فصل: تفسير الآية رقم (80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (80):

{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)}
وقوله سبحانه: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} إلخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى الله تعالى وتفويض الأمر إليه سبحانه والإعراض عن التشبث بما سواه، وقد علل أولًا بما يوجبه من جهته تعالى أعني قضاءه عز وجل بالحق وعزته وعلمه تبارك وتعالى، وثانيًا بما يوجبه من جهته عليه الصلاة والسلام على أحد الوجهين أعني كونه صلى الله عليه وسلم على الحق ومن جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده تعالى للمحق، ثم علل ثالثًا بما يوجبه لكن لا بالذات بل بواسطة إيجابه للإعراض عن التشبث بما سواه تعالى، فإن كونهم كالموتى. والصم. والعمى موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسًا، وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى، وهو المعنى بالتوكل عليه جل شأنه، وجوز أن يكون قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ} إلخ استئنافًا بيانيًا وقع جوابًا لسؤال نشأ مما قبله، أعني {إنك على الحق المبين} [النمل: 79] كأنه قيل: ما بالهم غير مؤمنين بمن هو على الحق المبين فقيل: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} إلخ.
وتعقيب بأنه يأباه السياق، واعترض بالمنع وإنما شبهوا بالموتى على ما قيل لعدم تأرهم بما يتلى عليهم من القوارع، وإطلاق الأسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات، وقيل: لعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فإن القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة، ثم بين بطلان مشعري الأذن والعين كما في قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالصم والعمى مزيد مزية وكأنه لهذا في البحر: أي موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى لأنهم لا ينتفعون بما يتلى عليهم فقدم احتمال نسبة الموت إلى قلوبهم.
وتعقب بأن ماذكر تخيل بارد لأن القلب يوصف بالفقه والفهم لا السمع، وما ذكر أولًا من أنهم أنفسهم شبهوا بالموتى هو الظاهر، ووجهه أن على طريق التسليم والنظر لأحوالهم كأنه قيل: كيف تسمعهم الأرشاد إلى طريق الحق وهم موتى وهذا بالنظر لأول الدعوة ولو أحييناهم لم يفد أيضًا لأنهم صم، وقد ولوا مدبرين وهذا بالنظر لحالهم بعد التبليغ البليغ ونفرتهم عنه، ثم إنا لو أسمعناهم أيضًا فهم عمى لا يهتدون إلى العمل بما يسمعون، وهذا خاتمة أمرهم، ويعلم من هذا ما في ذلك من مزيد المزية الخالية عن التكلف.
وجوز أن يكون التشبهي لطوائف على مراتبهم في الضلال، فمنهم من هو كالميت. ومن هو كالأصم. ومن هو كالأعمى، وهو وإن كان وجهًا خفيف المؤنة إلا أنه خلاف الظاهر أيضًا.
{وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} أي الدعوة إلى أمر من الأمور، وتقييد النفي بقوله تعالى: {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} لتتميم التشبيه وتأكيد النفي فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي مولون على أدبارهم، ولا ريب في أن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي قابلة صماخه قريبًا منه، فكيف إذا كان خلفه بعيدًا منه، ومثله في التتميم قول امرئ القيس:
حملت ردينيا كأن سنانه ** سنا لهب لم يتصل بدخان

وقرأ ابن كثير لا يسمع الصم الدعاء بالياء التحتانية وفتح الميم ورفع الصوت.

.تفسير الآية رقم (81):

{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)}
{وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} أي وما أنت بصارف العمى عن ضلالتهم هاديًا لهم هداية موصلة إلى المطلوب لفقد الشرط العادي للاهتداء وهو البصر، و{عَنْ} متعلقة بالهداية باعتبار تضمنها معنى الصرف كما أشرنا إليه، وجوز أبو البقاء أن تعلق بالعمى ويكون المعنى أن العمى صدر عن ضلالتهم وفيه بعد، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية.
