فصل: تفسير الآيات رقم (100- 101)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏100‏)‏ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كلما عاهدوا عهداً‏}‏ الواو واو العطف، أُدخلت عليها ألف الاستفهام‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ والمشار اليهم‏:‏ اليهود‏.‏ وقيل‏:‏ العهد الذي عاهدوه، أنهم قالوا‏:‏ والله لئن خرج محمد لنؤمننَّ به، وروي عن عطاء أنها العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، فنقضوها، كفعل قريظة والنضير‏.‏ ومعنى نبذه‏:‏ رفضه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ يعني اليهود‏.‏ والكتاب‏:‏ التوراة‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتابَ الله‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ القرآن‏.‏ والثاني‏:‏ أنه التوراة، لأن الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم قد نبذوا التوراة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشياطين‏}‏

في سبب نزولها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن اليهود كانوا لا يسألون النبي عن شيء من التوراة إلا أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه به، فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة‏:‏ ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبياً‏؟‏‏!‏ والله ما كان إلا ساحراً، فنزلت هذه الآية‏.‏ قاله ابن اسحاق‏.‏

وتتلوا، بمعنى‏:‏ تلت، و«على» بمعنى‏:‏ «في» قاله المبرد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏على ملك سليمان‏}‏ أي‏:‏ على عهد ملك سليمان‏.‏

وفي كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه لما خرج سليمان عن ملكه؛ كتبت الشياطين السحر، ودفنته في مصلاه، فلما توفي استخرجوه، وقالوا‏:‏ بهذا كان يملك الملك، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أن آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان، ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، استخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكذباً، وأضافوه إلى سليمان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان، ثم أضافته إليه، قاله عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ أن الشياطين ابتدعت السحر، فأخذه سليمان، فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعلمه الناس، فلما قبض استخرجته، فعلمته الناس وقالوا‏:‏ هذا علم سليمان، قاله قتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أن سليمان أخذ عهود الدواب، فكانت الدابة إذا أصابت إنساناً طلب إليها بذلك العهد، فتخلّي عنه، فزاد السحرة السجع والسحر، قاله أبو مجلز‏.‏

والسادس‏:‏ أن الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع، فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم ‏[‏وأدخلوا فيه غيره‏]‏، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتب في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق ‏[‏وقال‏:‏ لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه‏]‏، فلما مات سليمان؛ جاء شيطان إلى نفر من بني إسرائيل، فدلهم على تلك الكتب وقال‏:‏ إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا، ففشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذ بنوا إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد، صلى الله عليه وسلم، خاصموه بها، هذا قول السدي‏.‏

وسليمان‏:‏ اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، وقد جعله النابغة سليماً ضرورة، فقال‏:‏ ونسج سليم كل قضّاء ذائل‏.‏

واضطر الحطيئة فجعله‏:‏ سلاَّماً فقال‏:‏

فيه الرماح وفيه كل سابغة *** جدلاءَ محكمة من نسج سلاَّم

وأرادا جميعاً‏:‏ داود أبا سليمان، فلم يستقم لهما الشعر، فجعلاه‏:‏ سليمان وغيّراه‏.‏ كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وما كفر سليمان‏}‏ دليل على كفر الساحر، لأنهم نسبوا إلى السحر، لا إلى الكفر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنّ الشياطين كفروا‏}‏

وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم بتشديد نون ‏{‏ولكنّ‏}‏ ونصب نون ‏{‏الشياطين‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف النون من ‏{‏لكنْ‏}‏ ورفع نون ‏{‏الشياطين‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أُنزل على الملكين‏}‏ وقرأ ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير والزهري ‏{‏الملِكين‏}‏ بكسر اللام، وقراءة الجمهور أصح‏.‏

وفي «ما» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها معطوفة على «ما» الأولى، فتقديره‏:‏ واتبعوا ما تتلوا الشياطين وما أُنزل على الملكين‏.‏ والثاني‏:‏ أنها معطوفة على السحر، فتقديره‏:‏ يعلّمون الناس السحر، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين‏.‏ فإن قيل‏:‏ إذا كان السحر نزل على الملكين، فلما ذاكره‏؟‏ فالجواب من وجهين، ذكرهما، ابن السري، أحدهما‏:‏ أنهما كانا يعلمان الناس‏:‏ ما السحر، ويأمران باجتنابه، وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلاً لو قال‏:‏ ما الزنى‏؟‏ لوجب أن يوقف عليه، ويعلم أنه حرام‏.‏ والثاني‏:‏ أنه من الجائز أن يكون الله تعالى امتحن الناس بالملكين، فمن قبل التعلم كان كافراً، ومن لم يقبله فهو مؤمن، كما امتحن بنهر طالوت‏.‏

وفي الذي أنزل على الملكين قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه السحر، روي عن ابن مسعود والحسن، وابن زيد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه التفرقة بين المرء وزوجه، لا السحر، روي عن مجاهد وقتادة، وعن ابن عباس كالقولين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا من باب السحر أيضاً‏.‏

الإشارة إلى قصة الملكين

ذكر العلماء أن الملكين إنما أنزلا إلى الأرض لسبب، وهو أنه لما كثرت خطايا بني آدم؛ دعت عليهم الملائكة، فقال الله تعالى‏:‏ لو أنزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم، لفعلتم مثل ما فعلوا، فحدثوا أنفسهم أنهم إن ابتلوا، اعتصموا، فأوحى الله إليهم ‏[‏أن‏]‏ اختاروا من أفضلكم ملكين، فاختاروا هاروت وماروت‏.‏ وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس‏.‏

واختلف العلماء‏:‏ ماذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهما زنيا، وقتلا، وشربا الخمرة، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهما جارا في الحكم، قاله عبيد الله بن عتبة‏.‏ والثالث‏:‏ أنهما هما بالمعصية فقط‏.‏ ونقل عن علي، رضي الله عنه، أن الزهرة كانت امرأة جميلة، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراودها كل واحد منهما على نفسها، ولم يُعلم صاحبه، وكانا يصعدان السماء آخر النهار، فقالت لهما‏:‏ بم تهبطان وتصعدان‏؟‏ قالا‏:‏ باسم الله الأعظم، فقالت‏:‏ ما أنا بمواتيتكما إلى ما تريدان حتى تعلمانيه، فعلماها إياه، فطارت إلى السماء، فمسخها الله كوكباً‏.‏

وفي الحديث أن النبي، صلى الله عليه وسلم

«لعن الزهرة، وقال‏:‏ إنها فتنت ملَكين» إلا أن هذه الأشياء بعيدة عن الصحة وتأول بعضهم، هذا فقال‏:‏ إنه لما رأى الكوكب، ذكر تلك المرأة، لا أن المرأة مسخت نجماً‏.‏

واختلف العلماء في كيفية عذابهما؛ فروي عن ابن مسعود أنهما معلقان بشعورهما إلى يوم القيامة، وقال مجاهد‏:‏ إن جباً ملئ ناراً فجعلا فيه‏.‏

فأما بابل؛ فروي عن الخليل أن ألسن الناس تبلبلت بها‏.‏ واختلفوا في حدها على ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها‏:‏ الكوفة وسوادها، قاله ابن مسعود‏.‏ والثاني‏:‏ أنها من نصيبين إلى رأس العين، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ أنها جبل في وهدة من الأرض، قاله السدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما نحن فتنة‏}‏ أي‏:‏ اختبار وابتلاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا بإذن الله‏}‏ يريد‏:‏ بقضائه‏.‏ ‏{‏ولقد علموا‏}‏‏:‏ إشارة إلى اليهود ‏{‏لَمن اشتراه‏}‏، يعني‏:‏ اختاره، يريد‏:‏ السحر‏.‏ واللام لام اليمين‏.‏ فأما الخلاق؛ فقال الزجاج‏:‏ هو النصيب الوافر من الخير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولبئس ما شروا به أنفسهم‏}‏ أي‏:‏ باعوها به ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ العقاب فيه‏.‏

