فصل: الجزء الأول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***


شرح التبصرة والتذكرة

مقدمة المصنف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الحمدُ للهِ الذي قَبِلَ بصحيحِ النيّةِ حسنَ العملِ، وحَملَ الضعيفَ المنقطِعَ على مراسيلِ لُطفِهِ فاتّصلَ، ورفعَ مَنْ أسندَ في بابهِ، ووقفَ مَنْ شَذَّ عنْ جنابهِ وانفصلَ، ووصلَ مقاطيعَ حُبِّهِ، وأدرجَهُمْ في سلسلةِ حزبهِ؛ فسكنَتْ نفوسُهُم عن الاضطرابِ والعِللِ، فموضوعُهُم لا يكونُ محمولاً، ومقلوبُهُم لا يكونُ مقبُولاً ولا يُحْتَمَلُ‏.‏

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه، الفردُ في الأزلِ‏.‏ وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلَهُ والدينُ غريبٌ فأصبحَ عزيزاً مشهوراً واكتملَ، وأوضحَ به معضلاتِ الأُمورِ، وأزالَ به منكراتِ الدُّهُورِ الأُوَلِ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ ما علا الإسنادُ ونزَلَ، وطلعَ نجمٌ وأفلَ‏.‏

وبعدُ‏:‏ فعلمُ الحديثِ خطيرٌ وَقْعُهُ، كثيرٌ نفعُهُ، عليه مدارُ أكثرِ الأحكامِ، وبه يُعْرَفُ الحلالُ والحرامُ، ولأهلهِ اصطلاحٌ لابدَّ للطالبِ منْ فَهْمِهِ فلهذا نُدِبَ إلى تقديمِ العنايةِ بكتابٍ في علمِهِ‏.‏ وكنتُ نظمْتُ فيهِ أُرجوزةً أَلَّفْتُهَا، ولبيانِ اصطلاحِهمُ أَلَّفْتُهُاْ، وشرعْتُ في شرحٍ لها، بسطتُهُ وأوضحتُه، ثم رأيتُه كبيرَ الحجمِ فاستطَلتُهُ ومَلِلتُه، ثم شرعْتُ في شرحٍ لها متوسطٍ غيرِ مُفْرِطٍ ولا مُفَرِّطٍ، يُوضِحُ مُشْكِلَهَا، ويفتحُ مُقْفَلَها، ما كَثُرَ فأَمَلَّ، ولا قَصُرَ فأَخَلَّ، مَعَ فوائدَ لا يستغني عنها الطالبُ النبيهُ، وفرائدَ لا توجدُ مجتمعةً إلا فيهِ، جعلَهُ اللهُ تعالى خالصاً لوجهِهِ الكريمِ، ووسيلةً إلى جنات النعيمِ‏.‏

1‏.‏ يَقُوْلُ رَاجِي رَبِّهِ المُقْتَدِرِ *** عَبْدُ الرَّحيمِ بنُ الحُسَيْنِ الأَثَريْ

2‏.‏ مِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ ذِي الآلاءِ *** عَلَى امْتِنَانٍ جَلَّ عَنْ إحْصَاءِ

3‏.‏ ثُمَّ صَلاَةٍ وسَلامٍ دَائِمِ *** عَلَى نَبِيِّ الخَيْرِ ذِي المَرَاحِمِ

4‏.‏ فَهَذِهِ المَقَاصِدُ المُهِمَّهْ *** تُوْضِحُ مِنْ عِلْمِ الحدِيْثِ رَسْمَهْ

‏(‏الأَثَرِيُّ‏)‏- بفتحِ الهمزةِ والثاءِ المثلثةِ-‏:‏ نسبةٌ إلى الأَثَرِ، وهو الحديثُ واشتهرَ بها الحسينُ بنُ عبدِ الملكِ الخلاَّلُ الأثريُّ، وعبدُ الكريمِ بنُ منصورٍ الأثريُّ، في آخرينَ‏.‏

‏(‏والآلاءُ‏)‏‏:‏ النِّعَمُ، واحدُها أَلاً بالفتحِ والتنوينِ كَرَحًى، وقيلَ‏:‏ بالكسرِ كمِعًى، وقيلَ‏:‏ بالكسرِ وسكونِ اللامِ والتنوينِ كَنِحْىً، وقيلَ‏:‏ بالفتحِ وتركِ التنوينِ كقَفَى‏.‏ ‏(‏والمراحمُ‏)‏‏:‏ جمعُ مَرْحَمَةٍ، وهي الرحمةُ‏.‏ وفي صحيحِ مسلمٍ‏:‏ «أنا نبيُّ المَرْحَمْةِ»، وفي روايةٍ‏:‏ الرحمة، وفي روايةٍ‏:‏ الملحَمْةِ‏.‏

والمرادُ برسْمِ الحديثِ‏:‏ آثارُ أهلِهِ التي بَنَوا عليها أصولَهُم‏.‏ والرسمُ في اللغةِ‏:‏ الأثرُ، ومنهُ رسمُ الدارِ، وهو ما كان مِنْ آثارها لاصقاً بالأرض، وعَبَّرَ بالرسمِ هنا إشارةً إلى دُرُوْسِ كثيرٍ مِنْ هذا العلمِ، وإنَّهُ بقيتْ منهُ آثارٌ يُهْتَدَى بها، ويُبْنَى عليها‏.‏

5‏.‏ نَظَمْتُهَا تَبْصِرَةً لِلمُبتَدِيْ *** تَذْكِرَةً لِلْمُنْتَهِيْ وَالْمُسْنِدِ

6‏.‏ لَخَّصْتُ فيهَا ابْنَ الصَّلاحِ أَجْمَعَهْ *** وَزِدْتُهَا عِلْماً تَرَاهُ مَوْضِعَهْ

‏(‏المسنِدُ‏)‏‏:‏ بكسرِ النونِ فاعلُ أسندَ الحديثَ، أي‏:‏ رواهُ بإسنادِهِ‏.‏ وأَما عبدُ اللهِ ابنُ محمدِ المُسْنَدي، فهو- بفتحهَا- أحدُ شيوخِ البخاريِّ‏.‏

وقولهُ‏:‏ ‏(‏لخصتُ فيها ابنَ الصلاحِ‏)‏، أي‏:‏ كتابَ ابنِ الصَّلاحِ‏.‏ والمرادُ مسائلُهُ وأقسامُهُ دونَ كثيرٍ من أمثلتِهِ وتعاليلِهِ ونسبةِ أقوالٍ لقائليها وما تكررَ فيهِ‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏(‏وزدتُها علماً‏)‏‏:‏ اعْلَمْ أَنَّ ما زدتُهُ فيها على ابنِ الصلاحِ أكثرُهُ مَيَّزْتُ أولَهُ بقولي‏:‏ ‏"‏ قلت ‏"‏ ولم أميّزْ آخرَه، بل قدْ يتميزُ بالواقعِ إِنْ كانَ آخرَ مسألةٍ في تلكَ الترجمةِ المترجَمِ عليها، وأميزُ ما لمْ يقعْ آخرَ الترجمةِ في هذا الشرحِ إِنْ شاءَ اللهُ تعالى‏.‏ ومِنَ الزياداتِ ما لم أميزْ أولَهُ بقولي‏:‏ قلتُ‏.‏ إذْ هو مُمَيَّزٌ بنفسِهِ عند مَنْ لَهُ معرفةٌ؛ بأَنْ يكونَ حكايةً عَمَّنْ هو متأخّرٌ عن ابن الصلاح كالنوويِّ، وابنِ دقيقِ العيدِ، وابن رُشَيدٍ، وابنِ سَيِّدِ الناسِ كما ستراهُ‏.‏ وكذلك إذا تُعقّبَ كلامُ ابنِ الصلاحِ بِرَدٍّ أو إيضاحٍ له، فهو واضحٌ في أنّهُ مِنَ الزياداتِ، وكذلك إذا تُعقبَ كلامُ مَنْ هو متأخرٌ عن ابنِ الصلاحِ بطريقٍ أولى‏.‏ ومن الزياداتِ ما لَمْ أُميّزْ أولَها ولا تميزَتْ بنفسِها بما تقدمَ؛ فأميزُهَا في الشرحِ، وهي مواضعُ يسيرةٌ رأيتُ أنْ أجمعَهَا هنا لتُعْرَفَ‏.‏

فمنها في آخرِ البابِ الأولِ قولُه‏:‏ ‏(‏ولُمْ منْ عَمَّمَهُ‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ في التدليسِ النقلُ عن الأكثرينَ أنّهمُ قبلوا ما صرحَ ثقاتُ المدلّسينَ بوصلِهِ‏.‏

ومنها‏:‏ قولي في آخرِ القسمِ الثالثِ من أقسامِ المجهولِ‏:‏ ‏(‏وفيه نظرٌ‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ في مراتبِ التعديلِ ومراتبِ الجرحِ زيادةُ ألفاظٍ لم يذكرْهَا ابنُ الصلاحِ مَيَّزْتُها هناكَ في الترجمتينِ المذكورتينِ‏.‏

ومنها‏:‏ قولي في صُوَرِ المناولةِ‏:‏ ‏(‏وأعلاَها‏)‏‏.‏

ومنها قولي‏:‏ ‏(‏فيما إذا ناولَ واستّردَّ عند المحقِّقين‏)‏‏.‏

ومنها في آخر المناولةِ قولي‏:‏ ‏(‏يُفيدُ حيثُ وقعَ التَّبيُّنُ‏)‏‏.‏

ومنها قولي في كتابةِ الحديثِ‏:‏ ‏(‏وكَتْبِ السَّهْمِي‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ تقطيعُ حروفِ الكلمةِ المُشْكِلَةِ في هامشِ الكتابِ‏.‏

ومنها‏:‏ استثناءُ الحاءِ مما يُنَقَّطُ أسفلَ من الحروفِ المُهْمَلَةِ‏.‏

ومنها‏:‏ بيانُ أَنَّ مُسْنَدَ يعقوبَ بنِ شيبةَ ما كَمُلَ‏.‏

ومنها‏:‏ ذكرُ العسكريِّ فيمَنْ صَنَّفَ في التصحيفِ‏.‏

ومنها‏:‏- في المُؤتَلِفِ والمُختَلِفِ- استثناءُ الحِزامي الذي أُبْهِمَ اسمُهُ، فإنَّ فيه الخلافَ في الراءِ والزاي‏.‏

7‏.‏ فَحَيْثُ جَاءَ الفِعْلُ والضَّميْرُ *** لِواحِدٍ وَمَنْ لَهُ مَسْتُوْرُ

8‏.‏ ك‍َ ‏(‏قَالَ‏)‏ أوْ أَطْلَقْتُ لَفْظَ الشَّيْخِ مَا *** أُرِيْدُ إلاَّ ابْنَ الصَّلاحِ مُبْهَما

هذا بيانُ ما اصطلَحْتُ عليهِ للاختصارِ، أي‏:‏ إذا أتى فعلٌ لواحدٍ لا لجماعةٍ، أو اثنينِ، ولم يُذْكَرْ فاعلُهُ معهُ‏.‏ ولا قبلهُ؛ فالمرادُ بفاعلِهِ الشيخُ أبو عَمْرو ابنُ الصلاحِ‏.‏ كقولِه‏:‏ وقالَ‏:‏ ‏(‏بانَ لي بإمعانِ النظرِ‏)‏‏.‏ وكذا إذا أتى بضميرٍ موَحدٍ لا يعودُ على اسمٍ تقدم قَبلَهُ؛ فالمرادُ به ابنُ الصلاحِ كقولهِ‏:‏ كذا له وقيل ظَنَاً وَلَدَى‏.‏ وكذا إذا أُطلِقَ الشيخُ فالمرادُ به ابنُ الصلاحِ، كقولهِ‏:‏ فالشيخُ فيما بعدُ قد حَقَّقَهُ‏.‏ وقولُه‏:‏ ‏(‏مُبْهَماً‏)‏ بالباءِ الموحّدةِ وفتحِ الهاءِ، ويجوزُ كسرُهَا‏.‏

9‏.‏ وَإِنْ يَكُنْ لاثْنَيْنِ نَحْوُ ‏(‏الْتَزَمَا‏)‏ *** فَمُسْلِمٌ مَعَ البُخَارِيِّ هُمَا

10‏.‏ وَاللهَ أرجُوْ في أُمُوْرِي كُلِّهَا *** مُعْتَصِماً في صَعْبِهَا وَسَهْلِهَا

أي‏:‏ وإِنْ يكن الفعلُ أو الضميرُ المذكورانِ لاثنينِ، كقولهِ‏:‏ ‏(‏واقطعْ بصحَّةٍ لما قدْ أَسندَا‏)‏، وكقولهِ‏:‏ ‏(‏وأَرْفَعُ الصحيحِ مَرْوِيُّهُمَا‏)‏، فالمرادُ بذلك‏:‏ البخاريُّ ومسلمٌ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏معتصَماً‏)‏ بفتحِ الصادِ على التمييزِ، ويجوزُ كسرُها على الحالِ‏.‏

أَقْسَامُ الحَدِيْثِ

‏[‏الحديث الصحيح‏]‏

11‏.‏ وَأَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ قَسَّمُوا السُّنَنْ *** إلى صَحِيْحٍ وَضَعِيْفٍ وَحَسَنْ

12‏.‏ فَالأَوَّلُ الْمُتَّصِلُ الإسْنَادِ *** بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطِ الْفُؤَادِ

13‏.‏ عَنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَا شُذُوْذِ *** وَعِلَّةٍ قَادِحَةٍ فَتُوْذِي

أي‏:‏ وأهلُ الحديثِ‏.‏ قال الخطَّابيُّ في ‏"‏ معالمِ السُّنَنِ ‏"‏‏:‏ «اعلموا أَنَّ الحديثَ عندَ أهلِهِ على ثلاثةِ أقسامٍ‏:‏ حديثٌ صحيحٌ، وحديثٌ حسنٌ وحديثٌ سَقيْمٌ؛ فالصحيحُ عندَهُم‏:‏ ما اتّصلَ سندُهُ وعُدِّلَتْ نَقَلَتُهُ»‏.‏ فلمْ يشترطِ الخطَّابيُّ في الحدِّ ضَبْطَ الراوي، ولا سلامَةَ الحديثِ من الشذوذِ والعلّةِ‏.‏ ولا شكَ أَنَّ ضَبْطَ الراوي لابُدَّ منِ اشتراطِه؛ لأنَّ مَنْ كَثُرَ الخطأُ في حديثِهِ، وفَحُشَ؛ استحقَ التْركَ، وإنْ كانَ عدلاً‏.‏

وأما السلامةُ من الشذوذِ والعلةِ، فقالَ الشيخُ تقيُّ الدينِ ابنُ دَقيقِ العيدِ في ‏"‏ الاقتراح ‏"‏‏:‏ «إِنَّ أصحابَ الحديثِ زادوا ذلكَ في حدِّ الصحيحِ‏.‏ قال‏:‏ وفي هذينِ الشرطينِ نظرٌ على مقتضى نَظَرِ الفقهاءِ، فإنَّ كثيراً من العِلَلِ التي يُعَلِّلُ بها المحدِّثونَ لا تجرِي على أُصولِ الفقهاءِ»‏.‏

قلتُ‏:‏ قد احترزْتُ بقولي‏:‏ ‏(‏قادحةً‏)‏، عن العلةِ التي لا تقدحُ في صحّةِ الحديثِ‏.‏ فقولي‏:‏ ‏(‏المتّصلُ الإسنادِ‏)‏، احترازٌ عمّا لم يتصلْ وهو المنقطعُ، والمرسلُ، والمعضلُ، وسيأتي إيضاحُها‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏بنقلِ عدلٍ‏)‏، احترازٌ عما في سندِهِ مَنْ لم تُعْرَفْ عدالتُهُ، إما بأنْ يكونَ عُرِفَ بالضعفِ أو جُهِلَ عيناً، أو حالاً، كما سيأتي في بيانِ المجهولِ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏ضابطٌ‏)‏، احترازٌ عمّا في سندِهِ راوٍ مغفّلٌ، كثيرُ الخطأ، وإِنْ عُرِفَ بالصدقِ والعدالةِ‏.‏ وقولي‏:‏ و ‏(‏غيرُ ما شذوذٍ وعلةٍ قادحةٍ‏)‏، احترازٌ عن الحديثِ الشاذِّ والمعللِ، بعلةٍ قادحةٍ‏.‏ وما‏:‏ هنا مُقْحَمَةٌ‏.‏ ولم يذكُرِ ابنُ الصلاحِ في نفسِ الحدِّ قادحةً ولكنه ذكرَهُ بعد سَطْرٍ فيما احْتَرَزَ عنه، فقال‏:‏ «وما فيهِ علةٌ قادحةٌ»‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏

«فهذا هو الحديثُ الذي يُحْكَمُ له بالصحةِ بلا خلافٍ بين أهلِ الحديث»‏.‏ وإنّما قَيَّدَ نفيَ الخلافِ بأهلِ الحديثِ؛ لأنَّ بعضَ متأخّري المعتزلةِ يشترطُ العددَ في الروايةِ كالشهادةِ، حكاهُ الحازميُّ في شروط الأئمة‏.‏ قال ابنُ دقيقِ العيد‏:‏ «لو قِيْلَ‏:‏ في هذا‏:‏ الحديثُ الصحيحُ المجمعُ على صحتِهِ، هو كذا وكذا إلى آخرِه لكانَ حسناً؛ لأَنَّ مَنْ لا يشترطُ مثلَ هذهِ الشروطِ، لا يحصُرُ الصحيحَ في هذه الأوصافِ‏.‏ قال‏:‏ ومِنْ شرطِ الحدِّ أَنْ يكونَ جامعاً مانعاً»‏.‏

14‏.‏ وَبالصَّحِيْحِ وَالضَّعِيفِ قَصَدُوا *** في ظَاهِرٍ لاَ الْقَطْعَ، وَالْمُعْتَمَدُ

15‏.‏ إمْسَاكُنَا عَنْ حُكْمِنَا عَلى سَنَدْ *** بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطْلَقاً، وَقَدْ

16‏.‏ خَاضَ بهِ قَوْمٌ فَقِيْلَ مَالِكُ *** عَنْ نَافِعٍ بِمَا رَوَاهُ النَّاسِكُ

17‏.‏ مَوْلاَهُ وَاخْتَرْ حَيْثُ عَنْهُ يُسْنِدُ *** الشَّافِعِيْ قُلْتُ‏:‏ وعَنْهُ أَحْمَدُ

أي‏:‏ حيثُ قال أهلُ الحديثِ‏:‏ هذا حديثٌ صحيحٌ، فمرادُهُم فيما ظهرَ لنا عملاً بظاهر الإسنادِ، لا أَنَّهُ مقطوعٌ بصحتِهِ في نفسِ الأمرِ، لجوازِ الخطأ والنسيانِ على الثقةِ، هذا هو الصحيحُ الذي عليه أكثرُ أهلِ العلمِ، خلافاً لِمَنْ قالَ‏:‏ إنَّ خبرَ الواحدِ يوجبُ العلمَ الظاهرَ، كحسين بن علي الكرابيسيِّ وغيرِهِ‏.‏ وحكاه ابنُ الصباغِ في ‏"‏ العُدَّةِ ‏"‏ عن قومٍ مِنْ أصحابِ الحديثِ‏.‏ قال القاضِي أبو بكرٍ الباقلانيّ‏:‏ «إنّهُ قولُ مَنْ لم يُحَصِّلْ علمَ هذا الباب»، انتهى‏.‏ نعم … إنْ أخرجَهُ الشيخانِ أو أحدُهُما فاختارَ ابنُ الصلاحِ القطعَ بصحتِه، وخالفَهُ المحقّقونَ-كما سيأتي- وكذا قولُهم‏:‏ هذا حديثٌ ضعيفٌ فمرادُهم أنه لم يظهَرْ لنا فيه شروطُ الصحةِ، لا أنَّهُ كَذِبٌ في نفسِ الأمرِ، لجوازِ صِدْقِ الكاذبِ، وإصابةِ مَنْ هو كثيرُ الخطأ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏والمعتمدُ إمساكُنا عن حُكْمِنا‏)‏ إلى آخره‏.‏ أي‏:‏ القولُ المُعْتَمَدُ عليهِ، المختارُ‏:‏ أنَّهُ لا يُطْلَقُ على إسنادٍ معينٍ بأنَّهُ أصَحُّ الأسانيدِ مُطْلَقاً؛ لأنَّ تَفَاوُتَ مراتبِ الصحةِ مترتبٌ عَلَى تَمَكُّنِ الإسنادِ مِن شروطِ الصحةِ، ويعِزُّ وجودُ أعلى درجات القبولِ في كلِ فردٍ فردٍ من ترجمةٍ واحدةٍ بالنسبةِ لجميعِ الرواةِ‏.‏ قالَ الحاكمُ في عُلومِ الحديثِ‏:‏ «لا يمكنُ أنْ يُقْطَعَ الحكمُ في أصحِّ الأسانيدِ لصحابيٍّ واحدٍ»‏.‏ وسنذكرُ تتمةَ كلامِهِ في آخرِ هذهِ الترجمةِ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «عَلَى أَنَّ جماعةً مِنْ أئمةِ الحديثِ خاضُوا غَمْرةَ ذلكَ فاضطربَتْ أقوالهُمْ»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فقِيلَ‏:‏ مالكٌ‏)‏، أي‏:‏ فقيلَ‏:‏ أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ مالكٌ عَنْ نافعٍ عن ابن عمر، وَهُوَ المرادُ بقولِهِ‏:‏ ‏(‏مولاهُ‏)‏ أي‏:‏ سَيِّدُهُ‏.‏ وهذا هُوَ قولُ البخاريِّ‏.‏ وقولُه‏:‏ ‏(‏واختَرْ حيثُ عَنْهُ‏)‏ أيْ‏:‏ عن مالكٍ، ‏(‏يُسْنِدُ الشَّافعيُّ‏)‏، أي‏:‏ فعلى هذا إذا زدْتَ في الترجمةِ واحداً فأصحُّ الأسانيدِ ما أسندهُ الشافعيُّ عن مالكٍ بها، فقال الأستاذُ أبو منصورٍ عبدُ القاهرِ بن طاهرٍ التَّميميُّ‏:‏ إنَّهُ أَجَلُّ الأسانيدِ، لإجماعِ أصحابِ الحديثِ أنه لم يكنْ في الرواةِ عن مالكٍ أجلُّ مِنَ الشافعيِّ‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏(‏قلتُ وعنهُ‏)‏، أي‏:‏ وعنِ الشافعيِّ أحمدُ بنُ حنبلٍ، يريدُ وإنْ زِدْتَ في الترجمةِ آخرَ، فأصحُّ الأسانيدِ ما رواه أحمدُ عنِ الشافعيِّ عنْ مالكٍ بها، لاتفاقِ أهلِ الحديثِ على أَنَّ أجلَّ مَنْ أخذَ عن الشافعيِّ مِنْ أهلِ الحديثِ الإمامُ أحمدُ، ووقعَ لنا بهذهِ الترجمةِ حديثٌ واحدٌ، أخبرني به أبو عبدِ الله محمدُ بنُ إسماعيلَ ابنُ الخبّازِ، بقراءتي عليه بدمشقَ، قال‏:‏ أخبرنا المسلمُ بنُ مكيٍّ ح وأخبرني عليُّ بنُ أحمدَ العرضيُّ، بقراءتي عليه بالقاهرة، قال‏:‏ أخبرتنا زينبُ بنتُ مكيٍّ، قالا‏:‏ أخبرنا حنبلٌ، قال‏:‏ أخبرنا هبةُ اللهِ بنُ محمدٍ، قال‏:‏ أخبرنا الحسنُ بنُ عليٍّ التميميُّ، قال‏:‏ أخبرنا أحمدُ بنُ جعفرِ بن حمدانَ، قال‏:‏ حدثنا عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ، قال‏:‏ حدثني أبي رحمهُ اللهُ، قال‏:‏ حدثنا محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ، قال‏:‏ أخبرنا مالكٌ، عَنْ نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رحمةُ اللهِ عليهِ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ «لا يبِيعْ بعضُكُم على بَيعِ بعضٍ»، ونهى عنِ النَّجَشِ، ونهى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحبَلَةِ، ونهى عن المُزَابَنَةِ، والمزابنةُ‏:‏ بيعُ الثمرِ بالتمرِ كيلاً، وبيعُ الكَرْمِ بالزَّبيبِ كيلاً‏.‏ أخرجَهُ البخاريُّ مُفرَّقاً مِنْ حديثِ مالكٍ‏.‏

18‏.‏ وَجَزَم ابْنُ حَنْبَلٍ بالزُّهْرِي *** عَنْ سَالِمٍ أَيْ‏:‏ عَنْ أَبِيْهِ البَرِّ

أي‏:‏ وذهبَ أحمدُ بنُ حنبلٍ، وكذلك إسحاقُ بنُ راهويه إلى أَنَّ أصحَّ الأسانيدِ ما رواهُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ مسلمِ بنِ عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ شهابٍ الزهريُّ عنْ سالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أبيهِ‏.‏

19‏.‏ وَقِيْلَ‏:‏ زَيْنُ العَابِدِيْنَ عَنْ أَبِهْ *** عَنْ جَدِّهِ وَابْنُ شِهَابٍ عَنْهُ بِهْ

أي‏:‏ وقيل‏:‏ أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ ابنُ شهابٍ المذكورُ عن زَيْنِ العابدينَ وهو عليُّ ابنُ الحسينِ، عن أبيهِ الحُسينِ، عَنْ جَدِّهِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وهو قولُ عبدِ الرزاقِ، ورُوِيَ أيضاً عَنْ أبي بكرِ بنِ أبي شيبةَ‏.‏

فقوله‏:‏ ‏(‏وابنُ شهابٍ عنهُ بهِ‏)‏، أي‏:‏ عَنْ زينِ العابدينَ بالحديثِ‏.‏ وابنُ‏:‏ مرفوعٌ على الابتداءِ، والواوُ‏:‏ للحالِ، أي‏:‏ في حالِ كونِ ابنِ شهابٍ راوياً للحديثِ عنهُ‏.‏

20‏.‏ أَوْ فَابْنُ سِيْريْنَ عَنِ السَّلْمَاني *** عَنْهُ أوِ الأعْمَشُ عَنْ ذي الشَّانِ

21‏.‏ النَّخَعِيْ عَنِ ابْنِ قَيْسٍ عَلْقَمَهْ *** عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ وَلُمْ مَنْ عَمَّمَهْ

أَوْ‏:‏ هنا في الموضعينِ ليستْ للتخييرِ، ولا للشكِّ؛ ولكنها لتنويعِ الخلافِ، والضميرُ في ‏(‏عنهُ‏)‏ عائدٌ إلى قولِهِ في البيتِ الذي قبلَهُ ‏(‏جَدِّهِ‏)‏، يريدُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ، أي‏:‏ وقيلَ‏:‏ أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ محمدُ بنُ سيرينَ، عَنْ عَبيدَةَ السَّلْمانيِّ، عن عَليٍّ، وهو قولُ عَمْرِو بنِ عليٍّ الفلاّسِ، وعليِّ بنِ المدينيِّ وسليمانَ بنِ حربٍ إلا أَنَّ ابنَ المديني قال‏:‏ «أجودُها‏:‏ عبدُ اللهِ بنُ عَوْنٍ، عن ابنِ سيرينَ، عن عَبيدَةَ عَنْ عليٍّ»‏.‏ وقالَ سليمانُ بنُ حربٍ‏:‏ «أصحُّهَا‏:‏ أيوبُ عَنِ ابنِ سيرينَ عَنْ عَبيدةَ عنْ عليٍّ» وقيل‏:‏ أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ سليمانُ بنُ مِهْرانَ الأعمشُ، عن إبراهيمَ بنِ يزيدَ النَّخَعيِّ، عَنْ علقمةَ بنِ قيسٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وهو قولُ يحيى بنِ مَعينٍ‏.‏ وهذهِ جملةُ الأقوالِ التي حكاها ابنُ الصلاحِ‏.‏ وفي المسألةِ أقوالٌ أُخَرُ ذكرتُها في ‏"‏ الشرحِ الكبيرِ ‏"‏، وفيه فوائدُ مهمةٌ لا يستغني عنها طالبُ الحديثِ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وَلُمْ مَنْ عَمَّمَه‏)‏‏.‏ أي‏:‏ وَلُم مَنْ عَمَّمَ الحكمَ في أصحِّ الأسانيدِ في ترجمةٍ لصحابيٍّ واحدٍ، بلْ ينبغي أنْ تُقَيَّدَ كلُّ ترجمةٍ منها بِصحابيها‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ «لا يمكنُ أنْ يُقْطَعَ الحكمُ في أصحِّ الأسانيدِ لصحابيٍّ واحدٍ فنقولُ وباللهِ التوفيقُ‏:‏ إِنَّ أصحَّ أسانيدِ أهلِ البيتِ‏:‏ جعفرُ بنُ محمدٍ عن أبيهِ عن جَدِّه، عَنْ عَليٍّ، إذا كانَ الراوي عن جعفرٍ ثِقَةً‏.‏ وأصحُّ أسانيدِ الصِّدِّيقِ‏:‏ إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن قَيْسِ بنِ أبي حازمٍ، عنْ أبي بكرٍ‏.‏ وأصحُّ أسانيدِ عُمَرَ‏:‏ الزهريُّ، عن سالمٍ، عن أبيهِ عن جَدِّهِ‏.‏ وأصحُّ أسانيدِ أبي هُريرةَ‏:‏ الزهريُّ، عَنْ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أبي هُريرةَ‏.‏ وأصحُّ أسانيدِ ابنِ عُمَرَ‏:‏ مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ‏.‏ وأصحُّ أسانيدِ عائشةَ‏:‏ عُبَيْدُ اللهِ ابنُ عُمَرَ عَنِ القاسمِ، عَنْ عائشةَ‏.‏ وقالَ يحيى بنُ معينٍ‏:‏ هذهِ تَرْجَمةٌ مشبّكةٌ بالذَّهبِ‏.‏ وأصحُّ أسانيدِ ابنِ مسعودٍ‏:‏ سفيانُ الثوريُّ، عَنْ منصورٍ، عَنْ إبراهيمَ، عَنْ علقمةَ، عَنِ ابنِ مسعودٍ‏.‏ وأصحُّ أسانيدِ أنسٍ‏:‏ مالكٌ، عن الزهريِّ، عَنْ أَنَسٍ‏.‏ وأصحُّ أسانيدِ المكيِّيْنَ‏:‏ سفيانُ بنُ عُيينةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ دينارٍ، عَنْ جابرٍ‏.‏ وأصحُّ أسانيدِ اليمانيِّين‏:‏ مَعْمَرٌ، عن هَمّامٍ، عَنْ أبي هُريرةَ‏.‏ وأثبتُ أسانيدِ المِصْرِّيْينَ‏:‏ اللّيْثُ عن يزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ، عَنْ أبي الخيرِ، عنْ عُقْبَةَ بنِ عامرٍ‏.‏ وأثبتُ أسانيدِ الشاميِّينَ‏:‏ الأوزاعيُّ، عنْ حَسّانَ بنِ عَطيَّةَ، عن الصَّحابةِ‏.‏

وأثبتُ أسانيدِ الخُراسانِيِّيْنَ‏:‏ الحسينُ بنُ واقدٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ بُريدَةَ، عَنْ أبيهِ‏.‏

أصحُّ كُتُبِ الحديثِ

22‏.‏ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحِيْحِ *** مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتّرْجِيْحِ

23‏.‏ وَمُسْلِمٌ بَعْدُ، وَبَعْضُ الغَرْبِ مَعْ *** أَبِي عَلِيٍّ فَضَّلُوا ذَا لَوْ نَفَعْ

أي‏:‏ أَوَّلُ مَنْ صنّفَ في جمعِ الصحيحِ‏:‏ محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ وكتابُه أصحُّ مِنْ كتابِ مسلمٍ عند الجمهورِ، وهو الصحيحُ‏.‏ وقالَ النوويُّ‏:‏ «إنَّهُ الصوابُ»‏.‏ والمرادُ ما أسندَهُ دون التعليقِ والتراجمِ‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏(‏ومسلمٌ بعدُ‏)‏، أي‏:‏ بعدَ البخاريِّ في الوجودِ والصحةِ‏.‏ وقوله‏:‏

‏(‏بعضُ الغربِ‏)‏، أي‏:‏ بعضُ أهلِ الغَرْبِ على حذفِ المضافِ، أي‏:‏ وذهبَ بعضُ المغاربةِ، والحافظُ أبو عليٍّ الحسينُ بنُ عليٍّ النيسابوريُّ شيخُ الحاكمِ إلى تَفْضيلِ مسلمٍ على البخاريِّ، فقالَ أبو عليٍّ‏:‏ «ما تحتَ أديمِ السماءِ أصحُّ مِنْ كتابِ مسلمٍ في علمِ الحديثِ»‏.‏ وحكى القاضي عياضٌ عَنْ أبي مروانَ الطُّبْنيِّ، قال‏:‏ «كانَ مِنْ شيوخِيْ مَنْ يُفَضِّلُ كتابَ مسلمٍ عَنْ كتابِ البخاريِّ»‏.‏ قالَ ابنُ الصَّلاحِ‏:‏

«فهذا إنْ كان المرادُ بِهِ‏:‏ أَنَّ كتابَ مُسلمٍ يترجحُ بأَنّهُ لَم يُمازِجْهُ غيرُ الصحيحِ، فهذا لا بأس به، وإنْ كانَ المرادُ به‏:‏ أنَّ كتابَ مُسلمٍ أصحُّ صحيحاً، فهذا مردودٌ على مَنْ يقولُه»‏.‏ انتهى‏.‏ وعلى كلِّ حالٍ فكتاباهُمَا أصحُّ كُتُبِ الحديثِ‏.‏

