فصل: تفسير الآية رقم (29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (29):

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)}
{فَلَمَّا قضى مُوسَى الاجل} أي أتم المدة المضروبة لما أراد شعيب منه والمراد به الأجل الآخر كما أخرجه ابن مردويه عن مقسم عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما. وأخرج البخاري وجماعة عن ابن عباس أنه سئل أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل. وأخرج ابن مردويه من طريق علي بن عاصم عن أبي هرون عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا سأله أي الأجلين قضى موسى فقال: لا أدري حتى اسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: لا أدري حتى أسأل جبريل عليه السلام فسأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل عليه السلام فسأل ميكائيل فقال: لا أدري حتى أسأل الرفيع فسأل الرفيع فقال: لا أدري حتى أسأل إسرافيل عليه السلام فسأل إسرافيل فقال: لا أدري حتى أسأل ذا العزة جل جلاله فنادى إسرافيل بصوته الأشذ يا ذا العزة أي الأجلين قضى موسى قال: {فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} قال علي بن عاصم: فكان أبو هرون إذا حدث بهذا الحديث يقول: حدثني أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن الرفيع عن إسرافيل عن ذي العزة تبارك وتعالى: {ءانٍ موسى قَضَى فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} والفاء قيل: فصيحة أي فعقد العقدين وباشر موسى ما أريد منه فلما أتم الأجل {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قيل: نحو مصر بإذن من شعيب عليه السلام لزيارة والتده وأخيه وأخته وذوي قرابته وكأنه عليه السلام أقدمه على ذلك طول مدة الجنابة وغلبة ظنه خفاء أمره، وقيل: سار نحو بيت المقدس وهذا أبعد عن القيل والقال.
{ءانَسَ مِن جَانِبِ الطور} أي أبصر من الجهة التي تلي الطور لا من بعضه كما هو المتبادر، وأصل الإيناس على ما قيل الإحساس فيكون أعم من الإبصار، وقال الزمخشري: هو الإبصار البيت الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل: الجن لاستتارهم، وقيل: هو إبصار ما يؤنس به.
{نَارًا} استظهر بعضهم أن المبصر كان نورًا حقيقة إلا أنه عبر عنه بالنار اعتبارًا لاعتقاد موسى عليه السلام، وقال بعض العارفين: كان المبصر في صورة النار الحقيقية وأما حقيقته فوراء طور العقل إلا أن موسى عليه السلام ظنه النار المعروفة {قَالَ لاِهْلِهِ امكثوا} أي أقيموا مكانكم وكان معه عليه السلام على قول امرأته وخادم ويخاطب الإثنان بصيغة الجمع، وعلى قول آخر كان معه ولدان له أيضا اسم الأكبر جير شوم واسم الأصغر اليعازر ولدًا له زمان إقامته عند شعيب وهذا مما يتسنى على القول بأنه عليه السلام دخل على زوجته قبل الشروع فيما أريد منه، وأما على القول بأنه لم يدخل عليها حتى أتم الأجل فلا يتسنى إلا بالتزام أنه عليه السلام مكث بعد ذلك سنين، وقد قيل به، أخرج عبد بن حميد.
وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قضى موسى عشر سنين ثم مكث بعد ذلك عشرًا أخرى، وعن وهب أنه عليه السلام ولد له ولد في الطريق ليلة إيناس النار، وفي البحر أنه عليه السلام خرج بأهله وماله في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل لا يدري أليلًا تضع أم نهارًا فسار في البرية لا يعرف طرقها فالجأه السير إلى جانب الطور المغربي الأيمن في ليلة ملمة مثلجة شديدة البرد، وقيل: كان لغيرته على حرمه يصحب الرفقة ليلًا ويفارقهم نهارًا فأضل الطريق يومًا حتى أدركه الليل فأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فأصلد فنظر فإذا نار تلوح من بعد فقال امكثوا {إِنّى ءانَسْتُ نَارًا لَّعَلّى ءاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ} أي بخبر الطريق بأن أجد عندها من يخبرني به وقد كانوا كما سمعت ضلوا الطريق، والجملة استئناف في معنى التعليل للأمر {أَوْ جَذْوَةٍ} أي عود غليظ سواء كان في رأسه نار كما في قوله:
وألقى على قيس من النار جذوة ** شديدًا عليها جرها والتهابها

