فصل: تفسير الآية رقم (183):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (183):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار الاعتناء مع بعد العهد، والصيام كالصوم مصدر صام وهو لغة الإمساك، ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، قال ابن دريد: كل شيء تمكث حركته فقد صام، ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

فصامت الريح ركدت، وصامت الشمس إذا استوت في منتصف النهار، وشرعًا إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} أي الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى يومنا كما هو ظاهر عموم الموصول، وعن ابن عباس، ومجاهد رضي الله تعالى عنهما أنهم أهل الكتاب، وعن الحسن، والسدي، والشعبي، أنهم النصارى، وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين فيه، فإن الأمور الشاقة إذا عمت طابت، والمراد بالمماثلة إما المماثلة في أصل الوجوب وعليه أبو مسلم والجبائي وإما في الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون، وزاد فيه النصارى يومًا قبل ويومًا بعد احتياطًا حتى بلغوا فيه خمسين يومًا فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل، وأخرج ابن حنظلة، والنحاس، والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعًا «كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه الله تعالى لنزيدن عشرًا، ثم كان آخر فأكل لحمًا فأوجع فوه فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر فقال: ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئًا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يومًا»، وفي {كَمَا} خمسة أوجه. أحدها: أن محله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي كتب كتبًا مثل ما كتب. الثاني: أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة أي كتب عليكم الصيام الكتب مشبهًا بما كتب، وما على الوجهين مصدرية. الثالث: أن يكون نعتًا لمصدر من لفظ الصيام أي صومًا مماثلًا للصوم المكتوب على من قبلكم..
الرابع: أن يكون حالًا من الصيام أي حال كونه مماثلًا لما كتب، وما على الوجهين موصولة..
الخامس: أن يكون في محل رفع على أنه صفة للصيام بناء على أن المعرفة بأل الجنسية قريب من النكرة.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي كي تحذروا المعاصي فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها أو يكسرها.
فقد أخرج البخاري، ومسلم في «صحيحيهما» عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» ويحتمل أن يقدر المفعول الاخلال بأدائه، وعلى الأول: يكون الكلام متعلقًا بقوله: {كتاب} من غير نظر إلى التشبيه، وعلى الثاني: بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي تتقوا الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك كما قيل به وجوز أن يكون الفعل منزلًا منزل اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى.

.تفسير الآية رقم (184):