فصل

اختلف الفقهاء في حكم الساحر؛ فمذهب إمامنا أحمد رضي الله عنه يكفر بسحره، قتل به، أو لم يقتل، وهل تقبل توبته‏؟‏ على روايتين‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يكفر بسحره، فان قتل بسحره وقال‏:‏ سحري يقتل مثله، وتعمدت ذلك قتل قوداً‏.‏ وإن قال‏:‏ قد يقتل، وقد يخطيء، لم يقتل، وفيه الدية‏.‏ فأما ساحر أهل الكتاب، فانه لا يقتل عند أحمد إلا أن يضر بالمسلمين، فيقتل لنقض العهد، وسواء في ذلك الرجل والمرأة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ حكم ساحر أهل الكتاب حكم ساحر المسلمين في إيجاب القتل، فأما المرأة الساحرة، فقال‏:‏ تحبس، ولا تقتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏103‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم آمنوا‏}‏ يعني‏:‏ اليهود، والمثوبة‏:‏ الثواب ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ يعلمون بعلمهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا‏}‏ قرأ الجمهور بلا تنوين، وقرأ الحسن، والأعمش، وابن محيصن بالتنوين، «وراعنا» بلا تنوين من راعيت، وبالتنوين من الرعونة، قال ابن قتيبة‏:‏ راعناً بالتنوين‏:‏ هو اسم مأخوذ من ‏[‏الرعن و‏]‏ الرعونة، أراد‏:‏ لا تقولوا جهلاً ولا حمقاً‏.‏ وقال غيره‏:‏ كان الرجل إذا أراد استنصات صاحبه، قال أرعني سمعك، فكان المنافقون يقولون‏:‏ راعنا، يريدون‏:‏ أنت أرعن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏انظرنا‏}‏ بمعنى‏:‏ انتظرنا، وقال مجاهد‏:‏ انظرنا‏:‏ اسمع منا، وقال ابن زيد‏:‏ لا تعجل علينا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هم يهود المدينة، ونصارى نجران، فالمشركون مشركو أهل مكة‏.‏ ‏{‏أن ينزل عليكم‏}‏ أي‏:‏ على رسولكم‏.‏ ‏{‏من خير من ربكم‏}‏ أراد‏:‏ النبوة والإسلام‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ أراد بالخير‏:‏ العلم والفقه والحكمة‏.‏

‏{‏والله يختص برحمته من يشاء‏}‏

في هذه الرحمة قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها النبوة، قاله علي بن أبي طالب، ومحمد بن علي بن الحسين، ومجاهد والزجاج‏.‏ والثاني‏:‏ أنها الإسلام، قاله ابن عباس ومقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 107‏]‏

‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏106‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية‏}‏

سبب نزولها‏:‏ أن اليهود قالت لما نسخت القبلة‏:‏ إن محمداً يحل لأصحابه إذا شاء، ويحرم عليهم إذا شاء؛ فنزلت هذه الآية‏.‏

قال الزجاج‏:‏ النسخ في اللغة‏:‏ إبطال شيءٍ وإقامة آخر مقامه، تقول العرب‏:‏ نسخت الشمس الظل‏:‏ إذا أذهبته، وحلت محله، وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ رفع اللفظ والحكم‏.‏ والثاني‏:‏ تبديل الآية بغيرها، رويا عن ابن عباس، والأول قول السدي، والثاني قول مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ رفع الحكم مع بقاء اللفظ، رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود، وبه قال أبو العالية، وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏ما ننسخ‏}‏ بضم النون، وكسر السين‏.‏ قال أبو علي‏:‏ أي‏:‏ ما نجده منسوخاً كقولك‏:‏ أحمدت فلاناً، أي‏:‏ وجدته محموداً، وإنما يجده منسوخاً بنسخه إياه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَو ننسها‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏ننسأها‏}‏ بفتح النون مع الهمزة، والمعنى‏:‏ نؤخرها‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ نسأت الإبل عن الحوض، فأنا أنسأها‏:‏ إذا أخرتها، ومنه‏:‏ النسيئة في البيع‏.‏ وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها، قاله الفراء‏.‏ والثاني‏:‏ نؤخر إنزالها، فلا ننزلها البتة‏.‏ والثالث‏:‏ نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها، حكاهما أبو علي الفارسي‏.‏ وقرأ سعد بن أبي وقاص‏:‏ ‏{‏تنسها‏}‏ بتاء مفتوحة ونون‏.‏ وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك‏:‏ ‏{‏تنسها‏}‏ بضم التاء، وقرأ نافع‏:‏ ‏{‏أو ننسها‏}‏ بنونين، الأولى مضمومة، والثانية ساكنة‏.‏ أراد‏:‏ أو ننسكها، من النسيان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نأت بخير منها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بألين منها، وأيسر على الناس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو مثلها‏}‏ أي‏:‏ في الثواب والمنفعة، فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار‏.‏ ‏{‏ألم تعلم‏}‏ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التوقيف والتقرير‏.‏ والملك في اللغة‏:‏ تمام القدرة واستحكامها، فالله عز وجل يحكم بما يشاء على عباده، وبغير ما يشاء من أحكام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم تريدون أن تسألوا رسولكم‏}‏

في سبب نزولها خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن رافع بن حريملة، ووهب بن زيد، قالا لرسول الله‏:‏ ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا، وفجر لنا أنهاراً حتى نتبعك، فنزلت الآية، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن قريشاً سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال‏:‏ «هو لكم كالمائدة لبني إِسرائيل ‏[‏إن كفرتم‏]‏ فأبوا» قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله، خير مما أعطى بني إسرائيل، كانوا إذا أصاب أحدهم الخطيئة؛ وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فان كفرها كانت له خزياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة، فقد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني إسرائيل ‏"‏ فقال‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏ وقال‏:‏ ‏"‏ الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ‏"‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ قاله أبو العالية‏.‏

والرابع‏:‏ أن عبد الله بن أبي أمية المخزومي أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، في رهط من قريش، فقال‏:‏ يا محمد‏:‏ والله لا أؤمن بك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً، فنزلت هذه الآية‏.‏ ذكره ابن السائب‏.‏

والخامس‏:‏ أن جماعة من المشركين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم‏:‏ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏.‏ وقال آخر‏:‏ لن أؤمن لك حتى تسير لنا جبال مكة، وقال عبد الله بن أبي أمية‏:‏ لن أؤمن لك حتى تأتي بكتاب من السماء، فيه‏:‏ من الله رب العالمين إلى ابن أبي أمية‏:‏ اعلم أني قد أرسلت محمدا إلى الناس‏.‏ وقال آخر‏:‏ هلا جئت بكتابك مجتمعاً، كما جاء موسى بالتوراة‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ ذكره محمد بن القاسم الأنباري‏.‏

وفي المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنهم قريش، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏ والثاني اليهود، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ جميع العرب، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

وفي «أم» قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى‏:‏ بل تقول العرب‏:‏ هل لك عليَّ حق، أم أنت معروف بالظلم‏.‏ يريدون‏:‏ بل أنت‏.‏ وأنشدوا‏:‏

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أم أنت في العين أملح

ذكره الفراء والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ بمعنى الاستفهام‏.‏ فان اعترض معترض، فقال‏:‏ إنما تكون للاستفهام إذا كانت مردودة على استفهام قبلها، فأين الاستفهام الذي تقدمها‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه قد تقدمها استفهام، وهو قوله ‏{‏ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير‏}‏ ذكره الفراء‏.‏ وكذلك قال ابن الأنباري‏:‏ هي مردودة على الألف في‏:‏ ‏{‏ألم تعلم‏}‏ فإن اعترض على هذا الجواب، فقيل‏:‏ كيف يصح العطف ولفظ‏:‏ ‏{‏ألم تعلم‏}‏ ينبئ عن الواحد، و‏{‏تريدون‏}‏ عن جماعة‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه إنما رجع الخطاب من التوحيد إلى الجمع، لأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خوطبت به أمته، فاكتفى به من أمته في المخاطبة الأولى، ثم أظهر المعنى في المخاطبة الثانية‏.‏

ومثل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إِذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ذكر هذا الجواب ابن الأنباري‏.‏ فأما الجواب الثاني عن ‏{‏أم‏}‏؛ فهو أنها للاستفهام، وليست مردودة على شيء‏.‏ قال الفراء‏:‏ إذا توسط الاستفهام الكلام؛ ابتدئ بالألف وبأم، وإذا لم يسبقه كلام؛ لم يكن إلا بالألف أو ب «هل»‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ «أم» جارية مجرى «هل»، غير أن الفرق بينهما‏:‏ أن «هل» استفهام مبتدأ، لا يتوسط ولا يتأخر، و«أم»‏:‏ استفهام متوسط، لا يكون إلا بعد كلام‏.‏

