فصل: الجزء الأول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


الجزء الأول

سورة الفاتحة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏1‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏بسْم اللهِ الرحمنِ الرحيم‏}‏

قال ابن عمر‏:‏ نزلت في كل سورة‏.‏ وقد اختلف العلماء‏:‏ هل هي آية كاملة، أم لا‏؟‏ وفيه ‏[‏عن‏]‏ أحمد روايتان‏.‏ واختلفوا‏:‏ هل هي من الفاتحة، أم لا‏؟‏ فيه عن أحمد روايتان أيضاً‏.‏ فأما من قال‏:‏ إِنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إِذا قال بوجوب الفاتحة، وأما من لم يرها من الفاتحة، فانه يقول‏:‏ قراءتها في الصلاة سنة‏.‏ ما عدا مالكاً فانه لا يستحب قراءتها في الصلاة‏.‏

واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به، فنقل جماعة عن أحمد‏:‏ أنه لا يسن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن مغفَّل، وابن الزبير، وابن عباس، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم‏:‏ الحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وابراهيم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وسفيان الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأبو عبيد في آخرين‏.‏

وذهب الشافعي إِلى أن الجهر مسنون، وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان، وعطاء، وطاووس، ومجاهد‏.‏

فأما تفسيرها‏:‏

فقوله‏:‏ ‏{‏بِسمِ الله‏}‏ اختصار، كأنه قال‏:‏ أبدأ باسم الله‏.‏ أو‏:‏ بدأت باسم الله‏.‏ وفي الاسم خمس لغات‏:‏ إِسم بكسر الألف، وأُسم بضم الألف إذا ابتدأت بها، وسم بكسر السين، وسم بضمها، وسما‏.‏ قال الشاعر‏:‏

والله أَسْماك سماً مباركا *** آثرك الله به إيثاركا

وأَنشدوا‏:‏

باسم الذي في كل سورةٍ سمه *** قال الفراء‏:‏ بعض قيس ‏[‏يقولون‏:‏‏]‏ سمه، يريدون‏:‏ اسمه، وبعض قضاعة يقولون‏:‏ سُمُه‏.‏ أَنشدني بعضهم‏:‏

وعامنا أَعجبنا مقدّمه *** يدعى أبا السمح وقرضاب سُمُه

والقرضاب‏:‏ القطاع، يقال‏:‏ سيف قرضاب‏.‏

واختلف العلماء في اسم الذي هو «الله»‏:‏

فقال قوم‏:‏ إِنه مشتق، وقال آخرون‏:‏ إنه علم ليس بمشتق‏.‏ وفيه عن الخليل روايتان‏.‏ إِحداهما‏:‏ أنه ليس بمشتق، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن‏.‏ والثانية‏:‏ رواها عنه سيبويه‏:‏ أنه مشتق‏.‏ وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من‏:‏ أله الرجل يأله‏:‏ إِذا فزع اليه من أمر نزل به‏.‏ فألهه، أي‏:‏ أجاره وأمَّنه، فسمي إِلهاً كما يسمّى الرجل إِماماً‏.‏ وقال غيره‏:‏ أصله ولاه‏.‏ فأبدلت الواو همزة فقيل‏:‏ إِله كما قالوا‏:‏ وسادة إِسادة، ووشاح وإِشاح‏.‏

واشتق من الوله، لأن قلوب العباد توله نحوه‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا مسكم الضر فاليه تجأرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وكان القياس أن يقال‏:‏ مألوه، كما قيل‏:‏ معبود، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علماً، كما قالوا للمكتوب‏:‏ كتاب، وللمحسوب‏:‏ حساب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أصله من‏:‏ أله الرجل يأله إِذا تحير، لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته‏.‏ وحكي عن بعض اللغويين‏:‏ أله الرجل يأله إِلاهة، بمعنى‏:‏ عبد يعبد عبادة‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏

‏{‏ويذرك وءالهتك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127‏]‏ أي‏:‏ عبادتك‏.‏ قال‏:‏ والتأله‏:‏ التعبد‏.‏ قال رؤبة‏:‏

لله در الغانيات المدَّه *** سبَّحن واسترجعن من تألهي

فمعنى الإِله‏:‏ المعبود‏.‏

فأما «الرَّحمن»‏:‏

فذهب الجمهور إِلى أنه مشتق من الرحمة، مبني على المبالغة، ومعناه‏:‏ ذو الرحمة التي لا نظير له فيها‏.‏ وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة، فانهم يقولون للتشديد الامتلاء‏:‏ ملآن، وللشديد الشبع‏:‏ شبعان‏.‏

قال الخطابي‏:‏ ف «الرحمن»‏:‏ ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر‏.‏

و «الرحيم»‏:‏ خاصٌ للمؤمنين‏.‏ قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيما‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏‏.‏ والرحِيم‏:‏ بمعنى الراحم‏.‏

روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن فقال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة، ولا في الانجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ‏"‏‏.‏ فمن أسمائها‏:‏ الفاتحة، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة‏.‏ ومن أسمائها‏:‏ أم القرآن، وأم الكتاب، لأنها أمت الكتاب بالتقدم‏.‏ ومن أسمائها‏:‏ السَّبع المثاني، وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في ‏(‏الحجر‏)‏ إن شاء الله‏.‏

واختلف العلماء في نزولها على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها مكية، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وأبي العالية، وقتادة، وأبي ميسرة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها مدنية، وهو مرويّ عن أبي هريرة، ومجاهد، وعبيد بن عمير، وعطاء الخراساني‏.‏ وعن ابن عباس كالقولين‏.‏

فصل

فأما تفسيرها

ف ‏{‏الْحَمْدُ‏}‏ رفع بالابتداء، و‏{‏لله‏}‏ الخبر‏.‏ والمعنى‏:‏ الحمد ثابت لله، ومستقرّ له، والجمهور على كسر لام «لله» وضمها ابن عبلة، قال الفراء‏:‏ هي لغة بعض بني ربيعة، وقرأ ابن السَّميفع‏:‏ «الحمد» بنصب الدال «لله» بكسر اللام‏.‏ وقرأ أبو نهيك‏.‏ بكسر الدال واللام جميعا‏.‏

واعلم أن الحمد‏:‏ ثناء على المحمود، ويشاركه الشكر، إلا أن بينهما فرقاً، وهو‏:‏ أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء، والشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة، وقيل‏:‏ لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، فتقديره‏:‏ قولوا‏:‏ الحمد لله‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ الحمد‏:‏ الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة، وأشباه ذلك‏.‏ والشكر‏:‏ الثناء عليه بمعروف أولا كه، وقد يوضع الحمد موضع الشكر‏.‏ فيقال‏:‏ حمدته على معروفه عندي، كما يقال‏:‏ شكرت له على شجاعته‏.‏

فأما «الرب» فهو المالك، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالاضافة، فيقال‏:‏ هذا رب الدار، ورب العبد‏.‏ وقيل هو مأخوذ من التربية‏.‏

قال شيخنا أبو منصور اللغوي‏:‏ يقال‏:‏ ربّ فلان صنيعته يربها رباً‏:‏ إذا أتمها وأصلحها، فهو ربّ ورابٌ‏.‏

قال الشاعر‏:‏

يربّ الذي يأتي من الخير إنه *** إذا سئل المعروف زاد وتمُّما

قال‏:‏ والرب يقال على ثلاثة أوجه‏.‏ أحدها‏:‏ المالك‏.‏ يقال رب الدار‏.‏ والثاني‏:‏ المصلح، يقال‏:‏ رب الشيء‏.‏ والثالث‏:‏ السيد المطاع‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فيسقى ربَّه خمراً‏}‏