{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}
{أَيَّامًا معدودات} أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافًا قال مقاتل: كل معدودات في القرآن أو معدودة دون الأربعين ولا يقال ذلك لما زاد، والمراد بهذه الأيام إما رمضان واختار ذلك ابن عباس والحسن وأبو مسلم رضي الله تعالى عنه وأكثر المحققين وهو أحد قولي الشافعي فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر أولًا أنه كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عز وجل: {أَيَّامًا معدودات} فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عز من قائل: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185] توطينًا للنفس عليه، واعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر المريض والمسافر تكرارًا، وأجيب بأنه كان في الابتداء صوم رمضان واجبًا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار واجبًا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما تنبيهًا على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم المقيم والصحيح؛ وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض على ما روى عن عطاء ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما روي عن قتادة، واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ بصوم رمضان، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة كما قيل به فكيف يكون الناسخ متصلًا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل؟ وأجيب أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا يدل على الاتصال في النزول، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر.
وانتصاب {أَيَّامًا} ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل ضمر دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعًا، وقيل: منصوب بفعل يستفاد من كاف التشبيه، وفيه بيان لوجه المماثلة كأنه قيل: كتب عليكم الصيام مماثلًا لصيام الذين من قبلكم في كونه أيامًا معدودات أي المماثلة واقعة بين الصيامين من هذا الوجه وهو تعلق كل منهما دة غير متطاولة، فالكلام من قبيل زيد كعمرو «فقها»، وقيل: نصب على أنه مفعول ثان لكتب على الاتساع ورده في البحر بأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفًا لكتب وذا لا يصح لأن الظرف محل الفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وهو الصيام، وأجيب بأنه يكفي للظرفية ظرفية المتعلق كما في{يَعْلَمُ مَا فِي السموات والأرض} [التغابن: 4] وبأن معنى: {كتاب} فرض، وفرضية الصيام واقعة في الأيام {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} مرضًا يعسر عليه الصوم معه كما يؤذن به قوله تعالى فيما بعد: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] وعليه أكثر الفقهاء، وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرخص مطلق المرض عملًا بإطلاق اللفظ، وحكي أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع إصبعه وهو قول للشافعية. {أَوْ على سَفَرٍ} أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه بأن اشتغل به قبل الفجر ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر ولهذا المعنى أوثر على مسافرًا، واستدل بإطلاق السفر على أن القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار، وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وما يلزمه العسر غالبًا وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع.
{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر وحذف الشرط والمضافان للعلم بهما، أما الشرط فلأن المريض والمسافر داخلان في الخطاب العام فدل على وجوب الصوم عليهما فلو لم يتقيد الحكم هنا به لزم أن يصير المرض والسفر اللذان هما من موجبات اليسر شرعًا وعقلًا موجبين للعسر، وأما المضاف الأول: فلأن الكلام في الصوم ووجوبه، وأما الثاني: فلأنه لما قيل من كان مريضًا أو مسافرًا فعليه عدة أي أيام معدودة موصوفة بأنها من أيام أخر علم أن المراد معدودة بعدد أيام المرض والسفر واستغنى عن الإضافة وهذا الإفطار مشروع على سبيل الرخصة فالمريض والمسافر إن شاآ صاما وإن شاآ أفطرا كما عليه أكثر الفقهاء إلا أن الإمام أبا حنيفة ومالكًا قالا: الصوم أحب، والشافعي وأحمد والأوزاعي قالوا: الفطر أحب، ومذهب الظاهرية وجوب الإفطار وأنهم إذا صاما لا يصح صومهما لأنه قبل الوقت الذي يقتضيه ظاهر الآية، ونسب ذلك إلى ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنه وبه قال الإمامية وأطالوا بالاستدلال على ذلك بما رووه عن أهل البيت، واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعًا ومتفرقًا وأنه ليس على الفور خلافًا لداود، وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى أيامًا معدودة فلو كان تامًا لم يجزه شهر ناقص أو ناقصًا لم يلزمه شهر كامل خلافًا لمن خالف في الصورتين، واحتج بها أيضًا من قال: لا فدية مع القضاء وكذا من قال: إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفي أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن الله تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه، ولا يخفى ما فيه، وقرئ {فعدة} بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أي فليصم عدة ومن قدر الشرط هناك قدره هنا {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا.
{فِدْيَةٌ} أي إعطاؤها. {طَعَامُ مساكين} هي قدر ما يأكله كل يوم وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز لكل يوم وكان ذلك في بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية، أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي والنسائي، والطبراني، وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه عنه قال: لما نزلت هذة الآية {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} كان من شاء منا صام، ومن شاء أفطر ويفتدي فعل ذلك حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقرأ سعيد بن المسيب: {يُطيّقونه} بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية، ومجاهد، وعكرمة، {يُطِيقُونَهُ} بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو واوي، وقد جعلت الواو ياءًا فيهما ثم أدغمت الياء في الياء ومعناهما يتكلفونه، وعائشة رضي الله تعالى عنها {يطوقونه} بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من الطوق عنى الطاقة أو القلادة، ورويت الثلاث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضًا، وعنه {يتطوّقونه} عنى يتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونه بإدغام التاء في الطاء وذهب إلى عدم النسخ كما رواه البخاري، وأبو داود وغيرهما وقال: إن الآية نزلت في الشيخ الكبير الهرم، والعجوز الكبيرة الهرمة. ومن الناس من لم يقل بالنسخ أيضًا على القراءة المتواترة وفسرها بيصومونه جهدهم وطاقتهم، وهو مبني على أن الوسع اسم للقدرة على الشيء على وجه السهولة والطاقة اسم للقدرة مع الشدة والمشقة، وفيصير المعنى: وعلى الذين يصومونه مع الشدة والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضًا، وعلى أنه من أطاق الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه، وجاز أن تكون الهمزة للسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند تمامه، ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلك كما في الكشف والحق أن كلًا من القراآت يمكن حملها على ما يحتمل النسخ وعلى ما لا يحتمله، ولكل ذهب بعض وروي عن حفصة أنها قرأت {وَعَلَى الذين لا يُطِيقُونَهُ} وقرأ نافع، وابن عامر بإضافة {فدية} إلى الطعام وجمع المسكين والإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسه كخاتم فضة لأن طعام المسكين يكون فدية وغيرها، وجمع المسكين لأنه جمع في {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} فقابل الجمع بالجمع، ولم يجمع {فدية} لأنها مصدر والتاء فيها للتأنيث لا للمرة ولأنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فُهِم منها الجمع.
{فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} بأن زاد على القدر المذكور في الفدية قال مجاهد: أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم مسكينين فصاعدًا قاله ابن عباس أو جمع بين الإطعام والصوم قاله ابن شهاب. {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} أي التطوع أو الخير الذي تطوعه، وجعل بعضهم الخير الأول مصدر خرت يا رجل وأنت خائر أي حسن، والخير الثاني اسم تفضيل فيفيد الحمل أيضًا بلا مرية وإرجاع الضمير إلى من أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده {وَأَن تَصُومُواْ} أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء، أو المطوقون من الشيوخ والعجائز، أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين، والمرضى والمسافرين، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبرًا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة، وقرأ أبيّ {والصيام خَيْرٌ لَّكُمْ} من الفدية أو تطوع الخير على الأولين، أو منهما ومن التأخير للقضاء على الأخير {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ما في الصوم من الفضيلة، وجواب {ءانٍ} محذوف ثقة بظهوره أي اخترتموه وقيل: معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك، وعليه تكون الجملة تأكيدًا لخيرية الصوم وعلى الأول تأسيسًا.