فصل: تفسير الآية رقم (9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (9):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)}
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} أي في زمرة الراسخين في الصلاح الكاملين فيه، والصلاح ضد الفساد وهو جامع لكل خير، وله مراتب غير متناهية ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا، ولذا طلبها الأنبياء عليهم السلام كما قال سليمان عليه السلام {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] ويحامل أن يكن الكلام بتقدير مضاف أي في مدخل الصالحين وهي الجنة، والموصول مبتدأ ولندخلنهم الخبر على ما ذكره أبو البقاء، وجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير لندخلن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم.

.تفسير الآية رقم (10):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بما فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)}
{وَمِنَ الناس} أي بعضهم {مَن يِقُولُ ءامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِي الله} أي لأجله عز وجل على أن في للسببية، أو المراد في سبيل الله تعالى بأن عذبهم المشركون على الايمان به تعالى: {جَعَلَ فِتْنَةَ الناس} أي نزلوا ما يصيبهم من أذيتهم {كَعَذَابِ الله} أي منزلة عذابه تعالى في الآخرة فجزعوا من ذلك ولم يصبروا عليه وأطاعوا الناس وكفروا بالله تعالى كما يطيع الله تعالى من يخاف عذابه سبحانه فيؤمن به عز وجل.
{وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ} بأن حصل للمؤمنين فتح وغنيمة {لَّيَقُولَنَّ} بضم اللام الثانية وحذف ضمير الجمع للالتقاء الساكنين، وهذا الضمير عائد إلى من والجمع بالنظر إلى معناها، كماأن إبراد الضمائر العائدة إليها فيما سبق بالنظر إلى لفظها، وحكى أبو معاذ النحوي أنه قرئ {لَّيَقُولَنَّ} بفتح اللام على إفراد الضمير كما فيما سبق {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي مشايعين لكم في الدين فأشركونا فيما حصل من الغنيمة، وقيل: أي مقاتلين معكم ناصرين لكم فالمراد الصحبة في القتال. ورد بأنها غير واقعة، والآية في ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم وكانوا يكتمونه من المسلمين وبذلك يكونون منافقين، ولذا قال ابن زيد. والسدي: إن الآية في المنافقين فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله سبحانه: {أَوَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بما فِي صُدُورِ العالمين} وهو في الظاهر عطف على مقدر أي أيخفى حالهم وليس إلخ أو أليس المتفرسون الذين ينظرون بنور الله تعالى بأحوالهم عالمين وليس إلخ، و{أَعْلَمُ} إما على أصله أي أليس هو عز وجل أعلم من العالمين بما في صدور العالمين من الأخلاق والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء عن المسلمين وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة أو هو عنى عالم. وقال قتادة: نزلت فيمن هاجر فردهم المشركون إلى مكة، وقيل: نزلت في ناس مؤمنين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا وهم الذين قال الله تعالى فيهم {وَأَنَّ الذين توفاهم الملئكة ظالمى أَنفُسِهِمْ} [النساء: 97] الآية، وما تقدم هو الأوفق لما سبق من الآية وما لحق من قوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (11):

{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}
{وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين ءامَنُواْ} بالإخلاص {وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} سواء كان كفرهم بأذية أو لا، والمراد بالعلم المجازاة أي ليجزينهم بما لهم من الايمان والنفاق، وكأن تلوين الخطاب في الذين آمنوا والمنافقين لرعاية الفواصل، والظاهر أن الآية بناء على أن النفاق ظهر في المدينة مدنية، وهو يؤيد ما تقدم من عدها من المستثنيات، ولعل من يقول إنها مكية لظاهر إطلاق جمع القول كية السورة، وأن تعذيب الكفرة المسلمين إنما كان في الأغلب كة يمنع ذلك أو يذهب إلى أنها من الأخبار بالغيب فتدبر.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)}
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} بيان لحملهم المؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملهم إياهم عليه بالأذية والوعيد، ووصفهم بالكفر هاهنا دون ما سبق لما أن مساق الكلام لبيان جنايتهم وفيما سبق لبيان جناية من أضلوه، واللام للتبليغ أي قالوا مخاطبين لهم {اتبعوا سَبِيلَنَا} أي اسلكوا طريقتنا التي نسلكها في الدين، عبر عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر تنزيلًا للمسلك منزلة السالك فيه أو اتبعونا في طريقتنا {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} أي إذا كان ذلك الاتباع خطيئة يؤاخذ عليها يوم القيامة كما تقولون أو ولنحمل ما عليكم من الخطايا إن كان بعث ومؤاخذة، وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين له على الأمر بالاتباع للمبالغة في تعليق الحمل بالاتباع، فكأن أصل الكلام اتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم بجزم نحمل على أنه جواب الأمر، فيكون المعنى إن تتبعوا نحمل فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة المذكورة، ومنشؤها الإشارة إلى أن الحمل لتحققه كأنه أمر واجب أمروا به من آمر مطاع، والعليق على الشرط الذي تضمنه الأمر كما في قولهم: أكرمني أنفعك لا يفيد ذلك، والداعي لهم إلى المبالغة التشجيع على الاتباع، والحمل هنا مجاز، وفي البحر شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر والخطايا بالمحمول، وقال مجاهد: الحمل هنا من الحمالة لا من الحمل انتهى.
والآية على ما أخرج جماعة عن مجاهد نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لانبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا فإن كان عليكم شيء فعلينا. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن الحنفية قال كان أبو جعل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون يقولون: إنه يحرم الخمر ويخرم الزنا ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية، وقيل: قائل ذلك أبو سفيان بن حرب. وأمية بنت خلف قالا لعمر رضي الله تعالى عنه: إن كان في الإقامة على دين الآباء إثم فنحن نحمله عندك.
وقيل: قائله الوليد بن المغيرة، ونسبة ما صدر عن الواحد للجمع شائعة، وقد تقدم الكلام غير مرة في وجه ذلك، وقرأ الحسن. وعيسى. ونوح القارئ {وَلْنَحْمِلْ} بكسر لام الأمر، ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه: {وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَيْء} نفي مؤكد عن سبيل الاستمرار لكونهم حاملين شيئًا ما من خطاياهم التي التزموا حملها، فالباء زائدة لتأكيد النفي والاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية معتبر بعد النفي، ومن الأولى للبيان وهو مقدم من تأخير، ومن الثانية مزيدة لتأكيد الاستغراق، وهذه الجملة اعتراض أو حال.
وقرأ داود بن أبي هند فيما ذكر أبو الفضل الرازي {مِنْ خطيئاتهم} على التوحيد قال: ومعناه الجنس، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة، وذكر ابن خالويه. وأبو عمرو الداني أن داود هذا قرأ {مِنْ خطيئاتهم} جمع خطيئة جمع السلامة بالألف والتاء، وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ من {خطاياهم} بفتح الطاء وكسر الياء، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين فأشبهت الياء لأن قياس تسهيلها هو ذلك، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لكاذبون} استئنا فمقرر للنفي السابق، والكذب قيل راجع إلى تعليق الحمل بالاتباع فإنه اخبار لا إلى الأمر السابق لأنه إنشاء ولا يجري الكذب فيه، وتعقب بأن التعليق لا يلزمه أن يكون أخبار بل هو ضمان معلق أي إنشاء الضمان عند وجود الصفة، ولذا قال الزمخشري: إن ضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمى كاذبًا لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه، وجعل هذا سؤالا عن وجه التعبير بكاذبون، وأجاب عن ذلك بوجهين، ثانيهما على ما في الكشف هو الوجه، وحاصله أن الكذب ليس راجعًا إلى أنهم غير حاملين ليقال: إن الضامن لا يسمى كاذبًا بل أخبر الله تعالى أنهم عجز عما ضمنوه ومع ذلك هم كاذبون في وعد إنشاء الضمان عند وجود الوصف، والمحصل أن من وعد الضمان إن ضمن ولم يحقق لا يسمى كاذبًا وإن لم يضمن سمي كاذبًا، وأولهما أنه شبه الله تعالى حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده سبحانه لا على ما هو عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه.
وقال بعض المحققين: الكذب راجع إلى الخبر الذي في ضمن وعدهم بالحمل وهم أنهم قادرون على إنجاز ما وعدوا، والكذب كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه يتطرق إليه باعتبار ما يلزم مدلوله، وفي الانتصاف أن في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لكاذبون} نكتبة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر عنى الخبر فإن من الناس من أنكره والتزم تخريج جميع ما ورد في ذلك على أصل الأمر ولم يتم له ذلك في هذه الآية لأنه سبحانه أردف قولهم {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} على صيغة الأمر بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لكاذبون} والتكذيب إنما يتطرق إلى الأخبار انتهى، ويعلم منه وجه كونهم كاذبين في قولهم ذلك مع إخراجهم له مخرج الأمر إلا أن في كون الآية دليلًا على ما ذكره نظرًا كما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)}
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} بيان لما يستتبعه قولهم ذلك في الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبيهم أصلًا، والتعبير عن الخطايا بالأثقال للإيذان بغاية ثقلها وكونها فادحة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وبالله ليحملن أثقال أنفسهم كاملة {وَأَثْقَالًا} أخر {مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} وهي أثقال ما تسببوا بالإضلال والحمل على الكفر والمعاصي من غير أن ينقص من أثقال من أضلوه شيء ما. فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما داع دعا إلى هدي فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا» قال عون: وكان الحسن يقرأ عليها وليحملن أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم، وللإشارة إلى استقلال أثقال أنفسهم وأنها نهضتهم واستفرغت جهدهم وأن الأثقال الأخر كالعلاوة عليها اختير ما في النظم الجليل على أن يقال وليحملن أثقالًا مع أثقالهم.
{وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ القيامة} سؤال تقريع وتبكيت {عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي يختلقونه في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التي من جملتها كذبهم هذا.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} شروع في بيان إفتتان الأنبياء عليهم السلام بأذية أممهم إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدًا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا جرد الايمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فإن الأنبياء عليهم السلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلأن يصير هؤلاء لمؤمنون أولى وأحرى، والظاهر أن الواو للعطف وهو من عطف القصة على القصة، قال ابن عطية: والقسم فيها بعيد يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه فإن فيه حذف المجرور وإبقاء الجار، وهم قالوا: لابد من ذكر المجرور، والفاء للتعقيب فالمتبادر أنه عليه السلام لبث في قومه عقيب الإرسال المدة المذكورة وقد جاء مصرحًا به في بعض الآثار.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: بعث الله تعالى نوحًا عليه السلام وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله تعالى وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا، وعلى هذه الرواية يكون عمره عليه السلام ألف سنة وخمسين سنة، وقيل: إنه عليه السلام عمر أكثر من ذلك، أخرج ابن جرير عن عون بن أبي شداد قال: إن الله تعالى أرسل نوحًا عليه السلام إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلثمائة سنة فيكون عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعدما بعث ألفًا وسبعمائة سنة، وعن وهب أنه عليه السلام عاش ألفًا وأربعمائة سنة، وفي جامع الأصول كانت مدة نبوته تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الغرق خمسين سنة، وقيل: مائتي سنة وكانت مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون ما ذكر الله عز وجل مدة إقامته عليه السلام من لدن مولده إلى غرق قومه، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك جميع عمره عليه السلام، ولا يخفى أن المتبادر من الفاء التعقيبية ما تقدم، وجاء في بعض الآثار أنه عليه السلام أطول الأنبياء عليهم السلام عمرًا، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح عليهما السلام فقال: يا أطول النبيين عمرًا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتًا له بابان فقال وسط الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر، ولعل ما عليه النظم الكريم في بيان مدة لبثه عليه السلام للدلالة على كمال العدد وكونه متعينًا نصًا دون تجوز فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة لأنها أول ما تقرع السمع فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة وإظهار ركاكة رأي الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء، واختلاف المميزين لما في التكرير في مثل هذا الكلام من البشاعة، والنكتة في اختيار السنة أولًا أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه السلام فيه ما قاسي من قومه {فَأَخَذَهُمُ الطوفان} أي عقيب تمام المدة المذكورة، والطوفان قد يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام قال العجاج:
حتى إذا ما يومها تصبصبا ** وغم طوفان الظلام إلا ثأبا

وقد غلب على طوفان الماء وهو المراد هنا {وَهُمْ ظالمون} أي والحال هم مستمرون على الظلم لم يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه السلام من الآيات ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة المتمادية.