‏[‏يوسف‏:‏ 41‏]‏‏.‏ والجمهور على خفض باء «ربِّ»‏.‏ وقرأ أبو العالية، وابن السَّميفع، وعيسى ابن عمر بنصبها‏.‏ وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خيثم، وأبو عمران الجوني برفعها‏.‏

فأما ‏{‏الْعَالَمِينَ‏}‏ فجمع عالم، وهو عند أهل العربية‏:‏ اسم للخلق من مبدئهم إلى منتهاهم، وقد سموا أهل الزمان الحاضر عالماً‏.‏

فقال الحطيئة‏:‏

تنحي فاجلسي مني بعيدا *** أراح الله منك العالمينا

فأما أهل النظر، فالعلم عندهم‏:‏ اسم يقع على الكون الكلي المحدث من فلكٍ، وسماء، وأرض، وما بين ذلك‏.‏

وفي اشتقاق العالم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه من العلم، وهو يقوي قول أهل اللغة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه من العلامة، وهو يقوي قول أهل النظر، فكأنه إنما سمي عندهم بذلك، لانه دالٌ على خالقه‏.‏

وللمفسرين في المراد ب «العالمين» ها هنا خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ الخلق كله، السموات والأرضون وما فيهنّ وما بينهن‏.‏ رواه الضحّاك عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ كل ذي روح دب على وجه الأرض‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم الجن والإنس‏.‏ روي ايضا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، ومقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم الجن والإنس والملائكة، نقل عن ابن عباس أيضا، واختاره ابن قتيبة‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم الملائكة، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمن الرَّحِيمِ‏}‏

قرأ أبو العالية، وابن السميفع، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما، وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خيثم، وأبو عمران الجوني بالرفع فيهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَالِك يَومِ الدينِ‏}‏

قرأ عاصم والكسائي، وخلف، ويعقوب‏:‏ «مالك» بألف‏.‏ وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة كذلك، إِلا أنهما نصبا الكاف‏.‏ وقرأ أبو هريرة، وعاصم الجحدري‏:‏ «ملْكِ» باسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف، وقرأ أبو عثمان النهدي، والشعبي «مَلِكَ» بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف‏.‏ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة، ومورَّق العجلي‏:‏ «مَلِكُ» مثل ذلك إلا أنهم رفعوا الكاف‏.‏ وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو رجاء العطاردي «مليك» بياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف‏.‏ وقرأ عمرو بن العاص كذلك، إلا أنه ضمَّ الكاف‏.‏ وقرأَ أبو حنيفة، وأبو حيوة «مَلكَ» على الفعل الماضي، «ويومَ» بالنصب‏.‏

وروى عبد الوارث عن أبي عمرو‏:‏ إِسكان اللام، والمشهور عن أبي عمرو وجمهور القراء «مَلِك» بفتح الميم مع كسر اللام، وهو أظهر في المدح، لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكاً‏.‏

وفي «الدين» هاهنا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الحساب‏.‏ قاله ابن مسعود‏.‏

والثاني‏:‏ الجزاء‏.‏ قاله ابن عباس، ولما أقر الله عز وجل في قوله ‏{‏رب العالمين‏}‏ أنه مالك الدنيا‏.‏ دل بقوله ‏{‏مالك يوم الدين‏}‏ على أنه مالك الأخرى‏.‏ وقيل‏:‏ إِنما خصَّ يوم الدين، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏(‏5‏)‏ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏

وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو مجلز «يُعْبَدُ» بضم الياء وفتح الباء‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ قل يا محمد‏:‏ إِياك يعبد، والعرب ترجع من الغيبة إِلى الخطاب، ومن الخطاب الى الغيبة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وسقاهم ربهم شراباً طهوراً‏.‏ إن هذا كان لكم جزاءً‏}‏ ‏[‏الدهر‏:‏ 21، 22‏]‏

وقال لبيد‏:‏

باتت تشكى إليَّ النفس مجهشة *** وقد حمتلك سبعاً بعد سبعينا

وفي المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى التوحيد‏.‏ روي عن علي، وابن عباس في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بمعنى الطاعة، كقوله‏:‏ ‏{‏لا تعبدوا الشيطان‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 60‏]‏

والثالث‏:‏ أنها بمعنى الدعاء، كقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِهدنا‏}‏ فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ثبتنا‏.‏ قاله عليّ، وأبيّ‏.‏ والثاني‏:‏ أرشدنا‏.‏ والثالث‏:‏ وفقنا‏.‏ والرابع‏:‏ ألهمنا‏.‏ رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس‏.‏

و ‏{‏الصراط‏}‏ الطريق

ويقال‏:‏ إِن أصله بالسين، لأنه من الاستراط وهو‏:‏ الابتلاع، فالسراط كأنه يسترط المارّين عليه، فمن قرأَ السين، كمجاهد، وابن محيصن، ويعقوب، فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصاد، كأبي عمرو، والجمهور، فلأنها أَخف على اللسان، ومن قرأ بالزاي، كرواية الأصمعي عن أبي عمرو، واحتج بقول العرب‏:‏ سقر وزقر‏.‏ وروي عن حمزة‏:‏ إِشمام السين زاياً، وروي عنه أنه تلفظ بالصراط بين الصاد والزاي‏.‏

قال الفراء‏:‏ اللغة الجيدة بالصاد، وهي لغة قريش الأولى، وعامة العرب يجعلونها سيناً، وبعض قيس يشمُّون الصاد، فيقول‏:‏ الصراط بين الصاد والسين، وكان حمزة يقرأ «الزراط» بالزاي، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين‏.‏ يقولون في أصدق أزدق‏.‏

وفي المراد بالصراط هاهنا أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كتاب الله، رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه دين الاسلام‏.‏ قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وأبوالعالية في آخرين‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الطريق الهادي إلى دين الله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏

والرابع‏:‏ أنه طريق الجنة، نقل عن ابن عباس أيضاً‏.‏ فان قيل‏:‏ ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون‏؟‏ ففيه ثلاثة أجوبة‏:‏

أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ إِهدنا لزوم الصراط، فحذف اللزوم‏.‏ قاله ابن الأنباري‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى ثبتنا على الهدى، تقول العرب للقائم‏:‏ قم حتى آتيك، أي‏:‏ اثبت على حالك‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى زدنا هدىً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ هم النبيُّون، والصديقون، والشهداء، والصالحون‏.‏ وقرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء، وكذلك «لديهم» و«إِليهم» وقرأهنَّ حمزة بضمها‏.‏ وكان ابن كثير يصل ‏[‏ضم‏]‏ الميم بواو‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ حكى اللغويون في «عليهم» عشر لغات، قرى بعامتها «عليهُمْ» بضم الهاء وإِسكان الميم و«عليهِمْ» بكسر الهاء وإِسكان الميم، و«عليهمي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة، و«عليهُمو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة، و«عليهمو» بضم الهاء والميم وإِدخال واو بعد الميم و«عليهُمُ» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء، وأوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهُمي» بضم الهاء وكسر الميم وإِدخال ياء، و«عليهُمِ» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياءٍ، و«عليهِمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إِلحاق واو، و«عليهِمِ» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم‏.‏

فأما «المغضوب عليهم» فهم اليهود؛ و«الضالون»‏:‏ النصارى‏.‏

رواه عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ والضلال‏:‏ الحيرة والعدول عن الحق‏.‏

