي ذكرناها انتهى. ولا يخفى أن كونه من إقامة المظهر مقام المضمر خلاف الظاهر فتأمل.