فصل: تفسير الآية رقم (83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (83):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)}
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجًا مّمَّن يُكَذّبُ بئاياتنا} بيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها، و{يَوْمٍ} منصوب بفعل مضمر خوطب به نبينا صلى الله عليه وسلم أي اذكر يوم، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيان سره مرارًا، والمراد بهذا الحشر الحشر للتوبيخ والعذاب بعد الحسر الكلي الشامل لكافة الخلق وهو المذكور فيما بعد من قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} [النمل: 87] إلى آخره، ولعل تقديم ما تضمن هذا على ما تضمن ذلك دون العكس مع أن الترتيب الوقوعي يقتضيه للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لرا توهم أن الكل داهية واحدة قد أمر بذكرها كما مر في سورة البقرة مع أن الأنسي بذكر أن الكفرة لا يوقنون بالآيات المراد به أنهم يكذبون بها أن يذكر بعده ما تضمن التوبيخ منه عز وجل والتعذيب على ذلك التكذيب، ومن الثانية بيانية جيء بها لبيان {فَوْجًا}، ومن الأولى تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب، أي ويوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء عليهم السلام أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم ما لا يخفى، وقيل: {مِنْ} الثانية تبعيضية كالأولى، والمراد بالفوج جماعة من الرؤساء المتبوعين للكفرة، وعن ابن عباس أبو جهل. والوليد بن المغيرة. وشعبة بن ربيعة يشاقون بين يدي أهل مكة. وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم ءلى انلار؛ وهذه الآية من أشهر ما استدل بها الإمامية على الرجعة.
قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان: واستدل بهذه الآية على صحة الجرعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال: إن دخول {مِنْ} في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه: {وحشرناهم فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]، وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قومًا ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضًا قومًا من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب بالقتل على أيدي شيعته أو الذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته.
ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل الله تعالى ذلك من الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره عليه السلام، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «سيكون من أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعمل بالنعمل والقذة حتى لو أن أحدهم دخل حجر ضب لدخلتموه»، وتأول جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات، وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافى التكليف وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح، والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعبانًا وما أشبه ذلك ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها، وإنما المعول في ذلك إجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده انتهى.
وأقول: أول من قال بالرجعة عبد الله بن سبأ ولكن خصها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه جابر الجعفي في أول المائة الثانية فقال برجعة الأمير كرم الله تعالى وجهه أيضًا لكن لم يوقتها بوقت، ولما أتى القرن الثالث ثرر أهله من الإمامية رجعة الأئمة كلهم وأعدائهم وعينوا لذلك وقت ظهور المهدي، واستدلوا على ذلك بما رووه عن أئمة أهل البيت، والزيدية كافة منكرون لهذه الدعوى إنكارًا شديدًا، وقد ردّوها في كتبهم على وجه مستوفى بروايات عن أئمة أهل البيت أيضًا تعارض روايات الإمامية، والآيات المذكورة هنا لا تدل على الرجعة حسا يزعمون ولا أظن أن أحدًا منهم يزعم دلالتها على ذلك، بل قصارى ما يقول: إنها تدل على رجعة المكذبين أو رؤسائهم فتكون دالة على أصل الرجعة وصحتها لا على الرجعة بالكيفية التي يذكرونها، وفي كلام الطبري ما يشير إلى هذا.
وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إرادة الرجعة إلى الدنيا من الآية لافادتها أن الحشر المذكور لتوبيخ المكذبين وتقريعهم من جهته عز وجل بل ظاهر ما بعد يقتضي أنه تعالى بذاته يوبخهم ويقرعهم على تكذيبهم بآياته سبحانه، والمعروف من الآيات لمثل ذلك هو يوم القيامة مع أنها تفيد أيضًا وقوع العذاب عليهم واشتغالهم به عن الجواب ولم تفد موتهم ورجوعهم إلى ما هو أشد منه وأبقى وهو عذاب الآخرة الذي يقتضيه عظم جنايتهم، فالظاهر استمرار حياتهم وعذابهم بعد هذا الحشر، ولا يتسنى ذلك إلا إذا كان حشر يوم القيامة، ورا يقال أيضًا: مما يأبى حمل الحشر المذكور على الرجعة أن فيه راحة لهم في الجملة حيث يفوت به ما كانوا فيه من عذاب البرزخ الذي هو للمكذبين كيفما كان أشد من عذاب الدنيا، وفي ذلك إهمال لما يقتضيه عظم الجناية، وأيضًا كيف تصح إرادة الرجعة منها، وفي الآيات ما يأبي ذلك، منه قوله تعالى: {قَالَ رَبّ ارجعون لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100] فإن آخر الآية ظاهر في عدم الرجعة مطلقًا وكون الإحياء بعد الإماتة والإرجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له عز وجل مما لا ينتطح فيه كبشان إلا أن الكلام في وقوعه وأهل السنة ومن وافقهم لا يقولون به ويمنعون إرادته من الآية ويستندون في ذلك إلى آيات كثيرة، والأخبار التي روتها الإمامية في هذا الباب قد كفتنا الزيدية مؤنة ردها، على أن الطبرسي أشار إلى أنها ليست أدلة وأن التعويل ليس عليها، وإنما الدليل إجماعي الإمامية والتعويل ليس إلا عليه، وأنت تعلم أن مدار حجية الإجماع على المختار عندهم حصول الجزم وافقة المعصوم ولم يحصل للسنى هذا الجزم من إجماعهم هذا فلا ينتهض ذلك حجة عليه مع أن له إجماعًا يخالفه وهو إجماع قومه على عدم الرجعة الكاشف عما عليه سيد المعصومين صلى الله عليه وسلم، وكل ما تقوله الإمامية في هذا الإجماع يقول السنى مثله في إجماعهم، وما ذكر من قوله صلى الله عليه وسلم: «سيكون في أمتي» الحديث لا تعلم صحته بهذا اللفظ بل الظاهر عدم صحته فإنه كان في بني إسرائيل ما لم يذكر أحد أنه يكون في هذه الأمة كنتق الجبل عليهم حين امتنعوا عن أخذ ما آتاهم الله تعالى من الكتاب والبقاء في التيه أربعين سنة قالوا لموسى عليه السلام: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] ونزول المن والسلوى عليهم فيه إلى غير ذلك.
وبالجملة القول بالرجعة تزعم الإمامية مما لا ينتهض عليه دليل، وكم من آية في القرآن الكريم تأباه غير قابلة للتأويل، وكأن ظلمة بغضهم للصحابة رضي الله تعالى عنهم حالت بينهم وبين أن يحيطوا علمًا بتلك الآيات فوقعوا فيما وقعوا فيه من الضلالات.