فصل

ومن السنة في حق قارئ الفاتحة أن يعقبها ب «آمين»‏.‏ قال شيخنا أبو الحسن علي ابن عبيد الله‏:‏ وسواء كان خارج الصلاة أو فيها، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إذا قال الامام ‏{‏غَيْرِ المغْضُوبِ عَليْهم ولا الضَّالين‏}‏ فقال من خلفه‏:‏ آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه ‏"‏

وفي معنى آمين‏:‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معنى آمين‏:‏ كذلك يكون‏.‏ حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس، والحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بمعنى‏:‏ اللهم استجب‏.‏ قاله الحسن والزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اسم من أسماء الله تعالى‏.‏ قاله مجاهد، وهلال بن يساف، وجعفر ابن محمد‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ معناها‏:‏ يا أمين أجب دعاءنا، فسقطت يا، كما سقطت في قوله‏:‏ ‏{‏يوسف أعرض عن هذا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏ تأويله‏:‏ يا يوسف‏.‏ ومن طوَّل الألف فقال‏:‏ آمين، أدخل ألف النداء على ألف أمين، كما يقال، آزيد أَقبل‏.‏ ومعناه‏:‏ يا زيد‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وهذا القول خطأ عند جميع النحويين، لأنه إِذا أدخل «يا» على«آمين» كان منادىً مفرداً، فحكم آخره الرفع، فلما أجمعت العرب على فتح نونه، دل على أنه غير منادى، وإنما فتحت نون «آمين» لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما تقول العرب‏:‏ ليت، ولعل‏.‏ قال‏:‏ وفي «آمين» لغتان‏:‏ «أمين» بالقصر، «وآمين» بالمد، والنون فيهما مفتوحة‏.‏

أنشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي‏:‏

سقى الله حياً بين صارة والحمى *** ‏(‏حمى‏)‏ فيْدَ صوبَ المُدْجِنات المواطر

أمين وأَدى الله ركباً إليهمُ *** بخير ووقَّاهم حِمام المقادر

وأَنشدنا أبو العباس أيضاً‏:‏

تباعد مني فُطْحُل وابن أمه *** أَمين فزاد الله ما بيننا بعدا

وأنشدنا أبو العباس أيضاً‏:‏

يا رب لا تسلبنّي حبها أبداً *** ويرحم الله عبداً قال آمينا

وأَنشدني أَبي‏:‏

أمين ومن أعطاك مني هوداة *** رمى الله في أطرافه فاقفعلَّت

وأنشدني أبي‏:‏

فقلت له قد هجت لي بارح الهوى *** أصَاب حمام الموت أَهوننا وجدا

أمين وأضناه الهوى فوق ما به *** أمين ولاقى من تباريحه جهدا

فصل

نقل الأكثرون عن أحمد أن الفاتحة شرط في صحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته، وهو قول مالك، والشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة رحمه الله‏:‏ لا تتعين، وهي رواية عن أحمد، ويدل على الرواية الأولى ما روي في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ‏"‏

والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏

سورة البقرة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏‏}‏

وأما التفسير‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ألم‏}‏ اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطعة في أوائل السور على ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله‏.‏ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ لله عز وجل في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور، وإلى هذا المعنى ذهب الشعبي، وأبو صالح، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها حروف من أسماء، فاذا أُلفت ضرباً من التأليف كانت أسماء من أَسماء الله عز وجل‏.‏ قال علي بن أبي طالب‏:‏ هي أسماء مقطعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إِذا دعي به أجاب‏.‏

وسئل ابن عباس عن «آلر» و«حم» و«نون» فقال‏:‏ اسم الرحمن على الهجاء، وإِلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والربيع بن أنس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها حروف أقسم الله بها، قاله ابن عباس، وعكرمة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل‏:‏ تعلمت «أ ب ت ث» وهو يريد سائر الحروف، وكما يقول‏:‏ قرأت الحمد، يريد فاتحة الكتاب، فيسميها بأول حرف منها، وإِنما أقسم بحروف المعجم لشرفها ولأنها مباني كتبه المنزلة، وبها يذكر ويوحد‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ وجواب القسم محذوف، تقديره‏:‏ وحروف المعجم لقد بين الله لكم السبيل، وأنهجت لكم الدّلالات بالكتاب المنزل، وإِنما حذف لعلم المخاطبين به، ولأن في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ دليلاً على الجواب‏.‏

والرابع‏:‏ انه أشار بما ذكر من الحروف إِلى سائرها، والمعنى أنه لما كانت الحروف أُصولاً للكلام المؤلف، أخبر أن هذا القرآن إِنما هو مؤلف من هذه الحروف، قاله الفراء، وقطرب‏.‏

فان قيل‏:‏ فقد علموا أنه حروف، فما الفائدة في إِعلامهم بهذا‏؟‏

فالجواب أنه نبه بذلك على إِعجازه، فكأنه قال‏:‏ هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم، فما بالكم تعجزون عن معارضته‏؟‏‏!‏ فاذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمد عليه السلام‏.‏

والخامس‏:‏ أنها أسماء للسور‏.‏ روي عن زيد بن أسلم، وابنه، وأبي فاختة سعيد ابن علاقة مولى أم هانئ‏.‏

والسادس‏:‏ أنها من الرمز الذي تستعمله العرب في كلامها‏.‏ يقول الرجل للرجل‏:‏ هل تا‏؟‏ فيقول له‏:‏ بلى، يريد هل تأتي‏؟‏ فيكتفي بحرف من حروفه‏.‏ وأنشدوا‏:‏

قلنا لها قفي لنا فقالت قاف *** لا تحسبى أنا نسينا الإيجاف

أراد قالت‏:‏ أقف‏.‏ ومثله‏:‏

نادوهم ألا الجموا ألا تا *** قالوا جميعاً كلهم ألا فا

يريد‏:‏ ألا تركبون‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى فاركبوا‏.‏ ومثله‏:‏

بالخير خيرات وإن شراً فا *** ولا أريد الشر إِلا أن تا

معناه‏:‏ وإن شراً فشر ولا أريد الشر إِلا أن تشاء‏.‏ وإِلى هذا القول ذهب الأخفش، والزجاج، وابن الأنباري‏.‏

وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمداني‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في الصلوات كلها، وكان المشركون يصفّقون ويصفّرون، فنزلت هذه الحروف المقطعة، فسمعوها فبقوا متحيرين‏.‏ وقال غيره‏:‏ إِنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على سماعه، لأن النفوس تتطلع إِلى ما غاب عنها معناه، فاذا أقبلوا اليه خاطبهم بما يفهمون، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ، إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم، أو يكون معلوماً عند المخاطبين، فهذا الكلام يعم جميع الحروف‏.‏

وقد خص المفسرون قوله «الاما» بخمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه الا الله عز وجل، وقد سبق بيانه‏.‏

والثاني‏:‏ أَن معناه‏:‏ أَنا الله أعلم‏.‏ رواه أَبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وسعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ أنه قسم‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس، وخالد الحذاء عن عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ أنها حروف من أسماء‏.‏ ثم فيها قولان‏.‏ أَحدهما‏:‏ أَن الألف من «الله» واللام من «جبريل» والميم من «محمد» قاله ابن عباس‏.‏

فان قيل‏:‏ إِذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاءً به، فلم أُخذت اللام من جبريل وهي آخر الاسم‏؟‏‏!‏