وقرأ يحيى بن الحرث. وأبو حيوة بهاد بالتنوين {العمى} بالنصب، وقرأ الأعمش. وطلحة. وابن وثاب. وابن يعمر. وحمزة تهدي مضارع هدي {العمى} بالنصب، وقرأ ابن مسعود وما أن تهتدي بزيادة أن بعدما كما في قول امرئ القيس:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ** لناموا فما أن من حديث ولا صال

وتهتدي مضارع اهتدى، و{العمى} بالرفع {إِن تُسْمِعُ} أي ما تسمع إسماعًا يجدي السامع نفعًا.
{إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بئاياتنا} أي من شأنهم الايمان بها وهو الذين ليسوا موتى. ولا صمًا. ولا عميًا.
وقال بعض الأجلة: أي إلا من هو في علم الله تعالى كذلك، واعترض بأن صيغة الاستقبال وإن صحت باعتبار تعلق العلم فيما لا يزال إلا أن المناسب صيغة المضي، واختار المعترض أن المعنى إلا الذين يصدقون أن القرآن كلام الله تعالى إذ حينئذ تثبت نبوته صلى الله عليه وسلم فيقبل قوله ويجدي إسماعه نفعًا، وتعقب بأنه ينتقض الحصر بالمصدقين في الاستقبال إن كانت الصيغة للحال وبالمصدقين في الحال إن كانت للاستقبال، وإذا دفع لزوم الانتقاض بجعلها لهما لزم استعمال المشترك في معنييه معًا أو الجمع بين الحقيقة والمجاز، وأجيب بأن المراد الحال ويدخل غيره فيه بدلالة النص من غير تكليف.
وقال بعض المحققين: قد يراد بالمضارع الاستقبال الشامل لجميع الأزمنة فإن الاستقبال كما يكون بالنظر لزمان الحكم والتكلم على ما حقق في الأصول يجوز أن يكون بالنظر إلى علم القائل أيضًا فيشمل من يؤمن هنا من آمن حالًا كما يشمل من يؤمن استقبالًا فلا غبار في المعنى الذي اختاره ذلك المعترض من هذه الحيثية، نعم قيل: إن فيه شبه تحصيل الحاصل لأن التصديق بالقرآن هو استماعه النافع، ولعل من عدل عنه إنما عدل لذلك، ولم يعبأ بالمغايرة بين ذينك الأمرين الظاهرة بعد النظر الصحيح، والحق أن ما ذكر من شبه تحصيل الحال على طرف الثمام لظهور الفرق بين الأسماع المراد في الآية والتصديق بأن القرآن كلام الله تعالى كما لا يخفى، وجوز أن يراد بالآيات المعجزات التي أظهرها الله تعالى على يده عليه الصلاة والسلام الشاملة للآيات التنزيلية والتكوينية وأن يراد بها الآيات التكوينية فقط، والايمان بها التصديق بكونها آيات الله تعالى وليست من السحر وإذا أريد بالأسماع النافع على هذا إسماع الآيات التنزيلية ليؤتى بما تضمنته من الاعتقادات والأعمال كأن الكلام أبعد وأبعد من أن يكون فهي شبه تحصيل الحاصل إلا أن ذلك لا يخلو عن شيء، وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الأسماع في النفي والإثبات دون الهداية مع قربها بأن يقال: إن تهدي إلا من يؤمن إلخ لما أن طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية فافهم، وقوله تعالى: {فَهُم مُّسْلِمُونَ} قيل: تعليل لإيمانهم بها كأنه قيل: فإنهم منقادون للحق في كل وقت.
وقيل: مخلصون لله تالى من قوله تعالى: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112]، وقيل: هو تعليل لما يدل عليه الكلام من أنهم يسمعون إسماعًا نافعًا لهم، وفي توحيد الضمير تارة. وجمعه أخرى رعاية للفظ من ومعناها.
واستدل بقوله سبحانه: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} على أن الميت لا يسمع كلام الناس مطلقًا، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في ذلك في سورة الروم على أتم وجه.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)}
{وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} بيان لما أشير إليه بقوله تعالى: {بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 72] من بقية ما يستعجلونه من الساعة ومباديها، والمراد بالقول ما نطق من الآيات الكريمة جيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها وبوقوعها قيامها وحصولها عبر عن ذلك به للإيذان بشدة وقعها وتأثيرها، وإسناد إلى القول لما أن المراد بيان وقوعها من حيث أنها مصداق للقول الناطق جيئها، وقد أريد بالوقوع دنوه واقترابه كما في قوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ففيه مجاز المشارفة أي إذا دنا وقوع مدلول القول المذكور الذي لا يكادون يسمعونه ومصداقه.