.تفسير الآية رقم (84):

{حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)}
{حتى إِذَا جَاءوا} إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب {قَالَ} أي الله عز وجل موبخًا لهم على التكذيب لا سائلًا سبحانه وتعالى سؤال استفسار لاستحالته منه عز وجل، وعدم وقوع الاستفسار عن الذنب يوم القيامة من غيره تعالى من الملائكة عليهم السلام وان كان ممكنًا على ما يدل عليه قوله تعالى: {لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39] على أحد التفسيرين، والالتفات لتربية المهابة {أَكَذَّبْتُم} الناطقة بلقاء يومكم هذا، وقوله تعالى: {بئاياتى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْمًا} جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قيحه، ومؤكدة للإنكار والتوبيخ أي أكذبتم بها بادي الرأي غير ناظرين فيها نظرًا يؤدي إلى العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق حتمًا، وهذا على ما قيل: ظاهر في أن المراد بالآيات فيما تقدم الآيات التنزيلية لأنها المنطوية على دلائل الصحة وشواهدها التي لم يحيطوا بها علمًا مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا نفس الساعة وما فيها.
وقال بعض الأجلة: إن التكذيب يأبى بظاهره أن يراد بالآيات الآيات التكوينية كالمعجزات ونحوها إذ ليس فيها نسبة يتعلق بها ذلك، وإرادة الأعم تستدعي اعتبار التغليب وكون التكذيب عنى نفي دلالتها على المراد منها كتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في المعجزات ونحوه في نحوها من آيات الأنفس والآفاق خلاف الظاهر، فالأولى إبقاؤه على الظاهر وحمل الآيات على الآيات التنزيلية، وقيل: هو معطوف على كذبتم والهمزة لإنكار الجمع والتوبيخ عليه كأنه قيل: أجمعتم بين التكذيب بآياتي وعدم التدبر فيها.
{أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي أم ماذا كنتم تعملون بها على أن المراد التبكيت وأنهم لم يعملوا إلا التكذيب وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري، وقرره في الكشف بأن {أَمْ} متصلة، والأصل أكذبتم بآياتي أم صدقتم، والمعادلة بين الفعلين المتعلقين بالآيات لكن جيء بالأول مجيء معلوم محقق، وبالثاني لا على ذلك النهج تنبيهًا على انتفائه كأنه قيل: أهو ما عهد من التكذيب أم حدث حادث، ووجه الدلالة أنه جعل العديل مرددًا فيه فلم يجعل التصديق مثل التكذيب في الاستفهام عن حاله بل إنما شك في وجود معادل التكذيب لأن قوله تعالى: {أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يشمل التكذيب المذكور أولًا وعديله الحقيقي، وهذه قرينة أنه لم يجأ بالاستفهام جهلاٌ بالحال بل إنما أريد التبكيت والإلزام على معنى قل لي ويحك إن حدث أمر آخر بتًّا بالقول بأنه لم يحدث ما يضاد الأول وإشعارًا بأنه إذا سئل عن الذي عمله لم يجب إلا بما قدم أولا، ثم قال: وهذا وجه لائح، وإنما جاز دخول {أَمْ} على {مَا} الاستفهامية لهذه النكتة فإنها خرجت عن حقيقة الاستفهام إلى البت بالحكم لا بالمعادل بل بالأول، وثانيهما أن المعنى ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى: {أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من غير ذلك، وقرره في الكشف أيضًا بأن {أَمْ} على اتصالها ولكن المعادلة بين التكذيب وكل عمل غيره تعلق بالآيات أولًا والإيراد على صيغة الاستفهام للنكتة السابقة فدل على أنه لم يكن لهم عمل إلا التكذيب والكفر كأنهم لم يخلقوا إلا لذلك فلأجله لم يعملوا غيرهر، وجعل سائر أعمالهم لاستمرار الكفر بهم نفس الكفر أو كلا عمل، ثم قال: وهذا وجه وجيه بالغ، ومنه ظهر أن دخول {أَمْ} على أسماء الاستفهام غير منكر إذا خرجت عن حقيقة الاستفهام وهو مقاس معنى وإن كانت مراعاة صورة الاستفهام أيضًا منقاسة من حيث اللفظ لكنهم يرجحون في نحوه جانب المعنى ولا يلتفتون لفت اللفظ اه.
واختار أبو حيان كون {أَمْ} منقطعة فتقدر ببل وحدها وهي للانتقال من توبيخ إلى توبيخ وليس في ذلك شائبة من دخول الاستفهام على الاستفهام، وما تقدم أبعد مغزى، و{مَاذَا} تحتمل أن تكون بجملتها استفهامًا منصوب المحل بخبر كان وهو {تَعْمَلُونَ} أو مرفوعه على الابتداء والجملة بعده خبره والرابط محذوف أي تعملونه، وتحتمل أن تكون {مَا} فيها استفهامًا، و{ذَا} اسم موصول عنى الذي، وهما مبتدأ وخبر والجملة بعد صلة الموصول والعائد إليه محذوف.
وقرأ أبو حيوة أما ذا بتخفيف الميم وفيها دخول الاستفهام على الاستفهام، وقد سمعت وجهه.