فأما الرسول هاهنا؛ فهو‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، والذي سئل موسى من قبل قولهم‏:‏ ‏{‏أرنا الله جهرة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏‏.‏ وهل سألوا ذلك نبياً أم لا‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم سألوا ذلك، فقالوا ‏{‏لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏‏.‏ قاله ابن عباس والثاني‏:‏ أنهم بالغوا في المسائل، فقيل لهم بهذه الآية‏:‏ لعلكم تريدون أن تسألوا محمداً أن يريكم الله جهرة، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والكفر‏:‏ الجحود، والإيمان‏:‏ التصديق‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ المعنى‏:‏ ومن يتبدل الشدة بالرخاء‏.‏ وسواء السبيل‏:‏ وسطه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ود كثير من أهل الكتاب‏}‏

في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن حيي بن أخطب، وأبا ياسر كانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي، ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله حين قدمها، فأمر النبي بالصفح عنهم، فنزلت هذه الآية، قاله عبد الله بن كعب بن مالك‏.‏ والثالث‏:‏ أن نفراً من اليهود دعوا حذيفة وعماراً إلى دينهم، فأبيا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

ومعنى «ود»‏:‏ أحب وتمنى‏.‏ وأهل الكتاب‏:‏ اليهود‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من عند أنفسهم موصول‏:‏ ب ‏{‏ود كثير‏}‏، لا بقوله‏:‏ ‏{‏حسداً‏}‏ لأن حسد الإنسان لا يكون إلا من عند نفسه‏.‏ والمعنى‏:‏ مودتهم لكفركم من عند أنفسهم، لا أنه عندهم الحق‏.‏ فأما الحسد، فهو تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، وتفارقه الغبطة، فانها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط‏.‏ وحد بعضهم الحسد فقال‏:‏ هو أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأخيار، ولا يجوز أن يكون الفاضل حسوداً، لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ كل أحد يمكن أن ترضيه إلا الحاسد، فانه لا يرضيه إلا زوال نعمتك‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ سمعت أعرابياً، يقول‏:‏ ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم، ونفس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يأتيَ الله بأمره‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فجاء الله بأمره في النضير بالجلاء والنفي، وفي قريظة بالقتل والسبي‏.‏

فصل

وقد روي عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي العالية، وقتادة، رضي الله عنهم‏:‏ أن العفو والصفح منسوخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يُحرِّمون ما حرم الله ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وأبى هذا القول جماعة من المفسرين والفقهاء، واحتجوا بأن الله لم يأمر بالصفح والعفو مطلقاً، وإنما أمر به إلى غاية، وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته، والآخر يحتاج إلى حكم آخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تجدوه‏}‏ أي‏:‏ تجدوا ثوابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 112‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏111‏)‏ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن يدخل الجنة إِلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ اختصم يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت اليهود‏:‏ ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وكفروا بالإنجيل وعيسى‏.‏ وقالت النصارى‏:‏ ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى؛ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك أمانيهم‏}‏‏.‏

واعلم أن الكلام في هذه الآية مجمل، ومعناه‏:‏ قالت اليهود‏:‏ لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إِلا من كان نصرانياً‏.‏ والهود، جمع‏:‏ هائد ‏{‏تلك أَمانيهم‏}‏ أي‏:‏ ذاك شيء يتمنونه، وظن يظنونه، هذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد‏.‏ ‏{‏قال هاتوا برهانكم‏}‏ أي‏:‏ حجتكم إن كنتم صادقين بأن الجنة لا يدخلها إلى من كان هوداً أو نصارى‏.‏ ثم بين تعالى بأنه ليس كما زعموا فقال‏:‏ ‏{‏بلى من أسلم وجهه‏}‏ وأسلم، بمعنى‏:‏ أخلص‏.‏ وفي الوجه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الدين‏.‏ والثاني‏:‏ العمل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو محسن‏}‏ أي‏:‏ في عمله؛ ‏{‏فله أجره‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يريد‏:‏ فهو يدخل الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يتلون الكتاب‏}‏ أي‏:‏ كل منهم يتلو كتابه بتصديق ما كفر به، قاله السدي، وقتادة‏.‏ ‏{‏كذلك قال الذين لا يعلمون‏}‏ وفيهم قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم مشركو العرب قالوا لمحمد وأصحابه‏:‏ لستم على شيء، قاله السدي عن أشياخه‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى، كقوم نوح، وهود، وصالح، قاله عطاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالله يحكم بينهم يوم القيامة‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يريد حكم الفصل بينهم، فيريهم من يدخل الجنة عياناً ‏[‏ومن يدخل النار عياناً‏]‏ فأما الحكم بينهم في العقد فقد بينه لهم في الدنيا بما أقام على الصواب من الحجج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 114‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن منع مساجد الله‏}‏ اختلفوا فيمن نزلت على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس من أجل أن بني إسرئيل قتلوا يحيى بن زكريا، فخرب وطرحت الجيف فيه، قاله ابن عباس في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ أنها في المشركين الذين حالوا بين رسول الله وبين مكة يوم الحديبية، قاله ابن زيد‏.‏ وفي المراد بخرابها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه نقضها، والثاني‏:‏ منع ذكر الله فيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولئك ما كان لهم أن يدخلوها إِلا خائفين‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه إخبار عن أحوالهم بعد ذلك‏.‏ قال السدي‏:‏ لا يدخل رومي بيت المقدس إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية‏.‏ والثاني‏:‏ أنه خبر في معنى الأمر، تقديره‏:‏ عليكم بالجد في جهادهم كي لا يدخلها أحدٌ إلا وهو خائف‏.‏

‏{‏لهم في الدنيا خزي‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن خزيهم الجزية، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه فتح القسطنطينية، قاله السدي‏.‏ والثالث‏:‏ أنه طردهم عن المسجد الحرام، فلا يدخله مشرك أبداً ظاهراً، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله المشرق والمغرب‏}‏

في نزولها أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن الصحابة كانوا مع رسول الله في غزوة في ليلة مظلمة، فلم يعرفوا القبلة، فجعل كل واحد منهم مسجداً بين يديه وصلى، فلما أصبحوا إذا هم على غير القبلة، فذكروا ذلك لرسول الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ رواه عامر بن ربيعه‏.‏ والثاني‏:‏ أنها نزلت في التطوع بالنافلة، قاله ابن عمر‏.‏ والثالث‏:‏ أنه لما نزل قوله تعالى ‏{‏ادعوني استجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ إلى أين‏:‏ فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد‏.‏ والرابع‏:‏ أنه لما مات النجاشي، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه؛ قالوا‏:‏ إنه كان لا يصلي إلى القبلة؛ فنزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ وجهُ الله‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ فثم الله، يريد‏:‏ علمه معكم أين كنتم، وهو قول ابن عباس، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ فثم قبلة الله، قاله عكرمة، ومجاهد‏.‏ والواسع‏:‏ الذي وسع غناه مفاقر عباده، ورزقه جميع خلقه‏.‏ والسعة في كلام العرب‏:‏ الغنى‏.‏

فصل

وهذه الآية مستعملة الحكم في المجتهد إذا صلى إلى غير القبلة، وفي صلاة المتطوع على الراحلة، والخائف‏.‏ وقد ذهب قوم إلى نسخها، فقالوا‏:‏ إنها لما نزلت؛ توجه رسول الله إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك بقوله ‏{‏وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏‏.‏ وهذا مروي عن ابن عباس‏.‏ قال شيخنا علي بن عبيد الله‏:‏ وليس في القرآن أمر خاص بالصلاة إلى بيت المقدس، وقوله ‏{‏فأينما تولوا فثم وجه الله‏}‏ ليس صريحاً بالأمر بالتوجه إلى بيت المقدس، بل فيه ما يدل على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها، فإذا ثبت هذا؛ دل على أنه وجب التوجه إلى بيت المقدس بالسنة، ثم نسخ بالقرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الله ولداً‏}‏

اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في اليهود إذ جعلوا عزيراً ابن الله، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في نصارى نجران حيث قالوا‏:‏ عيسى ابن الله، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنها في النصارى ومشركي العرب، لأن النصارى قالت‏:‏ عيسى ابن الله، والمشركين قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، ذكره إبراهيم بن السري‏.‏

