فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (59):

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} إثر ما قص سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قصص الأنبياء المذكورين وأخبارهم الناطقة بكمال قدرته تعالى وعظم شأنه سبحانه واخصهم به من الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على جلالة أقدارهم وصحة أخبارهم، وقد بين على ألسنتهم صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الكفر والإشراك وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى، وشرح صدره الشريف صلى الله عليه وسلم بما في تضاعيف تلك القصص من فنون المعارف الربانية، ونور قلبه بأنوار الملكات السبحانية الفائضة من عالم القدس، وقرر بذلك فحوى قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6].
أمر صلى الله عليه وسلم أن يحمده بأتم وجه على تلك النعم ويسلم على كافة الأنبياء عليهم السلام الذين من جملتهم من قصت أخبارهم وشرحت آثارهم عرفانًا لفضلهم وأداءًا لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، فالمراد بالعباد المصطفين الأنبياء عليهم السلام لدلالة المقام، وقوله تعالى في آية أخرى: {وسلام على المرسلين} [الصافات: 181] وقيل: هذا أمر له صلى الله عليه وسلم بحمده تعالى على هلاك الهالكين من كفار الأمم، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين صلى الله عليه وسلم، والسلام على غير الأنبياء عليهم السلام إذا لم يكن استقلالًا مما لا خلاف في جوازه، ولعل المنصف لا يرتاب في جوازه على عباد الله تعالى المؤمنين مطلقًا، وقيل: أمر له عليه الصلاة والسلام بالحمد على ما خصه جل وعلا به من رفع عذاب الاستئصال عن أمته وخالفتهم لمن قبلهم ممن ذكرت قصته من الأمم المستأصلة بالعذاب، وبالسلام على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة.
فالمراد بالمصطفين الأنبياء خاصة، وأخرج عبد بن حميد. والبزار. وابن جرير. وغيرهم عن ابن عباس أنه قال فيهم: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام.
وأخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن سفيان الثوري أنه قال في {وسلام} إلخ: نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وهذا ظاهر في القول بجواز السلام على غير الأنبياء استقلالًا كما هو مذهب الحنابلة وغيرهم، والكلام على جميع هذه الأقوال متصل بما قبله، وجعله الزمخشري من باب الاقتضاب كأنه خطبة متبدأة حيث قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته تعالى وقدرته على كل شيء وحكمته أعني قوله سبحانه: {الله} إلخ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما والاستظهار كانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع، ولقد توارثت العلماء والخطباء والوعاظ كابرًا عن كابر هذا الأدب فحمدوا الله تعالى وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل موعظة وتذكرة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المتراسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن انتهى، ولعل جعل ذلك تخلصًا من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما جرى له صلى الله عليه وسلم مع المشركين أولى، وأبعد الأقوال القول باتصاله بما قبله، وجعل ذلك أمرًا للوط عليه السلام بأن يحمده تعالى على إهلاك كفرة قومه، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة عن الهلاك لعدم ملاءمته لما بعده واحتياجه إلى تقدير وقلنا له، وعزا هذا القول ابن عطية للفراء، وقال: هذه عجمة من الفراء، والظاهر أن {سلام} مبتدأ وما بعده خبره، والجملة معطوفة على {الحمد للَّهِ} داخلة معه في حيز القول.
وقرأ أبو السمال {الحمد للَّهِ} بفتح اللام {الله} بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفًا والأصل أألله.
{خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} والظاهر أن {مَا} موصولة والعائد محذوف أي {الله} الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم الذي يشركونه من الأصنام، و{خَيْرٌ} أفعل تفضيل ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته عز وجل وتسفيه آرائهم الركيكة والتهكم بهم إذ من البين أن ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض، وقيل: خير {لَيْسَتِ} للتفضيل مثلها في قولك: الصلاة خير تعني خيرًا من الخيور، والمختار الأول، واستظهره أبو حيان، وقال: كثيرًا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركة هناك، وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على الخطأ ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر، واستظهر أيضًا كون المراد بالخيرية الخيرية في الذات، وقيل: الخيرية فيما يتعلق بها، وفي الكلام حذف في موضعين، والتقدير أعبادة الله تعالى خير أم عبادة ما يشركون، وقيل: ما {مصدرية} والحدث في موضع واحد، والتقدير أتوحيد الله خير أم إشراكهم ولا داعي لجميع ذلك، وأيًا ما كان فضمير الغائب لقريش ونحوهم من المشركين، وقيل: لأولئك المهلكين وليس بشيء، وقرأ الأكثرون تشركون بالتاء الفوقانية على توجيه الخطاب لمن ذكرنا من الكفرة وهو الأليق بما بعده من سياق النظم الكريم، وجعل أبو البقاء هذه الجملة من جملة القول المأمور به وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا} [النمل: 60] إلخ فإنه صريح في أن التبكيت من قبله عز وجل بالذات، وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة والسلام لما أمر به بعبادته كما في قوله سبحانه: {قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] تعسف ظاهر من غير داع إليه، وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم.