{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض} وذلك على ما أخرج ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وهو. وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفًا «حين يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
وأخرج ابن أبي حاتم عن بما مسعود قال: «أكثروا الطواف بالبيت من قبل أن يرفع، قيل: وكيف يرفع ما في صدور الرجال؟ قال: يسري عليهم ليلًا فيصبحون منه فقراء وينسون قول لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم فذلك حين يقع القول عليهم»، وهذا ظاهر في أن خروج الدابة حين لا يبقى في الأرض خير، ويقتضي ذلك أن يكون بعد موت عيسى والمهدي وأتباعهما عليهمم السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى من الأخبار ما هو ناطق بأنها تخرج وعيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون.
وأخرج نعيم بن حماد عن وهب بن منبه قال: أول الآيات الروم. والثانية الدجال. والثالثة يأجوج ومأجوج. والرابعة عيسى. والخامسة الدخان. والسادسة الدابة، وصوب السفاريني أنها قبل الدخان، والحق أنها تخرج وفي الناس مؤمن وكافر، فالظاهر أن الخبر المذكور عن ابن مسعود غير صحيح، ويدل على ما ذكرنا من الحق ما أخرج أحمد. والطيالسي. ونعم بن حماد. وعبد بن حميد. والترمذي وحسنه. وابن ماجه. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مروديه. والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخريج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمن عليهما السلام فتجلو وجه المؤمن بالخاتم وتخطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن الكافر» وقد اختلفت الروايات فيها اختلافًا كثيرًا، فحكى أبو حيان في البحر. والدميري في حياة الحيوان رواية أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مبثوث نوعها في الأرض فليست دابة واحدة، وعليه يراد بدابة الجنس الصادق بالمتعدد، وأكثر الروايات أنها دابة واحدة وهو الصحيح، فالتعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين الدال على التفخيم من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور الباين ما لا يخفى، وعلى كونها واحدة اختلف فيها أيضًا فقيل: هي من الإنس واستؤنس له بما روى محمد بن كعب القرظي قال: سئل علي كرم الله تعالى وجهه عن الدابة فقال: أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية، وفي الميزان للذهبي عن جابر الجعفي وهو كذاب قال أبو حنيفة: ما لقيت أكذب منه أنه كان يقول: هي من الإنس وانها علي نفسه كرم الله تعالى وجهه؛ وعلى ذلك جمع من إخوانه الشيعة ولهم في ذلك روايات: منها ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان آية في كتاب الله تعالى أفسدت قلبي، قال عمار: وأية آية هي؟ا فقال: قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} الآية فأية دابة هذه؟ قال عمار: والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجال إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وهو يأكل تمرًا وزبدًا فقال: يا أبا اليقظان هلم فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل: سبحان الله حلفت أنك لا تجلس ولا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها قال عمار: قد أريتكها إن كنت تعقل، وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر أيضًا وكل ما يروونه في ذلك كذب صريح، وفيه القول بالرجعة التي لا ينتهض لهم عليها دليل.
وفي بعض الآثار ما يعارض ما ذكر، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن النزال بن سبرة قال: قيل لعلي كرم الله تعالى وجهه: إن ناسًا يزعمون أنك دابة الأرض، فقال: والله إن لدابة الأرض لريشا وزغبًا ومالي ريش ولا رغب وأن لها لحافرًا ومالي من حافر وأنها لتخرج من حفز الفرس الجواد ثلاثًا وما خرج ثلثها، والمشهور وهو الحق أنها دابة ليست من نوع الإنسان، فقيل: هي الثعبان الذي كان في جوف الكعب واختطفته العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام فمنعهم وأن العقاب التي اختطفته ألقته بالحجون فالتقمته الأرض، وذكر ذلك الدميري عن ابن عباس، والأكثرون على أنها غيرها.
أخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين إثنا عشر ذراعًا زاد ابن جرير بذراع آدم عليه السلام.