فالجواب‏:‏ أن مبتدأَ القرآن من الله تعالى، فدلَّ على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه، وجبريل انختم به التنزيل والإِقراء، فتنوول من اسمه نهاية حروفه، و«محمد» مبتدأ في الإقراء، فتنوول أول حرف فيه‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أَن الألف من «الله» تعالى، واللام من «لطيف» والميم من «مجيد» قاله أبو العالية‏.‏

والخامس‏:‏ أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، والشعبي، وقتادة، وابن جريج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ «ذلك» فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى هذا، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والكسائي، وأبي عبيدة، والأخفش‏.‏ واحتج بعضهم بقول خفاف بن ندبة‏:‏

أَقول له والرمح يأطر متنه *** تأمل خفافا إِنني أنا ذلكا

أي‏:‏ أنا هذا‏.‏ وقال ابن الأنباري‏.‏ إنما أراد‏:‏ أنا ذلك الذي تعرفه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إشارة الى غائب‏.‏

ثم فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قوله‏:‏ ‏{‏سنلقي عليك قولاً ثقيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتب السالفة، لأنهم وعدوا بنبي وكتاب‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏‏.‏ القرآن‏.‏ وسمي كتاباً، لأنه جمع بعضه إلى بعض، ومنه الكتيبة، سميت بذلك لاجتماع بعضها إلى بعض‏.‏ ومنه‏:‏ كتبت البغلة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ الرَّيب‏:‏ الشك‏.‏ والهدى‏:‏ الإِرشاد‏.‏ والمتقون‏:‏ المحترزون مما اتقوه‏.‏

وفرَّق شيخنا علي بن عبيد الله بين التقوى والورع، فقال‏:‏ التقوى‏:‏ أخذ عدة، والورع‏:‏ دفع شبهة، فالتقوى‏:‏ متحقق السبب، والورع‏:‏ مظنون المسبَّب‏.‏

واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن ظاهرها النفي، ومعناها النهي، وتقديرها‏:‏ لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 38‏]‏ أي‏:‏ ما ينبغي لنا‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏فلا رفت ولا فسوق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ وهذا مذهب الخليل، وابن الأنباري‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناها‏:‏ لا ريب فيه أنه هدىً للمتقين‏.‏ قاله المبرّد‏.‏

والثالث‏:‏ أن معناها‏:‏ لا ريب فيه أنه من عند الله، قاله مقاتل في آخرين‏.‏

فان قيل‏:‏ فقد ارتاب به قوم‏.‏

فالجواب‏:‏ انه حق في نفسه، فمن حقق النظر فيه علم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ليس في الحق يا أمامة ريب *** إنما الريب ما يقول الكذوب

فان قيل‏:‏ فالمتقي مهتد، فما فائدة اختصاص الهداية به‏؟‏

فالجواب من وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه أراد المتقين، والكافرين، فاكتفى بذكر أحد الفريقين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ أراد‏:‏ والبرد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خصَّ المتقين لانتفاعهم به، كقوله‏:‏ ‏{‏إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وكان منذراً لمن يخشى ولمن لا يخشى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ الايمان في اللغة‏:‏ التصديق، والشرع أقره على ذلك، وزاد فيه القول والعمل‏.‏ وأصل الغيب‏:‏ المكان المطمئن الذي يستتر فيه لنزوله عما حوله فسمي كل مستتر‏:‏ غيباً‏.‏

وفي المراد بالغيب هاهنا ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الوحي، قاله ابن عباس، وابن جريج‏.‏

والثاني‏:‏ القرآن، قاله أبو رزين العقيلي، وزر بن حبيش‏.‏

والثالث‏:‏ الله عز وجل، قاله عطاء، وسعيد ابن جبير‏.‏

والرابع‏:‏ ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، ونحو ذلك مما ذكر في القرآن‏.‏ رواه السدي عن أشياخه، وإليه ذهب أبو العالية، وقتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أنه قدر الله عز وجل، قاله الزهري‏.‏

والسادس‏:‏ أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره‏.‏ قال عمرو بن مرَّة‏:‏ قال أصحاب عبد الله له‏:‏ طوبى لك، جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجالسته‏.‏ فقال‏:‏ إن شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبيِّنا لمن رآه، ولكن أعجب من ذلك‏:‏ قوم يجدون كتاباً مكتوباً يؤمنون به ولم يروه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ الصلاة في اللغة‏:‏ الدعاء‏.‏ وفي الشريعة‏:‏ أفعال وأقوال على صفات مخصوصة‏.‏ وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها سميت بذلك لرفع الصَّلا، وهو مغرز الذنب من الفرس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها من صليت العود إذا لينته، فالمصلي يلين ويخشع‏.‏

والثالث‏:‏ أنها مبنية على السؤال والدعاء، والصلاة في اللغة‏:‏ الدعاء، وهي في هذا المكان اسم جنس‏.‏

قال مقاتل‏:‏ أراد بها هاهنا‏:‏ الصلوات الخمس‏.‏

وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به، روي عن ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ إِدامتها، والعرب تقول في الشيء الراتب‏:‏ قائم، وفلان يقيم أرزاق الجند، قاله ابن كيسان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم‏}‏ أي‏:‏ أعطيناهم ‏{‏ينفقون‏}‏ أي يخرجون‏.‏ وأصل الإِنفاق الإِخراج‏.‏ يقال‏:‏ نفقت الدابة‏:‏ إذا خرجت روحها‏.‏

وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها النفقة على الأهل والعيال، قاله ابن مسعود، وحذيفة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، ذكره بعض المفسرين، وقالوا‏:‏ إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته، ويفرق باقيه على الفقراء‏.‏ فعلى قول هؤلاء، الآية منسوخة بآية الزكاة، وغير هذا القول أثبت‏.‏ واعلم أن الحكمة في الجمع بين الإِيمان بالغيب وهو عقد القلب، وبين الصلاة وهي فعل البدن، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال-أنه ليس في التكليف قسم رابع، إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما، كالحج والصوم ونحوهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أُنزل إِليك‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أَحدهما‏:‏ أَنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، رواه الضحاك عن ابن عباس، واختاره مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أَنها نزلت في العرب الذي آمنوا بالنبي وبما أُنزل من قبله‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس، قال المفسرون‏:‏ الذي أنزل إليه، القرآن‏.‏ وقال شيخنا علي بين عبيد الله‏:‏ القرآن وغيره مما أُوحي إِليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أُنزل من قبلك‏}‏ يعني الكتب المتقدمة والوحي فأما «الآخرة» فهي اسم لما بعد الدنيا، وسميت آخرة، لأن الدنيا قد تقدمتها‏:‏ وقيل‏.‏ سميت آخرة لأنها نهاية الأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوقنون‏}‏ اليقين‏:‏ ما حصلت به الثقة وثلج به الصدر، وهو أبلغ علم مكتسب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى‏}‏ أي‏:‏ على رشاد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ على نور واستقامة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المفلحون‏:‏ الفائزون ببقاء الأبد‏.‏ وأصل الفلاح‏:‏ البقاء‏.‏ ويشهد لهذا قول لبيد‏:‏

نحل بلاداً كلُّها حُلَّ قبلنا *** ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير

يريد‏:‏ البقاء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المفلح‏:‏ الفائز بما فيه غاية صلاح حاله‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ومنه‏:‏ حيَّ على الفلاح، معناه‏:‏ هلموا إِلى سبيل الفوز ودخول الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين كفروا‏}‏ في نزولها أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في قادة الأحزاب، قاله أبو العالية‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت في طائفة من اليهود، ومنهم حيي بن أخطب، قاله ابن السائب‏.‏