.تفسير الآية رقم (60):

{أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)}
و {أَمْ} في قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} منقطعة لا متصلة كالسابقة، وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن. وقتادة. وعاصم. وأبي عمرو للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضًا إلى التصريح به خطابًا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد، وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية، والهمزة لحملهم على الإقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الإقرار به، ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلًا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا أن تشركون المقدر هاهنا بتاء الخطاب على القراءتين معًا، وهكذا في المواضع الأربعة الآتية، والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما {وَأَنزَلَ لَكُمْ} التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأولى لتشديد التبكيت والإلزام، واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم {مِنَ السماء مَاء} أي نوعًا منه وهو المطر {فَأَنبَتْنَا بِهِ} قتضى الحكمة لا أن الإنبات موقوف عليه عقلًا، وقيل: أي أنبتنا عنده {حَدَائِقَ} جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا، وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق لابن الأزرق بالبساتين ولم يقيد، وقال الزمخشري: هي البستان عليه حائط من الأحداث وهو الإحاطة، وهو مروي عن الضحاك، وقال الراغب: هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيهًا بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، ولعل الأظهر ما في البحر وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الإحداق وتنظر إليها {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر {مَّا كَانَ لَكُمْ} أي ما صح وما أمكن لكم {أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} فضلًا عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون، وتقدير الخبر هكذا هو ما اختاره الزمخشري وتبعه غيره.
وقال ابن عطية: يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا في المعنى، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له: ولابد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، والتقدير أم من خلق السموات والأرض كمن لم يخلق، وكذلك يقدر في أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] انتهى، ولعل الأولى ما اختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد.
وقرأ الأعمش {مِن} بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام، ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مرارًا من التشويق إلى المؤخر، والالتفات إلى التكلم بنون العظمة لتأكيد اختصاص الفعل بحكم المقابلة بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع مالها من الحسن البارع والبهاء الرائع اء واحد أمر عظيم لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده عز وجل، ورشح ذلك بقوله تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ} إلخ سواء كان صفة لحدائق أو حالًا أو استئنافًا، وتوحيد وصفها السابق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، وهذا شائع في جمع التسكير كقوله تعالى: {أزواج مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]. وكذلك الحال في ضمير {شجرها}.
وقرأ ابن أبي عبلة ذوات بالجمع بهجة بفتح الهاء {أَنَّ مَعَ الله} أي أإله آخر كائن مع الله تعالى الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكًا له تعالى في العبادة، وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به عز وجل في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فإن أحدًا ممن له أدنى تمييز كما لا يقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لا يكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأسًا لاسيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه عز وجل، وكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية، وقيل: المراد نفي أن يكون معه تعالى إلى آخر في الخلق، وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط فإنهم لا ينكرونه حسا يدل عليه قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] بل بإشراكهم به تعالى مايعترفون بعدم مشاركته له سبحانه فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل: أإله آخر مع الله في خواص الألوهية حتى يجعل شريكًا له تعالى في العبادة، وقيل: المعنى أغيره يقرن به سبحانه ويجعل له شريكًا في العبادة مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين. فالإنكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين، ورجح بأنه الأظهر الموافق لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] والأوفى بحق المقام لإفادته نفي وجود إله آخر معه تعالى رأسًا لا نفي معيته في الخلق وفروعه فقط.
وقرأ هشام عن ابن عامر آاله بتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين، وقرأ أبو عمرو. ونافع. وابن كثير أإلهًا بالنصب على إضمار فعل يناسب المقام مثل أتجعلون. أو أتدعون. أو أتشركون.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم و{يَعْدِلُونَ} من العدول عنى الانحراف أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك، وقيل: من العدل عنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم، وروى ذلك عن ابن زيد، والأول أنسب بما قبله، وقيل: الكلام عليه خال عن الفائدة.