ونقل السفاريني عن كعب أنه قال: صوتها صوت حمار، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: الدابة مؤلفة ذات زغب وريش فيها من ألوان الدواب كلها وفيها من كل أمة سيما وسيماها من هذه الأمة أنها تتكلم بلسان عربي مبين، وعن أبي هريرة أنه قال: فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للراكب، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن لها عنقًا مشرفًا يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب ولها وجه كوجه الإنسان ومنقار كمنقار الطير ذات وبر وزغب، وعن وهب وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير، وصرح في بعض الروايات بأن لها جناحين، وذكر بعضهم أن طولها ستون ذراعًا، واختلف في محل خروجها فقيل: المسجد الحرام لما أخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان قال:
«ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال حذيفة: يا رسول الله من أين تخرج؟ قال؛ من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض من تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسجد فتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمن وكافر: أما المؤمن فيرى وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن. وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب كافر».
وأخرج ابن أبي شيبة. والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عمر قال: تخرج الدابة من جبل جياد في أيام التشريف والناس نى، وأخرج ابن مردويه. والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج دابة الأرض من جياد فيبلغ صدرها الركن ولم يخرج ذنبها بعد وهي دابة ذات وبر وقوائم».
وأخرج البخاري في تاريخه. وابن ماجه. وابن مردويه عن ريدة رضي الله تعالى عنها قال: ذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية قريب من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج الدابة من هذا الموضع فإذا شبر في شبر».
وجاء في بعض الروايات أنها تخرج من أقصى البادية، وفي بعض من مدينة قوم لوط، وفي بعض أن لها ثلاث خرجات في الدهر: تخرج في أول خرجة في أقصى اليمن منتشرًا ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم تخرج خرجة أخرى فيعلو ذكرها في البادية ويدخل القرية، ثم بنيما الناس في أعظم المساجد حرمة لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد من الركن الأسود وباب بني مخزوم فيرفض الناس عنها شتى وتثبت عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا الله تعالى فتنتفض عن رأسها التراب فتجلو عن وجوههم حتى كأنهم الكواكب الدرية، واختلف أيضًا في أنها هل تخلق يوم تخرج أو هي مخلوقة الآن؟ فقيل: إنها تخلق يوم تخرج، وقيل: إنها مخلوقة الآن لكن لم تؤمر بالخروج.
واستدل بما روى عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم، وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعليه من يقول: إنها الثعبان، ومن يقول: إنها الجساسة التي تجسس الأخبار للدجال كما هو المروي عن عبد الله بن العاص، وزعم بعضهم أنها مخلوقة في عهد الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، فقد أخرج ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن الحسن: أن موسى عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الدابة فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء لا يرى واحد من طرفيها فرأى عليه السلام منظرًا فظيعًا فقال: يا رب ردها فردها، وجاء في حديث أخرجه نعيم بن حماد في الفتن. والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أنها إذا خرجت تقتل إبليس عليه اللعنة وهو ساجد وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها وتحقق هلاكه عنده، والأخبار في هذه الدابة كثيرة.
وفي البحر أنهم اختلفوا في ماهيتها. وشكلها. ومحل خروجها. وعدد خروجها. ومقدار ما يخرج منها. وما تفعل بالناس. وما الذي تخرج به اختلافًا مضطربًا معارضًا بعضه بعضًا فاطرحنا ذكره لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح وتضييع لزمان نقله اه، وهو كلام حق وأنا إنما نقلت بعض ذلك دفعًا لشهوة من يحب الاطلاع على شيء من أخبارها صدقًا كان أو كذبًا، وقد تصدى السفاريني في كتابه البحور الزاهرة للجمع بين بعض هذه الأخبار المتعارضة ولا أظنه أتى بشيء.
ثم إن الأخبار المذكورة أقربها للقبول الخبر الذي حسنه الترمذي، ومن الأخبار في هذا الباب ما صححه الحاكم وتصحيحه محكوم عليه بين المحدثين بعدم الاعتبار، وقصارى ما أقول في هذه الدابة أنها دابة عظيمة ذات قوائم ليست من نوع الإنسان أصلًا يخرجها الله تعالى آخر الزمان من الأرض، وفي تقييد إخراجها بقوله سبحانه: {مّنَ الأرض} نوع إشارة على ما قيل: إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد بل هو بطريق التولد نحو خلق الحشرات.