أو لم تكن كما في قوله:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ** جزل الجذا غير خوار ولا دعر

ولذا بينت كما قال بعض المحققين بقوله تعالى: {مِنَ النار} وجعلها نفس النار للمبالغة كأنها لتشبث النا ربها استحالت نارًا، وقال الراغب: الجذوة ما يبقى من الحطب بعد الالتهاب، وفي معناه قول أبي حيان: عود فيه نار بلا لهب، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: هي عود من حطب فيه النار.
وأخرج هو وجماعة عن قتادة أنها أصل شجرة في طرفها النار، قيل: فتكون من على هذا للابتداء، والمراد بالنار هي التي آنسها.
وقرأ الأكثر {جَذْوَةٍ} بكسر الجيم. والأعمش. وطلحة. وأبو حيوة. وحمزة بضمها {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} تستدفئون وتتسخنون بها، وفيه دليل على أنهم أصابهم برد.

.تفسير الآية رقم (30):

{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)}
{فَلَمَّا} أي النار التي آنسها.
{أتاها نُودِىَ مِن شاطئ الوادى الايمن} أي أتاه النداء من الجانب الأيمن بالنسبة إلى موسى عليه السلام في مسيره فالأيمن صفة الشاطئ وهو ضد الأيسر، وجوز أن يكون الأيمن عنى المتصف باليمن والبركة ضد الأشأم، وعليه فيجوز كونه صفة للشاطئ أو الوادي، و{مِنْ} على ما اختاره جمع لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، وجوز أن تتعلق حذوف وقع حالًا من ضمير موسى عليه السلام المستتر في نودي أي نودي قريبًا من شاطئ الوادي، وجوز على الحالية أن تكون من عنى في كما في قوله تعالى: {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [الأحقاف: 4] أي نودي كائنًا في شاطئ الوادي، وقوله تعالى: {فِى البقعة} في موضع الحال من الشاطئ أو صلة لنودي، والبقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها وتفتح باؤها كما في القاموس، وبذلك قرأ الأشهب العقيلي. ومسلمة. ووصفت بالبركة لما خصت به من آيات الله عز وجل وأنواره.
وقيل: لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة وليس بذاك، وقوله سبحانه: {المباركة مِنَ الشجرة} بدل من قوله تعالى: {مِن شاطئ} أو الشجرة فيه بدل من شاطئ وأعيد الجار لأن البدل على تكرار العامل وهو بدل اشتمال فإن الشاطئ كان مشتملًا على الشجرة إذ كانت نابتة فيه، و{مِنْ} هنا لا تحتمل أن تكون عنى في كما سمعت في من الأولى، نعم جوز فيها أن تكون للتعليل كما في قوله تعالى: {مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 25] متعلقة بالمباركة أي البقعة المباركة لأجل الشجرة، وقيل: يجوز تعلقها بالمباركة مع بقائها للابتداء على معنى أن ابتداء بركتها من الشجرة، وكانت هذه الشجرة على ما روي عن ابن عباس عنابًا، وعلى ما روي عن ابن مسعود سمرة، وعلى ما روي عن ابن جريج. والكلبي. ووهب عوسجة. وعلى ما روي عن قتادة. ومقاتل عليقة وهو المذكور في التوراة اليوم، وأن في قوله تعالى: {أَن ياموسى} تحتمل أن تكون تفسيرية وأن تكون مخففة من الثقيلة والأصل بأنه، والجار متعلق بنودي، والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي:
ناديت باسم ربيعة بن مكدم ** أن المنوه باسمه الموثوق