وأمَّا قولُ الشافعيِّ‏:‏ «ما على وَجْهِ الأرضِ بعدَ كتابِ اللهِ أصحُّ مِنْ كِتابِ مالكٍ»، فذاكَ قَبْلَ وجودِ الكتابَيْنِ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏لو نَفَع‏)‏‏:‏ يريدُ لو نَفَعَ قولُ من فَضَّلَ مسلماً على البخاريِّ، فإنه لم يُقْبَلْ مِنْ قائِلِهِ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏في الصحيحِ‏)‏، متعلقٌ بِصَنَّفَ‏.‏ وأما أولُ مَنْ صَنَّفَ مطلقاً لا بقيدِ جَمْعِ الصحيحِ، فقدْ بينتُهُ في ‏"‏ الشرحِ الكبيرِ ‏"‏‏.‏

24‏.‏ وَلَمْ يَعُمَّاهُ ولكن قَلَّمَا *** عِنْدَ ابْنِ الاخْرَمْ مِنْهُ قَدْ فَاتَهُمَا

25‏.‏ وَرُدَّ لكن قَالَ يَحيَى البَرُّ *** لَمْ يَفُتِ الخَمسَةَ إلاَّ النَّزْرُ

أي‏:‏ لَمْ يَعُمَّ البخاريُّ ومسلمٌ كلَّ الصحيحَ، يريدُ‏:‏ لَمْ يستوعباهُ في كتابَيْهِمَا، ولم يلتزما ذلك‏.‏ وإلزامُ الدارقطنيِّ، وغيرهِ إياهُما بأحاديثَ ليس بلازمٍ‏.‏ قال الحاكمُ في خُطْبَةِ المستدركِ‏:‏ «ولم يَحْكُمَا ولا واحدٌ منهُما أنَّهُ لم يَصِحَّ منَ الحديثِ غيرُ ما خرَّجَه»‏.‏ انتهى‏.‏

قالَ البخاريُّ‏:‏ «ما أدخلْتُ في كتابي الجامعِ إلا ما صحَّ، وتركتُ من الصِّحَاح لحالِ الطولِ»‏.‏ وقالَ مسلمٌ‏:‏ «ليسَ كُلُّ صحيح وضعتُهُ هنا إنّما وضعتُ هنا ما أجمعُوا عليه»‏.‏ يريدُ‏:‏ ما وَجَدَ عندَهُ فيها شرائطَ الصحيحِ المُجمَعِ عليهِ وإنْ لم يظهرِ اجتماعُها في بعضِها عند بعضِهم‏.‏ قاله ابنُ الصلاحِ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏ولكن قَلَّمَا عندَ ابنِ الاخرمْ منه‏)‏، أي‏:‏ من الصحيحِ‏.‏ يريدُ أَنَّ الحافظَ أبا عبدِ الله محمدَ بنَ يعقوبَ بنِ الأخرمِ شيخَ الحاكمِ ذكرَ كلاماً معناه‏:‏ قلَّمَا يفوتُ البخاريَّ ومسلماً مما يَثْبت مِنَ الحديثِ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «يعني‏:‏ في كتابَيْهِمَا»‏.‏ ويحيى هو الشيخُ محيي الدينِ النوويُّ، فقالَ في ‏"‏ التقريبِ والتيسيرِ ‏"‏‏:‏ «والصوابُ أَنَّهُ لم يَفُتِ الأُصولَ الخمسةَ إلاَّ اليسيرُ، أعني الصَّحيحينِ وسنَنَ أبي داودَ والترمذيَّ والنسائيَّ»‏.‏

26‏.‏ وَفيهِ مَا فِيْهِ لِقَوْلِ الجُعْفِي *** أَحْفَظُ مِنْهُ عُشْرَ أَلفِ أَلْفِ

27‏.‏ وَعَلَّهُ أَرَادَ بِالتَّكرَارِ *** لَهَا وَمَوْقُوْفٍ وفي البُخَارِي

28‏.‏ أَرْبَعَةُ الآلافِ والمُكَرَّرُ *** فَوْقَ ثَلاثَةٍ أُلُوْفاً ذَكَرُوا

أي‏:‏ وفي كلامِ النوويِّ ما فيهِ لقولِ الجُعْفِي- وهو البخاريُّ-‏:‏ أحفظُ مائةَ ألفِ حديثٍ صحيحٍ‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏منه‏)‏، أي‏:‏ مِنَ الصحيحِ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وعَلَّهُ‏)‏ أي‏:‏ ولعلَّ البخاريَّ أرادَ- بالأحاديثِ- المكرَّرَةَ الأَسانيدِ والموقوفاتِ‏.‏ فقولُهُ‏:‏ ‏(‏وموقوفٍ‏)‏ معطوفٌ على قولِه‏:‏ ‏(‏بالتكرارِ‏)‏‏.‏ قال ابن الصلاحِ بَعْدَ حكايةِ كلامِ البخاريِّ‏:‏ «إلا أَنَّ هذه العبارةَ قَدْ يندرجُ تحتَها عندَهُم آثَارُ الصحابةِ والتابعينَ‏.‏

قال‏:‏ وَربُّما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ بإسنادَيْنِ حديثَيْنِ»‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وفي البخاريِّ …‏)‏ إلى آخره، فيه بيانُ عددِ أحاديثِ صحيحِ البخاريِّ، وهي- بإسقاطِ المُكَرَّرِ- أَربعةُ آلافِ حديثٍ على ما قيلَ‏.‏ وبالمكررِ سبعةُ آلافٍ ومائتانِ وخمسةٌ وسبعونَ حديثاً‏.‏ كذا جزمَ به ابنُ الصلاحِ، وهو مُسَلَّمٌ في روايةِ الفِرَبْرِيّ‏.‏

وأما روايةُ حمّادِ بنِ شاكرٍ فهي دونَها بمائتي حديثٍ‏.‏ ودون هذهِ بمائةِ حديثٍ روايةُ إبراهيمَ بنِ مَعْقلٍ‏.‏ ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ عدةَ أحاديثِ مُسْلِمٍ قالَ النوويُّ‏:‏ «إِنَّهُ نحوُ أربعةِ آلافٍ بإسقاطِ المكرَّرِ»‏.‏

الصَحيحُ الزَائدُ على الصَحيحَينِ

29‏.‏ وَخُذْ زِيَادَةَ الصَّحِيْحِ إذْ تُنَصّْ *** صِحَّتُهُ أوْ مِنْ مُصَنِّفٍ يُخَصّْ

30‏.‏ بِجَمْعِهِ نَحوَ ‏(‏ابْنِ حِبَّانَ‏)‏ الزَّكِيْ *** ‏(‏وَابنِ خُزَيْمَةَ‏)‏ وَكَالمُسْتَدْرَكِ

لَمَّا تقدَّمَ أَنَّ البخاريَّ ومسلماً لم يستوعبا إخراجَ الصحيحِ، فكأنَّهُ قيل‏:‏ فمِنْ أينَ يُعرفُ الصحيحُ الزائدُ على ما فيهِما‏؟‏ فقالَ‏:‏ خُذْهُ إذ تُنَصُّ صحتُهُ أي‏:‏ حيثُ يَنُصُّ على صحتِهِ إمامٌ معتمدٌ كأبي داودَ، والترمذيِّ، والنسائيِّ والدارقطنيِّ، والخطّابيِّ، والبيهقيِّ في مصنفاتِهِم المعتمدةِ‏.‏ كذا قَيَّدَهُ ابنُ الصلاحِ بِمصنفاتِهِم، ولم أقيّدْهُ بها، بل إذا صحَّ الطريقُ إليهم أنَّهم صحّحُوهُ ولو في غيرِ مصنفاتِهم، أو صحّحَهُ مَنْ لم يشتهرْ له تصنيفٌ من الأئمةِ كيحيى بنِ سعيدٍ القطّانِ، وابنِ معينٍ، ونحوِهما، فالحكمُ كذلك على الصوابِ‏.‏ وإنّما قيّدهُ ابنُ الصلاحِ بالمصنفاتِ؛ لأنَّهُ ذهبَ إلى أنهُ ليس لأَحدٍ في هذهِ الأعصارِ، أنْ يصححَ الأحاديثَ، فلهذا لم يعتمدْ على صحةِ السند إلى من صحّحهُ في غيرِ تصنيفٍ مشهورٍ، وسيأتي كلامُهُ في ذلك‏.‏

ويؤخذُ الصحيحُ أيضاً من المصنفاتِ المختصَّةِ بجمْعِ الصحيحِ فقط، كصحيحِ أبي بكرٍ محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ خزيمةَ، وصحيحِ أبي حاتِمٍ محمدِ بن حبّان البُستيِّ، المسمَّى بالتقاسيمِ والأنواعِ، وكتابِ المستدرَكِ على الصحيحينِ لأبي عبدِ اللهِ الحاكمِ‏.‏ وكذلك ما يوجدُ في المستخرجاتِ على الصحيحينِ من زيادةٍ أو تَتِمَّةٍ لمحذوفٍ، فهو محكومٌ بصحتِهِ، كما سيأتي في بابِهِ‏.‏

31‏.‏ عَلى تَسَاهُلٍ- وَقَالَ‏:‏ مَا انْفَرَدْ *** بِهِ فَذَاكَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُرَدّْ

32‏.‏ بِعِلَّةٍ، وَالحقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا *** يَليْقُ، والبُسْتِيْ يُدَانِي الحَاكِما

أي‏:‏ على تساهُلٍ في المستدركِ، وإنّما قَيَّدَ تعلقَ الجارِ والمجرورِ بالمعطوفِ الأخيرِ، لتكرارِ أداةِ التشبيهِ فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وقال‏)‏، أي‏:‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ ما انفردَ الحاكمُ بتصحيحهِ لا بتخريجِهِ فقط، إنْ لم يكن من قبيلِ الصحيحِ فهو من قبيلِ الحسنِ، يُحتجُّ به، ويعملُ بهِ، إلاَّ أنْ تظهرَ فيه علّةٌ توجِبُ ضعفَهُ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏والحقُ أنْ يُحْكَمْ بِما يليقُ‏)‏، هذا من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ وهو متميزٌ بنفسِهِ؛ لكونِهِ اعتراضاً على كلامهِ‏.‏ وتقريرُهُ‏:‏ أنَّ الحكمَ عليه بالحسنِ فقط تَحَكُّمٌ، فالحقُّ أنَّ ما انفردَ بتصحيحِهِ يُتَتَبَّعُ بالكشفِ عنه ويُحْكَمُ عليه بما يليقُ بحالِهِ من الصحَّةِ، أو الحُسْنِ، أوِ الضَّعْفِ‏.‏

ولكنَّ ابنَ الصلاحِ رأيهُ أنَّهُ ليسَ لأَحدٍ أنْ يصحّحَ في هذهِ الأعصارِ، فلهذا قطعَ النظرَ عن الكشفِ عليهِ‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏(‏والبستيّ يدانِي الحاكما‏)‏، أي‏:‏ وابنُ حبانَ البستيُّ يُقارِبُ الحاكمَ في التساهُلِ، فالحاكمُ أشدُّ تساهُلاً‏.‏ قالَ الحازميُّ‏:‏ «ابنُ حبانَ أمْكَنُ في الحديثِ من الحاكمِ»‏.‏

الْمُسْتَخْرَجاتُ

33‏.‏ وَاسْتَخْرَجُوا عَلى الصَّحِيْحِ ‏(‏كَأَبي *** عَوَانَةٍ‏)‏ وَنَحْوِهِ، وَاجْتَنِبِ

34‏.‏ عَزْوَكَ ألفَاظَ المُتُونِ لَهُمَا *** إذْ خَالَفتْ لَفْظاً وَمَعْنَىً رُبَّمَا

المستَخْرَجُ‏:‏ مَوْضُوعُهُ أنْ يأتيَ المصنِّفُ إلى كتابِ البخاريِّ، أو مسلمٍ فيخَرِّجَ أحاديثَهُ بأسانيدَ لنفسِهِ من غيرِ طريقِ البخاريِّ، أو مسلمٍ، فيجتمعُ إسنادُ المصنِّفِ مع إسنادِ البخاريِّ، أو مسلمٍ في شيخِهِ، أو مَنْ فوقَهُ، كالمستخرَجِ على صحيحِ البخاريِّ لأبي بكرٍ الإسماعيليِّ، ولأبي بكرٍ البرقانيِّ ولأبي نُعيمٍ الأصبهانيِّ، وكالمستخرَجِ عَلَى صحيحِ مسلمٍ لأبي عوانةَ، ولأبي نُعيم أيضاً‏.‏ والمستخرجونَ لم يلتزموا لفظَ واحدٍ من الصحيحينِ، بَلْ رَوَوْهُ بالألفاظِ التي وَقعتْ لهم عن شيوخِهِم مع المخالفةِ لألفاظِ الصحيحينِ‏.‏ وربّما وقعتِ المخالفة أيضاً في المعنى فلهذا قالَ‏:‏ ‏(‏واجتنبْ عزوَكَ ألفاظَ المتونِ لهما‏)‏، أي‏:‏ لا تَعْزُ ألفاظَ متونِ المستخرجاتِ للصحيحينِ، فلا تقلْ‏:‏ أخرجَهُ البخاريُّ أو مسلمٌ بهذا اللفظِ، إلا إنْ علمتَ أنَّهُ في المستخرَجِ بلفظِ الصحيحِ، بمقابلتِهِ عليه، فلكَ ذلك‏.‏ فقولُهُ‏:‏ ‏(‏رُبَّما‏)‏ متعلّقٌ بمخالفةِ المعنى فقط؛ لأنَّ مخالفةَ الألفاظِ كثيرةٌ، كما تقدّم‏.‏

35‏.‏ وَمَا تَزِيْدُ فاحْكُمَنْ بِصِحَّتِهْ *** فَهْوَ مَعَ العُلُوِّ مِنْ فَائِدَتِهْ

36‏.‏ وَالأَصْلَ يَعْني البَيْهَقيْ وَمَنْ عَزَا *** وَلَيْتَ إذْ زَادَ الحُمَيدِيْ مَيَّزَا

أي‏:‏ وما تزيدُ المستخرجاتُ، أو ما يزيدُ المستخْرِجُ على الصحيحِ من ألفاظٍ زائدةٍ عليهِ من تتمةٍ لمحذوفٍ، أو زيادةِ شرحٍ في حديثٍ، أو نحوِ ذلكَ، فاحكُمْ بصحتِهِ؛ لأنَّها خارجةٌ من مخرجِ الصحيحِ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏فَهُوَ مَعَ العلوِّ من فائدتِهِ‏)‏، هَذَا بيانٌ لفائدةِ المستخرَجِ‏.‏ فمنها‏:‏ زيادةُ الألفاظِ المذكورةِ؛ لأنّها رُبَّما دلتْ على زيادةِ حُكمٍ‏.‏ ومنها‏:‏ علوُّ الإسنادِ؛ لأنَّ مصنِّفَ المستخرَجِ لو رَوَى حديثاً مثلاً من طريقِ مسلمٍ، لَوَقعَ أنزلَ من الطريقِ الذي رواهُ بهِ في المستخرَجِ‏.‏ مثالُهُ‏:‏ حديثٌ في مسندِ أبي داودَ الطيالسيِّ، فلو رواهُ أبو نُعيم مثلاً من طريق مسلمٍ، لكانَ بينَهُ وبينَ أبي داودَ أربعةُ رجالٍ، شيخانِ بينه وبين مسلمٍ، ومسلمٌ وشيخُهُ‏.‏ وإذا رواهُ من غيرِ طريقِ مسلمٍ، كان بين أبي نُعيمٍ، وبين أبي داودَ رجلانِ فقط‏.‏ فإنَّ أبا نُعيم سمعَ مُسْنَدَ أبي داود على ابنِ فارسٍ بسماعِهِ من يونُسَ بنِ حبيبٍ بسماعِهِ منه، ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ للمستخرَجِ، إلا هاتينِ الفائدتينِ‏.‏ وأشرتُ إلى غيرهما بقولي‏:‏ ‏(‏مِنْ فائِدَتِه‏)‏‏.‏ فمِنْ فوائدِهِ أيضاً‏:‏ القوةُ بكثرةِ الطرقِ للترجيحِ عندَ المعارضةِ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏والأصلُ يعني البيهقيْ وَمن عَزا‏)‏، كأنَّهُ قيل‏:‏ فهذا البيهقيُّ في ‏"‏ السننِ الكبرى ‏"‏، ‏"‏ والمعرفةِ ‏"‏، وغيرِهِما‏.‏ والبغويُّ في ‏"‏ شرح السنةِ ‏"‏، وغيرُ واحدٍ يروون الحديثَ بأسانيدِهم، ثم يعزونَهُ إلى البخاريِّ، أو مسلمٍ، مع اختلافِ الألفاظِ، أو المعاني‏؟‏ والجوابُ‏:‏ إنَّ البيهقيَّ وغيَرهُ ممَّنْ عزا الحديثَ لواحدٍ من الصحيحينِ، إنّما يريدون أصلَ الحديثِ، لا عزوَ ألفاظِهِ، ‏(‏فالأصلَ‏)‏‏:‏ مفعولٌ مقدمٌ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وليتَ إذ زادَ الحميديْ مَيَّزَا‏)‏، أي‏:‏ إنَّ أبا عبدِ اللهِ الحميديَّ زادَ في كتابِ ‏"‏ الجمعِ بين الصحيحين ‏"‏ ألفاظاً، وتتماتٍ ليستْ في واحدٍ منهُما من غيرِ تمييزٍ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وذاكَ موجودٌ فيهِ كثيراً، فربَّما نقلَ من لا يميزُ بعضَ ما يجدُهُ فيه عن الصحيحِ، وهو مخطئٌ؛ لكونِهِ زيادةً ليست في الصحيح»‏.‏ انتهى‏.‏