والرابع‏:‏ أنها في اليهود والنصارى ومشركي العرب، ذكره الثعلبي‏.‏

فأما القنوت؛ فقال الزجاج‏:‏ هو في اللغة بمعنيين‏.‏ أحدهما‏:‏ القيام‏.‏ والثاني‏:‏ الطاعة‏.‏ والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت‏:‏ الدعاء في القيام، فالقانت القائم بأمر الله‏.‏ ويجوز أن يقع في جميع الطاعات، لأنه إن لم يكن قيام على الرجلين؛ فهو قيام بالنية‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ لا أرى أصل القنوت إلا الطاعة، لأن جميع الخلال من الصلاة، والقيام فيها والدعاء وغير ذلك يكون عنها‏.‏

وللمفسرين في المراد بالقنوت هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الطاعة، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الإقرار بالعبادة، قاله عكرمة، والسدي‏.‏ والثالث‏:‏ القيام، قاله الحسن، والربيع‏.‏

وفي معنى القيام قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه القيام له بالشهادة بالعبودية‏.‏ والثاني‏:‏ أنه القيام بين يديه يوم القيامة‏.‏ فان قيل‏:‏ كيف عمَّ بهذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع‏؟‏ فعنه ثلاثة أجوبة‏.‏ أحدها‏:‏ أن يكون ظاهرها ظاهر العموم، ومعناها معنى الخصوص‏.‏ والمعنى‏:‏ كل أهل الطاعة له قانتون‏.‏ والثاني‏:‏ أن الكفار تسجد ظلالهم لله بالغدوات والعشيات، فنسب القنوت إليهم بذلك‏.‏ والثالث‏:‏ أن كل مخلوق قانت له بأثر صنعه فيه، وجري أحكامه عليه، فذلك دليل على ذله للرب‏.‏ ذكرهن ابن الأنباري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بديع السموات‏}‏

البديع‏:‏ المبدع، وكل من أنشأ شيئاً لم يسبق إليه قيل له‏:‏ أبدعت‏.‏ قال الخطابي‏:‏ البديع، فعيل بمعنى‏:‏ مفعل، ومعناه‏:‏ أنه فطر الخلق مخترعاً له لا على مثال سبق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا قضى أمراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معنى القضاء‏:‏ الإرادة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إذا قضى أمراً في علمه، فإنما يقول له‏:‏ كن فيكون‏.‏ والجمهور على ضم نون ‏{‏فيكون‏}‏، بالرفع على القطع‏.‏ والمعنى‏:‏ فهو يكون‏.‏ وقرأ ابن عامر بنصب النون‏.‏ قال مكي ابن أبي طالب‏:‏ النصب على الجواب، لكن فيه بعد‏.‏

فصل

وقد استدل أصحابنا على قدم القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏كن‏}‏ فقالوا‏:‏ لو كانت «كن» مخلوقة؛ لافتقرت إلى إيجادها بمثلها وتسلسل ذلك، والمتسلسل محال‏.‏ فان قيل‏:‏ هذا خطاب لمعدوم؛ فالجواب أنه خطاب تكوين يُظهر أثر القدرة، ويستحيل أن يكون المخاطب موجوداً، لأنه بالخطاب كان، فامتنع وجوده قبله أو معه‏.‏ ويحقق هذا أن ما سيكون متصور للعلم، فضاهى بذلك الموجود، فجاز خطابه لذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله‏}‏ فيهم ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم اليهود، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ النصارى، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ مشركو العرب، قاله قتادة، والسدي عن أشياخه‏.‏ و‏{‏لولا‏}‏ بمعنى‏:‏ هلا‏.‏

وفي ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ اليهود والنصارى، قاله السدي عن أشياخه‏.‏ والثالث‏:‏ اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، قاله قتادة‏.‏

‏{‏تشابهت قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ في الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا أرسلناك بالحق‏}‏‏:‏

في سبب نزولها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال يوماً‏:‏ «ليت شعري ما فعل أبواي‏!‏»؛ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا» فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

وفي المراد ‏{‏بالحق‏}‏ هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه القرآن، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ الإسلام، قاله ابن كيسان، والثالث‏:‏ الصدق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تسأل عن‏}‏‏:‏ الأكثرون بضم التاء، على الخبر، والمعنى‏:‏ لست بمسؤول عن أعمالهم‏.‏ وقرأ نافع، ويعقوب بفتح التاء وسكون اللام، على النهي عن السؤال عنهم‏.‏ وجوز أبو الحسن الأخفش أن يكون معنى هذه القراءة‏:‏ لا تسأل عنهم فإنهم في أمر عظيم‏.‏ فيكون ذلك على وجه التعظيم لما هم فيه‏.‏ فأما الجحيم؛ فقال الفراء‏:‏ الجحيم‏:‏ النار، والجمر على الجمر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الجحيم‏:‏ النار المستحكمة المتلظية‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الجحيم‏:‏ النار الشديدة الوقود، وقد جحم فلان النار‏:‏ إذا شدد وقودها، ويقال لعين الأسد‏:‏ جحمة لشدة توقدها‏.‏ ويقال لوقود الحرب، وهو شدة القتال فيها‏:‏ جاحم‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ الجاحم‏:‏ المكان الشديد الحر‏.‏ قال الأعشى‏:‏

يُعدون للهيجاء قبل لقائها *** غداة احتضار البأس والموت جاحم

ولذلك سميت الجحيم‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ قال أحمد بن عبيد‏:‏ إنما سميت النار جحيماً، لأنها أكثر وقودها، من قول العرب‏:‏ جحمت النار أجحمها‏:‏ إذا أكثرت لها الوقود‏.‏

قال عمران بن حطان‏:‏

يرى طاعة الله الهدى وخلافه *** الضلالة يصلي أهلها جاحم الجمر

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى‏}‏

في سبب نزولها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، فلما صرف إلى الكعبة يئسوا منه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم دعوه إلى دينهم، فنزلت، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم كانوا يسألونه الهدنة، ويطمعونه في أنه إن هادنهم وافقوه؛ فنزلت، ذكر معناه الزجاج‏.‏

قال الزجاج‏:‏ والملة في اللغة‏:‏ السنة والطريقه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ و‏{‏هدى الله‏}‏ هاهنا‏:‏ الإسلام‏.‏ وفي الذي جاءه من العلم أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه التحول إلى الكعبة، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه البيان بأن دين الله الإسلام، والثالث‏:‏ أنه القرآن‏.‏ والرابع‏:‏ العلم بضلالة القوم‏.‏ ‏{‏مالك من الله من ولي‏}‏ ينفعك ‏{‏ولا نصير‏}‏ يمنعك من عقوبته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 124‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏121‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏122‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏

اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها نزلت في الذين آمنوا من اليهود، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ في المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قاله عكرمة، وقتادة‏.‏ وفي الكتاب قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه القرآن، قاله قتادة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه التوراة، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتلونه حق تلاوته‏}‏ أي‏:‏ يعملون به حق عمله، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك يؤمنون به‏}‏ في هاء «به» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود على الكتاب، والثاني‏:‏ على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله‏:‏ ‏{‏وإِذ ابتلى إِبراهيم ربه بكلمات‏}‏ والابتلاء‏:‏ الاختبار‏.‏ وفي إبراهيم ست لغات‏.‏ أحدها‏:‏ إِبراهيم، وهي اللغة الفاشية‏.‏ والثانية‏:‏ إبراهُم‏.‏ والثالثة‏:‏ ابراهَم‏.‏ والرابعة‏:‏ إِبراهِمْ، ذكرهن الفراء‏.‏ والخامسة‏:‏ إِبراهام، والسادسة‏:‏ إِبرهم، قال عبد المطلب‏:‏

عذت بما عاذ به إِبرهم *** مستقبل الكعبة وهو قائم

وقال أيضا‏:‏

نحن آل الله في كعبته *** لم يزل ذاك على عهد إِبرهم

وفي الكلمات خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها خمس في الرأس، وخمس في الجسد‏.‏ أما التي في الرأس؛ فالفرق، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك‏.‏ وفي الجسد‏:‏ تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستطابة بالماء، والختان، رواه طاووس عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها عشر، ست في الإنسان، وأربع في المشاعر‏.‏ فالتي في الإنسان‏:‏ حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب، والسواك، والغسل من الجنابة، والغسل يوم الجمعة‏.‏ والتي في المشاعر‏:‏ الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة، رواه حنش بن عبد الله عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنها المناسك، رواه قتادة عن ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، والنار، وذبح ولده والختان، قاله الحسن‏.‏