والضمير للشأن وفسر الشأن بقوله تعالى: {إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين} وقرأت فرقة {إِنّى} بفتح الهمز، واستشكل بأن أن إن كانت تفسيرية ينبغي كسر إن وهو ظاهر وإن كانت مصدرية واسمها ضمير الشأن، فكذلك إذ على الفتح تسبك مع ما بعدها فرد وهو لا يكون خبرًا عن ضمير الشأن وخرجت على أن أن تفسيرية وأني إلخ في تأويل مصدر معمول لفعل محذوف، والتقدير أي يا موسى اعلم أني أنا الله إلخ، وجاء في سورة [طه: 11، 12]
{نُودِىَ ياموسى موسى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} وفي سورة [النمل: 8] {نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار} وما هنا غير ذلك بل ما في كل غير ما في الآخر فاستشكل ذلك.
وأجيب بأن المغايرة إنما هي في اللفظ، وأما في المعنى المراد فلا مغايرة، وذهب الإمام إلى أنه تعالى حكى في كل من هذه السور بعض ما اشتمل عليه النداء لما أن المطابقة بين ما في المواضع الثلاثة تحتاج إلى تكلف مّا والظاهر أن النداء منه عز وجل من غير توسيط ملك، وقد سمع موسى عليه السلام على ما تدل عليه الآثار كلامًا لفظيًا قيل: خلقه الله تعالى في الشجرة بلا اتحاد وحلول، وقيل: خلقه في الهواء كذلك وسمعه موسى عليه السلام من جهة الجانب الأيمن أو من جميع الجهات، وأنا وإن كان كل أحد يشير به إلى نفسه فليس المعنى به محل لفظه.
وذهب الشيخ الأشعري. والإمام الغزالي إلى أنه عليه السلام سمع كلامه تعالى النفسي القديم بلا صوت ولا حرف، وهذا كما ترى ذاته عز وجل بلا كيف ولا كم، وذكر بعض العارفين أنه إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت وكان ذلك بعد ظهوره عز وجل بما شاء من المظاهر التي تقتضيها الحكمة وهو سبحانه مع ظهوره تعالى كذلك باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق، وقد جاء في الصحيح أنه تعالى يتجلى لعباده يوم القيامة في صورة، فيقول: أنا ربكم فينكرونه ثم يتجلى لهم بأخرى فيعرفونه، والله تعالى وصفاته من وراء حجب العزة والعظمة والجلال فلا يحدثن الفكر نفسه بأن يكون له وقوف على الحقيقة بحال من الأحوال.
مرام شط مرمى العقل فيه ** ودون مداه بيد لا تبيد

وذكر بعض السلفيين أنه عليه السلام إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت منكر الظهور في المظاهر عادًّا القول به من أعظم المناكر، ولابن القيم كلام طويل في تحقيق ذلك، وقد قدمنا لك في المقدمات ما يتعلق بهذا المقام فتذكر والله تعالى ولي الأفهام، وقال الحسن: إنه سبحانه نادى موسى عليه السلام نداء الوحي لا نداء الكلام ولم يرتض ذلك العلماء الأعلام لما فيه من مخالفة الظاهر وأنه لا يظهر عليه وجه اختصاصه باسم الكليم من بين الأنبياء عليهم السلام، ووجه الاختصاص على القول بأنه سمع كلامه تعالى الأزلي بلا حرف ولا صوت ظاهر، وكذا على القول بأنه عليه السلام سمع صوتًا دالًا على كلامه تعالى بلا واسطة ملك أو كتاب سواء كان من جانب واحد لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا أو من جميع الجهات لما في كل من خرق العادة، وأما وجهه عند القائلين بأن السماع كان بعد التجلي في المظهر فكذلك أيضًا إن قالوا بأن هذا التجلي لم يقع لأحد من الأنبياء عليهم السلام سوى موسى. ثم إن علمه عليه السلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقًا منه سبحانه فيه؛ وقيل: بالمعجزة، وأوجب المعتزلة أن يكون حصوله بها فمنهم من عينها ومنهم من لم يعينها زعمًا منهم أن حصول العلم الضروري ينافي التكليف، وفيه بحث.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31)}
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} عطف على {أن يا موسى} [القصص: 30] والفاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ} فصيحة مفصحة عن جمل حذفت تعويلًا على دلالة الحال عليها وإشعارًا بغاية سرعة تحقق مدلولاتها أي فألقاها فصارت حية فاهتزت فلما رآها تهتز وتتحرك {كَأَنَّهَا جَانٌّ} هي حية كحلاء العين لا تؤذى كثيرة في الدور، والتشبيه بها باعتبار سرعة حركتها وخفتها لا في هيئتها وجثتها. فلا يقال: إنه عليه السلام لما ألقاها صارت ثعبانًا عظيمًا فكيف يصح تشبيهها بالجان، وقال بعضهم: يجوز أن يكون المراد تشبيهها بها في الهيئة والجثة ولا ضير في ذلك لأن لها أحوالًا مختلفة تدق فيها وتغلظ، وقيل: الجان يطلق على ما عظم من الحيات فيراد عند تشبيهها بها في ذلك والأولى ما ذكر أولًا {ولى مُدْبِرًا} منهزمًا من الخوف {وَلَمْ يُعَقّبْ} أي ولم يرجع {ياموسى} أي نودي أو قيل: يا موسى {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الامنين} من المخاوف فإنه لا يخاف لدى المرسلون:

.تفسير الآية رقم (32):

{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)}
{اسلك يَدَكَ} أي أدخلها {فِى جَيْبِكَ} هو فتح الجبة من حيث يخرج الرأس {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء} أي عيب {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} أي من أجل المخالفة، قال مجاهد. وابن زيد. أمره سبحانه بضم عضده وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوى قلبه، وقال الثوري: خاف موسى عليه السلام أن يكون حدث به سوء فأمره سبحانه أن يعيد يده إلى جنبه لتعود إلى حالتها الأولى فيعلم أنه لم يكن ذلك سوءًا بل آية من الله عز وجل؛ وقريب منه ما قيل: المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها فاضممها إليك يسكن خوفك. وفي الكشاف فيه معنيان: أحدهما: أن موسى عليه السلام لما قلب الله تعالى العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان نزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه، والثاني: أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى من الرهب من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك، جعل الرهب الذي كان يصيبه سببًا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه، ومعنى {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقوله تعالى: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرعب اه، وضم الجناح على الثاني كناية عن التجلد والضبط نحو قوله:
اشدد حيازيمك للموت ** فإن الموت لاقيك

وهو مأخوذ من فعل الطائر عند الأمن بعد الخوف، وهو في الأصل مستعار من فعل الطائر عند هذه الحالة ثم كثر استعماله في التجلد وضبط النفس حتى صار مثلًا فيه وكناية عنه، وعليه يكون تتميمًا لمعنى {إِنَّكَ مِنَ الامنين} [القصص: 31] وهذا مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي فإنه قال: هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الجد الذي يغشاه في بعض الأحوال عما أمر بالمضي فيه.
وليس المراد بالضم الضم المزيل للفرجة بين الشيئين وهو أبعد عن المناقشة مما ذكره الزمخشري. ومثله في البعد عن المناقشة ما قاله البقاعي: من أنه أريد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه عند خروج يده بيضاء حتى لا يحذر ولا يضطرب من الخوف. وأراد بأحد التفسيرين الوجه الأول لأن المعنى عليه أدخل يدك اليمنى تحت عضدك اليسرى، وقال بعضهم: إن المعنى اضمم يديك المبسوطتين بإدخال اليمنى تحت العضد الأيسر واليسرى تحت الأيمن أو بإدخالهما في الجيب. وظاهره أنه أريد بالجناح الجناحات، وقد صرح الطبرسي بذلك في نحو ما ذكر وقال: إنه قد جاء المفرد مرادًا به التثنية كما في قوله:
يداك يد إحداهما الجود كله ** وراحتك اليسرى طعان تغامره