فهذا مما أُنكرَ على الحميديِّ؛ لأنَّهُ جمعَ بين كتابينِ، فمِنْ أين تأتي الزيادةُ‏؟‏

وأما ‏"‏ الجمعُ بين الصحيحينِ ‏"‏ لعبدِ الحقِّ، وكذلك مختصراتُ البخاريِّ ومسلمٍ، فلك أنْ تنقلَ منها، وتعزوَ ذاك للصحيحِ ولو باللفظِ؛ لأنَّهم أتوا بألفاظِ الصحيحِ‏.‏

واعلمْ أنَّ الزيادات التي تقعُ في كتاب الحُميديِّ ليسَ لها حكمُ الصحيحِ، خلافُ ما اقتضاهُ كلامُ ابنِ الصلاحِ؛ لأنَّهُ ما رواها بسندِهِ كالمستخرَجِ، ولا ذكرَ أنَّهُ يزيدُ ألفاظاً، واشترطَ فيها الصحةَ حتى يُقَلَّدَ في ذلك، فهذا هو الصوابُ‏.‏

مَرَاتِبُ الصَّحِيْحِ

37‏.‏ وَأَرْفَعُ الصَّحِيْحِ مَرْويُّهُمَا *** ثُمَّ البُخَارِيُّ، فَمُسْلِمٌ، فَمَا

38‏.‏ شَرْطَهُمَا حَوَى، فَشَرْطُ الجُعْفِي *** فَمُسْلِمٌ، فَشَرْطُ غَيْرٍ يَكْفِي

اعلمْ أنَّ درجاتِ الصحيحِ تتفاوتُ بِحَسَبِ تَمَكُّنِ الحديثِ من شروطِ الصحةِ، وعدمِ تَمَكُّنِهِ‏.‏ وإنَّ أصحَّ كُتبِ الحديثِ‏:‏ البخاريُّ ثم مسلمٌ، كما تقدمَ أنَّهُ الصحيحُ‏.‏

وعلى هذا‏:‏ فالصحيحُ ينقسمُ إلى سبعةِ أقسامٍ‏:‏

أحدُها‏:‏-وهو أصحُّها- ما أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ، وهو الذي يُعبِّرُ عنه أهلُ الحديثِ بقولهم‏:‏ «متفقٌ عليهِ»‏.‏

والثاني‏:‏ ما انفردَ به البخاريُّ‏.‏

والثالثُ‏:‏ ما انفردَ به مسلمٌ‏.‏

والرابعُ‏:‏ ما هو على شَرْطِهِما ولم يخرِّجْهُ واحدٌ منهُما‏.‏

والخامسُ‏:‏ ما هو على شرطِ البخاريِّ وَحْدَهُ‏.‏

والسادسُ‏:‏ ما هو على شرطِ مسلمٍ وَحْدَهُ‏.‏

والسابعُ‏:‏ ما هو صحيحٌ عند غيرِهما من الأئمةِ المعتمدينَ، وليسَ على شرطِ واحدٍ منهُما‏.‏

فقوله‏:‏ ‏(‏ثم البخارِيُّ‏)‏، أي‏:‏ ثمَّ مروِيُّ البخاريِّ وَحْدَهُ‏.‏ ‏(‏وشرطَهُمَا‏)‏‏:‏ مفعولٌ مقدمٌ لِـ ‏(‏‍حَوَى‏)‏‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏فمسلمٌ‏)‏، أي‏:‏ فما حَوَى شرطُ مسلمٍ‏.‏ وقولُه‏:‏ ‏(‏فشرطُ غيرٍ‏)‏ أي‏:‏ فشرطُ غيرِهما منَ الأئمةِ‏.‏ واستعمالُ- غيرٍ- غيرَ مضافةٍ قليلٌ‏.‏ ثم ما المرادُ بقولهِم‏:‏ على شرطِ البخاريِّ، أو على شرطِ مسلمٍ‏؟‏ فقالَ محمدُ بنُ طاهرٍ في كتابه في ‏"‏ شروطِ الأئمة ‏"‏‏:‏ «شرطُ البخاريِّ، ومسلمٍ، أن يُخَرِّجَا الحديثَ المجمعَ على ثِقَةِ نَقَلَتِهِ إلى الصحابيِّ المشهورِ»، وليس ما قالَهُ بجيّدٍ؛ لأنَّ النَّسائيَّ ضَعَّفَ جماعةً أخرجَ لهم الشيخانِ، أو أحدُهُما‏.‏

وقالَ الحازميُّ في ‏"‏ شروط الأئمةِ ‏"‏ ما حاصلُهُ‏:‏ إنَّ شَرْطَ البخاريِّ أنْ يُخَرِّجَ ما اتّصلَ إسنادُه بالثقاتِ المتقنينَ الملازمينَ لمن أَخَذُوا عنه، ملازمةً طويلةً، وإنَّهُ قد يُخَرِّجُ أحياناً عن أعيانِ الطبقةِ التي تلي هذهِ في الإتقانِ والملازمةِ، لمَنْ رَوَوا عنه، فلم يَلْزَمُوهُ إلا ملازمةً يسيرةً‏.‏ وإنَّ شرطَ مسلمٍ أن يُخَرِّجَ حديثَ هذهِ الطبقةِ الثانيةِ، وقد يُخَرِّجُ حديثَ مَنْ لم يَسْلَمْ مِنْ غوائلِ الجرحِ، إذا كانَ طويلَ الملازمةِ لمَنْ أخذَ عنه، كحمّادِ بنِ سلمةَ في ثابتٍ البُنانيِّ، وأيوبَ‏.‏ هذا حاصلُ كلامِهِ‏.‏

وقالَ النوويُّ‏:‏ «إنَّ المرادَ بقولهم‏:‏ على شرطِهِما أنْ يكونَ رجالُ إسنادِهِ في كتابيهما؛ لأنَّهُ ليس لهما شرطٌ في كتابَيْهما، ولا في غيرهِما»‏.‏ وقد أخذَ هذا من ابنِ الصَّلاحِ، فإنَّهُ لما ذكرَ كتابَ ‏"‏ المستدرَكِ للحاكمِ ‏"‏، قالَ‏:‏ «إنَّهُ أودَعَهُ ما رآهُ على شرطِ الشيخينِ، وقد أخرجَا عن رواتِهِ في كتابيهِمَا» إلى آخرِ كلامِهِ‏.‏ وعلى هذا عملُ ابنِ دقيقِ العيدِ، فإنَّهُ ينقلُ عن الحاكمِ تصحيحَهُ لحديث على شرطِ البخاريِّ مثلاً، ثم يعترضُ عليه بأنَّ فيه فلاناً، ولم يُخَرِّجْ له البخاريُّ‏.‏ وكذلك فَعَلَ الذهبيُّ في ‏"‏ مختصرِ المستدْرَكِ ‏"‏‏.‏ وليسَ ذلكَ مِنْهم بجيّدٍ، فإنَّ الحاكمَ صَرَّحَ في خُطبةِ كتابِهِ ‏"‏ المستدركِ ‏"‏ بخلافِ ما فهموهُ عنه، فقال‏:‏ «وأَنا أَستعينُ اللهَ تعالى على إخراجِ أحاديثَ رواتُها ثقاتٌ، قد احتجَّ بمثلِها الشيخانِ، أو أحدُهما»‏.‏

فقولُهُ‏:‏ بمثلِهَا، أي‏:‏ بمثلِ رواتِها، لا بِهِمْ انْفُسِهِم‏.‏ ويحتملُ أنْ يُرَادَ‏:‏ بمثلِ تلك الأحاديثِ‏.‏ وإنّما يكونُ بمثلِها إذا كانَتْ بنفسِ رواتِهَا‏.‏ وفيه نظرٌ‏.‏ وقد بينتُ المثليةَ في ‏"‏ الشرحِ الكبيرِ ‏"‏‏.‏

39‏.‏ وَعِنْدَهُ التَّصْحِيْحُ لَيْسَ يُمْكِنُ *** فِي عَصْرِنَا، وَقَالَ يَحْيَى‏:‏ مُمْكِنُ

أي‏:‏ وعندَ ابنِ الصلاحِ‏:‏ أنَّهُ تَعَذَّرَ في هذهِ الأَعصارِ الاستقلالُ بإدراكِ الصحيح بِمجردِ اعتبارِ الأسانيدِ؛ لأنَّهُ ما مِنْ إسنادٍ إلا وفيهِ مَنْ اعتمدَ على ما في كتابِهِ عَرِيًّا عن الضَّبْطِ، والإتقانِ‏.‏ قال‏:‏ فإذا وَجَدنا فيما يُروى من أجزاءِ الحديثِ وغيرِها؛ حديثاً صحيحَ الإسنادِ، ولم نجدْهُ في أحدِ الصحيحينِ، ولا منصوصاً على صحتهِ في شيءٍ من مصنّفاتِ أئمةِ الحديثِ المعتمَدةِ المشهورةِ، فإنَّا لا نتجاسرُ على جزمِ الحكمِ بصحتِهِ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وقال يحيى‏)‏‏:‏ أي‏:‏ النوويُّ‏:‏ «الأظهرُ عندِي جوازُهُ لِمَنْ تمكَّنَ، وقَوِيَتْ معرفَتُهُ»‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا هو الذي عليهِ عملُ أهلِ الحديثِ، فقد صَحَّحَ غيرُ واحدٍ من المعاصرينَ لابنِ الصلاحِ، وبعدَهُ أحاديثَ لم نجدْ لِمنْ تقدمَهُم فيها تصحيحاً، كأبي الحسنِ بنِ القطّانِ، والضِّياءِ المقدسيِّ، والزّكيِّ عبدِ العظيمِ، ومَنْ بَعْدَهُم‏.‏

حُكْمُ الصَّحِيْحَيْنِ، وَالتَّعْلِيْقِ

40‏.‏ وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أَسْنَدَا *** كَذَا لَهُ، وَقِيْلَ ظَنّاً وَلَدَى

41‏.‏ مُحَقِّقِيْهِمْ قَدْ عَزَاهُ ‏(‏النَّوَوِيْ‏)‏ *** وَفي الصَّحِيْحِ بَعْضُ شَيءٍ قَدْ رُوِيْ

42‏.‏ مُضَعَّفاً وَلَهُمَا بِلا سَنَدْ *** أَشْيَا فَإنْ يَجْزِمْ فَصَحِّحْ، أو وَرَدْ

43‏.‏ مُمَرَّضاً فَلا، وَلكِنْ يُشْعِرُ *** بِصِحَّةِ الأصْلِ لَهُ كَـ ‏(‏يُذْكَرُ‏)‏

أَي‏:‏ ما أَسندَهُ البخاريُّ ومسلمٌ، يريدُ رَوَيَاهُ بإسنادِهِمَا المتّصلِ، فهو مقطوعٌ بصحتِهِ، كذا قالَ ابنُ الصلاحِ، قال‏:‏ «والعلمُ اليقينيُّ النظريُّ واقعٌ به، خلافاً لقولِ مَنْ نَفَى ذلكَ مُحتَجَّاً بأنَّهُ لا يفيدُ في أصْلِهِ إلا الظنَّ وإنَّما تلقَتْهُ الأمةُ بالقبولِ؛ لأنَّهُ يجبُ عليهم العملُ بالظنِّ، والظنُّ قد يُخطِئُ قال‏:‏ وقد كنتُ أمِيْلُ إلى هذا، وأحسَبُهُ قويّاً، ثم بانَ لي أنَّ المذهبَ الذي اخترناهُ أوّلاً هو الصحيحُ؛ لأنَّ ظَنَّ مَنْ هو معصومٌ من الخطأ لا يُخْطِئُ، والأمةُ بإجماعها معصومةٌ مِنَ الخطأ» … إلى آخرِ كلامِهِ‏.‏ وقد سبقَهُ إلى نحوِ ذلك محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ، وأبو نصرٍ عبدُ الرحيمِ بنُ عبدِ الخالقِ بنِ يوسفَ‏.‏ قال النوويُّ‏:‏ «وخالفَ ابنَ الصلاحِ المحقّقونَ والأكثرون، فقالوا‏:‏ يفيدُ الظنَّ ما لم يتواترْ»‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏ظناً‏)‏ منصوبٌ بفعلٍ محذوف، أي‏:‏ يفيدُ ظناً‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏بعضُ شيءٍ‏)‏، إشارةٌ إلى تقليلِ ما ضُعِّفَ من أحاديثِ الصحيحينِ‏.‏

ولمّا ذكرَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ أنَّ ما أسنداهُ مقطوعٌ بصحتِهِ‏.‏ قال‏:‏ سوى أحرُفٍ يسيرةٍ، تكلّمَ عليها بعضُ أهلِ النقدِ، كالدارقطنيِّ وغيرِهِ، وهي معروفةٌ عندَ أهلِ الشأنِ‏.‏ انتهى‏.‏ وروينا عن محمدِ بنِ طاهرٍ المقدسيِّ، ومن خَطِّهِ نَقلْتُ قال‏:‏ سمعتُ أبا عبدِ اللهِ محمدَ بنَ أبي نصرٍ الحميديَّ ببغدادَ يقول‏:‏ قال لنا أبو محمدٍ بنُ حزمٍ‏:‏ وما وجدنا للبخاريِّ ومسلمٍ في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا حديثين‏.‏ لكلِّ واحدٍ منهُما حديثٌ، تَمَّ عليهِ في تخريجِهِ الوَهْمُ معَ إتقانِهِمَا وحفظِهِمَا وصحةِ معرفتِهِما‏.‏ فذكر من عند البخاريِّ حديثَ شَرِيكٍ، عن أنسٍ في الإسراءِ، أنَّهُ قبلَ أنْ يُوحَى إليهِ، وفيهِ شَقُّ صَدْرِهِ‏.‏ قال ابنُ حزمٍ‏:‏ والآفةُ من شريكٍ‏.‏ والحديثُ الثاني عندَ مسلمٍ، حديثُ عِكْرمةَ بنِ عمّارٍ، عن أبي زُمَيْلٍ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال‏:‏ كانَ المسلمون لا ينظرونَ إلى أبي سُفيانَ، ولا يقاعِدُوْنَهُ، فقال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ثلاثٌ أعْطِينِهنَّ‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ عندي أحسنُ العربِ وأجملُهُ أمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ، أُزوِّجُكَهَا‏.‏ قال‏:‏ نعم … الحديث‏.‏ قالَ ابنُ حزمٍ‏:‏ هذا حديثٌ موضوعٌ لاشكَّ في وضْعِهِ، والآفةُ فيهِ منْ عِكْرمةَ بنِ عمّارٍ‏.‏ وقد ذكرتُ في ‏"‏الشرحِ الكبيرِ‏"‏ أحاديثَ غيرَ هذينِ‏.‏ وقد أفردتُ كتاباً لما ضُعِّفَ من أحاديثِ الصحيحينِ مع الجواب عنها‏.‏ فمَنْ أرادَ الزيادةَ في ذلك فليقِفْ عليه، ففيه فوائدُ مهمّاتٌ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏ولَهُما بلا سَنَدْ أشيا‏)‏‏.‏ أي‏:‏ وللبخاريِّ ومسلمٍ في الصحيحِ مواضعُ لم يَصِلاها بإسنادِهِما، بل قطعا أوَّلَ أسانيدِهما مما يليهِما‏.‏ وذكرَ ابنُ الصلاحِ أنَّ ذلك وقعَ في الصحيحينِ‏.‏ قالَ‏:‏ «وأغلبُ ما وقع ذلك في كتاب البخاريِّ، وهو في كتابِ مسلمٍ قليلٌ جداً»‏.‏ قلتُ‏:‏ في كتابِ مسلمٍ من ذلك موضعٌ واحدٌ في التيمُّمِ‏.‏ وهو حديثُ أبي الْجُهَيم بنِ الحارثِ بنِ الصِّمَّةِ‏.‏ أقبلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ نحوِ بئرِ جمل، … الحديث‏.‏ قال فيه مسلم‏:‏ وروى الليثُ بنُ سعدٍ‏.‏ ولم يوصلْ مسلمٌ إسنادَهُ إلى الليثِ‏.‏ وقد أسندَهُ البخاريُّ عن يحيى بنِ بكيرٍ عن الليثِ‏.‏ ولا أعلمُ في كتاب مسلمٍ بعد مقدمةِ الكتابِ حديثاً لم يذكرْهُ إلا تعليقاً غيرَ هذا الحديثِ‏.‏ وفيه مواضعُ أخرُ يسيرةٌ رواها بإسنادِهِ المتصلِ، ثم قال‏:‏ ورواهُ فلانٌ، وهذا ليس من باب التعليقِ، إنّما أرادَ ذِكْرَ مَنْ تابعَ رواية الذي أسندَهُ من طريقِهِ عليه، أو أرادَ بيانَ اختلافٍ في السندِ، كما يَفْعَلُ أهلُ الحديثِ‏.‏ ويدلُّ على أنَّهُ ليسَ مقصودُهُ بهذا ادخالَهُ في كتابِهِ؛ أنَّهُ يقعُ في بعضِ أسانيدِ ذلك مَنْ ليس هو من شرْطِ مسلم، كعبدِ الرحمنِ بنِ خالدِ بنِ مُسافرٍ‏.‏ وقد بَيَّنتُ بقيةَ المواضعِ في ‏"‏ الشرحِ الكبيرِ ‏"‏‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏فإنْ يجزم فصحِّحْ‏)‏، أي‏:‏ إنْ أتى به بصيغةِ الجزمِ، كقولِهِ‏:‏ قال فلانٌ، أو رَوَى فلانٌ أو نحوَ ذلكَ؛ فاحكمْ بصحتِهِ عمَّنْ عَلَّقَهُ عنه، لأنَّهُ لا يستجيزُ أنْ يجزمَ بذلكَ عنه إلا وقد صحَّ عندَهُ عنه‏.‏ ثمَّ الحكمُ بصحةِ الحديثِ مطلقاً يتوقفُ على ثقةِ رجالِهِ، واتصالِهِ من مَوْضِعِ التعليقِ‏.‏ فإنْ كان فيمَنْ أبرزَهُ مَنْ لا يحتجُّ به، فليسَ فيهِ إلا الحكمُ بصحتهِ عمَّن أسندَ إليه كقولِ البخاريِّ‏:‏ وقال بَهْزٌ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهُ أحقُّ أنْ يُسْتَحيَى منه»‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «فهذا ليس من شرطِهِ قطعاً‏.‏ ولذلكَ لم يوردْهُ الحميديُّ في جَمْعِهِ بين الصحيحينِ»‏.‏

