فصل: تفسير الآية رقم (52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (52):

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)}
{قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} أي عالمًا بما صدر عني من التبليغ والإنذار وا صدر عنكم من مقابلتي بالتكذيب والإنكار فيجازي سبحانه كلا بما يليق به {يَعْلَمُ مَا فِي السموات والأرض} أي من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم فهو تقرير لما قبله من كفايته تعالى شهيدًا، وجوز أن يكون المعنى كفى به عز وجل شاهدًا بصدقي أي مصدقًا لي فيما ادعيته بالمعجزات تصديق الشاهد لدعوى المدعى، وجملة {يَعْلَمْ} إما صفة {شَهِيدًا} أو حال أو استئناف لتعليل كفايته، وقيل عليه: إن هذا الوجه لا يلائمه قوله تعالى: {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} سواء تعلق بكفي أو بشهيدًا ولا قوله سبحانه: {يَعْلَمُ مَا فِي السموات} إلخ، وفيه تأمل.
وقد يؤيد ذلك بما روي أن كعب بن الأشرف. وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد بأنك رسول الله؟ فنزلت {قُلْ كفى} الآية إلا أن في القلب من صحة هذه الرواية شيئًا لما أن السياق والسباق مع كفرة قريش فلا تغفل.
وأيًا ما كان فلا منافاة بين هذه الآية، وقوله تعالى: {وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله} [البقرة: 32] بناء على أن المعنى لا تستشهدوا بالله تعالى ولا تقولوا الله تعالى يشهد أن ما ندعيه حق كما يقوله العاجز عن إقامة البينة إما لأن الشهيد هاهنا عنى العالم والكلام وعد ووعيد، وأما عنى المصدق بالمعجزات وليست الشهادة باحد المعنيين هناك. والباء في {بالله} زائدة والاسم الجليل فاعل {كفى}، وقال الزجاج: أن الباء دخلت لتضمن كفى معنى اكتف فالباء كما قال اللقاني معدية لا زائدة، قال ابن هشام في المغنى: وهو من الحسن كان ويصححه قولهم: اتقى الله تعالى امرؤ فعل خيرًا يثب عليه أي ليتق بدليل جزم يثب ويوجبه قولهم: كفى بهند بترك التاء فإن احتج بالفاصل فهو مجوز لا موجب بدليل {وما تسقط من ورقة} [الأنعام: 59] فإن عورض بأحسن بهند فالتاء لا تلحق صيغ الأمر وإن كان معناها الخبر اه.
وتعقب ذلك الشيخ يس الحمصي في حواشيه على التصريح فقال: أقول تفسير {كفى} على هذا القول باكتف غير صحيح إذ فاعل {كفى} حينئذ ضمير المخاطب، و{كفى} ماض وهو لا يرفع ضمير المخاطب المستتر اه وفيه بعد بحث لا يخفى على المتأمل.
وظن بعض الناس أن {كفى} على هذا القول اسم فعل أمر يخاطب به المفرد المذكر وغيره نحو حي في حي على الصلاة فالمعنى هنا اكتفوا بالله، وأنت تعلم أن هذا بعيد الإرادة من كلام الزجاج ويأباه كلام ابن هشام، وقال ابن السراج: الفاعل ضمير الاكتفاء، قال ابن هشام: وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر وهو قول الفارسي.
والرماني أجازوا مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح، وأجاز الكوفيون اعماله في الظرف وغيره، ومنع جمهور البصريين أعماله مطلقًا اه.
وتعقب ذلك ابن الصائغ فقال: لا نسلم توقف الصحة على ذلك لجواز أن تكون الباء للحال، وعليه يكون المعنى {كفى} هو أي الاكتفاء حال كونه ملتبسًا بالله تعالى، ولا يخفى أنه ما لم يبطل هذا القول لا يتم ما ادعاه ابن هشام من أن ترك التاء في كفى بهند يوجب كون كفى مضمنًا معنى اكتفى فتدبر {والذين ءامَنُواْ بالباطل} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي بغير الله عز وجل وهو شامل لنحو عيسى والملائكة عليهم السلام.
والباطل في الحقيقة عبادتهم وليس الباطل هنا مثله في قول حسان:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وقال مقاتل: أي بعبادة الشيطان، وقيل: أي بالصنم {وَكَفَرُواْ بالله} مع تعاضد موجبات الإيمان به عز وجل: {أولئك هُمُ الخاسرون} المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان فاستوجبوا العقاب يوم الحساب، وفي الكلام على ما قيل: استعارة مكنية شبه استبدال الكفر بالإيمان المستلزم للعقاب اشتراء مستلزم للخسران، وفي الخسران استعارة تخييلية هي قرينتها لأن الخسران متعارف في التجارات، وهذا الكلام ورد مورد الانصاف حيث لم يصرح بأنهم المؤمنون بالباطل الكافرون بالله عز وجل بل أبرزه في معرض العموم ليهجم به التأمل على المطلوب فهو كقوله تعالى: {إِنَّا أَو إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضلال مُّبِينٍ} [سبأ: 24] وكقول حسان:
فشركما لخيركما الفداء ** وهذا من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن

.تفسير الآية رقم (53):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)}
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} أي ويستعجلك كفار قريش {بالعذاب} على طريقة الاستهزاء والتعجيز والتكذيب به بقوله: {متى هذا الوعد} [يونس: 48] وقولهم: {أمطر علينا حجارة أو ائتنا بعذاب} [الأنفال: 32] ونحو ذلك {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} قد ضربه الله تعالى لعذابهم وسماه وأثبته في اللوح {لَّجَاءهُمُ العذاب} المعين لهم حسا استعجلوا به، وقال ابن جبير: المراد بالأجل يوم القيامة لما روي أنه تعالى وعد رسوله صلى الله عليه وسلم ان لا يعذب قومه بعذاب الاستئصال وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة، وقال ابن سلام: والمراد به أجل ما بين النفختين، وقيل: يوم بدر، وقيل: وقت فنائهم بآجالهم، وفيه بعد ظاهر لما أنهم ما كانوا يوعدون بفنائهم الطبيعي ولا كانوا يستعجلون به {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} جملة مستأنفة مبينة لما أشير إليه في الجملة السابقة من مجيء العذاب عند حلول الأجل، أي وبالله تعالى: {ليأتينهم} العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل {الله بَغْتَةً} أي فجأة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي بإتيانه، ولعل المراد بإتيانه كذلك أنه لا يكون بطريق التعجيل عند استعجالهم والإجابة إلى مسؤولهم فإن ذلك إتيان برأيهم وشعورهم لا أنه يأتيهم وهم قارون آمنون لا يحظرونه بالبال كدأب بعض العقوبات النازلة على بعض الأمم بياتًا وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون لما أن إتيان عذاب الآخرة وعذاب يوم بدر ليس من هذا القبيل قاله بعضهم، وقال آخرون: إتيانه كذلك من حيث أنه غير متوقع لهم وإتيان عذاب الآخرة ونحوه كذلك لإنكارهم البعض، وكذا عذاب القبر أو اعتقادهم شفاعة آلهتهم لهم في دفع العذاب عنهم، وكذا إتيان عذاب يوم بدر لأنهم لغرورهم كانوا لا يتوقعون غلبة المسلمين ولا تخطر لهم ببال على ما بين في السير.

.تفسير الآية رقم (54):

{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)}
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} استئناف مسوق لغاية تجهيلهم وركاكة رأيهم وهو ظاهر في أن ما استعجلوه عذاب الآخرة، وجملة {إِنَّ جَهَنَّمَ} إلخ في موضع الحال أي يستعجلونك بالعذاب والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوق محيط بهم كأنه قيل: يستعجلونك بالعذاب وأن العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم على إرادة المستقبل من اسم الفاعل، أو كالمحيط بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي الموجبة إياه بهم على أن في الكلام تشبيهًا بليغًا أو استعارة أو مجازًا مرسلًا أو تجوزًا في الإسناد، وقيل: إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة لكنها ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة، والمراد بالكافرين المستعجلون، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم أو جنس الكفرة وهم داخلون فيه دخولًا أوليًا.

.تفسير الآية رقم (55):

{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}
{يَوْمٍ يَغْشَاهُمُ العذاب} ظرف لمضمر قد طوى ذكره إيذانًا بغاية كثرته وفظاعته كأنه قيل: يوم يأتيهم ويجللهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال، وقيل: ظرف لمحيطة على معنى وإن جهنم ستحيط بالكافرين يوم يغشاهم العذاب {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي من جميع جهاتهم فما ذكر للتعميم كما في الغدو والآصال، قيل: وذكر الأرجل للدلالة على أنهم لا يقرون ولا يجلسون وذلك أشد العذاب {وَيَقُولُ} أي الله عز وجل، وقيل: الملك الموكل بهم.
وقرأ ابن كثير. وابن عامر. والبصريون {وَنَقُولُ} بنون العظمة وهو ظاهر في أن القائل هو الله تعالى.
وقرأ أبو البرهسم {وَتَقُولُ} بالتاء على أن القائل جهنم، ونسب القول إليها هنا كما نسب في قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] وقرأ ابن مسعود. وابن أبي عبلة {ويقال} مبنيًا للمفعول {وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات التي من جملتها الاستعجال بالعذاب.