والرابع‏:‏ أنها نزلت في مشركي العرب، كأبي جهل وأبي طالب، وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم‏.‏

قال مقاتل‏:‏ فأما تفسيرها، فالكفر في اللغة‏:‏ التغطية‏.‏ تقول‏:‏ كفرت الشيء إذا غطيته، فسمي الكافر كافراً، لأنه يغطي الحق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سواء عليهم‏}‏ أي‏:‏ متعادل عندهم الانذار وتركه، والانذار‏:‏ إِعلام مع تخويف، وتناذر بنو فلان هذا الأمر‏:‏ إذا خوفه بعضُهم بعضاً‏.‏

قال شيخنا علي بن عبيد الله‏:‏ هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ الختم‏:‏ الطبع، والقلب‏:‏ قطعة من دم جامدة سوداء، وهو مستكن في الفؤاد، وهو بيت النفس، ومسكن العقل، وسمي قلبا لتقلبه‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه خالص البدن، وإنما خصَّه بالختم لأنه محل الفهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى سمعهم‏}‏ يريد‏:‏ على أسماعهم، فذكره بلفظ التوحيد، ومعناه‏:‏ الجمع، فاكتفى بالواحد عن الجميع، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يخرجكم طفلا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وأنشدوا من ذلك‏:‏

كلوا في نصف بطنكم تعيشوا *** فانَّ زمانكم زمن خميص

أي‏:‏ في أنصاف بطونكم‏.‏ ذكر هذا القول أبو عبيدة، والزجاج‏.‏ وفيه وجه آخر، وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر، والمصدر يوحد، تقول‏:‏ يعجبني حديثكم، ويعجبني ضربكم، فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى‏.‏ ذكره الزجاج، وابن القاسم‏.‏ وقد قرأ عمرو بن العاص، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏وعلى أسماعهم‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ الغشاوة‏:‏ الغطاء‏.‏

قال الفراء‏:‏ أما قريش وعامة العرب، فيكسرون الغين من«غشاوة» وعكل يضمون الغين، وبعض العرب يفتحها، وأظنها لربيعة‏.‏ وروى المفضل عن عاصم «غشاوةً» بالنصب على تقدير‏:‏ جعل على أبصارهم غشاوة‏.‏ فأما العذاب، فهو الألم المستمر، وماء عذب‏:‏ إذا استمر في الحلق سائغاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما أنها في المنافقين، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في منافقي أهل الكتاب‏.‏ رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال ابن سيرين‏:‏ كانوا يتخوفون من هذه الآية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هذه الآية نعت المنافق، يعرف بلسانه، وينكر بقلبه، ويصدق بلسانه ويخالف بعمله، ويصبح على حالٍ ويمسي على غيرها، ويتكفأ تكفأ السفينة، كلما هبت ريح هب معها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخادعون الله‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ كان عبد الله بن أُبيّ، ومعتب بن قشير، والجد بن القيس؛ إذا لقوا الذين آمنوا قالوا‏:‏ آمنا، ونشهد أن صاحبكم صادق، فاذا خلوا لم يكونوا كذلك، فنزلت هذه الآية‏.‏

فأما التفسير، فالخديعة‏:‏ الحيلة والمكر، وسميت خديعة، لأنها تكون في خفاء‏.‏ والمخدع‏:‏ بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة، ورجل خادع‏:‏ إذا فعل الخديعة، سواء حصل مقصوده أو لم يحصل، فاذا حصل مقصوده، قيل‏:‏ قد خدع‏.‏ وانخدع الرجل‏:‏ استجاب للخادع، سواء تعمد الاستجابة أو لم يقصدها، والعرب تسمي الدهر خداعاً، لتلونه بما يخفيه من خير وشر‏.‏

وفي معنى خداعهم الله خمسة أقوال‏.‏

أحدها انهم كانوا يخادعون المؤمنين، فكأنهم خادعوا الله‏.‏ روي عن ابن عباس؛ واختاره ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ انهم كانوا يخادعون نبي الله، فأقام الله نبيه مقامه، كما قال‏:‏ ‏{‏إِن الذين يبايعونك إِنما يبايعون الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏‏.‏ قاله الزجاج‏.‏

والثالث أن الخادع عند العرب‏:‏ الفاسد‏.‏ وأنشدوا‏:‏

أبيض اللون لذيذ طعمه *** طيب الريق إِذا الريق خدع

أي‏:‏ فسد‏.‏ رواه محمد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الاعرابي‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ فتأويل‏:‏ يخادعون الله‏:‏ يفسدون ما يظهرون من الايمان بما يضمرون من الكفر‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم كانوا يفعلون في دين الله مالو فعلوه بينهم كان خداعا‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم كانوا يخفون كفرهم، ويظهرون الإيمان به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يخدعون إلا أنفسهم‏}‏ قرأَ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏وما يخادعون‏}‏ وقرأَ الكوفيون، وابن عامر‏:‏ ‏{‏يخدعون‏}‏، والمعنى‏:‏ أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم‏.‏

ومتى يعود وبال خداعهم عليهم‏؟‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ في دار الدنيا، وذلك بطريقين‏.‏ أحدهما‏:‏ بالاستدراج والإِمهال الذي يزيدهم عذاباً‏.‏

والثاني‏:‏ باطلاع النبي والمؤمنين على أحوالهم التي أسروها‏.‏

والقول الثاني‏:‏ ان عود الخداع عليهم في الآخرة، وفي ذلك قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يعود عليهم عند اطلاع أهل الجنة عليهم، فاذا رأَوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏أَفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏‏.‏ فيجيبونهم‏.‏ ‏{‏إِن الله حرَّمهما على الكافرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 51‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يشعرون‏}‏ أَي‏:‏ وما يعلمون‏.‏ وفي الذي لم يشعروا به قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أَنه إِطلاع الله نبيه على كذبهم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أَنه إِسرارهم بأنفسهم بكفرهم، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرضٌ‏}‏ المرض هاهنا‏:‏ الشك، قاله عكرمة، وقتادة‏.‏ ‏{‏فزادهم الله مرضاً‏}‏ هذا الإخبار من الله تعالى أنه فعل بهم ذلك، و«الأليم» بمعنى المؤلم، والجمهور يقرؤون ‏{‏يكذبون‏}‏ بالتشديد، وقرأ الكوفيون سوى أبان، عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها، قاله سلمان الفارسي‏.‏ وكان الكسائي يقرأ بضم القاف من «قيل» والحاء من «حيل» والغين من «غيض»، والجيم من «جيء»، والسين من «سيء» و«سيئت»‏.‏ وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة«حيل» و«سبق» و«سيء» و«سئيت»‏.‏ وكان نافع يضم «سيء» و«سيئت»، ويكسر البواقي، والآخرون يكسرون جميع ذلك‏.‏

وقال الفراء‏:‏ أهل الحجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في «قيل» و«جيء» و«غيض»، وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد، يشمون إلى الضم من «قيل» و«جيء»‏.‏

وفي المراد بالفساد هاهنا خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه الكفر، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ العمل بالمعاصي، قاله أبو العالية، ومقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الكفر والمعاصي، قاله السّدي عن أشياخه‏.‏