‏(‏وإنْ وردَ مُمَرَّضاً‏)‏، أي‏:‏ أُتِي به بصيغةِ التمريضِ، كقولِهِ‏:‏ ويُذْكَرُ، ويُرْوَى، ويُقَاْلُ، ونُقِلَ، ورُوِيَ، ونحوِها‏.‏ فلا تحكمنَّ بصحتِهِ‏.‏ كقولِهِ‏:‏ ويُرْوَى عن ابنِ عباسٍ وجَرْهَدٍ ومحمّدِ بنِ جَحْشٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الفَخِذُ عورةٌ»؛ لأنَّ هذهِ الألفاظَ استعمالُها في الضعيف أكثرُ، وإن استعملتْ في الصحيحِ‏.‏ وكذا قولُهُ‏:‏ وفي البابِ تستعملُ في الأمرينِ معاً‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ ومَعَ ذلك فإيرادُهُ له في أثناءِ الصحيحِ مُشعرٌ بصحةِ أصْلِهِ إشعاراً يؤنسُ به ويركنُ إليه‏.‏ وحملَ ابنُ الصلاحِ قولَ البخاريِّ‏:‏ ما أدخلتُ في كتابي ‏"‏ الجامع ‏"‏، إلا ما صحَّ‏.‏ وقول الأئمة في الحكم بصحتِهِ على أنَّ المرادَ مقاصدُ الكتابِ وموضوعُهُ ومتون الأبوابِ دون التراجمِ ونحوها‏.‏

44‏.‏ وَإنْ يَكُنْ أوَّلُ الاسْنَادِ حُذِفْ *** مَعْ صِيغَةِ الجَزْم فَتَعليْقَاً عُرِفْ

45‏.‏ وَلَوْ إلى آخِرِهِ، أمَّا الَّذِي *** لِشَيْخِهِ عَزَا بـ ‏(‏قالَ‏)‏ فَكَذِي

46‏.‏ عَنْعَنَةٍ كخَبَرِ المْعَازِفِ *** لا تُصْغِ ‏(‏لاِبْنِ حَزْمٍ‏)‏ المُخَالِفِ

هذا بيانٌ لحقيقةِ التعليقِ، والتعبيرُ به موجودٌ في كلامِ الدارقطنيِّ والحميديِّ في ‏"‏الجمعِ بين الصحيحينِ‏"‏‏.‏ وهو أنْ يُسْقِطَ مِنْ أوَّلِ إسنادِ البخاريِّ أو مسلمٍ من جهتِهِ راوٍ فأكثرَ، ويعزِيَ الحديثَ إلى مَنْ فوقَ المحذوفِ من رواتِهِ بصيغةِ الجزمِ، كقولِ البخاريِّ في الصومِ‏:‏ وقالَ يحيى بنُ كثيرٍ، عن عمرِ بنِ الحكم بنِ ثوبانَ، عن أبي هريرةَ قال‏:‏ «إذا قاءَ فلا يفطرُ»‏.‏ وكقولِ مسلمٍ في التيمُّمِ‏:‏ ورَوَى الليثُ بنُ سعدٍ، فذكرَ حديثَ‏:‏ أقبلَ من نحوِ بئرِ جملٍ … الحديث، وقد تقدم‏.‏

قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وكأنَّ التعليقَ مأخوذٌ من تعليقِ الجدارِ، وتعليقِ الطلاقِ ونحوه، لما يشتركُ الجميعُ فيه من قَطْعِ الاتصالِ»‏.‏ قال‏:‏ ولم أجدْ لفظَ التعليقِ مستعمَلاً فيما سقطَ منه بعضُ رجالِ الإسنادِ مِنْ وَسَطِه أوْ من آخرِهِ، ولا فيما ليسَ فيه جزْمٌ، كيُرْوَى ويُذْكَرُ‏.‏ قلت‏:‏ استعملَ غيرُ واحدٍ من المتأخّرينَ التعليقَ في غيرِ المجزومِ به، منهم‏:‏ الحافظُ أبو الحجاجِ المزيُّ كقولِ البخاريِّ في بابِ مَسِّ الحريرِ من غيرِ لُبْسٍ‏:‏ ويُروَى فيهِ عن الزُّبيديِّ، عن الزهريِّ، عن أنسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في الأطرافِ، وعَلَّمَ عليهِ علامةَ التعليقِ للبخاريِّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولو إلى آخِرِهِ‏)‏، أي‏:‏ ولو حذفَ الإسنادَ إلى آخرِهِ واقتصرَ على ذِكْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ المرفوعِ، أو على الصحابيِّ في الموقوفِ، كقولِهِ في العِلْمِ‏:‏ وقالَ عمرُ‏:‏ «تفقهُوا قبل أنْ تسودوا»‏.‏ أي‏:‏ فإنّهُ يُسمَّى تعليقاً‏.‏ هكذا حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِهم، ولم يحكِ غَيْرَهُ‏.‏ فقالَ‏:‏ «إنَّ لفظَ التعليقِ وجدتُهُ مستعملاً فيما حُذِفَ من مبتدأ إسنادِهِ واحدٌ فأكثرُ‏.‏ حتى إنَّ بعضَهم استعملَهُ في حذفِ كُلِّ الإسنادِ‏.‏ انتهى»‏.‏ ولم يذكر المزيُّ هذا في الاطرافِ في التعليقِ، بلْ ولا ما اقتصرَ فيهِ على ذِكْرِ الصَّحابيِّ غالباً، وإنْ كان مرفوعاً‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏أمَّا الذي لشيخِهِ عزا بقالَ فكذي عنعنة‏)‏، أي‏:‏ أمَّا ما عزاهُ البخاريُّ إلى بعضِ شيوخِهِ بصيغةِ الجزمِ، كقولِهِ‏:‏ قالَ فلانٌ، وزادَ فلانٌ، ونحوَ ذلكَ فليسَ حكمُهُ حكمَ التعليقِ عن شيوخِ شيوخِهِ، ومَنْ فوقَهُم، بل حكمُهُ حكمُ الإسنادِ المعَنْعَن، وحكمُهُ- كما سيأتي في موضعِهِ- الاتصالُ بشرطِ‏:‏ ثبوتِ اللقاءِ، والسلامةِ من التدليسِ‏.‏ واللقاءُ في شيوخِهِ معروفٌ، والبخاريُّ سالمٌ من التدليسِ، فَلَهُ حكمُ الاتصالِ‏.‏ هكذا جزمَ بهِ ابنُ الصلاحِ في الرابعِ من التفريعاتِ التي تلي النوعَ الحادي عشرَ‏.‏ ثم قال‏:‏ وبلغني عَن بعض المتأخّرينَ منْ أهلِ المغربِ أنَّهُ جعلَهُ قسماً من التعليقِ ثانياً، وأضافَ إليه قولَ البخاريِّ- في غيرِ موضعٍ من كتابِهِ-‏:‏ وقالَ لي فلانٌ، وزادنا فلانٌ‏.‏ فَوَسَمَ كُلَّ ذلك بالتعليقِ المتّصلِ مِن حيثُ الظاهرُ، المنفصلِ من حيثُ المعنى، …»، وسيأتي حكمُ قولِهِ‏:‏ قال لنا فلان، عند ذكرِ أقسامِ التحمُّلِ‏.‏ وما ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ هنا هو الصوابُ‏.‏ وقد خالَفَ ذلك في مثالٍ مَثَّلَ به في السادسةِ من الفوائدِ في النوعِ الأولِ، فقالَ‏:‏ «وأمَّا الذي حُذِفَ من مبتدأ إسنادِهِ واحدٌ أو أكثرُ‏.‏ ثمَّ قالَ‏:‏ مِثالُهُ‏:‏ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كذا، قال ابن عبّاس كذا، قال مجاهدٌ كذا، قال عفّانُ كذا، قال القَعْنَبيُّ كذا إلى آخركلامه‏.‏

فقولُهُ‏:‏ قالَ عفانُ كذا قال القعنبيُّ كذا في أمثلةِ ما سقطَ من أولِ إسنادِهِ واحدٌ مخالفٌ لكلامِهِ الذي قدّمْنَاهُ عنه؛ لأنَّ عفانَ والقعنبيَّ كلاهما شيخُ البخاريِّ حَدَّثَ عنه في مواضعَ من صحيحِهِ متصلاً بالتصريحِ‏.‏ فيكونُ قولُهُ‏:‏ قال عفانُ، قال القعنبيُّ، محمولاً على الاتّصال، كالحديث المعنعنِ‏.‏ وعلى هذا عملُ غيرِ واحدٍ من المتأخّرينَ، كابنِ دقيقِ العيدِ، والمزّيِّ‏.‏ فجعلا حديثَ أبي مالكٍ الأشعَرِيِّ- الآتي ذِكْرُهُ- مثالاً لهذهِ المسألةِ تعليقاً‏.‏ وفي كلامِ أبي عبدِ الله بنِ منده أيضاً ما يقتضي ذلكَ، فقالَ في جزءٍ له في اختلافِ الأئمةِ في القراءة، والسماعِ، والمناولةِ، والإجازةِ‏:‏ أخرجَ البخاريُّ في كتبهِ الصحيحةِ وغيرِها، قال لنا فلانٌ، وهي إجازةٌ‏.‏ وقال فلانٌ، وهو تدليسٌ‏.‏ قال‏:‏ وكذلك مسلمٌ أخرجَهُ على هذا‏.‏ انتهى كلام ابنِ منده ولم يوافق عليهِ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏كخبرِ المعازِفِ‏)‏، هو مثالٌ لما ذَكَرَهُ البخاريُّ عن بعضِ شيوخِهِ من غيرِ تصريحٍ بالتحديثِ، أو الإخبارِ، أو ما يقومُ مقامَهُ‏.‏ كقولهِ‏:‏ قال هشامُ بنُ عمّار‏:‏ حدّثنا صَدَقةُ بنُ خالدٍ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ يزيدَ بنِ جابرٍ، حدثنا عطيّةُ بنُ قيسٍ، قال‏:‏ حدّثني عبدُ الرحمنِ بنُ غَنْمٍ، قال‏:‏ حدثني أبو عامرٍ، أو أبو مالكٍ الأشعريُّ، أنَّهُ سمعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ «ليكونَنَّ في أمتي أقوامٌ يستحلونَ الحِرَّ والحريرَ والمعازفَ، الحديث»‏.‏ فإنَّ هذا الحديثَ حكمُهُ الاتصالُ؛ لأنَّ هشامَ بنَ عَمّارٍ من شيوخِ البخاريِّ حدَّثَ عنه بأحاديثَ، وخالفَ ابنُ حزمٍ في ذلك، فقال في ‏"‏ المحلى ‏"‏‏:‏ هذا حديثٌ منقطعٌ لم يتصل ما بين البخاريِّ، وصدقةَ بنِ خالدٍ‏.‏

قال-‏:‏ ولا يصحُّ في هذا البابِ شيءٌ أبداً‏.‏- قال-‏:‏ وكلُّ ما فيه فموضوعٌ»‏.‏ قال ابن الصلاحِ‏:‏ «ولا التفاتَ إليهِ في رَدِّهِ ذلك- قال-‏:‏ وأخطأَ في ذلك من وُجوهٍ- قال-‏:‏ والحديثُ صحيحٌ معروفُ الاتصالِ بشرطِ الصحيحِ‏.‏ قالَ‏:‏ والبخاريُّ قد يفعلُ ذلك لكونِ الحديثِ معروفاً من جهةِ الثقاتِ عن الشخصِ الذي عَلَّقَهُ عنه، أو لكونِهِ ذكرَهُ في موضعٍ آخرَ من كتابهِ متصلاً، أو لغيرِ ذلكَ من الأسبابِ التي لا يصحبُها خللُ الانقطاعِ»‏.‏ انتهى‏.‏ والحديثُ مُتَّصِلٌ مِن طُرُقٍ‏:‏ من طريقِ هشامٍ وغيرهِ‏.‏ قالَ الإسماعيليُّ في المستخرَج‏:‏ حدّثنا الحسنُ، وهو ابنُ سفيان النّسوَيُّ الإمامُ قال‏:‏ حدّثنا هشامُ بنُ عمّارٍ فذكرَهُ‏.‏وقال الطبرانيُّ في مسندِ الشاميِّينَ‏:‏ حدّثنا محمدُ بنُ يزيدَ بنِ عبدِ الصمدِ، قال‏:‏ حدّثنا هشامُ بنُ عمّارٍ‏.‏

نَقْلُ الحَديثِ مِنَ الكُتبِ المُعتَمَدةِ

47‏.‏ وَأخْذُ مَتْنٍ مِنْ كِتَابٍ لِعَمَلْ *** أوِ احْتِجَاجٍ حَيْثُ سَاغَ قَدْ جَعَلْ

48‏.‏ عَرْضاً لَهُ عَلى أُصُوْلٍ يُشْتَرَطْ *** وَقَالَ ‏(‏يَحْيَى النَّوَوِيْ‏)‏‏:‏ أصْلٍ فَقَطْ

أي‏:‏ وأخذُ الحديثِ من كتابٍ من الكتبِ المعتمدةِ، لعملٍ به، أوِ احتجاجٍ

به، إنْ كانَ ممَّنْ يسوغُ له العملُ بالحديثِ، أو الاحتجاج بهِ، جعلَ ابنُ الصلاحِ شرطَهُ أنْ يكون ذلك الكتابُ مقابلاً بمقابلةِ ثقةٍ على أصولٍ صحيحةٍ متعددةٍ مرويةٍ برواياتٍ متنوعةٍ‏.‏ قال النوويُّ‏:‏ «فإن قابلَهَا بأصلٍ معتمدٍ محققٍ أجزأَهُ»‏.‏ وقال ابنُ الصلاحِ في قسمِ الحَسَنِ حين ذَكَرَ أنَّ نسخَ الترمذيِّ تختلفُ في قولهِ‏:‏ حسنٌ، أو‏:‏ حسنٌ صحيحٌ، ونحو ذلك‏:‏ «فينبغي أن تصحِّحَ أصلَكَ بجماعةِ أصولٍ، وتعتمدَ على ما اتفقتْ عليه»‏.‏ فَقَوْلُهُ هُنَا‏:‏ يَنْبَغِي، قَدْ يُشيرُ إلى عدمِ اشتراطِ ذلكَ، وإنَّما هوَ مستحبٌّ، وهوَ كذلكَ‏.‏