.تفسير الآيات (56- 57):

{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)}
{تَعْمَلُونَ ياعبادى الذين ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فاعبدون} نزلت على ما روي عن مقاتل. والكلبي في المستضعفين من المؤمنين كة أمروا بالهجرة عنها وعلى هذا أكثر المفسرين، وعمم بعضهم الحكم في كل من لا يتمكن من إقامة أمور الدين كما ينبغي في أرض لممانعة من جهة الكفرة أو غيرهم فقال: تلزمه الهجرة إلى أرض يتمكن فيها من ذلك، وروي هذا عن ابن جبير. وعطاء. ومجاهد. ومالك بن أنس، وقال مطرف بن الشخير: إن الآية عدة منه تعالى بسعة الرزق في جميع الأرض، وعلى القولين فالمراد بالأرض الأرض المعروفة، وعن الجبائي أن الآية عدة منه عز وجل بإدخال الجنة لمن أخلص له سبحانه العبادة وفسر الأرض بأرض الجنة، والمعول عليه ما تقدم، والفاء في {فإياي} فاء التسبب عن قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ} كما تقول: إن زيدًا أخوك فأكرمه وكذلك لو قلت: إنه أخوك فإن أمكنك فأكرمه، و{إياي} معمول لفعل محذوف يفسره المذكور، ولا يجوز أن يكون معمولًا له لاشتغاله بضميره وذلك المحذوف جزاء لشرط حذف وعوض عنه هذا المعمول، والفاء في {أَنَاْ فاعبدون} هي الفاء الواقعة في الجزاء إلا أنه لما وجب حذفه جعل المفسر المؤكد له قائمًا مقامه لفظًا وأدخل الفاء عليه إذ لابد منها للدلالة على الجزاء، ولا تدخل على معمول المحذوف أعني إياي وإن فرض خلوه عن فاء لتمحضه عوضًا عن فعل الشرط فتعين الدخول على المفسر؛ وأيضًا ليطابق المذكور المحذوف من كل وجه، ولزم أن يقدر الفعل المحذوف العامل في {إياي} مؤخرًا لئلا يفوت التعويض عن فعل الشرط مع إفادة ذلك معنى الاختصاص والإخلاص، فالمعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها، وجعل الشرط إن لم تخلصوا لدلالة الجواب المذكور عليه، ولا منع من أن تكون الفاء الأولى واقعة في جواب شرط آخر ترشيحًا للسببية على معنى أن أرضي واسعة وإذا كان كذلك فإن لم تخلصوا لي إلخ، وقيل: الفاء الأولى جواب شرط مقدر وأما الثانية فتكرير ليوافق المفسر المفسر، فيقال حينئذٍ: المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها، وتكون جملة الشرط المقدرة أعني إن لم تخلصوا إلخ مستأنفة عرية عن الفاء، وما تقدم أبعد مغزى. وجعل بعض المحققين الفاء الثانية لعطف ما بعدها على المقدر العامل في {إياي} قصدًا لنحو الاستيعاب كما في خذ الأحسن فالأحسن. وتعقب بأنه حينئذٍ لا يصلح المذكور مفسرًا لعدم جوام تخلل العاطف بين مفسر ومفسر البتة، وأما ما ذكره الإمام السكاكي في قوله تعالى: {وَاحِدٌ فإياي فارهبون} من أن الفاء عاطفة والتقدير فإياي ارهبوا فارهبون فإنه أراد به أنها في الأصل كذلك لا في الحال على ما حققه صاحب الكشف، هذا وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وقد ذكرنا نبذة منه في أوائل تفسير سورة البقرة فراجعه مع ما هنا وتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} جملة مستأنفة جيء بها حثًا على إخلاص العبادة والهجرة لله تعالى حيث أفادت أن الدنيا ليست دار بقاء وأن وراءها دار الجزاء أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت ومفارقة البدن البتة فلابد أن تذوقوه ثم ترجعون إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالكم فمن كانت هذه عاقبته فلابد له من التزود والاستعداد، وفي قوله تعالى: {ذَائِقَةُ الموت} استعارة لتشبيه الموت بأمر كريه الطعم مرة، والعدول عن تذوق الموت للدلالة على التحقق، و{ثُمَّ} للتراخي الزماني أو الرتبي. وقرأ أبو حيوة {ذَائِقَةُ} بالتنوين {الموت} بالنصب، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه {تُرْجَعُونَ} مبنيًا للفاعل، وروى عاصم {يَرْجِعُونَ} بياء الغيبة.