وقيل: إنه للإشارة إلى تكونها في جوف الأرض فيكون في إخراجها من الأرض رمز إلى ما يكون في الساعة التي أخرجت هي بين يديها من تشقق الأرض وخروج الناس من جوفها أحياءًا كاملة خلقتهم، وفي هذا وما قبله ذهاب إلى تعلق {مّنَ الأرض} بـ {أَخْرَجْنَا} وهو الظاهر الذي ينبغي أن يعول عليه دون كونه متعلقًا حذوف وقع صفة لدابة أي دابة كائنة من الأرض.
{تُكَلّمُهُمْ أَنَّ الناس كَانُوا بئاياتنا لاَ يُوقِنُونَ} أي تكلمهم بأنهم كانوا لا يتيقنون بآيات الله تعالى الناطقة جيء الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات، وقيل: بآياته التي من جملتها خروجها بين يدي الساعة وليس بذاك، وإضافة الآيات إلى نون العظمة لأنها حكاية منه تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها.
وقيل: لأنها حكاية منها لقول الله عز وجل؛ وقيل: لاختصاصها به تعالى وأثرتها عنده سبحانه كما يقول بعض خواص الملك خيلنا وبلادنا، وإنما الخيل والبلاد لمولاه، وقيل: هناك مضاف محذوف أي بآيات ربنا.
والظاهر أن ضمير الجمع في تكلمهم للكفرة المنكرين للبعث مطلقًا لا للكفرة المحدث عنهم فيما سبق بخصوصهم ضرورة أنهم ليسوا موجودين عند إخراج الدابة لتكلمهم، وتكليمها إياهم وهم موتى بعيد أو غير معقول، والرجعة التي يعتقدها الشيعة لا نعتقدها، والآية الآتية لا تدل كما يزعمون عليها. ويسهل أمر ذلك أنه ليس مدار الحديث عنهم سوى ما هم عليه من الشرك والكفر بالآيات وإنكار البعث وذلك موجود فيهم وفي الكفرة الموجودين عند إخراج الدابة، ومثله ضميرًا عليهم. ولهم والمراد بالناس الكفرة الماضون مطلقًا لا مشركو أهل مكة فقط، والمراد بإخبارها إياهم بذلك التحسر على ما فاتهم من الإيقان بما قرب وقوعه وظهور بطلان ما اعتقدوه فيه ومؤاخذتهم على التكذيب به أشد مؤاخذة، وفي ذلك استدعاء لأمثالهم إلى ترك ما هم عليه مما شاركوهم به من التذكيب وإنكار البعث، وجوز أن يراد بالناس مشركو أهل مكة وأمر الأخبار على حاله.
وقيل: يجوز أن تكون الضمائر للناس لا للكفرة منهم خاصة، ويراد بالناس إما الكفرة المنكرون للبعث، والمراد بالأخبار التنفير عما كانوا عليه من الإنكار ليثبت المؤمن ويرتدع الكافر، وإما مشركو أهل مكة والمراد بالأخبار ذلك.