49‏.‏ قُلْتُ‏:‏ ‏(‏وَلابْنِ خَيْرٍ‏)‏ امْتِنَاعُ *** جَزْمٍ سِوَى مَرْوِيِّهِ إجْمَاعُ

لما ذكرَ ابنُ الصلاحِ أنَّ من أرادَ أخذَ حديثٍ من كتابٍ من الكتبِ المعتمدةِ، أخذَهُ من كتابٍ مقابَلٍ‏.‏ أحببتُ أنْ أذكرَ أنَّ بعضَ الأئمةِ حكى الإجماعَ على أنَّهُ لا يحلُّ الجزمُ بنقلِ الحديثِ، إلا لِمَنْ له به روايةٌ، وهو الحافظُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ خيرِ بنِ عمرَ الأمويُّ- بفتحِ الهمزةِ- الإشبيليُّ وهو خالُ أبي القاسمِ السُّهيليِّ‏.‏ فقال في بَرْنامَجِهِ المشهورِ‏:‏ وقد اتفقَ العلماءُ رحمهمُ اللهُ على أنّه لا يصحُّ لمسلمٍ أنْ يقولَ‏:‏ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كذا حتَّى يكونَ عندَهُ ذلك القولُ مروياً، ولو على أقلِّ وجوهِ الرواياتِ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ كَذَبَ عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مَقْعَدَهُ من النَّارِ»

وفي بعضِ الرواياتِ‏:‏ «مَنْ كَذَبَ عَليَّ» مطلقاً دونَ تقييدٍ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏امتناعُ جزمٍ‏)‏، مبتدأٌ ومضافٌ إليه، وإجماعُ‏:‏ خَبَرُهُ‏.‏

القِسْمُ الثَّاني‏:‏ الحَسَنُ

50‏.‏ وَالحَسَنُ المَعْرُوْفُ مَخْرَجاً وَقَدْ *** اشْتَهَرَتْ رِجَالُهُ بِذَاكَ حَدْ

51‏.‏ ‏(‏حَمْدٌ‏)‏ وَقَالَ ‏(‏التِّرمِذِيُّ‏)‏‏:‏ مَا سَلِمْ *** مِنَ الشُّذُوْذِ مَعَ رَاوٍ مَا اتُّهِمْ

52‏.‏ بِكَذِبٍ وَلَمْ يَكُنْ فَرْداً وَرَدْ *** قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ حَسَّنَ بَعْضَ مَا انفَرَدْ

53‏.‏ وَقِيْلَ‏:‏ مَا ضَعْفٌ قَرِيْبٌ مُحْتَمَلْ *** فِيْهِ، وَمَا بِكُلِّ ذَا حَدٌّ حَصَلْ

اختلفَ أقوالُ أئمةِ الحديثِ في حَدِّ الحديثِ الحسنِ، فقال أبو سليمانَ الخطّابيُّ، وهو حَمْدُ المذكورُ في أولِ البيتِ الثاني‏:‏ «الحسنُ‏:‏ ما عُرِفَ مَخْرَجُهُ واشتهرَ رجالُهُ‏.‏ قال‏:‏ وعليه مدارُ أكثرِ الحديثِ، وهو الذي يقبلُهُ أكثرُ العلماءِ، ويستعملُهُ عامةُ الفقهاءِ»‏.‏انتهى‏.‏ ورأيتُ في كلامِ بعضِ المتأخّرينَ أنَّ في قولِهِ ما عُرِفَ مخرجُهُ احترازاً عن المنقطعِ، وعن حديثِ المُدَلِّسِ قبلَ أنْ يتبينَ تدليسُهُ‏.‏ قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ‏:‏ «ليسَ في عبارةِ الخطّابيِّ كبيرُ تلخيصٍ‏.‏ وأيضاً فالصحيحُ قد عُرِفَ مخرجُهُ واشتُهِرَ رجالُهُ‏.‏ فيدخلُ الصحيحُ في حَدِّ الحَسَنِ‏.‏ قالَ‏:‏ وكأنَّهُ يريدُ مما لم يبلغْ درجةَ الصحيحِ»‏.‏

قال الشيخُ تاج الدينِ التبريزيُّ‏:‏ فيه نظرٌ؛ لأنَّهُ- أي‏:‏ ابنُ دقيقِ العيدِ- ذكرَ من بعدُ‏:‏ أنَّ الصحيحَ أخصُّ من الحسنِ‏.‏ قالَ‏:‏ ودخولُ الخاصِّ في حدِّ العامِّ ضروريٌّ‏.‏ والتقييدُ بما يخرجهُ عنهُ مخلٌ للحدِّ وهو اعتراضٌ متجهٌ‏.‏

وقالَ أبو عيسى الترمذيُّ في ‏"‏العلل‏"‏ التي في آخر ‏"‏ الجامعِ ‏"‏‏:‏ «وما ذكرنا في هذا الكتاب‏:‏ حديثٌ حسنٌ، فإنَّما أردنا به حُسْنَ إسنادِهِ عندنا‏.‏كُلُّ حديثٍ يُروى لا يكونُ في إسنادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بالكذبِ، ولا يكونُ الحديثُ شاذاً، ويُرْوَى من غيرِ وجهٍ نحوُ ذلك فهو عندنا حديثٌ حسنٌ»‏.‏ قال الحافظ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ أبي بكرٍ بنِ الموَّاق‏:‏ إنّهُ لم يَخُصَّ الترمذيُّ الحسنَ بصفةٍ تميزُهُ عن الصحيحِ، فلا يكونُ صحيحاً إلا وهو غير شاذٍ، ولا يكونُ صحيحاً حَتَّى يكونَ رواتُهُ غيرَ متهمينَ، بل ثقاتٌ‏.‏ قال‏:‏ فظهرَ من هذا أنَّ الحسنَ عند أبي عيسى صفةٌ لا تخصُّ هذا القسمَ بل قد يَشْركُهُ فيها الصحيحُ‏.‏ قال‏:‏ فَكلُّ صحيحٍ عندَهُ حسنٌ، وليسَ كُلُّ حسنٍ عندَهُ صحيحاً‏.‏ قال أبو الفتحِ اليعمريُّ‏:‏ بقي عليه أنهُ اشترطَ في الحسنِ أنْ يُرْوَى من وجهٍ آخرَ، ولم يشترطْ ذلك في الصحيحِ‏.‏ قلت‏:‏ وسنرى في كلامِ أبي الفتحِ بعدَ هذا بدونِ الصفحةِ أنَّهُ لا يشترطُ في كلِّ حسنٍ أنْ يكونَ كذلك، فتأمَّلْهُ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏قلتُ وقد حَسَّن بعضَ ما انفرد‏)‏‏.‏ هذا من الزوائدِ على ابنِ الصَّلاحِ‏.‏ وهو إيرادٌ على الترمذيِّ، حيث اشترطَ في الحسنِ أنْ يُروَى من غيرِ وجهٍ نحوُه‏.‏ ومع ذلك فقد حَسَّنَ أحاديثَ لا تُروَى إلا من وجهٍ واحدٍ، كحديثِ إسرائيلَ، عن يوسفَ ابن أبي بردةَ، عن أبيهِ، عن عائشةَ، قالت‏:‏ كانَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا خرجَ من الخلاءِ قال‏:‏ غفرانكَ‏.‏ فإنَّهُ قال فيه‏:‏ حسنٌ غريبٌ لا نعرفُهُ إلا من حديثِ إسرائيلَ، عن يوسفَ ابن أبي بردةَ‏.‏ قال‏:‏ ولا يُعرفُ في هذا البابِ إلا حديثُ عائشةَ‏.‏ وأجاب أبو الفتحِ اليعمريُّ عن هذا الحديثِ بأنَّ الذي يحتاجُ إلى مجيئِهِ من غير وجهٍ ما كانَ راويه في درجة المستورِ ومَنْ لم تثبتْ عدالتُهُ‏.‏ قال‏:‏ وأكثرُ ما في البابِ أنَّ الترمذيَّ عَرّفَ بنوعٍ منه لا بكلِّ أنواعِهِ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وقيل ما ضَعْفٌ قريبٌ مُحْتَمَلٌ فيه‏)‏‏.‏ هذا قولٌ ثالثٌ في حدِّ الحسنِ‏.‏ قالَ ابنُ الجوزيِّ في ‏"‏ العللِ المتناهيةِ ‏"‏ وفي ‏"‏ الموضوعات ‏"‏‏:‏ الحديثُ الذي فيه ضَعفٌ قَريبٌ محتَملٌ، هو الحديثُ الحسنُ‏.‏ ولم يسمِّ ابنُ الصلاحِ قائلَ هذا القولِ، بل عزاهُ لبعضِ المتأخِّرينَ، وأرادَ به ابنَ الجوزيِّ‏.‏ واعترضَ ابنُ دقيقِ العيدِ على هذا الحدِّ بأنهُ «ليس مضبوطاً بضابطٍ، يتميَّزُ به القَدْرُ المحتَملُ من غيرِهِ، قالَ‏:‏ وإذا اضطربَ هذا الوصفُ لم يحصلِ التعريفُ المميِّزُ للحقيقةِ»‏.‏ وقال ابنُ الصلاحِ بعد ذِكْرِ هذهِ الحدودِ الثلاثةِ‏:‏ كلُّ هذا مُستبْهَمٌ، لا يَشْفِي الغليلَ، قالَ‏:‏ وليسَ في كلامِ الترمذيِّ، والخطّابيِّ ما يفصلُ الحسنَ من الصحيحِ‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا المرادُ بقولِهِ‏:‏ ‏(‏وما بكلِّ ذا حدٌّ حَصَلْ‏)‏‏.‏ أي‏:‏ وما بكلِّ قولٍ من الأقوالِ الثلاثةِ حصلَ حدٌّ صحيحٌ للحَسَنِ‏.‏

54‏.‏ وَقَالَ‏:‏ بَانَ لي بإمْعَانِ النَّظَرْ *** أنَّ لَهُ قِسْمَيْنِ كُلٌّ قَدْ ذَكَرْ

55‏.‏ قِسْماً، وَزَادَ كَونَهُ مَا عُلِّلا *** وَلاَ بِنُكْرٍ أوْ شُذُوْذٍ شُمِلاَ

أي‏:‏ وقال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وقد أمعنْتُ النَظَرَ في ذلك، والبحثَ، جامعاً بين أطرافِ كلامِهِم، ملاحظاً مواقعَ استعمالِهِم، فتنقحَ لي واتضَحَ أنَّ الحديثَ الحسنَ قسمانِ‏:‏

أحدُهما‏:‏ الحديثُ الذي لا يخلو رجالُ إسنادهِ من مستورٍ لم تتحققْ أهليتُهُ، غيرَ أنَّهُ ليس مغفلاً، كثيرَ الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهمٌ بالكذبِ في الحديثِ، أي‏:‏ لم يظهرْ منه تعمُّدُ الكذبِ في الحديثِ، ولا سببٌ آخرُ مفسِّقٌ ويكونُ متنُ الحديثِ مع ذلك قد عُرِفَ، بأنْ رُوِي مثلُهُ أو نحوُهُ من وجهٍ آخرَ، أو أكثر، حتى اعتضدَ بمتابعةِ مَنْ تابعَ راويهِ على مثلِهِ، أو بما لَهُ مِنْ شاهدٍ، وهو ورودُ حديثٍ آخرَ نحوه، فيخرجُ بذلك عن أنْ يكونَ شاذاً، أو منكراً‏.‏ وكلامُ الترمذيِّ على هذا القسمِ يتنزلُ‏.‏

القسمُ الثاني‏:‏ أنْ يكونَ راويه من المشهورين بالصدقِ والأمانةِ، غيرَ أنَّهُ لا يبلغُ درجةَ رجالِ الصحيحِ؛ لكونهِ يقصُرُ عنهم في الحفِظِ والإتقانِ، وهو مع ذلك يرتفعُ عن حالِ مَنْ يُعَدُّ ما ينفردُ به من حديثِهِ منكراً‏.‏ قال‏:‏ ويعتبرُ في كلِّ هذا مع سلامةِ الحديثِ من أنْ يكونَ شاذاً، أو منكراً سلامتُهُ من أنْ يكونَ مُعَلّلاً‏.‏ وعلى القسمِ الثاني يتنزلُ كلامُ الخطّابيِّ‏.‏ قال‏:‏ فهذا الذي ذكرناه جامعٌ لما تفرّقَ في كلامِ مَنْ بلغَنَا كلامُهُ في ذلك‏.‏ قال‏:‏ وكأنَّ الترمذيَّ ذَكَرَ أحدَ نوعَي الحَسَنِ، وذَكَرَ الخطابيُّ النوعَ الآخرَ، مقتصِراً كلُّ واحدٍ منهما على ما رأى أنَّهُ مشكِلٌ، معرضاً عمّا رأى أنَّهُ لا يُشْكِلُ أو أنَّهُ غَفَلَ عن البعضِ وذهلَ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏كلٌّ قدْ ذَكَر‏)‏، أي‏:‏ كلُّ واحدٍ من الترمذيِّ، والخطّابيِّ‏.‏ وقولُه‏:‏ ‏(‏وزادَ‏)‏، أي‏:‏ ابنُ الصلاحِ‏.‏

والإمعانُ مصدرُ أمْعَنَ‏.‏ من قولِ الفقهاءِ في التيمُّمِ‏:‏ أمعنَ في الطلبِ‏.‏ وكأَنَّهُ مأخوذٌ من الإبعادِ في العَدْوِ‏.‏ ففي التهذيبِ عن الليثِ بن المظفّرِ‏:‏ أمعنَ الفرسُ وغيرُهُ، إذا تباعَدَ في عَدْوِهِ‏.‏ وفي ‏"‏ الصحاحِ ‏"‏‏:‏ أمعَنَ الفرسُ‏:‏ تباعَدَ في عَدْوِهِ‏.‏ ويحتملُ أنَّهُ من أمعنَ الماءَ إذا أجرَاهُ‏.‏ ويحتَملُ غيرَ ذلك‏.‏ وقد بينتُهُ في ‏"‏ الشرحِ الكبيرِ ‏"‏‏.‏

56‏.‏ وَالفُقَهَاءُ كلُّهُمْ يَستَعمِلُهْ *** وَالعُلَمَاءُ الْجُلُّ مِنْهُمْ يَقْبَلُهْ

57‏.‏ وَهْوَ بأقْسَامِ الصَّحِيْحِ مُلْحَقُ *** حُجِّيَّةً وإنْ يَكُنْ لا يَلْحَقُ

البيتُ الأولُ مأخوذٌ من كلامِ الخطّابيِّ‏.‏ وقد تقدّم نَقْلُهُ عنه إلا أنَّهُ قال‏:‏ عامّةُ الفقهاءِ، وعامةُ الشيءِ يطلقُ بإزاءِ معظمِ الشيءِ، وبإزاءِ جميعِهِ‏.‏ والظاهرُ أنَّ الخطابيَّ أرادَ الكُلَّ‏.‏ ولو أرادَ الأكثرَ لما فَرَّقَ بين العلماءِ والفقهاءِ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏حجيّةً‏)‏، نصبٌ على التمييزِ، أي‏:‏ الحسنُ ملحقٌ بأقسامِ الصحيحِ في الاحتجاجِ به، وإنْ يكن دونَهُ في الرُّتْبَةِ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «الحسنُ يتقاصرُ عن الصحيحِ»‏.‏ قال‏:‏ «ومِنْ أهلِ الحديثِ مَنْ لا يفردُ نوعَ الحسنِ ويجعلُهُ مندرجاً في أنواعِ الصحيحِ؛ لاندراجهِ في أنواعِ ما يحتجُّ به»‏.‏ قال‏:‏ «وهو الظاهرُ من كلامِ الحاكمِ في تصرفاتِهِ‏.‏ قال‏:‏ ثمَّ إنَّ مَنْ سَمَّى الحسنَ صحيحاً لا يُنْكِرُ أنهُ دونَ الصحيحِ المقدّمِ المبينِ أولاً‏.‏ قال‏:‏ فهذا إذَنْ اختلافٌ في العبارةِ دون المعنى»‏.‏

58‏.‏ فَإنْ يُقَلْ‏:‏ يُحْتَجُّ بِالضَّعِيْفِ *** فَقُلْ‏:‏ إذا كَانَ مِنَ المَوْصُوْفِ

59‏.‏ رُوَاتُهُ بِسُوْءِ حِفْظٍ يُجْبَرُ *** بِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ يُذْكَرُ

60‏.‏ وَإنْ يَكُنْ لِكَذِبٍ أوْ شَذَّا *** أوْ قَوِيَ الضَّعْفُ فَلَمْ يُجْبَر ذَا

61‏.‏ أَلاَ تَرَى الْمُرْسَلَ حَيْثُ أُسْنِدَا *** أوْ أرْسَلُوا كَمَا يَجِيءُ اعْتُضِدَا