والخامس‏:‏ أنها كل مسألة في القرآن، مثل قوله‏:‏ ‏{‏ربّ اجعل هذا البلد آمناً‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏‏.‏ ونحو ذلك، قاله مقاتل‏.‏ فمن قال‏:‏ هي أفعال فعلها؛ قال‏:‏ معنى فأتمهن‏:‏ عمل بهن‏.‏ ومن قال‏:‏ هي دعوات ومسائل؛ قال‏:‏ معنى فأتمهن‏:‏ أجابه الله إليهن‏.‏ وقد روي عن أبي حنيفة أنه قرأ‏:‏ ‏{‏إبراهيم‏}‏ رفع الميم ‏{‏ربه‏}‏ بنصب الباء، على معنى‏:‏ اختبر ربه هل يستجيب دعاءه، ويتخذه خليلاً أم لا‏؟‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن ذريتي‏}‏ في الذرية قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها فعلية من الذر، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر‏.‏ والثاني‏:‏ أن أصلها ذرُّورة، على وزن‏:‏ فعلولة، ولكن لما كثر التضعيف أبدل من الراء الأخيرة ياءً، فصارت‏:‏ ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء، فصارت‏:‏ ذرية ذكرهما الزجاج، وصوب الأول‏.‏

وفي العهد هاهنا سبعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الإمامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الطاعة، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ الرحمة، قاله عطاء وعكرمة‏.‏ والرابع‏:‏ الدين، قاله أبو العالية‏.‏ والخامس‏:‏ النبوة، قاله السدي عن أشياخه‏.‏ والسادس‏:‏ الأمان، قاله أبو عبيدة‏.‏ والسابع‏:‏ الميثاق، قاله ابن قتيبة‏.‏ والأول أصح‏.‏

وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم الكفار، قاله ابن جبير والسدي‏.‏ والثاني‏:‏ العصاة، قاله عطاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ جعلنا البيت مثابة للناس‏}‏ البيت هاهنا‏:‏ الكعبة، والألف واللام تدخل للمعهود، أو للجنس، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس؛ انصرف إلى المعهود، قال الزجاج‏:‏ والمثاب والمثابة واحد، كالمقام والمقامة، قال ابن قتيبة‏:‏ والمثابة‏:‏ المعاد، من قولك‏:‏ ثبت إلى كذا، أي‏:‏ عدت إليه، وثاب إليه جسمه بعد العلة‏:‏ إذا عاد، فأراد‏:‏ أن الناس يعودون إليه مرة بعد مرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمناً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد أن من أحدث حدثاً في غيره، ثم لجأ إليه؛ فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة أن لا يبايعوه، ولا يطعموه، ولا يسقوه، ولا يؤووه، ولا يكلم حتى يخرج، فاذا خرج؛ أقيم عليه الحد‏.‏ قال قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وصف البيت بالأمن، والمراد جميع الحرم، كما قال‏:‏ ‏{‏هدياً بالغ الكعبة‏}‏ والمراد‏:‏ الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم، لا على وجه الخبر فقط‏.‏

وفي ‏{‏مقام إِبراهيم‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الحرم كله، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ عرفة، والمزدلفة، والجمار، قاله عطاء‏.‏ وعن مجاهد كالقولين‏.‏ وقد روي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، قالوا‏:‏ الحج كله مقام إبراهيم‏.‏ والثالث‏:‏ الحجر، قاله سعيد بن جبير، وهو الأصح‏.‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت‏.‏

وفي سبب وقوف إبراهيم على الحجر قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل، فلم يجده، فقالت له زوجته‏:‏ انزل، فأبى، فقالت‏:‏ فدعني أغسل رأسك، فأتته بحجر فوضع رجله عليه، وهو راكب، فغسلت شقه، ثم رفعته وقد غابت رجله فيه، فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته، فغابت رجله فيه، فجعله الله من شعاره، ذكره السدي عن ابن مسعود وابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ أنه قام على الحجر لبناء البيت، وإسماعيل يناوله الحجارة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

قرأ الجمهور، منهم‏:‏ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏واتخذوا‏}‏ بكسر الخاء؛ على الأمر‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر بفتح الخاء على الخبر‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أين ترون أن نصلي‏؟‏» فقال عمر‏:‏ إلى المقام، فنزلت‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ وجه فتح الخاء‏:‏ أنه معطوف على ما أُضيف إليه، كأنه قال‏:‏ وإذ اتخذوا‏.‏ ويؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر، وهو قوله‏:‏ وعهدنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعهدنا إِلى إِبراهيم وإِسماعيل‏}‏ أي‏:‏ أمرناهما وأوصيناهما‏.‏ وإِسماعيل‏:‏ اسم أعجمي، وفيه لغتان‏:‏ إسماعيل، واسماعين‏.‏ وأنشدوا‏:‏

قال جواري الحي لما جينا *** هذا ورب البيت إسماعينا

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن طهرا بيتي‏}‏ قال قتادة‏:‏ يريد من عبادة الأوثان والشرك، وقول الزور‏.‏ فان قيل‏:‏ لم يكن هناك بيت؛ فما معنى أمرهما بتطهيره‏؟‏ فعنه جوابان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه كانت هناك أصنام، فأمرا بإخراجها، قاله عكرمة‏.‏ والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ ابنياه مطهراً، قاله السدي‏.‏ والعاكفون‏:‏ المقيمون، يقال‏:‏ عكف يعكف ويعكف عكوفاً‏:‏ إذا أقام، ومنه الاعتكاف‏.‏ وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ «إِن الله تعالى يُنزل في كل ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة ينزل على هذا البيت‏:‏ ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين»

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏126‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ قال إِبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً‏}‏ البلد‏:‏ صدر القرى، والبالد‏:‏ المقيم بالبلد، والبلدة‏:‏ الصدر، ووضعت الناقة بلدتها‏:‏ إذا بركت، والمراد بالبلد هاهنا‏:‏ مكة‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏آمناً‏}‏‏:‏ ذا أمنٍ‏.‏ وأمن البلدة مجاز، والمراد‏:‏ أمن من فيه‏.‏ وفي المراد بهذا الأمن ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه سأله الأمن من القتل‏.‏ والثاني‏:‏ من الخسف والقذف‏.‏ والثالث‏:‏ من القحط والجدب، قال مجاهد‏:‏ قال إبراهيم‏:‏ لمن آمن، فقال الله عز وجل‏:‏ ومن كفر فسأرزقه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأمتعه‏}‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏فأمتعه‏}‏ بالتخفيف، من أمتعت‏.‏ وقرأ الباقون بالتشديد من‏:‏ مَتَّعت‏.‏ والإمتاع‏:‏ إعطاء ما تحصل به المتعة‏.‏ والمتعة‏:‏ أخذ الحظ من لذة ما يشتهي‏.‏ وبماذا يمتعه‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ بالأمن‏.‏ والثاني‏:‏ بالرزق‏.‏ والاضطرار‏:‏ الإلجاء إلى الشيء، والمصير‏:‏ ما ينتهي إليه الأمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 129‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏127‏)‏ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏128‏)‏ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏129‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يرفع إِبراهيم القواعد من البيت وإِسماعيل‏}‏‏.‏

القواعد‏:‏ أساس البيت، واحدها‏:‏ قاعدة‏.‏ فأما قواعد النساء؛ فواحدتها‏:‏ قاعد، وهي العجوز‏.‏ ‏{‏ربنا تقبل منا‏}‏ أي‏:‏ يقولان‏:‏ ربنا، فحذف ذلك، كقوله‏:‏ ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 25‏]‏‏.‏ أراد‏:‏ يقولون‏.‏ و‏{‏السميع‏}‏ بمعنى‏:‏ السامع، لكنه أبلغ، لأن بناء فعيل للمبالغة‏.‏ قال الخطابي‏:‏ ويكون السماع بمعنى القبول والاجابة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعوذ بك من دعاء لا يسمع» أي‏:‏ لا يستجاب‏.‏ وقول المصلي‏:‏ سمع الله لمن حمده، أي‏:‏ قبل الله حمد من حمده وأنشدوا‏:‏