.تفسير الآية رقم (61):

{أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)}
{أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَارًا} أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسا يدور عليه منافعهم فقرارًا عنى مستقرًا لا عنى قارة غير مضطربة كما زعم الطبرسي فإن الفائد على ذلك أتم، والجعل إن كان تصييريًا فالمنصوبان مفعولان وإلا فالثاني حال مقدرة، وجملة قوله تعالى: {أَمَّن جَعَلَ} إلخ على ما قيل: بدل من قوله سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السموات} [النمل: 60] إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد، وقال بعض الأجلة: الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر داخل في الإلزام بجهة من الجهات، وإلى الإبدال ذهب صاحب الكشاف، وسننقل إن شاء الله تعالى عن صاحب الكشاف ما فيه الكشف عن وجهه {وَجَعَلَ خلالها} أي أوساطها جمع خلل، وأصله الفرجة بين الشيئين فهو ظرف حل محل الحال من قوله تعالى: {أنهارا} وساغ ذلك مع كونه نكرة لتقدم الحال أو المفعول الثاني لجعل و{لَّكُمْ أَنْهَارًا} هو المفعول الأول، والمراد بالأنهار ما يجري فيها لا المحل الذي هو الشق أي جعل خلالها أنهارًا جارية تنتفعون بها {وَجَعَلَ لَهَا} أي لصلاح أمرها {رَوَاسِىَ} أي جبالًا ثوابت فإن لها مدخلًا عاديًا اقتضته الحكمة في انكشاف المسكون منها وانحفاظها عن الميد بأهلها؛ وتكون المياه الممدة للأنهار المفضية لنضارتها في حضيضها إلى غير ذلك، وذكر بعضهم في منفعة الجبال تكوّن المعادن فيها ونبع المنابع من حضيضها ولم يتعرض لمنفعة منعها الأرض عن الحركة والميلان، وعلل ترك التعرض بأنه لو كان المقصود ذرك لذكر عقب جعل الأرض قرارًا، ومن أنصف رأى أن منع الجبال الأرض عن الحركة والميلان اللذين يخرجان الأرض عن حيز الانتفاع ويجعلان وجودها كعدمها من أهم ما يذكر هنا لأنه مما به صلاح أمرها ورفعة شأنها، وذكر {لَهَا} دون فيها أو عليها ظاهر في أن المراد ما هو من هذا القبيل من المنافع فتأمل.
وإرجاع ضمير {لَهَا} للأنهار ليكون المعنى وجعل لامدادها رواسي ينبع من حضيضها الماء فيمدها لا يخفى ما فيه {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} أي العذب والملح عن الضحاك أو بحري فارس والروح عن الحسن أو بحري العراق والشام عن السدي أبو بحري السماء والأرض عن مجاهد {حَاجِزًا} فاصلًا يمنع من الممازجة، وقد مر الكلام في تحقيق ذلك فتذكر {أَنَّ مَعَ الله} في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي شيئًا من الأشياء علمًا معتدًا به وذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره.