فصل: تفسير الآية رقم (15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (15):

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)}
{فأنجيناه} أي نوحًا عليه السلام {وأصحاب السفينة} أي من ركب فيها معه من أولاده وأتباعه، وكانوا ثمانين، وقيل: ثمانين وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم، وعن محمد ابن إسحق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وروى مرفوعًا كانوا ثمانين نوح وأهله وبنوه الثلاثة أي مع أهليهم {وجعلناها} أي السفينة {ءايَةً للعالمين} عبرة وعظة لهم لبقائها زمانًا طويلًا على الجودي يشاهدها المارة ولاشتهارها فيما بين الناس، ويجوز كون الضمير للحادثة والقصة المفهومة مما قبل وهي عبرة للعالمين لاشتهارها فيما بينهم.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)}
{وإبراهيم} نصب بإضمار اذكر معطوفًا على ما قبله عطف القصة على القصة فلا ضير في اختلافهما خبرًا وإنشاءًا وإذ في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} بدل اشتمال منه لأن الأحيان تشتمل على ما فيها، وقد جوز ذلك الزمخشري. وابن عطية، وتعقب ذلك أبو حيان بأن إذ لا تتصرف فلا تكون مفعولًا به والبدلية تقتضي ذلك. ثم ذكر أن إذ إن كانت ظرفًا لما مضى لا يصح أن تكون معمولة لا ذكر لأن المستقبل لا يقع في الماضي فلا يجوز ثم أمس، وإذا خلعت من الظرفية الماضوية وتصرف فيها جاز أن تكون مفعولًا بهع ومعمولًا لا ذكر، وجوز غير واحد أن يكون نصبًا بالعطف على {نوحًا} [العنكبوت: 14] فكأنه قيل: وأرسلنا إبراهيم فاذ حينئذ ظرف للإرسال، والمعنى على ما قيل أرسلناه حين تكامل عقله وقدر على النظر والاستدلال وترقي من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طرق الحق، وهذا على ما قاله بعض المحققين لما أن القول المذكور في حيز إذ إنما كان منه عليه السلام بعدما راهق قبل الإرسال، وأنت تعلم أن قوله تعالى: {وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} [العنكبوت: 18] إلخ إذا كان من قوله عليه السلام لقومه كالنص في أن القول المحكي عنه عليه السلام كان بعد الإرسال؛ وفي «الحواشي السعدية» أن ذلك إشارة إلى دفع ما عسى أن يقال: الدعوة تكون بعد الإرسال والمفهوم من الآية تقدمها عليه، وحاصله أنه ليس المراد من الدعوة ما هو نتيجة الإرسال بل ما هو نتيجة كمال العقل وتمام النظر، مع أن دلالة الآية على تقدمها غير مسلمة ففي الوقت سعة، ويجوز أن يكون القصد هو الدلالة على مبادرته عليه السلام للامتثال اه فتدبر.
وجوز أبو البقاء، وابن عطية أن يكون نصبًا بالعطف على مفعول {أنجيناه} [العنكبوت: 15] وهو كما ترى، والأوفق بما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا} [العنكبوت: 36] أن يكون النصب بالعطف على نوحًا. وقرأ أبو حنيفة، والنخعي. وأبو جعفر. وإبراهيم بالرفع على أن التقدير ومن المرسلين إبراهيم، وقيل: التقدير ومما ينبغي ذكره إبراهيم، وقيل: التقدير وممن أنجينا إبراهيم، وعلى الأول المعلو لدلالة ما قبل وما بعد عليه، ويتعلق بذلك المحذوف {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله} وحده {واتقوه} أن تشركوا به سبحانه شيئًا {ذلكم} أي ما ذكر من العبادة والتقوى {خَيْرٌ لَّكُمْ} من كل شيء فيه خيرية مما أنتم عليه على تقدير الخيرية فيه على زعمكم، ويجوز كون خير صفة لا اسم تفضيل {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر، أو أن كنتم تعلمون شيئًا من الأشياء بوجه من الوجوه فإن ذلك كاف في الحكم بخيرية ما ذكر من العبادة والتقوى.

.تفسير الآية رقم (17):

{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}
{إنَّمَا تَعْبُدُونَ منْ دُون الله أوثانا} بيان لبطلان دينهم وشريته في نفسه بعد بيان شريته بالنسبة إلى الدين الحق، أي ما تعبدون من دونه تعالى إلا أوثانًا هي في نفسها تماثيل مصنوعة لكم ليس فيها وصف غير ذلك {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} أي وتكذبون كذبًا حيث تسمونها آلهة وتدعون أنها شفعاؤكم عند الله سبحانه؛ أو تعملونها وتنحتونها للإفك والكذب، واللام لام العاقبة وإلا فهم لم يعملوها لأجل الكذب، وجوز أن يكون ذلك من باب التهكم. وقال بعض الأفاضل: الأظهر كون إفكًا مفعولًا به والمراد به نفس الأوثان وجعلها كذبًا مبالغة، أو الإفك عنى المأفوك وهو المصروف عما هو عليه، وإطلاقه على الأوثان لأنها مصنوعة وهم يجعلونها صانعًا. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. وعون العقيلي. وعبادة. وابن أبي ليلى. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {تخلقون} بفتح التاء والخاء واللام مشددة، قال ابن مجاهد: ورويت عن ابن الزبير وأصله تتخلقون فحذفت إحدى التاءين وهو من تخلق عنى تكذب وصيغة التكلف للمبالغة. وزعم بعضهم جواز أن يكون تفعل عنى فعل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أيضًا {تخلقون} من خلق بالتشديد للتكثير في الخلق عنى الكذب والافتراء. وقرأ ابن الزبير وفضل بن زرقان {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} بفتح الهمزة وكسر الفاء على أنه مصدر كالكذب واللعب أو وصف كالحذر وقع صفة لمصدر مقدر أي خلقًا أفكًا أي ذا أفك {إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} بيان لشرية ما يعبدونه من حيث أنه لا يكاد يجديهم نفعًا، و{رِزْقًا} يحتمل أن يكون مصدرًا مفعولًا به ليملكون، والمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئًا من الرزق، وأن يكون عنى المرزوق أي لا يستطيعون، إيتاء شيء من الرزق وجوز على المصدرية أن يكون مفعولًا مطلقًا ليملكون من معناه أو لمحذوف والأصل لا يملكون أن يرزقوكم رزقًا وهو كما ترى ونكر كما قال بعض الأجلة: للتحقير والتقليل مبالغة في النفي، وخص الرزق لمكانته من الخلق {فابتغوا عِندَ الله الرزق} أي كله على أن تعريف الرزق للاستغراق. قال الطيبي: هذا من المواضع التي ليست المعرفة المعادة عين الأول فيها، وجوز أن تكون عين الأول بناءً على أن كلًا منهما مستغرق {واعبدوه} عز وجل وحده {واشكروا لَهُ} على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين بشكره تعالى للعتيد ومستجلبين به للمزيد، فالجملتان ناظرتان لما قبلهما، وجوز أن يكون ناظرتين لقوله تعالى: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كأنه قيل: استعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر فإنه إليه ترجعون، وجوز بعض المحققين أن تكون هذه الجملة تذييلًا لجملة ما سبق مما حكى عن إبراهيم عليه السلام أو لأوله، والمعنى إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه ترجعون بالموت ثم بالبعث فافعلوا ما أمرتكم به وما بينهما اعتراض لتقرير الشرية كما سمعت. وقرئ {تُرْجَعُونَ} بفتح التاء من رجع رجوعًا.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}
{وَإِن تُكَذّبُواْ} عطف على مقدر تقديره فإن تصدقوني فقد فزتم بسعادة الدارين وإن تكذبوا أي تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ} وهذا تعليل للجواب في الحقيقة، والأصل فلا تضرونني بتكذيبكم فإنه قد كذب أمم قبلكم رسلهم وهم شيث. وإدريس. ونوح. وهود. وصالح عليهم السلام فلم يضرهم تكذيبهم شيئًا وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم إياي {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} أي التبليغ الذي لا يبقى معه شك وما عليه أن يصدقه قومه البتة وقد خرجت عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرني تكذيبكم بعد ذلك أصلًا.
وهذه الآية أعني {وَإِن تُكَذّبُواْ} إلخ على ما ذكرنا من جملة قصة إبراهيم عليه السلام وكذا ما بعد على ما قيل إلى قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [العنكبوت: 24] وجوز أن يكون ذلك اعتراضًا بذكر شأن النبي صلى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفي القصة من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنفيس عنه بأن أباه خليل الرحمن كان مبتلى بنحو ما ابتلى به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، قالوا: وفي {وَإِن تُكَذّبُواْ} اعتراضية، والخطاب منه تعالى أو من النبي صلى الله عليه وسلم على معنى وقل لقريش {ءانٍ تُكَذّبُواْ} إلخ.
وذهب بعض المحققين إلى أن قوله تعالى: {ءانٍ تُكَذّبُواْ} إلخ من كلام إبراهيم عليه السلام، وقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (19):

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)}
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبدئ الله الخلق} إلخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها، والواو للعطف على مقدر أي ألم ينظروا ولم يعلموا كيفية خلق الله تعالى الخلق ابتداءً من مادة ومن غير مادة أي قد علموا ذلك.
وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو بكر بخلاف عنه {أَلَمْ تَرَوْاْ} بتاء الخطاب، وهو على ما قال هذا البعض لتشديد الإنكار وتأكيده ولا يحتاج عليه إلى تقدير قول، ومن لم يجعل ذلك كلامًا مستأنفًا مسوقًا من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث قال: إن الخطاب على تقدير القول أي قال لهم رسلهم: {أَلَمْ تَرَوْاْ}.
ووجه ذلك بأنه جعل ضمير {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} على قراءة الغيبة لأمم في قوله تعالى: {أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ} [العنكبوت: 18] فيجعل في قراءة الخطاب له أيضًا ليتحد معنى القراءتين، وحينئذٍ يحتاج لتقدير القول ليحكى خطاب رسلهم معهم إذ لا مجال للخطاب بدونه.
وقيل: إن ذاك لأنه لا يجوز أن يكون الخطاب لمنكري الإعادة من أمة إبراهيم أو نبينا عليهما الصلاة والسلام وهم المخاطبون بقوله تعالى: {وَإِن تُكَذّبُواْ} [العنكبوت: 18] لأن الاستفهام للإنكار أي قد رأوا فلا يلائم قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ} [العنكبوت: 20] إلخ لأن المخاطبين فيها هم المخاطبون أولًا، يعني إن كانت الرؤية علمية فالأمر بالسير والنظر لا يناسب لمن حصل له العلم بكيفية الخلق، والقول بأن الأول دليل أنفسي، والثاني آفاقي مخالف للظاهر من وجوه اه فتدبر، ولعل الأظهر والأبعد عن القيل والقال في نظم الآيات ما نقلناه عن بعض المحققين.
وقرأ الزبيري. وعيسى. وأبو عمرو بخلاف عنه {كَيْفَ يَبْدَأُ} على أنه مضارع بدأ الثلاثي مع إبدال الهمزة ألفًا كما ذكره الهمداني، وقوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} عطف على {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} لا على يبدئ لأن الرؤية إن كانت بصرية فهي واقعة على الإبداء دون الإعادة فلو عطف عليه لم يصح وكذا إذا كانت علمية لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلومًا لهم كان تحصيلًا للحاصل.
وجوز العطف عليه بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشأه سبحانه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه على ما قيل من غير ريب، وعن مقاتل أن الخلق هنا الليل والنهار وليس بشيء {إِنَّ ذلك} أي ما ذكر من الإعادة، وجوز أن يكون المشار إليه ما ذكر من الأمرين {عَلَى الله يَسِيرٌ} إذ لا يحتاج فعله تعالى إلى شيء خارج عن ذاته عز وجل.

.تفسير الآية رقم (20):

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
{قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض} أمر لإبراهيم عليه السلام أن يقول لقومه ذلك عند بعض المحققين، وكذا جعله من جعل جميع ما تقدم من قصة إبراهيم عليه السلام، ومن جعل قوله تعالى: {وَإِن تُكَذّبُواْ} [العنكبوت: 18] إلى قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [العنكبوت: 24] اعتراضًا جعل هذا أمرًا لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لقريش.
وجوز أن يجعل نظم الآيات السابقة على ما نقل عن بعض المحققين ويجعل هذا أمرًا للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك لهم فإنهم مثل قوم إبراهيم عليه السلام والأمم الذين من قبلهم في التكذيب بالبعث والإنكار له، وما في حيز هذا القول متضمن ما يدل على صحته، وعدم اتحاده مع ما سبق لا يضر. وأيًا ما كان فإضافة الرحمة إلى ضمير المتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى لما أن ذلك حكاية كلامه عز وجل على وجهه ومثله في القرآن الكريم كثير، والسير كما قال الراغب: المضي في الأرض، وعليه يكون في الآية تجريد، والظاهر أن المراد به المضي بالجسم، وجوز أن يراد به إجالة الفكر. وحمل على ذلك فيما يروى في وصف الأنبياء عليهم السلام أبدانهم في الأرض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة، ومنهم من حمل ذلك على الجد في العبادة المتوصل بها إلى الثواب، والمعنى على ما قلنا أولًا امضوا في الأرض وسيحوا فيها.
{فانظروا كَيْفَ بَدَأَ} الله تعالى: {الخلق} أي كيف خلقهم ابتداءً على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى، فإن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها، وعلى هذا تتغاير الكيفية في الآية السابقة والكيفية في هذه الآية لما أن الأولى كما علمت باعتبار المادة وعدمها وهذه باعتبار تغاير الأحوال. ولعل التعبير في الآية الأولى بالمضارع أعني {يَبْدَأُ} دون الماضي كما هنا لاستحضار الصورة الماضية لما أن بدء الخلق من مادة وغيرها أغرب من بدء الخلق على أطوار مختلفة على معنى أن خلق الأشياء أغرب من جعل أطوارها مختلفة، وأنت إذا لاحظت أطوارها مختلفة إنما هو بعد سبق المادة ولو سبقًا ذاتيًا وهو ما قام به الاختلاف أعني ذوات الأشياء لا تشك في أن الأول أغرب من الثاني، ولذا ترى التمدح بأصل الخلق في القرآن العظيم أكثر من التمدح بالجعل المذكور. وقد وافق الصيغة في الإشعار بالغرابة بناء الفعل من باب الأفعال فإنه غير مستعمل ولذا قالوا: أنه مخل بالفصاحة لولا وقوعه مع {يُعِيدُ} [العنكبوت: 19]، ومما يقرب من هذا السر ما قيل في وجه حذف الياء من يسر في قوله تعالى: {واليل إِذَا يَسْرِ}
[الفجر: 4] من أن ذلك لأن الليل يسري فيه لا يسري أي ليدل مخالفة الظاهر في اللفظ على مخالفته في المعنى وهو معنى دقيق.
وقيل في وجه التعبير بما ذكر إفادة الاستمرار التجددي وهو بناءً على المعنى الثاني في الآية. وقال بعضهم في تغاير الدليلين: إن هذا عيني وذلك علمي أو هذا آفاقي والأول أنفسي. وقرأ الزهري {كَيْفَ بَدَأَ الخلق} بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفًا ثم حذفها في الوصل. قال أبو حيان: وهو تخفيف غير قياسي كما قال:
فارعي فزارة لا هناك المرتع

وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين {ثُمَّ الله ينشئ النشأة الاخرة} أي بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها والنشأة الإيجاد والخلق، والتعبير عن الإعادة التي هي محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شؤون الله تعالى حقيقة واسمًا من حيث أن كلًا منهما اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ولا فرق بينهما إلا بالأولية والأخروية كذا قيل.