دعوت الله حتى خفت أن لا *** يكون الله يسمع ما أقول

الإشارة إلى بناء البيت

روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ «كانت الملائكة تحج إِلى البيت قبل آدم» وقال ابن عباس‏:‏ لما أهبط آدم؛ قال الله تعالى‏:‏ يا آدم‏!‏ اذهب فابن لي بيتاً فطف به، واذكرني حوله كما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي‏.‏ فأقبل يسعى حتى انتهى إلى البيت الحرام، وبناه من خمسة أجبل‏:‏ من لبنان، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وحراء، فكان آدم أول من أسس البيت، وطاف به، ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطوفان، فدرس موضع البيت، فبعث الله إبراهيم وإسماعيل‏.‏ وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه‏:‏ لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت؛ ضاق به ذرعاً، ولم يدر كيف يصنع، فأنزل الله عليه كهيئة السحابة، فيها رأس يتكلم، فقال‏:‏ يا إبراهيم‏!‏ علّم على ظلي، فلما علّم ارتفعت‏.‏ وفي رواية أنه كان يبني عليها كل يوم، قال‏:‏ وحفر إبراهيم من تحت السكينة، فأبدى عن قواعد، ما تحرك القاعدة منها دون ثلاثين رجلاً‏.‏ فلما بلغ موضع الحجر، قال لإسماعيل‏:‏ التمس لي حجراً، فذهب يطلب حجراً، فجاء جبريل بالحجر الأسود، فوضعه، فلما جاء إسماعيل، قال‏:‏ من جاءك بهذا الحجر‏؟‏ قال‏:‏ جاء به من لم يتكل على بنائي وبنائك‏.‏ وقال ابن عباس، وابن المسيب، وأبو العالية‏:‏ رفعا القواعد التي كانت قواعد قبل ذلك‏.‏ وقال السدي‏:‏ لما أمره الله ببناء البيت؛ لم يدر أين يبني، فبعث الله له ريحاً، فكنست حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل الطوفان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المسلم في اللغة‏:‏ الذي قد استسلم لأمر الله، وخضع‏.‏ والمناسك‏:‏ المتعبدات‏.‏ فكل متعبد منسَك ومنسِك، ومنه قيل للعابد‏:‏ ناسك‏.‏ وتسمى الذبيحة المتقرب بها إلى الله، عز وجل‏:‏ النسيكة‏.‏ وكأن الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة لله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرنا مناسكنا‏}‏ أي‏:‏ مذابحنا‏.‏ قاله مجاهد‏.‏ وقال غيره‏:‏ هي جميع أفعال الحج‏.‏

وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏وأرنا‏}‏ بجزم الراء‏.‏ و‏{‏رب أرني‏}‏ ‏[‏الاعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏ و‏{‏أرنا الَّذَينِ أضلانا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي ‏{‏أرنا‏}‏ بكسر الراء في جميع ذلك‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر كذلك، إلا أنهما أسكنا الراء من ‏{‏أرنا اللذين‏}‏ وحدها قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ ‏{‏أرنا‏}‏ وكثير من العرب يجزم الراء، فيقول‏:‏ ‏{‏أرنا مناسكنا‏}‏ وقرأ بها بعض الثقات‏.‏ وأنشد بعضهم‏:‏

قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً *** واشترْ فعجل خادماً لبيقاً

وأنشدني الكسائي‏:‏

ومن يتقْ فان الله معه *** ورزق الله مؤتاب وغادي

قال قتادة‏:‏ أراهما الله مناسكهما‏:‏ الموقف بعرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، والطواف، والسعي، وقال أبو مجلز‏:‏ لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل، فأراه الطواف، ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبعاً، وقال له‏:‏ ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان‏.‏ ثم أتى به جمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فقال‏:‏ ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان‏.‏ ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات‏.‏ فقال له‏:‏ ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان، ثم أتى به منى، فقال‏:‏ هاهنا يحلق الناس رؤوسهم، ثم أتى به جمعاً، فقال‏:‏ هاهنا يجمع الناس، ثم أتى به عرفة، فقال‏:‏ أعرفت‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فمن ثم سميت عرفات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم‏}‏ في الهاء والميم من ‏{‏فيهم‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود على الذرية، قاله مقاتل والفراء‏.‏ والثاني‏:‏ على أهل مكة في قوله‏:‏ ‏{‏وارزق أهله‏}‏ والمراد بالرسول‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ‏"‏ قيل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ما كان بدء أمرك‏؟‏ قال‏:‏ «دعوة أبي إِبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» ‏"‏ والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ والحكمة‏:‏ السنة، قاله ابن عباس‏.‏ وروي عنه‏:‏ الحكمة‏:‏ الفقه والحلال والحرام، ومواعظ القرآن‏.‏ وسميت الحكمة حكمة، لأنها تمنع من الجهل‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويزكيهم‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ يأخذ الزكاه منهم فيطهرهم بها، قاله ابن عباس والفراء‏.‏ والثاني‏:‏ يطهرهم من الشرك والكفر، قاله مقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنك أنت العزيز‏}‏ قال الخطابي‏:‏ العز في كلام العرب على ثلاثة أوجه‏.‏ أحدها‏:‏ بمعنى الغلبة، يقولون‏:‏ من عزبزَّ‏.‏ أي‏:‏ من غلب سلب‏.‏ يقال منه‏:‏ عزَّ يعُزُّ، بضم العين من يعز، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعزَّني في الخطاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 28‏]‏‏.‏ والثاني‏:‏ بمعنى الشدة والقوة، يقال منه‏:‏ عز يعَزُّ، بفتح العين من يعز‏.‏ والثالث‏:‏ أن يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه‏:‏ عز يعِزّ بكسر العين، من يعز‏.‏ ويتناول معنى العزيز على أنه الذي لا يعادله شيء، ولا مثل له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 132‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏130‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏131‏)‏ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرغب عن ملة إِبراهيم‏}‏

سبب نزولها أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه مهاجراً وسلمة إلى الإسلام، فأسلم سلمة، ورغب عن الإسلام مهاجر، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ و«من» لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ‏.‏ والمعنى‏:‏ ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نسفه‏.‏ ويقال‏:‏ رغبت في الشيء‏:‏ إذا أردته‏.‏ ورغبت عنه‏:‏ إذا تركته‏.‏ وملة إبراهيم‏:‏ دينه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا من سفه نفسه‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ إلا من سفّه نفسه، قاله الأخفش ويونس‏.‏ قال يونس‏:‏ ولذلك تعدى إلى النفس فنصبها، وقال الأخفش‏:‏ نصبت النفس لإسقاط حرف الجر، لأن المعنى‏:‏ إلا من سفه في نفسه‏.‏

قال الشاعر‏:‏

نغالي اللحم للأضياف نيئاً *** ونرخصه إذا نضج القدور

والثاني‏:‏ إلا من أهلك نفسه، قاله أبو عبيدة‏.‏ والثالث‏:‏ إلا من سفهتْ نفسُه، كما يقال‏:‏ غبن فلان رأيه، وهذا مذهب الفراء وابن قتيبة‏.‏ قال الفراء‏:‏ نقل الفعل عن النفس إلى ضمير «من»، ونصبت النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال‏:‏ ضقت بالأمر ذرعاً، يريدون‏:‏ ضاق ذرعي به، ومثله‏:‏ ‏{‏واشتعل الرأس شيبا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والرابع‏:‏ إلا من جهل نفسه، فلم يفكر فيها، وهو اختيار الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ لمن الصالحي الحال عند الله تعالى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الصالح في الآخرة‏:‏ الفائز‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ قال له ربه أسلم‏}‏ وذلك حين وقوع الاصطفاء، قال ابن عباس‏:‏ لما رأى الكوكب والقمر والشمس، قال له ربه أسلم، أي‏:‏ أخلص‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووصَّى‏}‏ قرأ ابن عباس وأهل المدينة‏:‏ ‏{‏وأوصى‏}‏ بألف، مع تخفيف الصاد، والباقون بغير ألف مشددة الصاد، وهذا لاختلاف المصاحف‏.‏ أخبرنا ابن ناصر، قال‏:‏ أخبرنا ثابت، قال‏:‏ أخبرنا ابن قشيش، قال‏:‏ أخبرنا ابن حيَّويه، قال‏:‏ حدثنا ابن الأنباري، قال‏:‏ أخبرنا ثعلب، قال‏:‏ أملى عليَّ خلف بن هشام البزار قال‏:‏ اختلف مصحفا أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفاً‏:‏ كتب أهل المدينة ‏{‏وأوصى‏}‏ وأهل العراق ‏{‏ووصّى‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏سارعوا إلى مغفرة من ربكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏‏.‏ بغير واو وأهل العراق‏:‏ ‏{‏وسارعوا‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏يقول الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 56‏]‏ وأهل العراق‏:‏ ‏{‏ويقول‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏من يرتدد‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 57‏]‏ وأهل العراق ‏{‏من يرتدَّ‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏الذين اتخذوا مسجداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏‏.‏ وأهل العراق ‏{‏والذين‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏خيراً منهما منقلباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 37‏]‏ وأهل العراق‏:‏ ‏{‏منها‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏فتوكل على العزيز الرحيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 217‏]‏‏.‏ وأهل العراق‏:‏ ‏{‏وتوكل‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏وأن يظهر في الأرض الفساد‏}‏ ‏[‏المؤمن‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وأهل العراق‏:‏ ‏{‏أو أن يظهر‏}‏ وكتب أهل المدينة في «حم عسق»‏:‏ ‏{‏بما كسبت أيديكم‏}‏ بغير فاء، وأهل العراق‏:‏ ‏{‏فبما‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏ما تشتهيه الأنفس‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏ بالهاء وأهل العراق‏:‏ ‏{‏ما تشتهي‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏فان الله الغني الحميد‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 26‏]‏ وأهل العراق‏:‏ ‏{‏إِن الله هو الغني الحميد‏}‏ وكتب أهل المدينة‏:‏ ‏{‏فلا يخاف عقباها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 15‏]‏ وأهل العراق‏:‏ ‏{‏ولا يخاف‏}‏‏.‏