لما تقدّمَ أنَّ الحسنَ قاصرٌ عن الصحيحِ، وإنّما أُلْحِقَ به في الاحتجاجِ‏.‏ وتقدَمَ أنَّ الحسنَ لا يُشترطُ فيه ثقةُ رجالِهِ، بل إذا كان فيهم من لا يُتَّهَمُ بالكَذِبِ ورُوِيَ من وَجْهٍ آخرَ كان حسناً، على الشروطِ المتقدمةِ‏.‏ وغيرُ المتهمِ أعمُّ منْ أنْ يكونَ ثقةً، أو مستوراً، والمستورُ غيرُ مقبولٍ عند الجمهورِ‏.‏

وربّما كان من تابعَهُ مستوراً أيضاً‏.‏ وكلاهما لو انفردَ لم تَقُمْ به حجّةٌ فكيفَ يحتجُّ به إذا انضمَّ إليهِ مَنْ لا يحتجُّ به منفرداً‏.‏ وأجابَ عنه ابنُ الصلاحِ بما ذُكرَ في البيتِ الأخيرِ من هذهِ الأبياتِ الأربعةِ‏.‏ فقالَ بعد قولِهِ‏:‏ إنَّ الحسنَ متقاصرٌ عن الصحيحِ‏:‏ «وإذا استبعدَ ذلك من الفقهاءِ الشافعيةِ مُسْتَبعدٌ ذكرنا له نصَّ الشافعيِّ رضي الله عنه في مراسيلِ التابعينَ أنَّهُ يقبلُ منها المرسلَ الذي جاءَ نحوُه مسنداً‏.‏ وَكَذَلِكَ لَوْ وافقَهُ مرسلٌ آخرُ أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجال التابعيِّ الأولِ في كلامٍ لَهُ ذكرَ فِيْهِ وجوهاً من الاستدلالِ عَلَى صحةِ مَخْرجِ المُرْسَلِ بمجيئِهِ من وجهٍ آخرَ»‏.‏ ثُمَّ قَالَ في جوابِ سؤالٍ آخرَ‏:‏ «لَيْسَ كُلُّ ضعفٍ في الحديثِ يزولُ بمجيئِهِ من وجوهٍ، بَلْ ذَلِكَ يختلف فمنه ضَعْفٌ يُزِيلُه ذَلِكَ، بأنْ يكونَ ضَعْفُهُ ناشِئَاً مِنْ ضَعْفِ حفظِ راويه مَعَ كونِهِ مِنْ أهلِ الصِّدْقِ والديانة‏.‏ فإذا رأينا ما رواهُ قَدْ جاءَ من وجهٍ آخرَ عرفنا أنَّهُ مِمَّا قَدْ حفظَهُ وَلَمْ يختلَّ فِيْهِ ضبطُهُ لَهُ‏.‏ وَكَذَلِكَ إذا كانَ ضَعْفُهُ من حيثُ الإرسالُ زالَ بنحوِ ذَلِكَ كَمَا في المُرْسَلِ الَّذِي يُرْسِلُهُ إمامٌ حافظٌ، إذ فِيْهِ ضعفٌ قليلٌ يزولُ بروايتهِ من وجهٍ آخرَ‏.‏- قَالَ-‏:‏ ومن ذَلِكَ ضعفٌ لا يزولُ بنحوِ ذَلِكَ؛ لقوةِ الضعفِ؛ وتقاعدِ هذا الجابرِ عن جَبْرِهِ ومقاومتِهِ‏.‏ وذلك كالضعفِ الذي ينشأُ من كونِ الراوي متهماً بالكذبِ أو كونِ الحديثِ شاذاً‏.‏ قال‏:‏ وهذهِ جملةٌ تفاصيلُها تدركُ بالمباشرةِ والبحثِ، فاعلمْ ذلك فإنَّهُ من النفائِسِ العزيزةِ، والله أعلمُ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏رواتُهُ‏)‏، هو مرفوعٌ لسدِّهِ مَسَدَّ الفاعلِ، وهو مفعولُ قولِهِ‏:‏ ‏(‏الموصوفِ‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أوْ أرسلوا كما يجيءُ‏)‏، يريدُ‏:‏ أو أرسلوه على الوجهِ الذي يجيءُ لا مطلقاً‏.‏ وأُشيرَ بقولِهِ‏:‏ ‏(‏يجيء‏)‏ إلى موضعِ الكلامِ على المُرْسَلِ‏.‏

62‏.‏ وَالحَسَنُ‏:‏ الْمشهُوْرُ بِالعَدَالَهْ *** وَالصِّدْقِ رَاوِيهِ، إذَا أَتَى لَهْ

63‏.‏ طُرُقٌ اخْرَى نَحْوُهَا مِن الطُّرُقْ *** صَحَّحْتُهُ كَمَتْنِ ‏(‏لَوْلاَ أنْ أَشُقْ‏)‏

64‏.‏ إذْ تَابَعُوْا ‏(‏مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو‏)‏ *** عَلَيْهِ فَارْتَقَى الصَّحِيْحَ يَجْرِي

قوله‏:‏ ‏(‏المشهورُ‏)‏، صفةٌ للحَسَنِ، لا خبرٌ له‏.‏ والشرطُ وجوابُهُ في موضعِ الخَبَرِ، أي‏:‏ والحَسَنُ الذي راويه مشهورٌ بالصدقِ والعدالةِ، إذا أتَتْ له طرقٌ أخرى حكمَتْ بصحتِهِ، كحديثِ محمدِ بنِ عمرو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لولا أنْ أشقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسواكِ عند كلِّ صلاةٍ»‏.‏

قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «محمدُ بنُ عمرِو بنِ علقمةَ من المشهورينَ بالصدقِ والصيانةِ لكنَّهُ لم يكن من أهلِ الإتقانِ حتَّى ضَعَّفَهُ بعضُهم مِنْ جهةِ سوءِ حفظِهِ‏.‏ ووثَّقَهُ بعضُهم لصدقِهِ وجلالتِهِ‏.‏ فحديثُهُ من هذهِ الجهةِ حَسَنٌ، فلمَّا انضمَّ إلى ذلكَ كونُهُ رُوي من أوجُهٍ أُخَرَ، زالَ بذلك ما كنا نخشاهُ عليه من جهةِ سوءِ حفظِهِ‏.‏ وانجبرَ بهِ ذلك النقصُ اليسيرُ، فصحَّ هذا الإسنادُ، والتحقَ بدرجةِ الصحيحِ»‏.‏ وقد أخذَ ابنُ الصلاحِ كلامَهُ هذا من الترمذيِّ فإنَّهُ قالَ بعدَ أنْ أخرجَهُ من هذا الوجهِ‏:‏ حديثُ أبي سلمةَ عن أبي هريرةَ عندي صحيحٌ‏.‏ ثُمَّ قالَ‏:‏ وحديثُ أبي هريرةَ إنَّما صَحَّ؛ لأنَّه قد رُوي من غيرِ وَجْهٍ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏إذ تابعوا محمدَ بنَ عمرٍو‏)‏‏.‏ ذكرهُ بعد قولِهِ‏:‏ ‏(‏كمتنِ «لولا أنْ أشقَّ»‏)‏‏.‏ ليعلمَ أنَّ التمثيلَ ليس لمُطْلَقِ هذا الحديثِ، ولكنْ بقيدِ كونِهِ من روايةِ مُحَمَّدِ بنِ عمرو‏.‏ ولستُ أريدُ بالمتابعةِ كونَهُ رواهُ عن أبي سلمةَ عن أبي هُرَيرَة غيرُ محمدِ بنِ عمرٍو؛ ولكنَّ متابعةَ شيخِهِ أبي سلمةَ عليه عن أبي هريرةَ فقد تابعَ أبا سلمةَ عليه عن أبي هريرةَ، عبدُ الرحمن بنُ هرمزٍ الأعرجُ، وسعيد المقبريُّ، وأبوه‏:‏ أبو سعيدٍ، وعطاءٌ مولى أُمِّ صُبَيَّةَ، وحميدُ بنُ عبدِ الرحمن، وأبو زرعة بنُ عمرِو بنِ جريرٍ، وهو متفقٌ عليه من طريقِ الأعْرَجِ‏.‏ والمتابعةُ قَدْ يُراد بها متابعةُ الشيخِ، وقد يُراد بها متابعةُ شيخِ الشيخِ، كما سيأتي الكلامُ عليهِ في فصلِ المتابعاتِ والشواهدِ‏.‏

65‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمِنْ مَظِنَّةٍ لِلحَسَنِ *** جَمْعُ ‏(‏أبي دَاوُدَ‏)‏ أيْ في السُّنَنِ

66‏.‏ فإنَّهُ قَالَ‏:‏ ذَكَرْتُ فِيْهِ *** ما صَحَّ أوْ قَارَبَ أوْ يَحْكِيْهِ

67‏.‏ وَمَا بهِ وَهْنٌ شَدِيْدٌ قُلْتُهُ *** وَحَيْثُ لاَ فَصَالِحٌ خَرَّجْتُهُ

68‏.‏ فَمَا بِهِ وَلَمْ يُصَحَّحْ وَسَكَتْ *** عَلَيْهِ عِنْدَهُ لَهُ الحُسْنُ ثَبَتْ

69‏.‏ و ‏(‏ابْنُ رُشَيْدٍ‏)‏ قَالَ-وَهْوَ مُتَّجِهْ- *** قَدْ يَبْلُغُ الصِّحَّةَ عِنْدَ مُخْرِجِهْ

أي‏:‏ قال ابنُ الصَّلاحِ‏:‏ ومن مظانِّه- أي‏:‏ الحسنِ- سننُ أبي داودَ السجستانيِّ- رحمهُ اللهُ تعالى-‏.‏ رُوينا عنه أنَّهُ قالَ‏:‏ ذكرتُ فيه الصحيحَ وما يُشْبِهُهُ ويقارِبُهُ‏.‏ قال‏:‏ وروينا عنه أيضاً ما مَعْناهُ أنَّهُ يذكُرُ في كُلِّ بابٍ أصحَّ ما عرفَهُ في ذلكَ البابِ‏.‏ وقال‏:‏ ما كان في كتابي من حديثٍ فيه وَهْنٌ شديدٌ فقد بينتُهُ، وما لم أذكرْ فيه شيئاً فهو صالحٌ وبعضُها أصحُّ من بعضٍ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ «فعلى هذا ما وجدناه في كتابِهِ مذكوراً مطلقاً، وليس في واحدٍ من الصحيحينِ، ولا نَصَّ على صحتِهِ أحدٌ ممَّنْ يُميِّزُ بين الصحيحِ والحسنِ عرفناه بأنَّهُ من الحسَنِ عند أبي داودَ‏.‏ وقد يكونُ في ذلك ما ليسَ بحسَنٍ عند غيرِهِ، ولا مندرجٍ فيما حقّقنا ضبطَ الحسنِ به»‏.‏ ثم ذكرَ كلامَ ابنِ منده في شرطِ أبي داودَ، والنسائيِّ‏.‏ وقد ذكرتُهُ بعد هذا بسبعةِ أبياتٍ‏.‏ وقد اعترضَ أبو عبد اللهِ محمدُ بنُ عمرِ بنِ محمدِ الفِهريُّ الأندلسيُّ المعروفُ بابن رُشَيد، على كلامِ ابنِ الصَّلاحِ بأنْ قال‏:‏ «ليس يلزمُ أنْ يُستفادَ من كونِ الحديثِ لم ينصَّ عليه أبو داودَ بضَعْفٍ، ولا نَصَّ عليهِ غيرُهُ بصحةٍ أنَّ الحديثَ عند أبي داودَ حسنٌ‏.‏ إذْ قد يكونُ عنده صحيحاً، وإنْ لم يكن عندَ غيرِهِ كذلك‏.‏ وقال أبو الفتح اليعمريُّ‏:‏ «وهذا تعقّبٌ حسنٌ»‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا معنى قولِهِ‏:‏ ‏(‏وهو مُتَّجِهْ‏)‏، وهي جملةٌ معترضةٌ‏.‏ ومعمولُ القولِ قد يبلغُ إلى آخرهِ‏.‏ وقد يُجابُ عن اعتراضِ ابنِ رُشيد‏:‏ بأنَّ ابنَ الصلاحِ إنَّما ذكرَ ما لنا أنْ نعرفَ الحديثَ به عندَهُ والاحتياطُ أنْ لا يرتفعَ به إلى درجةِ الصِّحَّةِ، وإنْ جازَ أنْ يبلغَها عند أبي داودَ؛ لأنَّ عبارتَهُ‏:‏ فهو صالحٌ، أي للاحتجاجِ به‏.‏ فإنْ كان أبو داودَ يَرى الحسنَ رتبةً بين الصحيحِ والضعيفِ، فالاحتياطُ ما قالَهُ ابنُ الصلاحِ، وإنْ كان رأيُهُ كالمتقدّمين أنَّهُ ينقسمُ إلى صحيحٍ وضعيفٍ، فما سكت عنه فهو صحيحٌ، والاحتياطُ أنْ يُقْالَ صالحٌ كما عَبَّرَ هو عن نفسِهِ‏.‏

70‏.‏ وَللإمَامِ ‏(‏اليَعْمُرِيِّ‏)‏ إنَّما *** قَوْلُ ‏(‏أبي دَاوُدَ‏)‏ يَحْكي ‏(‏مُسْلِما‏)‏

71‏.‏ حَيثُ يَقُوْلُ‏:‏ جُمْلَةُ الصَّحِيْحِ لا *** تُوجَدُ عِنْدَ ‏(‏مَالِكٍ‏)‏ وَالنُّبَلا

72‏.‏ فَاحْتَاجَ أنْ يَنْزِلَ في الإسْنَادِ *** إلى ‏(‏يَزيْدَ بنِ أبي زيَادِ‏)‏

73‏.‏ وَنَحْوِهِ، وإنْ يَكُنْ ذُو السَّبْقِ *** قَدْ فَاتَهُ، أدْرَكَ بِاسْمِ الصِّدْقِ

74‏.‏ هَلاَّ قَضَى عَلَى كِتَابِ ‏(‏مُسْلِمِ‏)‏ *** بِمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالتَّحَكُّمِ

أي‏:‏ وللإمامِ أبي الفتحِ محمّدِ بن محمدِ بنِ محمدِ بنِ سَيِّدِ النّاسِ اليَعْمُريِّ تعقّبٌ على كلامِ ابنِ الصَّلاحِ، فقالَ في شرح الترمذيِّ‏:‏ لم يَرْسُمْ أبو داود شيئاً بالحسنِ‏.‏ وعملُه في ذلك شبيهٌ بعملِ مسلم، الذي لا ينبغي أنْ يحملَ كلامَهُ على غيرِهِ أنّه اجتنبَ الضعيفَ الواهيَ، وأتى بالقسمينِ الأولِ والثاني، وحديثُ من مَثَّلَ به من الرواةِ من القسمينِ الأولِ والثاني، موجودٌ في كتابِهِ دونَ القسم الثالثِ‏.‏ قال‏:‏ فهلاَّ ألزمَ الشيخُ أبو عمرٍو مسلماً من ذلك ما ألزَمَ به أبا دوادَ‏؟‏ فمعنى كلامِهِمَا واحدٌ‏.‏ وقولُ أبي داودَ وما يشبهُهُ، يعني‏:‏ في الصِّحَّةِ، وما يقارِبُهُ، يعني‏:‏ فيها أيضاً‏.‏ قال‏:‏ وهو نحوُ قولِ مسلمٍ أنَّهُ ليس كُلُّ الصحيحِ نجدُهُ عند مالكٍ، وشعبةَ وسفيانَ، فاحتاجَ أنْ ينزلَ إِلَى مثلِ حديثِ ليثِ بن أبي سُليمٍ، وعَطَاءِ بنِ السائبِ، ويزيدَ بن أبي زيادٍ؛ لما يَشْملُ الكُلَّ من اسمِ العدالةِ والصدقِ، وإنْ تفاوتوا في الحفظِ والإتقانِ، ولا فرقَ بين الطريقينِ، غيرَ أنَّ مسلماً شرطَ الصحيحَ فَتَحرَّجَ من حديثِ الطبقةِ الثالثةِ، وأبا داودَ لم يشترطْهُ فذكرَ ما يشتدُّ وَهنُهُ عندَهُ والتزمَ البيانَ عنهُ‏.‏ قال‏:‏ وفي قولِ أبي دوادَ أنَّ بعضَها أصحُّ من بعضٍ ما يشيرُ إلى القَدَرِ المشتَركِ بينَها من الصحَّةِ، وإنْ تفاوتَتْ فيه لما تقتضيهِ صيغةُ أفْعَلَ في الأكثرِ‏.‏ انتهى‏.‏ والجوابُ عمّا اعترضَ به ابنُ سَيِّدِ الناسِ‏:‏ أنَّ مسلماً التزم الصحةَ في كتابِهِ، فليس لنا أن نحكمَ على حديثٍ خَرَّجَهُ فيه بأنَّهُ حسنٌ عندَهُ، لما تقدّمَ من قُصورِ الحَسَنِ عن الصحيحِ‏.‏ وأبو داودَ قال‏:‏ إنَّ ما سكت عنه فهو صالحٌ‏.‏ والصالحُ قد يكونُ صحيحاً، وقد يكونُ حسناً عند مَنْ يَرَى الحسنَ رتبةً دونَ الصحيحِ‏.‏ ولم يُنْقَلْ لنا عن أبي داودَ هل يقولُ بذلك، أو يَرى ما ليس بضعيفٍ صحيحاً‏؟‏ فكانَ الاحتياطُ أنْ لا يرتفعَ بِمَا سكتَ عَنْهُ إِلَى الصِّحَّةِ حَتَّى يعلمَ أنَّ رأيَهُ هُوَ الثاني، ويحتاجُ إِلَى نَقلٍ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏يحكي مسلماً‏)‏، أي يشبهُ قولَ مُسْلِم‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏حيثُ يقولُ‏)‏، أي‏:‏ مُسْلِم، وكذا قولُهُ‏:‏ ‏(‏فاحتاجَ‏)‏، أي‏:‏ مُسْلِم‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏فاتَهُ‏)‏، أي‏:‏ يزيدَ بنَ أبي زيادٍ، ونحوه‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏هلاّ قضى‏)‏، أي‏:‏ ابنُ الصلاحِ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏عَلَيْهِ‏)‏، أي‏:‏ على كتابِ أبي داودَ‏.‏