والرابع‏:‏ أنه ترك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار، وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنما نحن مصلحون‏}‏ فيه خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه إنكار ماعرفوا به، وتقديره‏:‏ ما فعلنا شيئاً يوجب الفساد‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين، والقولان عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم أرادوا مصافاة الكفار صلاح، لا فساد، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح، وتصديق محمد هو الفساد، قاله السّدي‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين، لأنهم اعتقدوا أن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أمنوه بمبايعته وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم، ذكره شيخنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إِنهم هم المفسدون‏}‏ قال الزجاج‏.‏ ألا‏:‏ كلمة يبتدأُ بها‏:‏ ينبه بها المخاطب، تدل على صحة ما بعدها‏.‏ و«هم»‏:‏ تأكيد للكلام‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن لا يشعرون‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم‏.‏

والثاني‏:‏ لا يشعرون أن ما فعلوه فساد، لا صلاح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم آمنوا‏}‏ في المقول لهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ المنافقون، قاله مجاهد، وابن زيد‏.‏ وفي القائلين لهم قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، ولم يعيّن أحداً من الصحابة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم معينون، وهم سعد بن معاذ، وأبو لبابة، وأسيد، ذكره مقاتل‏.‏

وفي الإِيمان الذي دعوا إليه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه التصديق بالنبي، وهو قول من قال‏:‏ هم اليهود‏.‏ والثاني‏:‏ أنه العمل بمقتضى ما أظهروه، وهو قول من قال‏:‏ هم المنافقون‏.‏

وفي المراد بالناس هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس‏.‏

والثاني‏:‏ عبد الله بن سلام، ومن أسلم معه من اليهود، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وجماعة من وجوه الأنصار، عدهم الكلبي‏.‏ وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس‏.‏ والثاني‏:‏ النساء والصبيان، قاله الحسن‏.‏ والثالث‏:‏ ابن سلام وأصحابه، قاله مقاتل‏.‏ وفيما عنوه بالغيب من إِيمان الذين زعموا أنهم السفهاء ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم أرادوا دين الإِسلام، قاله ابن عباس، والسُّدي‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم أرادوا البعث والجزاء، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة‏.‏ من غير نظر في عاقبة، وهذا الوجه والذي قبله يخرج على أنهم المنافقون، والأول يخرج على أنهم اليهود‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والسفهاء‏:‏ الجهلة، يقال‏:‏ سفه فلان رأيه إذا جهله، ومنه قيل للبذاء‏:‏ سفه، لأنه جهل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وأصل السَّفه في اللغة‏:‏ خفة الحلم، ويقال‏:‏ ثوب سفيه‏:‏ إِذا كان رقيقاً بالياً، وتسفهت الريح الشجر‏:‏ إذا مالت به‏.‏ قال الشاعر‏:‏

مشين كما اهتزت رماح تسفَّهت *** أعاليَها مرُّ الرياح النواسم

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنْ لا يعلَمون‏}‏‏.‏

قال مقاتل‏:‏ لا يعلمون أنهم هم السفهاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضدّه، قاله الحسن‏.‏

فأما التفسير‏:‏ ف «إلى» بمعنى «مع» كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أنصاري إِلى الله‏}‏ أي‏:‏ مع الله‏.‏ والشياطين‏:‏ جمع شيطان، قال الخليل‏:‏ كل متمرّد عند العرب شيطان‏.‏ وفي هذا الاسم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه من شطن، أي‏:‏ بعد عن الخير، فعلى هذا تكون النون أصليَّة‏.‏

قال أميَّة بن أبي الصَّلت في صفة سليمان عليه السلام‏:‏

أيما شاطنٍ عصاه عكاه *** ثم يُلقى في السّجن والأغلال

عكاه‏:‏ أوثقه‏.‏ وقال النابغة‏:‏

نأت بسعاد عنك نوىً شطون *** فبانت والفؤاد بها رهين

والثاني‏:‏ أنه من شاط يشيط‏:‏ إِذا التهب واحترق، فتكون النون زائدة‏.‏ وأنشدوا‏:‏

وقد يشيط على أرماحنا البطل‏.‏

أي‏:‏ يهلك‏.‏

وفي المراد، بشياطينهم ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم رؤوسهم في الكفر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، والسّدي‏.‏ والثاني‏:‏ إِخوانهم من المشركين، قاله أبو العالية، ومجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ كهنتهم، قاله الضَّحاك، والكلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا معَكمْ‏}‏

فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنَّهم أرادوا‏:‏ إنا معكم على دينكم‏.‏ والثاني‏:‏ إِنا معكم على النصرة والمعاضدة‏.‏ والهزء‏:‏ السخرية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏

اختلف العلماء في المراد، باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون‏.‏ روي عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النَّار لهم كما تجمد الإِهالة في القدر، فيمشون فتنخسف بهم‏.‏ روي عن الحسن البصري‏.‏

والثالث‏:‏ أن الاستهزاء بهم‏:‏ إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏ قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أن المراد به‏:‏ يجازيهم على استهزائهم، فقوبل اللفظ بمثله لفظاً وإن خالفه معنى، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ وقال عمرو بن كلثوم‏:‏

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا *** فنجهلَ فوق جهل الجاهلينَا

أراد‏:‏ فنعاقبه بأغلط من عقوبته‏.‏

والخامس‏:‏ أن الاستهزاء من الله التخطئة لهم، والتجهيل، فمعناه‏:‏ الله يخطئ فعلهم، ويجهلهم في الإقامة على كفرهم‏.‏

والسادس‏:‏ أن استهزاءه‏:‏ استدراجه إياهم‏.‏

والسابع‏:‏ أنه إيقاع استهزائهم بهم، وردّ خداعهم ومكرهم عليهم‏.‏ ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم الأنباري‏.‏

والثامن‏:‏ أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل‏:‏ ‏{‏ذق إِنك أنت العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ ذكره شيخنا في كتابه‏.‏

والتاسع‏:‏ أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة، كان كالاستهزاء بهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَمدُّهُمْ في طغيانهم يعمهون‏}‏

فيه أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ يمكِّن لهم، قاله ابن مسعود‏.‏ والثاني‏:‏ يملي لهم، قاله ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ يزيدهم، قاله مجاهد‏.‏ والرابع‏:‏ يمهلهم قاله الزجاج‏.‏

والطغيان‏:‏ الزيادة على القدر، والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة، يقال‏:‏ طغى البحر‏:‏ إذا هاجت أمواجه، وطغى السيل‏:‏ إذا جاء بماء كثير‏.‏ وفي المراد بطغيانهم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه كفرهم، قاله الجمهور‏.‏ والثاني‏:‏ أنه عتوهم وتكبرهم، قاله ابن قتيبة و«يعمهون» بمعنى‏:‏ يتحيرون، يقال‏:‏ رجل عمه وعامه، أي‏:‏ متحير‏.‏

قال الراجز‏:‏

ومَخْفَقٍ من لُهلُهٍ ولُهْلُهِ *** من مهمهٍ يجتبنه في مهمه

أعمى الهدى بالجاهلين العُمَّه *** وقال ابن قتيبة‏:‏ يعمهون‏:‏ يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏‏.‏

في نزولها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها نزلت في جميع الكفار، قاله ابن مسعود، وابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنها في أهل الكتاب، قاله قتادة والسدي ومقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أنها في المنافقين، قاله مجاهد‏.‏ واشتروا‏:‏ بمعنى استبدلوا، والعرب تجعل من آثر شيئاً على شيء مشترياً له، وبائعاً للآخر، والضلالة والضلال بمعنى واحد‏.‏

وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ ان المراد هاهنا الكفر، والمراد بالهدى‏:‏ الإيمان، روي عن الحسن وقتادة والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الشك، والهدى‏:‏ اليقين‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الجهل، والهدى‏:‏ العلم‏.‏

وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم آمنوا ثم كفروا، قاله مجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النبي من الهدى فردوه واختاروا الضلال، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما رَبحَتْ تِجارَتُهم‏}‏‏.‏

من مجاز الكلام، لأن التجارة لا تربح، وإنما يربح فيها، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل مكر الليل والنهار‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 33‏]‏ يريد‏:‏ بل مكرهم في الليل والنهار‏.‏ ومثله ‏{‏فاذا عزم الأمر‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 21‏]‏ أي‏:‏ عزم عليه‏.‏ وأنشدوا‏:‏

حارثُ قد فرَّجْتَ عني همي *** فنام ليلي وتجلى غمّي

والليل لا ينام، بل ينام فيه، وإِنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإِشكال، ويعلم مقصود قائله، فأما إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به، وأريد به ما سواه، لم يجز، مثل أن تقول‏:‏ ربح عبدك، وتريد‏:‏ ربحت في عبدك‏.‏ وإلى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قتيبة والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَا كانوا مُهتَدين‏}‏‏.‏

فيه خمسة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ وما كانوا في العلم بالله مهتدين‏.‏ والثاني‏:‏ وما كانوا مهتدين من الضلالة‏.‏ والثالث‏:‏ وما كانوا مهتدين إلى تجارة المؤمنين‏.‏ والرابع‏:‏ وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة‏.‏ والخامس‏:‏ أنه قد لا يربح التاجر، ويكون على هدىً من تجارته، غير مستحق للذم فيما اعتمده، فنفى الله عز وجل عنهم الأمرين، مبالغة في ذمهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثَل الذي اسْتوقد ناراً‏}‏‏.‏

هذه الآية نزلت في المنافقين‏.‏ والمثل بتحريك الثاء‏:‏ ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال‏.‏ وفي قوله تعالى«استوقد» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن السين زائدة، وأنشدوا‏:‏

وداعٍ دعا يا من يجيب إِلى الندى *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أراد‏:‏ فلم يجبه، وهذا قول الجمهور، منهم الأخفش وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أن السين داخلة للطلب، أراد‏:‏ كمن طلب من غيره ناراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون‏}‏‏.‏

وفي«أضاءت» قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه من الفعل المتعدي، قال الشاعر‏:‏

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم *** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وقال آخر‏:‏

أضاءت لنا النار وجهاً أغرَّ *** ملتبساً بالفؤاد التباسا

والثاني‏:‏ أنه من الفعل اللازم‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ يقال أضاءت النَّار، وأضاءها غيرها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ ضاء القمر، وأضاء‏.‏

وفي «ما» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها زائدة، تقديره‏:‏ أضاءت حوله‏.‏ والثاني‏:‏ أنها بمعنى الذي‏.‏ وحول الشَّيء‏:‏ ما دار من جوانبه‏.‏ والهاء‏:‏ عائدة على الْمستوقد‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف وحد‏.‏ فقال‏:‏ «كمثل الذي استوقد» ثم جمع فقال‏:‏ «ذهب الله بنورهم»‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال‏:‏ إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان الرجال، وهو مثل للنفاق، وإنما قال‏:‏ «ذهب الله بنورهم» لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين، فجمع لذلك‏.‏ قال ثعلب‏:‏ وقال غير الفراء‏:‏ معنى الذي‏:‏ الجمع، وحد أولاً للفظه، وجمع بعد لمعناه، كما قال الشاعر‏:‏

فان الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كلُّ القوم يا أم خالد

فجعل «الذي» جمعاً‏.‏

فصل

اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه ضرب بكلمة الإِسلام التي يلفظون بها، ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء، فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النَّار ضوءه‏.‏ وهذا المعنى مروي عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ضرب لإِقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول، فذهاب نورهم‏:‏ إِقبالهم على الكافرين والضلال، وهذا قول مجاهد‏.‏

وفي المراد ب «الظلمات» هاهنا أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ العذاب، قاله ابن عباس، والثاني‏:‏ ظلمة الكفر، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت؛ قاله قتادة‏.‏ والرابع‏:‏ أنها نفاقهم، قاله السدي‏.‏

فصل

وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم‏.‏

إحداها‏:‏ أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فاذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار‏.‏

والثانية‏:‏ أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، فهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إِلى مادة الاعتقاد ليدوم‏.‏

والثالثة‏:‏ أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء، فشبه حالهم بذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صمٌ بكمٌ عمي‏}‏‏.‏

الصمم انسداد منافذ السمع، وهو أشد من الطرش‏.‏ وفي البكم ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الخرس، قاله مقاتل، وأبو عبيد، وابن فارس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق، وقيل‏:‏ إن الخرس يحدث عنه‏.‏ والثالث‏:‏ أنه عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي شيئاً فيفهمه، فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق، ذكر هذين القولين شيخنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهمْ لا يَرجِعُونَ‏}‏‏.‏

فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ لا يرجعون عن ضلالتهم، قاله قتادة ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ لا يرجعون إِلى الإسلام، قاله السدي‏.‏ والثالث‏:‏ لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى، وإنما أضاف الرجوع إليهم، لأنهم انصرفوا باختيارهم، لغلبة أهوائهم عن تصفح الهدى بآلات التصفح، ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة، ولكنهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به؛ كانوا كالصمم البكم‏.‏ والعرب تسمي المعرض عن الشيء‏:‏ أعمى، والملتفت عن سماعه‏:‏ أصم، قال مسكين الدارمي‏:‏

ما ضرَّ جاراَ لي أجاوره *** ألا يكون لبابه ستر

أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي الخدر

وتصمُّ عما بينهم أذني *** حتى يكون كأنه وقر

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصَيِّبٍ من السمَاء‏}‏‏.‏ أو، حرف مردود على قوله‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ واختلف العلماء فيه على ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه داخل هاهنا للتخيير، تقول العرب‏:‏ جالس الفقهاء أو النحويين، ومعناه‏:‏ انت مخير في مجالسة أي الفريقين شئت، فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول أو الثاني‏.‏

والثاني‏:‏ أنه داخل للابهام فيما قد علم الله تحصيله، فأبهم عليهم مالا يطلبون تفصيله، فكأنه قال‏:‏ مثلهم كأحد هذين‏.‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهي كالحجارة أو أشد قسوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏ والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله‏.‏ قال لبيد‏:‏

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما *** وهل أنا إِلا من ربيعة أو مضر

أي‏:‏ هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين، وقد فنيا، فسبيلي أن أفنى كما فنيا‏.‏

والثالث‏:‏ أنه بمعنى‏:‏ بل‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أو أنت في العين أملح

والرابع‏:‏ أنه للتفصيل، ومعناه‏:‏ بعضهم يشبه بالذي استوقد ناراً، وبعضهم بأصحاب الصيّب‏.‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كونوا هوداً أو نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏ معناه‏:‏ قال بعضهم، وهم اليهود‏:‏ كونوا هودا، وقال النصارى‏:‏ كونوا نصارى‏.‏ وكذا قوله‏:‏ ‏{‏فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ معناه‏:‏ جاء بعضهم بأسنا بياتاً، وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة‏.‏

والخامس‏:‏ أنه بمعنى الواو‏.‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ قال جرير‏:‏

نال الخلافة أو كانت له قدراً *** كما أتى ربَّه موسى على قدر

والسادس‏:‏ أنه للشك في حق المخاطبين، إذ الشك مرتفع عن الحق عز وجل، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ يريد‏:‏ فالإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون‏.‏