ووصّى أبلغ من أوصى، لأنها تكون لمرات كثيرة، وهاء «بها» تعود على المسألة‏.‏ قاله عكرمة والزجاج‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وبنوه أربعة‏:‏ إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدائن‏.‏ وذكر غير مقاتل أنهم ثمانية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تموتنَّ إِلا وأنتم مسلمون‏}‏ يريد‏:‏ الزموا الإسلام، فاذا أدرككم الموت صادفكم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 134‏]‏

‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏133‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداءَ إِذ حضر يعقوبَ الموتُ‏}‏

سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه يوم مات باليهودية‏؟‏ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك أُمة قد خلت‏}‏ أي‏:‏ مضت، يشير إلى إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏135- 136‏]‏

‏{‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏135‏)‏ قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا كونوا هوداً‏}‏

معناه‏:‏ قالت اليهود‏:‏ كونوا هوداً، وقالت النصارى‏:‏ كونوا نصارى، تهتدوا‏.‏ ‏{‏بل ملة إِبراهيم حنيفاً‏}‏ المعنى‏:‏ بل نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفيته‏.‏ وفي الحنيف قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه المائل إلى العبادة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الحنيف في اللغة‏:‏ المائل إلى الشيء، أُخذ من قولهم‏:‏ رجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها‏.‏ قالت أُم الأحنف ترقصه‏:‏

والله لولا حَنَفٌ برجله *** ودِقة في ساقه من هزله

ما كان في فتيانكم من مثله *** والثاني‏:‏ أنه المستقيم، ومنه قيل للأعرج‏:‏ حنيف، نظراً له إلى السلامة، هذا قول ابن قتيبة، وقد وصف المفسرون الحنيف بأوصاف، فقال عطاء‏:‏ هو المخلص، وقال ابن السائب‏:‏ هو الذي يحج‏.‏ وقال غيرهما‏:‏ هو الذي يوحّد ويحج، ويضحي ويختتن، ويستقبل الكعبة‏.‏

فأما الأسباط‏:‏ فهم بنوا يعقوب، وكانوا اثني عشر رجلاً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ السبط في اللغة‏:‏ الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد‏.‏ والسبط في اللغة‏:‏ الشجرة لها قبائل، فالسبط‏:‏ الذين هم من شجرة واحدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏137‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان آمنوا‏}‏ يعني‏:‏ أهل الكتاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بمثل ما آمنتم به‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن معناه‏:‏ مثل إيمانكم، فزيدت الباء للتوكيد، كما زيدت في قوله‏:‏ ‏{‏وهزّي إِليك بجذع النخلة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 24‏]‏‏.‏ قاله ابن الأنباري‏.‏ والثاني‏.‏ أن المراد بالمثل هاهنا‏:‏ الكتاب، وتقديره‏:‏ فان آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم، قاله أبو معاذ النحوي‏.‏ والثالث‏:‏ أن المثل هاهنا‏:‏ صلة، والمعنى‏:‏ فان آمنوا بما آمنتم به‏.‏ ومثله قوله‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ أي‏:‏ ليس كهو شيء‏.‏ وأنشدوا‏:‏

يا عاذلي دعنيَ من عذلكا *** مثليَ لا يقبل من مثلكا

أي‏:‏ أنا لا أقبل منك، فأما الشقاق؛ فهو المشاقة والعداوة، ومنه قولهم‏:‏ فلان قد شق عصا المسلمين، يريدون‏:‏ فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إمامهم، فكأنه صار في شق غير شقهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسيكفيكهم الله‏}‏ هذا ضمان لنصر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صبغةَ الله‏}‏ سبب نزولها أن النصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم، يقال له‏:‏ المعمودية، ليطهروه بذلك، ويقولون‏:‏ هذا طهور مكان الختان، فاذا فعلوا ذلك؛ قالوا‏:‏ صار نصرانياً حقاً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏ قال ابن مسعود وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والنخعي، وابن زيد‏:‏ ‏{‏صبغةَ الله‏}‏‏:‏ دينه‏.‏ قال الفراء‏:‏ ‏{‏صبغةَ الله‏}‏ ‏[‏نصب‏]‏ مردودة على الملة‏.‏ وقرأ ابن عبلة‏:‏ ‏{‏صبغةُ الله‏}‏ بالرفع على معنى‏:‏ هذه صبغة الله‏.‏ وكذلك قرأ‏:‏ ‏{‏ملةُ إِبراهيم‏}‏ بالرفع أيضاً على معنى‏:‏ هذه ملة إبراهيم‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المراد بصبغة الله‏:‏ الختان، فسماه صبغة، لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ‏[‏ويقولون‏:‏ هذا طهرة لهم، كالختان للحنفاء‏]‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏صبغة الله‏}‏ أي‏:‏ الزموا صبغة الله، لا صبغة النصارى أولادهم، وأراد بها‏:‏ ملة ابراهيم‏.‏ وقال غيره‏:‏ إنما سمي الدين صبغة لبيان أثره على الإنسان، كظهور الصبغ على الثوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتحاجُّوننا في الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ يهود المدينة، ونصارى نجران‏.‏ والمحاجة‏:‏ المخاصمة في الدين، فان اليهود قالت‏:‏ نحن أهل الكتاب الأول‏.‏ وقيل‏:‏ ظاهرت اليهود عبدة الأوثان، فقيل لهم‏:‏ تزعمون أنكم موحدون، ونحن نوحد، فلم ظاهرتم من لا يوحد‏؟‏‏!‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة، ثم نسخ بآية السيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140- 141‏]‏

‏{‏أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏140‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم تقولون إِن إِبراهيم وإسماعيل‏}‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏

سبب نزولها أن يهود المدينة، ونصارى نجران قالوا للمؤمنين‏:‏ إن أنبياءَ الله كانوا منا من بني إسرائيل، وكانوا على ديننا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إن الله قد أعلمنا بدين الأنبياء، ولا أحد أعلم به منه‏.‏ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏أَم يقولون‏}‏ بالياء على وجه الخبر عن اليهود‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏تقولون‏}‏ بالتاء لأن قبلها مخاطبة، وهي «أتحاجوننا» وبعدها ‏{‏قل أأَنتم أعلم‏}‏‏.‏

وفي الشهادة التي كتموها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن الله تعالى شهد عندهم بشهادة لإبراهيم ومن ذكر معه أنهم كانوا مسلمين، فكتموها، قاله الحسن، وزيد بن أسلم‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم كتموا الإسلام، وأمر محمد وهم يعلمون أنه نبيٌّ دينه الإسلام، قاله أبو العالية وقتادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏142‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول السفهاء من الناس‏}‏

فيهم ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم اليهود، قاله البراء بن عازب، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والثاني‏:‏ أنهم أهل مكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ أنهم المنافقون، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس‏.‏ وقد يمكن أن يكون الكل قالوا ذلك، والآية نزلت بعد تحويل القبلة‏.‏ والسفهاء‏:‏ الجهلة‏.‏ ما ولاهم، أي‏:‏ صرفهم عن قبلتهم‏:‏ يريد‏:‏ قبلة المقدس‏.‏

واختلف العلماء في مدة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى بيت المقدس بعد قدومه إلى المدينة على ستة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر، قاله البراء به عازب‏.‏ والثاني‏:‏ سبعة عشر شهراً، قاله ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ ثلاثة عشر شهراً، قاله معاذ بن جبل‏.‏ والرابع‏:‏ تسعة أشهر، أو عشرة أشهر، قاله أنس بن مالك‏.‏ والخامس‏:‏ ستة عشر شهراً‏.‏ والسادس‏:‏ ثمانية عشر شهراً، روي القولان عن قتادة‏.‏