فإن المعنى يداك يدان بدلالة قوله إحداهما. في الكشاف أيضًا من بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير. وأنهم يقولون: أعطني ما في رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضي عربيتهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها اه. وما أشار إليه من أن ذاك لا يطابق بلاغة التنزيل مما لا ريب فيه فإن الذاهبين إليه قالوا: المعنى عليه واضمم إليك يدك مخرجة من الكم لأن يده كانت في الكم؛ وهو معنى كما ترى ولفظه أقصر منه في الإفادة. وأما أمر سماعه عن الأثبات فقد تعقبه في البحر بأنه مروى عن الأصمعي وهو ثقة ثبت. وقال الطيبي: قال محيي السنة: قال الأصمعي: سمعت بعض الأعراب يقول: أعطني ما في رهبك أي ما في كمك. وزعم بعضهم أن استعمال الرهب في الكم لغة بني حنيفة أيضًا وهو عندهم وكذا عند حمير بفتح الراء والهاء. والحزم عندي عدم الجزم بثبوت هذه اللغة. وعلى تقدير الثبوت لا ينبغي حمل ما في «التنزيل الكريم» عليها. والظاهر أن من الرهب متعلق باضمم وقال أبو البقاء: هو متعلق بولي. وقيل دبرًا. وقيل حذوف: أي تسكن من الرهب. وقيل باضمم. ولا يخفى ما في تعلقه بسوى اضمم وإن أشار إلى تعلقه بولي أو مدبرًا كلام ابن جريج على ما أخرجه عنه ابن المنذر حيث جعل الآية من التقديم والتأخير. والمراد ولي مدبرًا من الرهب. وقرأ الحرميان: {مِنَ الرهب} بفتح الراء والهاء، وأكثر السبعة بضم الراء وإسكان الهاء. وقرأ قتادة، والحسن، وعيسى، والجحدري بضمهما والكل لغات {فَذَانِكَ} أي العصا واليد والتذكير لمراعاة الخبر وهو قوله تعالى: {برهانان} وقيل: الإشارة إلى انقلاب العصا حية بعد إلقائها وخروج اليد بيضاء بعد إدخالها في الجيب فأمر التذكير ظاهر، والبرهان الحجة النيرة وهو فعلان لقولهم: أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من بره الرجل إذا ابيض ويقال للمرأة البيضاء: برهاء وبرهرهة.
وقال بعضهم: هو فعلان من البره عنى القطع فيفسر بالحجة القاطعة، وقيل: هو فعلال لقولهم برهن ونقل عن الأكثر أن برهن مولد بنوه من لفظ البرهان، وقرأ أبو عمرو. وابن كثير {فَذَانِكَ} بتشديد النون وهي لغة فيه، فقيل: إنه عوض من الألف المحذوفة من ذا حال التثنية لألفها نون وأدغمت، وقال المبرد: إنه بدل من لام ذلك كأنهم أدخلوها بعد نون التثنية، ثم قلبت اللام نونًا لقرب المخرج وأدغمت وكان القياس قلب الأولى لكنه حوفظ على علامة التثنية، وقرأ ابن مسعود. وعيسى. وأبو نوفل. وابن هرمز. وشبل. فذانيك بياء بعد النون المكسورة وهي لغة هذيل، وقيل: بل لغة تميم. ورواها شبل عن ابن كثير، وعنه أيضًا فذانيك بفتح النون قبل الياء على لغة من فتح نون التثنية نحو قوله:
على أحوذيين استقلت عشية ** فما هي إلا لمحة وتغيب

وعن ابن مسعود أنه قرأ بتشديد النون مكسورة بعدها ياء، قيل وهي لغة هذيل، وقال المهدوي: بل لغتهم تخفيفها و{مِنْ} في قوله تعالى: {مِن رَبّكَ} متعلق حذوف هو صفة لبرهانان أي كائنان من ربك و{إلى} في قوله سبحانه: {إلى فِرْعَوْنَ} متعلق حذوف أيضًا هو على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم صفة بعد صفة له أي واصلان إليهم، وعلى ما يقتضيه ظاهر كلام آخرين حال منه أي مرسلًا أنت بهما إليهم.
وفي البحر أنه متعلق حذوف دل عليه المعنى تقديره اذهب إلى فرعون {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ} أي فرعون وملأه {كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} أي خارجين عن حدود الظلم والعدوان فكانوا أحقاء بأن نرسلك بهاتين المعجزتين الباهرتين إليهم، والكلام في كانوا يعلم مما تقدم في نظائره.