.تفسير الآية رقم (85):

{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)}
{وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم} حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله وهو كبهم في النار {ا ظَلَمُواْ} أي بسبب ظلمهم الذي هو تكذيبهم بآيات الله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} بحجة لانتفائها عنهم بالكلية وابتلائهم بما حل بهم من العذاب الأليم، وقيل: يختم على أفواههم فلا يقدرون على النطق بشيء أصلا.
وفي البحر أن انتفاء نطقهم يكون من موطن من مواطن القيامة أو من فريق من الناس لأن القرآن الكريم ناطق بأنهم ينطقون في بعض المواطن بأعذار وما يرجون به النجاة من النار.

.تفسير الآية رقم (86):

{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)}
{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} الرؤية قلبية لا بصرية لأن نفس الليل والنهار وإن كانا من المبصرات لكن جعلهما كما ذكر من قبيل المعقولات أي ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الاظلام ليستريحوا فيه بالقرار والنوم، قال بعض الرجاز:
النوم راحة القوى الحسية ** من حركات والقوى النفسية

{والنهار مُبْصِرًا} أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور معاشهم فبولغ حيث جعل الأبصار الذي هو حال الناس حالاله ووصفًا من أوصافه التي جعل عليها بحيث لا ينفك عنها، ولم يسلك في الليل هذا المسلك لما أن تأثير ظلام الليل في السكون ليس ثابة تأثير ضوء النهار في الأبصار، والمشهور أن في الآية صنعة الاحتباك والتقدير جعلنا الليل مظلمًا ليسكنوا فيه والنهار مبصرًا لينتشروا فيه {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في جعلهما كما وصفا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للأشعار ببعد درجته في الفضل {لايات} عظيمة {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فإنه يدل على التوحيد وتجويز الحشر وبعث الرسل عليهم السلام لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهرة ليست لما أشركه المشركون، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحد قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان، وأن من جعل الليل والنهار سببين لمنافعهم ومصالهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم وهو بعثة الرسل عليهم السلام.
وفي إرشاد العقل السليم لآيات عظيمة كثيرة لقوم يؤمنون دالة على صحة البعث وصدق الآيات الناطقة به دلالة واضحة كيف لا وأن من تأمل في تعاقب الليل والنهار واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم رائقة تحار في فهمها العقول ولا يحيط بها إلا علم الله جل وعلا وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل مالحاكية للموت بضياء النهار المضاهى للحياة وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباع الذي هو مثل الحياة قضي بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله تعالى يبعث من في القبور قضاءًا متقنًا وجزم بأنه تعالى قد جعل هذا أنموذجًا له ودليلًا يستدل به على تحققه، وأن الآيات الناطقة به وبكون حال الليل والنهار برهانًا عليه وسائر الآيات كلها حق نازل من عند الله تعالى اه.
ولعل الأول أولى لاسيما إذا ضم إلى الاستدلال على جواز الحشر مشابهة النوم واليقظة للموت والحياة لما في هذا من خفاء الدلالة، وتخصيص المؤمنين بالذكر لما أنهم هم المنتفعون بالآيات، ووجه ربط هذه الآية بما قبلها أنها كالدليل على صحة ما تضمنته من الحشر.