وهل كان استقباله إلى بيت المقدس برأيه، أو عن وحي‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه كان بأمر الله تعالى ووحيه، قاله ابن عباس وابن جريج‏.‏ والثاني‏:‏ أنه كان باجتهاده ورأيه، قاله الحسن، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاؤوا بقوله‏:‏ ‏{‏ولله المشرق والمغرب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس‏.‏ وفي سبب اختياره بيت المقدس قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ ليتألف أهل الكتاب، ذكره بعض المفسرين‏.‏ والثاني‏:‏ لامتحان العرب بغير ما ألفوه، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏143‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏

سبب نزولها أن اليهود قالوا‏:‏ قبلتنا قبلة الأنبياء، ونحن عدلٌ بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏ والأمة‏:‏ الجماعة والوسط‏:‏ العدل، قاله ابن عباس، وأبو سعيد، ومجاهد، وقتادة، وقال ابن قتيبة‏:‏ الوسط‏:‏ العدل، الخيار، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أوسطهم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 28‏]‏ أي‏:‏ أعدلهم، وخيرهم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم *** إِذا نزلت إِحدى الليالي بِمُعْظَم

وأصل ذلك أن خير الأشياء أوساطها، والغلو والتقصير مذمومان‏.‏ وذكر ابن جرير الطبري أنه من التوسط في الفعل، فان المسلمين لم يقصروا في دينهم كاليهود، فإنهم قتلوا الأنبياء، وبدلوا كتاب الله، ولم يغلوا كالنصارى، فانهم زعموا أن عيسى ابن الله‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ في هذا الكلام محذوف، ومعناه‏:‏ جعلت قبلتكم وسطاً بين القبلتين، فان اليهود يصلون نحوالمغرب، والنصارى نحو المشرق، وأنتم بينهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ لتشهدوا للأنبياء على أممهم‏.‏ روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، ويجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك، فيقال لهم‏:‏ أبلّغكم هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا، فيقال للنبي‏:‏ أبلّغتهم‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، فيقال‏:‏ من يشهد لك‏؟‏ قال‏:‏ محمد وأمته؛ فيشهدون أن الرسل قد بلّغوا، فيقال‏:‏ ما علمكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلّغوا، فصدقناه ‏"‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ وهذا مذهب عكرمة، وقتادة، والثاني‏:‏ أن معناه‏:‏ لتكونوا شهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم، على الأمم‏:‏ اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكون الرسول عليكم شهيداً‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم، وبماذا يشهد عليهم‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ بأعمالهم، قاله ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وابن زيد‏.‏ والثاني‏:‏ بتبليغهم الرسالة، قاله قتادة، ومقاتل‏.‏ والثالث‏:‏ بإيمانهم، قاله أبو الغالية‏.‏ فيكون على هذا «عليكم» بمعنى‏:‏ لكم‏.‏ قال عكرمة‏:‏ لا يسأل عن هذه الأمة إلا نبيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا القبلة التي كنت عليها‏}‏ يريد‏:‏ قبلة بيت المقدس‏.‏ ‏{‏إِلا لنعلم‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ لنرى‏.‏ والثاني‏:‏ لنميز‏.‏ رُويا عن ابن عباس‏.‏ والثالث‏:‏ لنعلمه واقعاً، إذ علمه قديم، قاله جماعة من أهل التفسير، وهو يرجع إلى قول ابن عباس‏:‏ «لنرى»‏.‏ والرابع‏:‏ أن العلم راجع إلى المخاطبين، والمعنى‏:‏ لتعلموا أنتم، قاله الفراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ممن ينقلب على عقبيه‏}‏ أي‏:‏ يرجع إِلى الكفر، قاله ابن زيد، ومقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن كانت لكبيرة‏}‏ في المشار إِليها قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه التولية إلى الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ أنها قبلة بيت المقدس قبل التحول عنها، قاله أبوالعالية، والزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليُضيع إِيمانكم‏}‏ نزل على سبب؛ وهو أن المسلمين قالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أرأيت إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس‏؟‏‏!‏ فأنزل الله ‏{‏وما كان الله ليضيع إِيمانكم‏}‏ والإيمان المذكور هاهنا أريد به‏:‏ الصلاة في قول الجماعة‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سمى الصلاة إيماناً، لاشتمالها على قول ونية وعمل‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإنما أسند الإيمان إلى الأحياء ‏[‏من المؤمنين‏]‏ والمعنى‏:‏ فيمن مات ‏[‏من المسلمين قبل أن تحول القبلة‏]‏ لأنهم داخلون معهم في الملة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لرؤوف‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏لرؤوف‏}‏ على وزن‏:‏ لرعوف، في جميع القرآن، ووجهها‏:‏ أن فعولاً أكثر في كلامهم من فعل، فباب ضروب وشكور، أوسع من باب حذر ويقظ‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم‏:‏ ‏{‏لرؤف‏}‏ على وزن‏:‏ رَعُفٍ‏.‏ ويقال‏:‏ هو الغالب على أهل الحجاز‏.‏ قال جرير‏:‏

ترى للمسلمين عليك حقاً *** كفعل الوالد الرَّؤُف الرحيم

والرؤوف بمعنى‏:‏ الرحيم، هذا قول الزجاج‏.‏ وذكر الخطابي عن بعض أهل العلم أن الرأفة أبلغ الرحمة وأرقُها‏.‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ الرأفة أخص، والرحمة أعم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏

سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يحب أن يوجه إلى الكعبة، قاله البراء، وابن عباس، وابن المسيب، وأبو العالية، وقتادة، وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول السفهاء من الناس‏}‏ واختلفوا في سبب اختيار النبي الكعبة على بيت المقدس على قولين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها كانت قبلة إبراهيم، روي عن ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ لمخالفة اليهود، قاله مجاهد‏.‏ ومعنى تقلب وجهه‏:‏ نظره إليها يميناً وشمالاً‏.‏ و«في» بمعنى «إِلى» و«ترضاها» بمعنى‏:‏ «تحبها»‏.‏ و«الشطر»‏:‏ النحو من غير خلاف‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ أتى الناس آت وهم في صلاة الصبح بقباء، فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وأمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها ‏[‏وكانت وجوههم إلى الشام‏]‏ فاستداروا وهم في صلاتهم‏.‏

فصل

اختلف العلماء أي وقت حولت القبلة‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها حولت في صلاة الظهر يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله المدينة، قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار‏.‏ والثاني‏:‏ أنها حولت يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدمه المدينة، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ أنها حولت في جمادى الآخرة، حكاه ابن سلامة المفسر عن إبراهيم الحربي‏.‏

وفي‏:‏ ‏{‏الذين أُوتوا الكتاب‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ اليهود، قاله مقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ اليهود والنصارى، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيعلمون أنه الحق‏}‏ يشير إلى ما أُمر به من التوجه إلى الكعبة، ثم توعدهم بباقي الآية على كتمانهم ما علموا‏.‏ ومن أين علموا أنه الحق‏؟‏ فيه أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أن في كتابهم الأمر بالتوجه إليها، قاله أبو العالية‏.‏ والثاني‏:‏ يعلمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم‏.‏ والثالث‏:‏ أن في كتابهم أن محمداً رسول صادق، فلا يأمر إلا بحق‏.‏ والرابع‏:‏ أنهم يعلمون جواز النسخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أَتيت الذين أُوتوا الكتاب بكل آية‏}‏

سبب نزولها أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للنبي‏:‏ ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما تبعوا قبلتك‏}‏ يريد‏:‏ الكعبة ‏{‏وما بعضهم بتابع قبلة بعض‏}‏ لأن اليهود يصلون قبل المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قبل المشرق ‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏ فصليت إلى قبلتهم ‏{‏من بعد ما جاءك من العلم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يريد بالعلم‏:‏ البيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه‏}‏ في هاء «يعرفونه» قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود على النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ تعود على صرفه إلى الكعبة، قاله أبو العالية، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏ وفي الحق الذي كتموه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه التوجه إلى الكعبة، قاله السدي، ومقاتل في آخرين‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ وهم يعلمون أنه حق‏.‏ والثاني‏:‏ وهم يعلمون ما على مخالفه من العقاب‏.‏