فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (39):

{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)}
{واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ} أي رأوا كل ما سواهم حقيرًا بالإضافة إليهم ولم يروا العظمة والكبرياء إلا لأنفسهم فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد {فِى الأرض} الأكثرون على أن المراد في أرض مصر، وقيل: المراد بها الجرم المعروف المقابل للسماء، وفي التقييد بها تشنيع عليهم حيث استكبروا فيما هو أسفل الإجرام وكان اللائق بهم أن ينظروا إلى محلهم وتسفله فلا يستكبروا {بِغَيْرِ الحق} أي بغير الاستحقاق لما أن رؤيتهم تلك باطلة ولا تكون رؤية الكل حقيرًا بالإضافة إلى الرائي ورؤية العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره حقًا إلا من الله عز وجل، ومن هنا قال الزمخشري؛ الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وكل مستكبر سواه عز وجل فاستكباره بغير الحق، وفي الحديث القدسي «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحد منهما ألقيته في النار» {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} بالبعث للجزاء، والظن قيل: إما على ظاهره أو عبر عن اعتقادهم به تحقيرًا لهم وتمهيلًا، وقرأ حمزة. والكسائي. ونافع {لاَ يَرْجِعُونَ} بفتح الياء وكسر الجيم.

.تفسير الآية رقم (40):

{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)}
{فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِي اليم} أي ألقيناهم وأغرقناهم فيه، وقد مر تفصيل ذلك، وفي التعبير بالنبذ وهو إلقاء الشيء الحقير وطرحه لقلة الاعتداد به ولذلك قال الشاعر:
نظرت إلى عنوانه فنبذته ** كنبذك نعلًا من نعالك باليا

استحقار لهم، وفي الكلام على ما قيل استعارة مكنية وتخييلية وذلك أنهم شبهوا في الحقارة بنعال بالية واستعير لهم اسم النعال ثم حذف المستعار وبقي المستعار له وجعل النبذ قرينة على أنه حقيقة والمجاز في التعلق على نحو ما قيل في أظفار المنية نشبت بفلان، وقال بعضهم: الأخذ وهو حقيقة في التناول مجاز عن خلق الداعية لهم إلى السير إلى البحر، والنبذ مجاز عن خلق الداعية لهم إلى دخوله، وفي البحر أنه كناية عن إدخالهم فيه والأولى أن يكون الكلام من باب التمثيل كأنه عز وجل فيما فعل بهم أخذهم مع كصرتهم في كف وطرحهم في اليم، والظاهر أن الفاء الأولى سببية وليست لمجرد التعقيب وأما الثانية فللتعقيب إذا أبقى الأخذ على معنى التناول أو أريد به خلق الداعية إلى السير أو نحوه أما إذا أريد به الإهلاك فهي للتفسير كما في {فاستجبنا له فنجيناه} [الأنبياء: 76] ونحوه {فانظر} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} وبينها للناس ليعبروا بها.

.تفسير الآية رقم (41):

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)}
{وجعلناهم} أي خلقناهم {أَئِمَّةَ} قدوة للضلال بسبب حملهم لهم على الضلال كما يؤذن بذلك قوله تعالى: {يَدْعُونَ إِلَى النار} أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي على أن النار مجاز عن ذلك أو على تقدير مضاف والمراد جعلهم ضالين مضلين والجعل هنا مثله في قوله تعالى: {جَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الخير والشر مخلوقان لله عز وجل وأولها المعتزلة تارة بأن الجعل فيها عنى التسمية مثله في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} [الزخرف: 19] أي وسميناهم فيما بين الأمم بعدهم دعاة إلى النار، وتارة بأن جعلهم كذلك عنى خذلانهم ومنعهم من اللطف والتوفيق للهداية والأولى محكي عن الجبائي والثاني عن الكعبي، وعن أبي مسلم أن المراد صيرناهم بتعجيل العذاب لهم أئمة أي متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار وهذا في غاية التعسف كما لا يخفى {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.

.تفسير الآية رقم (42):

{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}
{وأتبعناهم} {فِى هذه الدنيا} التي فتنتهم {لَّعْنَةُ} طردًا وإبعادًا أو لعنًا من اللاعنين حيث لا تزال الملائكة عليهم السلام تلعنهم وكذا المؤمنون خلفًا عن سلف وذلك إما بدخولهم في عموم من يلعنونهم من الظالمين وإما بالتنصيص عليهم نحو لعن الله تعالى فرعون وجنوده {وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين} من المطرودين المبعدين يقال: قبحه الله تعالى بالتخفيف أي نحاه وأبعده عن كل خير كما قال الليث، ولا يتكرر مع اللعنة المذكورة قيل: لأن معناها الطرد أيضًا لأن ذلك في الدنيا وهذا في الآخرة أو ذاك طرد عن رحمته التي في الدنيا وهذا طرد عن الجنة أو على هذا يراد باللعنة فيما تقدم ما تأخر مع أن المطرودين معناه أنهم من الزمرة المعروفين بذلك وهو أبلغ وأخص، وقال أبو عبيدة. والأخفش. من المقبوحين أي من المهلكين، وعن ابن عباس أي من المشوهين في الخلقة بسواد الوجود وزرقة العيون وهذا المعنى هو المتبادر إلا أن فيه أن فعل قبح عليه لازم فبناء اسم المفعول منه غير ظاهر، وقد يقال: إذا صح هذا التفسير عن ابن عباس التزم القول بأنه سمع أيضًا، وجوز أن يكون ذلك تفسيرًا بما هو لازم في الجملة، ويوم القيامة متعلق بالمقبوحين أو حذوف يفسره ذلك على ما علمت آنفًا في نظيره، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج، وعبد بن حميد عن قتادة ما هو ظاهر في أنه معطوف على هذه الدنيا وهو عطف على المحل والمروى عن ابن جريج أظهر في ذلك وكلاهما في الدر المنثور، والظاهر ما سمعته أولًا.
وهذه الآية أظهر دليل على عدم نجاة فرعون يوم القيامة وأنه ملعون مبعد عن رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة فإن ضمائر جمع الغائب فيها راجعة إلى فرعون وجنوده ويكاد ينتظم من التزم إرجاعها إلى الجنود في الجنود، وفي «الفتاوي الحديثية» للعلامة ابن حجر روى عدي، والطبراني عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنًا وخلق فرعون في بطن أمه كافر».

.تفسير الآية رقم (43):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} أي التوراة وهو على ما قال أبو حيان أول كتاب فصلت فيه الأحكام {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى} أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للأشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدًا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراك معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلاف نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعيين للتشريع الجديد بتقرير الأصول الباقية على ممر الدهور وترتيب الفروع المتبدل بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة للاعتبار، ومن غفر عن هذا قال: الأولى أن تفسر القرون الأولى بمن لم يؤمن وسى عليه السلام ويقابلها الثانية وهي من آمن به عليه السلام، وقيل: المراد بها ما يعم من لم يؤمن وسى من فرعون وجنوده والأمم المهلكة من قبل، وليس بذاك، وما مصدرية أي آتيناه ذلك بعد إهلاكنا القرون الأولى {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي أنوارًا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل حيث كانت عميًا عن الفهم والإدراك بالكلية فإن البصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر ويطلق على نفس العين ويجمع على أبصار والأول يجمع على بصائر، والمراد بالناس قيل أمّته عليه السلام، وقيل: ما يعمهم ومن بعدهم، وكون التوراة بصائر لمن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وسلم لتضمنها ما يشردهم إلى حقية بعثته عليه الصلاة والسلام، أو يزيدهم علمًا إلى علمهم. وتعقب بأنه يلزم على هذا الحض على مطالعة التوراة والعلم بما فيها، وقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد علمه إلى علمه فغضب صلى الله عليه وسلم حتى عرف في وجهه ثم قال: «لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا اتباعي» فرمى بها عمر رضي الله تعالى عنه من يده وندم على ذلك.
وأجيب بأن غضبه صلى الله عليه وسلم من ذلك لما أن التوراة التي بأيدي اليهود إذ ذاك كانت محرفة وفيها الزيادة والنقص وليست عين التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكان الناس حديثي عهد بكفر فلو فتح باب المراجعة إلى التوراة ومطالعتها في ذلك الزمان لأدى إلى فساد عظيم فالنهي عن قراءتها حيث الإسلام حديث والخروج عن الكفر جديد لا يدل على أنها ليست في نفسها بصائر مشتملة على ما يرشد إلى حقية بعثته صلى الله عليه وسلم ويزيد علمًا بصحة ما جاء به.
ومما يدل على حل الرجوع إليها في الجملة قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين} [آل عمران: 93] وقد كان المؤمنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام. وكعب الأحبار ينقلون منها ما ينقلون من الأخبار ولم ينكر ذلك ولا سماعه أحد من أساطيت الإسلام ولا فرق بين سماع ما ينقلونه منهم وبين قراءته فيها وأخذ منها وقد رجع إليها غير واحد من العلماء في إلزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض عباراتها في إثبات حقيقة بعثته صلى الله عليه وسلم، والذي أميل إليه كون المراد بالناس بني إسرائيل فإنه الذي يقتضيه المقام.

وأما مطالعة التوراة فالبحث فيها طويل، وفي تحفة المحتاج للمولى العلامة ابن حجر عليه الرحمن يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة علم تبدلها أوشك فيه وهو أقرب إلى التحقيق ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلًا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلًا وهو المعول عليه {وهدى} أي إلى الشرائع التي هي الطرق الموصلة إلى الله عز وجل: {وَرَحْمَةً} حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى: قتضى وعده سبحانه فعموم رحمته بهذا المعنى لا ينافي أن من الناس من هو كافر بها وهو غير مرحوم، وانتصاب المتعاطفات على الحالية من الكتاب على أنه نفس البصائر والهدى والرحمة أو على حذف المضاف أي ذا بصائر إلخ، وجوز أبو البقاء انتصابها على العلة أي آتيناه الكتاب لبصائر وهدى ورحمة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي كي يتذكروا بناء على أنل لعل للتعليل؛ فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال لعل في القرآن عنى كي غير آية في [الشعراء: 129] {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} وحكى الواقدي عن البغويّ أنه قال جميع ما في القرآن من لعل للتعليل إلا {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فإنها فيه للتشبيه، والمشهور أنها للترجي. ولما كان محالًا عليه عز وجل جعل بعضهم الكلام من باب التمثيل والمراد آتيناه ذلك ليكونوا على حالة قابلة للتذكر كحال من يرجى منه الخير، وبعض آخر صرف الترجي إلى المخاطبين فهو منهم لا منه تعالى، وجعل الزمخشري في ذلك استعارة تبعية حيث شبه الإرادة بالترجي لكون كل منهما طلب الوقوع، ورد بأن فيه لزوم تخلف مراد الله تعالى عن إرادته لعدم تذكر الكل إلا أن يكون من قبيل إسناد ما للبعض إلى الكل، وأنت تعلم أن ازرادة عند المعتزلة قسمان: تفويضية، وهي قد يتخلف المراد عنها، وقسرية وهي لا يتخلف المراد عنها أصلًا، فمتى أريد القسم الأول منها هنا زال الإشكال إلا أن التقسيم المذكور خلاف المذهب الحق.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)}
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم أيضًا واقع زمان مساس الحاجة إليه واقتضاء الحكمة له البتة متضمنًا تحقيق كونه وحيًا صادقًا من عند الله تعالى ببيان أن الوقوف على ما فصل من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها وحيث انتفى كلاهما تبين أنه بوحي من علام الغيوب لا محالة كذا قيل: ولا يخفى أن تعين كوه بوحي لا يتم إلا بنفي كونه بالاستفاضة وكونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله عليه وسلم كما قال المشركون: {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] ولعله إنما لم يتعرض لنفي ذلك وتعرض لنفي ما هوأظهر انتفاء منه للإشارة إلى ظهور انتفاء ذلك والمبالغة في دعوى ذلك حيث آذن بأن المحتاج إلى الإخبار بانتفائه ذانك الأمران دونه على أنه عز وجل قد نفى في موضع آخر كونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب ولعله يعلم منه انتفاء كونه بالاستفاضة وإن قلنا: إنه لا يعلم فدليله ظاهر جدًا، ولذا لم يتشبث بكون الوقوف بها أحد من المشركين فتدبر، والمعنى على ما ذهب إليه بعضهم وما كنت حاضرًا بجانب الجبل الغربي أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله تعالى فيه ألواح التوراة لموسى عليه السلام، والكلام على هذا من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وهو عند قوم من باب إضافة الموصوف إلى الصفة التي جوزها الكوفيون كما في «مسجد الجامع»، والأصل في الجانب الغربي فيتحد الجانب والغربي على هذا الوجه وهو بعض من الغربي على الوجه الأول.
{إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر} أي عهدنا إليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة.
{وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} أي من جملة الحاضرين للوحي إليه أو الشاهدين على الوحي إليه عليه السلام وهم السبعون المختارون للميقات حتى تشاهد ما جرى من أمر موسى في ميقاته فتخبر به الناس، فالشاهد من الشهادة إما عنى الحضور أو عناها المعروف واستشكل إرادة المعنى الأول بلزوم التكرار فإنه قد نفى الحضور أولًا في قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} وكذا إرادة المعنى الثاني بلزم نحو ذلك لما أن نفي الحضور يستدعي نفي كونه من الشاهدين بذلك المعنى، ومن هنا قيل: المراد من الأول نفي كونه صلى الله عليه وسلم حاضرًا بنفسه لغرض من الأغراض، ومن الثاني نفي كونه عليه الصلاة والسلام من جماعة جيء بهم ليحضروا فيطلعوا على ما يقع هناك لموسى عليه السلام لأن المراد بالشاهدين جماعة معهودون كان حالهم ذلك.
وقيل: المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام فقد جاء الشاهد اسمًا للملك كما في القاموس فكأنه قيل: ما كنت حاضرًا بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمر نبوته بالوحي وما كنت من الملائكة الذين ينزلون ويصعدون بأمر الله تعالى ووحيه إلى أنبيائه عليهم السلام ولهم من الإطلاع على الحوادث ما ليس لغيرهم من البشر حتى يكون لك علم بما وقع لموسى عليه السلام فتخبر به الناس.
وقال ابن عباس كما في «التفسير الكبير والبحر»: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت لما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى، وقيل: وهو مختار أبي حيان إن المعنى وما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به فهو نفي لشهادته عليه الصلاة والسلام جميع ما جرى لموسى عليه السلام فكان عمومًا بعد خصوص، وقيل: المراد وما كنت من الشاهدين ذلك الزمان فيكون نفيًا لحضوره ومشاهدته ذلك الزمان أعم من أن يكون بجانب الغربي أو بغيره، وحاصله نفي الوجود العيني إذ ذاك فكيون ترقيًا في النفي.
وقيل: المراد {وَمَا كُنْتَ} إذ ذاك منتظمًا في سلك من يتصف بالشهادة وهم الموجودون بالوجود العيني أينما كانوا ومآله كمآل ما قبله وإن اختلفا في طريق الإرادة وتعين كون الشهادة فيما قبله عنى الحضور.
ولعل ما قبله أظهر منه بل إذا ادعى مدع كونه أظهر من جميع ما قيل لم يبعد هذا ولا يخفى عليك حال تلك الأقوال وما فيها من اليل. والقال، وفي القلب من صحة نسبة ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إليه ما فيه فتدبر جميع ذاك، والله تعالى يتولى هداك.