وقيل: المراد به التشنيع عليهم بين أحبائهم وأعدائهم وكان بلسان الدابة ليكون أبلغ لما فيه من ظهور خطئهم عند ما لا يظن إدراكه له فضلًا عن النطق به وإذاعته على سبيل التشنيع، وكان بين يدي الساعة ليردفه بل كثير فصل ما يشبهه من شهادة الأعضاء عليهم وهي أبعد وقوعًا مع تشنيع الدابة، وفي وقوعها بعده ما يشبه الترقي من العظيم إلى الأعظم، وأيد كون الضمائر للناس على الإطلاق وأن المراد بالناس المذكور في النظم الكريم أهل مكة ما روي عن وهب أن الدابة تخبر كل من تراه أن أهل مكة كانوا حمد صلى الله عليه وسلم والقرآن لا يوقنون وقيل: ضميرًا عليهم. ولهم لمشركي أهل مكة المحدث عنهم فيما سبق، ومعنى {لَهُمْ} لذمهم أو نحوه، وضمير {تُكَلّمُهُمْ} للناس الموجودين عند الإخراج أو للكفرة كذلك، والمراد بالناس المذكور في النظم الكريم أولئك المشركون، وقيل: غير ذلك، ولا يخفى عليك بأدنى تأمل ما هو الأول والأظهر في الآية من الأقوال، وأيًا مّا كان فوصف الناس بعدم الإيقان بالآيات مع أنهم كانوا جاحدين لها للإيذان بأنه كان من حقهم أن يوقنوا بها ويقطعوا بصحتها، وقد اتصفوا بنقيض ذلك وكون التكليم من الكلام هو الظاهر، ويؤيده قراءة أبي تبنؤهم وقراءة يحيى بن سلام تحدثهم.
وقيل: هو من الكلم عنى الجرح والتفعيل للتكثير، ويؤيده قراءة ابن عباس. ومجاه. وابن جبير. وأبي زرعة. والجحدري. وأبي حيوة. وابن أبي عبلة {تكلمنهم} بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف اللام وقراءة بعضهم تجرحهم وأبي حيوة. وابن أبي عبلة {الأرض تُكَلّمُهُمْ} بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف اللام وقراءة بعضهم تجرحهم مكان تكلمهم، وكأنه أريد بالجرح ما هو مقابل التعديل، ويرجع ذلك إلى معنى التشنيع ورجوع الضمائء عليه ءلى الكفرة المحدث عنهم فيما سبق مما لا غبار عليه، وقوله تعالى: {إِنَّ الناس} إلخ بتقدير بأن الناس، والمعنى تشنع عليهم بهذا الكلام، ويراد بالناس فيه أولئك المسنع عليهم، وظاهر الآية وقوعه في كلامها بهذا اللفظ، ولعل فهم السامعين كون المراد به مشركي مكة وقت التشنيع عونة قرينة تدل على ذلك إذ ذاك، ويحتمل أن يكون الواقع فيه بدله مشركي مكة أو نحوه، لكن جاء في الحكاية بلفظ الناس، والنكتة فيه على ما قيل: الإيماء إلى كثرتهم.
وقيل: الرمز إلى مزيد قيح عدم الإيقان منهم، ويعلم مما ذكر وجه العدول عن أنهم إلى {إِنَّ الناس} وجوز أن يكون بتقدير حرف التعليل أي لأن الناس إلخ، وهو تعليل من جهته تعالى لجرحها إياهم، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع كالضمائر السابقة إلى مشركي مكة، وجوز أن تقدر الباب على أنها سببية.
وجوز أيضًا أن يكون المراد بالكلم الجرح عنى الوسم، فقد روي أنها تسم جبهة الكافر، وفي رواية أخرى أنها تحطم أنفه بعصا موسى عليه السلام التي معها، واختار بعضهم كون المراد به ما ذكر لما في حديث أخرجه نعيم بن حماد. وابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعًا ليس ذلك بحديث ولا كلام ولكنه سمة تسم من أمرها الله تعالى، وسأل أبو الحوراء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هل ما في الآية تكلمهم. أو تكلمهم؟ فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر تجرحه، والظاهر أن الضمائر على تقدير أن يراد بالكلم الجرح، والوسم راجعة ءلى الكفرة على الإطلاق دون المحدث عنهم فيما سبق إذ لا معنى لوسمها إياهم، ويتعين أن يراد بالناس أولئك الكفرة الذين عادت عليهم الضمائر، ولعل المعنى تسمهم لأنهم كانوا في علمنا بآياتنا لا يوقنون، وقرأ ابن مسعود بأن وجعلت مؤيدة لكون التكليم من الكلام وهو مبني على الظاهر وإلا فالباء تحتمل أن تكون للسببية فتلائم كونه من الكلم عنى الجرح، وقرأ بعض السبعة إن بكسر الهمزة، وخرج على إضمار القول. أو إجراء التكليم من الكلام مجراه، أو على أن الكلام استئناف مسوق من جهته سبحانه للتعليل فتدبر.