والظاهر أنه مبني على أن الجسد يعدم الكلية ثم يعاد خلقًا جديدًا لا أنه تتفرق أجزاؤه ثم تجمع بعد تفرقها وإلى كل ذهب بعض، والأدلة متعارضة، والمسألة كما قال ابن الهمام عند المحققين ظنية. وفي كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام الغزالي. فإن قيل: فما تقولون أتعدم الجواهر والأعراض ثم تعادان جميعًا أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الأعراض؟ قلنا: كل ذلك ممكن ولكن ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات انتهى، وذهب ابن الهمام إلى أن الحق وقوع الكيفيتين إعادة ما انعدم بعينه وتأليف ما تفرق من الأجزاء، وقد يقال: إن بدء الإنسان ونحوه ليس اختراعًا محضًا وإخراجًا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة لما أنه مخلوق من التراب وسائر العناصر، والظاهر أن فناءه ليس عبارة عن صيرورته عدمًا محضًا بل هو عبارة عن انحلاله إلى ما تركب منه ورجوع كل عنصر إلى عنصره. نعم لا شك في فناء بعض الأعراض وانعدامها بالكلية، وقد يستثنى منه بعض الأجزاء فلا ينحل إلى ما منه التركيب بل يبقى على ما كان عليه وهو عجب الذنب لظاهر حديث الصحيحين «ليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظمًا واحدًا وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة» وتأويله بما أوله به ملا صدرًا في أسفاره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وحينئذٍ فالإعادة تكون بتركيب ما انحل من العناصر وضمه إلى هذا الجزء فلا تكون اختراعًا محضًا وإخراجًا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة، لكن لكل من البدء والإعادة شبه تام بالاختراع والإخراج المذكور، وبه يصح أن يقال لكل اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود فلا تغفل، والجملة معطوفة على جملة {سِيرُواْ فِي الأرض} داخلة معها في حيز القول، ولا يضر تخالفهما خبرًا وإنشاءًا فإنه جائز بعد القول وماله محل من الإعراب، ولا يصح عطفها على بدأ الخلق لأنها لا تصلح أن تكون موقعًا للنظ أما إن كان عنى الإبصار فظاهر وأما إن كان عنى التفكر فلأن التفكير في الدليل لا في النتيجة، وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره في بدأ لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة بالإشارة إلى علة الحكم فإنه الاسم الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال وتكرير الإسناد ورد ما تقدم على مقتضى الظاهر فلا يحتاج للتوجيه، وكون المراد منه ليس إثبات الإعادة لمن أنكرها فلذا لم ينسج على هذا المنوال غير مسلم، وقرأ أبو عمرو.
وابن كثير {النشاءة} بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة والقصر أشهر، ومحلها النصب على أنها مصدر مؤكد لينشئ بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أي ينشئ فينشأون النشأة الآخرة نحو {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17] {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} تعليل لما قبله بطريق التحقيق فإن من علم قدرته عز وجل على جميع الممكنات التي من جملتها الإعادة لا يتصور أن يتردد في قدرته سبحانه عليها ولا في وقوعها بعدما أخبر به، ثم اعلم أن أكثر المنكرين للبعث لا يقولون باستحالته كجمع النقيضين بل غاية ما عندهم استبعاده، والرد على هؤلاء بهذه الآيات ونحوها ظاهر لما فيها مما يزيل الاستبعاد من الإبداء الذي هو في الشاهد أشق من الإعادة، ومنهم من يقول باستحالته عقلًا فلا يصلح متعلقًا للقدرة، وهؤلاء هم القائلون باستحالة إعادة المعدوم، والرد عليهم بعد تسليم أن ما نحن فيه من إعادة المعدوم وليس من جمع المتفرق بإبطال ما استدلوا به على الاستحالة، وقد تكفلت الكتب الكلامية بذلك، وأما الرد عليهم بهذه الآيات ونحوها فلما فيها من الإشارة إلى تزييف أدلة الاستحالة فتدبر.