فأما التفسير لمعنى الكلام‏:‏ أو كأصحاب صيب، فأضمر الأصحاب، لأن في قوله ‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم‏}‏، دليلاً عليه‏.‏ والصيب‏:‏ المطر‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ هو فيعل من صاب يصوب‏:‏ إذا نزل من السماء، وقال الزجاج‏:‏ كل نازل من علو إلى استفال، فقد صاب يصوب، قال الشاعر‏:‏

كأنهمُ صابت عليهم سحابة *** صواعقها لطيرهن دبيب

وفي الرعد ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه صوت ملك يزجر السحاب، وقد روي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن عباس ومجاهد‏.‏ وفي رواية عن مجاهد‏:‏ أنه صوت ملك يسبح‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الابل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ريح تختنق بين السماء والأرض‏.‏ وقد روي عن أبي الجلد أنه قال‏:‏ الرعد‏:‏ الريح‏.‏ واسم أبي الجلد‏:‏ جيلان بن أبي فروة البصري، وقد روى عنه قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اصطكاك أجرام السحاب، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله‏.‏

وفي البرق ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب، روي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول علي بن أبي طالب‏.‏

وفي رواية عن علي قال‏:‏ هو ضربة بمخراق من حديد‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أنه ضربة بسوط من نور‏.‏ قال ابن الانباري‏:‏ المخاريق‏:‏ ثياب تلف، ويضرب بها الصبيان بعضهم بعضاً، فشبه السوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق‏.‏

قال عمرو بن كلثوم‏:‏

كأن سيوفنا فينا وفيهم *** مخاريق بأيدي لاعبينا

وقال مجاهد‏:‏ البرق‏:‏ مصع ملك، والمصع‏:‏ الضرب والتحريك‏.‏

والثاني‏:‏ أن البرق‏:‏ الماء، قاله أبو الجلد‏.‏ وحكى ابن فارس أن البرق‏:‏ تلألؤ الماء‏.‏

والثالث‏:‏ أنه نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب لسيره، وضرب بعضه لبعض، حكاه شيخنا‏.‏

والصواعق‏:‏ جمع صاعقة، وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه‏.‏ وروي عن شهر بن حوشب‏:‏ أن الملك الذي يسوق السحاب، إذا اشتد غضبه، طار من فيه النار، فهي الصواعق‏.‏ وقال غيره‏:‏ هي نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وإنما سميت صاعقة، لأنها إذا أصابت قتلت، يقال‏:‏ صعقتهم أي‏:‏ قتلتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله مُحيط بالكافرين‏}‏‏.‏

فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لا يفوته أحد منهم، فهو جامعهم يوم القيامة‏.‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحاط بكل شيء علماً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏ قاله مجاهد‏.‏

والثاني أن الإحاطة‏:‏ الإهلاك، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحيط بثمره‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏

والثالث‏:‏ أنه لا يخفى عليه ما يفعلون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَكَادُ البَرْق يخطَفْ أبْصارهُمْ‏}‏‏.‏ يكاد بمعنى‏:‏ يقارب، وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل، وإذا نفيت ثبت الفعل‏.‏ وسئل بعض المتأخرين فقيل له‏:‏

أنحوي هذا العصر ما هي كلمة *** جرت بلسانيْ جرهم وثمود

إذا نفيت والله يشهد أثبتت *** وإن أثبتت قامت مقام جحود

ويشهد للاثبات عند النفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكادون يفقهون حديثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ وقوله ‏{‏إذا أَخرج يده لم يكد يراها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏ ومثله ‏{‏ولا يكاد يبين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 52‏]‏ ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى ‏{‏يكاد البرق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏ و‏{‏يكاد سنا برقه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏ و‏{‏يكاد زيتها يضئ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ كاد‏:‏ بمعنى هم ولم يفعل‏.‏ وقد جاءت بمعنى الإثبات قال ذو الرمة‏:‏

ولو أن لقمان الحكيم تعرضت *** لعينيه ميّ سافراً كاد يَبرَق

أي‏:‏ لو تعرضت له لبرق، أي‏:‏ دهش وتحير‏.‏

قلت‏:‏ وقد قال ذو الرمة في المنفية ما يدل على أنها تستعمل للاثبات، وهو قوله‏:‏

اذا غيَّر النأي المحبين لم يكد *** رسيس الهوى من حبِّ ميَّة يبرح

أراد‏:‏ لم يبرح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخطَفُ أبْصارَهُم‏}‏

قرأ الجمهور بفتح الياء، وسكون الخاء وفتح الطاء‏.‏ وقرأَ أبان بن تغلب، وأبان بن يزيد كلاهما عن عاصم، بفتح الياء وسكون الخاء، وكسر الطاء مخففاً‏.‏ ورواه الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، بفتح الياء وكسر الخاء، وتشديد الطاء، وهي قراءة الحسن كذلك، إلا أنه كسر الياء‏.‏ وعنه‏:‏ فتح الياء والخاء مع كسر الطاء المشددة‏.‏

ومعنى «يخطف» يستلب، وأصل الاختطاف‏:‏ الاستلاب، ويقال لما يخرج به الدلو‏:‏ خطاف، لأنه يختطف ما علق به‏.‏ قال النابغة‏:‏

خطاطيف حجْنٍ في حبالٍ متينة *** تمُدُّ بها أيدٍ إِليك نوازع

والحجن المتعقفة وجمل خيطف‏:‏ سريع المر، وتلك السرعة الخطفى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أَضَاءَ لهم‏}‏

قال الزجاج‏:‏ يقال ضاء الشيء يضوء، وأضاء يضيء، وهذه اللغة الثانية هي المختارة‏.‏

فصل

واختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه التخويف الذي في القرآن، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب إذا علم النبي والمؤمنون بنفاقهم، قاله مجاهد والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ما يخافونه من الدعاء إلى الجهاد، وقتال من يبطنون مودته، ذكره شيخنا‏.‏

واختلفوا‏:‏ ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنه ما يتبين لهم من مواعظ القرآن وحكمه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ما يضيء لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه‏.‏ والثالث‏:‏ أنه مثل لما ينالونه باظهار الإسلام من حقن دمائهم، فانه بالإِضافة إِلى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق‏.‏

واختلفوا في معنى قوله‏:‏ ‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق‏}‏ على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم كانوا يفرون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخالفة الموت، قاله الحسن والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مثل لإِعراضهم عن القرآن كراهية له، قاله مقاتل‏.‏

واختلفوا في معنى ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه‏}‏ على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ كلما أتاهم القرآن بما يحبون تابعوه، قاله ابن عباس والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه تكلمهم بالاسلام، ومشيهم فيه، اهتداؤهم به، فاذا تركوا ذلك وقفوا في ضلالة، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ أن إِضاءته لهم‏:‏ تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان، ومشيهم فيه‏:‏ إقامتهم على المسالمة باظهار ما يظهرونه‏.‏ ذكره شيخنا‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا أظْلَم علَيهِم‏}‏ فمن قال‏:‏ إضاءته‏:‏ إتيانه إياهم بما يحبون، قال‏:‏ إظلامه‏:‏ إتيانه إياهم بما يكرهون‏.‏ وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس‏.‏

ومعنى ‏{‏قاموا‏}‏‏:‏ وقفوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لَذَهبَ بسَمْعهم وأبْصارهم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ معناه‏:‏ لو شاء لأذهب أسماعهم وأبصارهم عقوبة لهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في نعت المنافقين‏.‏