75‏.‏ وَ ‏(‏البَغَوِيْ‏)‏ إذْ قَسَّمَ المَصَابحَا *** إلى الصِّحَاحِ وَالحِسَانِ جَانِحا

76‏.‏ أنَّ الحِسَانَ مَا رَوُوْهُ في السُّنَنْ *** رَدَّ عَلَيهِ إذْ بِهَا غَيْرُ الحَسَنْ

أي‏:‏ والبَغويُّ رُدَّ عليهِ في تسميتِهِ في كتابِ ‏"‏ المصابيحِ ‏"‏ ما رواهُ أصحابُ السُّنَنِ الحِسانَ‏.‏ إذ في السنن غيرُ الحسَنِ من الضعيفِ والصحيحِ، إنْ قلنا‏:‏ الحسنُ ليس أعمَّ من الصحيحِ، كما سيأتي في بقيّةِ الفصلِ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ هذا اصطلاحٌ لا يُعرفُ، وليس الحسنُ عند أهلِ الحديثِ عبارةً عن ذلكَ‏.‏

77‏.‏ كَانَ ‏(‏أبُوْ دَاوُدَ‏)‏ أقْوَى مَا وَجَدْ *** يَرْوِيهِ، والضَّعِيْفَ حَيْثُ لاَ يَجِدْ

78‏.‏ فِي البَابِ غَيْرَهُ فَذَاكَ عِنْدَهْ *** مِنْ رَأيٍ اقوَى قَالهُ ‏(‏ابْنُ مَنْدَهْ‏)‏

79‏.‏ ‏(‏وَالنَّسَئيْ‏)‏ يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يُجْمِعُوا *** عَليْهِ تَرْكاً، مَذْهَبٌ مُتَّسِعُ

هذا بيانٌ لكونِ السننِ فيها غيرُ الحسن‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ روينا عنه أي‏:‏ عن أبي داودَ ما معناهُ أنَّهُ يذكرُ في كلِّ بابٍ أصحَّ ما عرَفَهُ في ذلك الباب‏.‏ وقال أبو عبد الله ابنُ منده عنه‏:‏ إنَّهُ يخرجُ الإسنادَ الضعيفَ إذا لم يجدْ في البابِ غيرَهُ؛ لأنَّهُ أقوى عندَهُ من رأي الرجالِ‏.‏ وَقَالَ ابنُ منده‏:‏ إنَّهُ سمعَ محمدَ بنَ سعدٍ الباورديَّ بمصرَ يقولُ‏:‏ كانَ من مذهبِ أبي عبدِ الرحمنِ النَّسائيِّ أنْ يخرجَ عن كلِّ منْ لم يُجمَعْ على تركهِ‏.‏

فقولُهُ‏:‏ ‏(‏والضعيفَ‏)‏ أي‏:‏ ويروِي الضعيفَ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏مذهبٌ متّسعٌ‏)‏، خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ‏.‏

80‏.‏ وَمَنْ عَليها أطْلَقَ الصَّحِيْحَا *** فَقَدْ أَتَى تَسَاهُلاً صَرِيْحَا

أي‏:‏ ومَنْ أطلقَ الصحيحَ على كتبِ السُّنن، فقد تساهَلَ، كأبي طاهرٍ

السِّلَفيِّ حيث قال في الكتبِ الخمسةِ‏:‏ اتفقَ على صحتِها علماءُ المشرقِ

والمغربِ‏.‏ وكأبي عبدِ الله الحاكم حيثُ أطلقَ على الترمذيِّ ‏"‏ الجامعَ الصحيحَ ‏"‏، وكذلك الخطيبُ أطلقَ عليه، وعلى النسائيِّ اسمَ الصحيحِ‏.‏

81‏.‏ وَدُوْنَهَا في رُتْبَةٍ مَا جُعِلاَ *** عَلى المَسَانِيْدِ، فَيُدْعَى الجَفَلَى

82‏.‏ كَمُسْنَدِ ‏(‏الطَّيَالَسِيْ‏)‏ و ‏(‏أحْمَدَا‏)‏ *** وَعَدُّهُ ‏(‏لِلدَّارِميِّ‏)‏ انْتُقِدَا

أي‏:‏ ودونَ السننِ في رتبةِ الصحةِ ما صنِّفَ على المسانيدِ، وهو ما أُفْرِدَ فيه حديثُ كُلِّ صَحَابِيّ عَلَى حِدَةٍ من غيرِ نَظَرٍ للأبوابِ‏.‏ كمسندِ أبي داودَ الطيالسيِّ‏.‏ ويُقَالُ‏:‏ إنَّهُ أولُ مسندٍ صنِّفَ‏.‏ وكمسندِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وأبي بكرِ بن أبي شيبةَ، وأبي بكرٍ البّزارِ، وأبي القاسم البغويِّ، وغيرهم‏.‏ وقد عَدَّ فيها ابنُ الصلاحِ مسندَ الدارميِّ، فَوَهِمَ في ذلك؛ لأنَّه مُرتّبٌ عَلَى الأبوابِ، لا عَلَى المسانيدِ‏.‏ وأشرتُ إِلَى ذَلِكَ بقولي‏:‏ ‏(‏وَعَدَّهُ‏)‏، أي‏:‏ ابنُ الصلاحِ‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏فيُدْعَى الجَفَلى‏)‏، كَنَّى به عن بيانِ كونِ المسانيدِ دونَ السننِ في مرتبةِ الصحةِ؛ لأنَّ من جَمَعَ مسندَ الصحابيِّ يجمعُ فيه ما يقعُ له من حديثِهِ، سواءٌ كان صالحاً للاحتجاجِ أم لا‏؟‏ والجَفَلى‏:‏ بفتح الجيمِ والفاءِ معاً مقصورٌ وهي الدعوةُ العامةُ للطعامِ‏.‏ فإنَّ الدعوةَ عندَ العربِ على قسمينِ‏:‏ الجفلى وهي العامةُ، والنقرى وهي الخاصّةُ‏.‏ قال طَرَفةُ‏:‏

نَحْنُ في المَشْتَاةِ نَدْعُو الجَفَلَى لا تَرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ

وفي خطبةِ الإلْمَامِ لِلشَّيخِ تقيِّ الدينِ‏:‏ ولم أدعُ الأحاديثَ إليهِ الجَفَلَى‏.‏

83‏.‏ والحُكْمُ لِلإسْنَادِ بِالصِّحَّةِ أوْ *** بِالْحُسْنِ دُوْنَ الحُكْمِ لِلمَتْنِ رَأَوْا

84‏.‏ وَاقْبَلْهُ إنْ أَطْلَقَهُ مَنْ يُعْتَمَدْ *** وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِضَعْفٍ يُنْتَقَدْ

أي‏:‏ ورأوا الحكمَ للإسنادِ بالصحةِ كقولهم‏:‏ «هذا حديثٌ إسنادُهُ صحيحٌ»، دونَ قولِهِم‏:‏ «هذا حديثٌ صحيحٌ»‏.‏ وكذلك حكمُهُم على الإسنادِ بالحسن، كقولهم‏:‏ «إسنادُهُ حسنٌ» دونَ قولِهِم‏:‏ «حديثٌ حسنٌ»؛ لأنَّهُ قَدْ يصحُّ الإسنادُ لثقةِ رجالِهِ، ولا يصحُّ الحديثُ لشذوذٍ أو علّةٍ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ «غير أنَّ المصنفَ المعتمدَ منهم إذا اقتصرَ على قولِهِ‏:‏ إنّهُ صحيحُ الإسنادِ، ولم يذكرْ له علّةً، ولم يقدحْ فيه، فالظاهرُ منه الحكمُ له بأنَّهُ صحيحٌ في نفسهِ؛ لأنَّ عدمَ العلةِ والقادحِ، هو الأصلُ والظاهرُ»‏.‏ قلتُ‏:‏ وكذلك إنِ اقتصرَ على قولِهِ‏:‏ حَسَنُ الإسنادِ، ولم يُعَقِّبْهُ بضعفٍ، فهو أيضاً محكومٌ له بالحُسْنِ‏.‏

85‏.‏ وَاسْتُشْكِلَ الحُسْنُ مَعَ الصِّحَّةِ في *** مَتْنٍ، فَإنْ لَفْظاً يُرِدْ فَقُلْ‏:‏ صِفِ

86‏.‏ بِهِ الضَّعِيْفَ، أوْ يُرِدْ مَا يَخْتَلِفْ *** سَنَدُهُ، فَكَيْفَ إنْ فَرْدٌ وُصِفْ‏؟‏

أي‏:‏ واستُشْكِلَ الجمعُ بَيْنَ الصحةِ والحسنِ في حديثٍ واحدٍ، كقولِ الترمذيِّ وغيرِهِ‏:‏ «هَذَا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ»؛ لأنَّ الحسنَ قاصرٌ عن الصَّحِيحِ، كما سبقَ، فكيفَ يجتمعُ إثباتُ القصورِ ونفيُهُ في حديثٍ واحدٍ‏.‏ وقد أجابَ ابنُ الصلاحِ بجوابٍ، ثمَّ جَوَّزَ جواباً آخرَ‏.‏ وضَعَّفَ الجوابينِ ابنُ دقيقِ العيدِ، فمزجتُ الجوابينِ بردِّهِما‏.‏ فقولُهُ‏:‏ ‏(‏فإنْ لفظاً يُردْ‏)‏، أي‏:‏ ابنُ الصلاحِ، فإنَّهُ قالَ‏:‏ «إنّه غيرُ مستنكَرٍ أنْ يُرادَ بالحسنِ معناهُ اللُّغويُّ دون الاصطلاحيِّ»‏.‏ قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ‏:‏ «ويلزمُ عليهِ أنْ يطلقَ على الحديثِ الموضوعِ إذا كان حسنَ اللفظِ أنَّهُ حسنٌ»‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏أو يُرِدْ ما يختلف سندُهُ‏)‏، هذا هو الجوابُ الأولُ الذي أجابَ به ابنُ الصلاحِ أنَّ ذلك راجعٌ إلى الإسنادِ بأنْ يكونَ له إسنادانِ‏:‏ أحدُهما صحيحٌ، والآخر‏:‏ حسنٌ‏.‏ قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ‏:‏ «يَرِدُ عليهِ الأحاديثُ التي قيلَ فيها‏:‏ حسنٌ صحيحٌ مع أنَّهُ ليس لها إلاّ مخرجٌ واحدٌ‏.‏ وفي كلامِ الترمذيِّ في مواضعَ يقولُ‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا نعرفهُ إلا مِنْ هذا الوجه»‏.‏ وهذا معنى قولِهِ‏:‏ ‏(‏فكيفَ إنْ فردٌ وُصِف‏)‏، أي‏:‏ فكيفَ إنْ وصفَ حديثٌ فردٌ بأنّهُ حسنٌ صحيحٌ، كحديث العلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ‏:‏ «إذا بقي نصفُ شعبانَ فلا تصوموا»، فقالَ فيه الترمذيُّ‏:‏ حسنٌ صحيحٌ لا نعرِفُهُ إلا مِنْ هذا الوجهِ على هذا اللفظِ‏.‏

87‏.‏ وَ ‏(‏لأَبِي الفَتْحِ‏)‏ في الاقْتِرَاحِ *** أنَّ انفِرَادَ الحُسْنِ ذُوْ اصْطِلاَحِ

88‏.‏ وَإنْ يَكُنْ صَحَّ فَليْسَ يَلْتَبِسْ *** كُلُّ صَحِيْحٍ حَسَنٌ لاَ يَنْعَكِسْ

89‏.‏ وَأوْرَدوا مَا صَحَّ مِنْ أفْرَادِ *** حَيْثُ اشْتَرَطْنَا غَيْرَ مَا إسْنَادِ

وهذا جوابٌ عن الاستشكالِ المذكورِ، أجابَ به ابنُ دقيقِ العيدِ في كتاب ‏"‏ الاقتراحِ ‏"‏، بعدَ رَدِّ الجوابينِ المتقدّمينِ، وحاصلُهُ أنَّ الحسنَ لا يُشتَرطُ فيه القصورُ عن الصِّحَّةِ إلا حيثُ انفردَ الحسنُ فيرادُ بالحسنِ حينئذٍ المعنى الاصطلاحيُّ‏.‏ وأمّا إنِ ارتفعَ إلى درجةِ الصحةِ فالحسنُ حاصلٌ لا محالةَ تبعاً للصحةِ؛ لأنَّ وجودَ الدرجةِ العُليا، وهي الحفظُ والإتقانُ، لا ينافي وجودَ الدنيا، كالصدقِ؛ فيصحُّ أنْ يُقالَ‏:‏ حسنٌ باعتبارِ الصفةِ الدنيا، صحيحٌ باعتبارِ الصفةِ العليا‏.‏

قال‏:‏ ويلزَمُ على هذا أنْ يكونَ كُلُّ صحيحٍ حسناً ويؤيِّدُهُ قولُهُم‏:‏ حَسَنٌ في الأحاديثِ الصحيحةِ وهذا موجودٌ في كلامِ المتقدّمين‏.‏ انتهى‏.‏ وقد تقدّمَ أنَّ ابنَ الموّاقِ أيضاً، قال‏:‏ كُلُّ صحيحٍ عند الترمذيِّ حسنٌ، وليسَ كلُّ حَسَنٍ صحيحاً‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وأوردوا إلى آخرهِ‏)‏‏:‏ هذا إيرادٌ أوردَهُ ابنُ سَيِّدِ الناسِ على ابن الموّاقِ، فقالَ‏:‏ قدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أنَّهُ اشترطَ في الحسنِ أنْ يُروى نحوُهُ من وجهٍ آخرَ، ولم يشترطْ ذلك في الصحيحِ، فانتفى أن يكونَ كلُّ صحيحٍ حسَنَاً‏.‏ انتهى‏.‏ فعلى هذا‏:‏ الأفرادُ الصحيحةُ ليست بحسنةٍ عند الترمذيِّ إذ يشترطُ في الحسنِ أن يُروى من غير وجهٍ، كحديثِ‏:‏ «الأعمالُ بالنياتِ»، وحديثِ‏:‏ «السَّفرُ قِطْعةٌ من العذَابِ»، وحديث‏:‏ «نهى عن بيعِ الوَلاءِ وعن هِبَتِهِ»‏.‏ قلتُ‏:‏ وجوابُ ما اعترضَ به أنَّ الترمذيَّ إنَّما يشترطُ في الحسنِ، مجيئَهُ من وجهٍ آخرَ، إذا لم يبلغْ رُتْبَةَ الصحيحِ، فإنْ بلغَها لم يشترطْ ذلك بدليلِ قولِهِ في مواضعَ‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، فلمّا ارتفعَ إلى درجةِ الصحةِ أثبتَ له الغرابةَ باعتبارِ فرديَّتِهِ‏.‏

الْقِسْمُ الثَّالِثُ‏:‏ الضَّعِيْفُ

90‏.‏ أمَّا الضَّعِيْفُ فَهْوَ مَا لَمْ يَبْلُغِ *** مَرْتَبَةَ الحُسْنِ، وإنْ بَسْطٌ بُغِي‏:‏

91‏.‏ فَفَاقِدٌ شَرْطَ قَبُوْلٍ قِسْمُ *** وَاثْنَيْنِ قِسْمٌ غَيْرُهُ، وَضَمُّوْا

92‏.‏ سِوَاهُما فَثَالِثٌ، وَهَكَذَا *** وَعُدْ لِشَرْطٍ غَيْرَ مَبْدُوٍّ فَذَا

93‏.‏ قِسْمٌ سِوَاهَا ثُمَّ زِدْ غَيْرَ الَّذِي *** قَدَّمْتُهُ ثُمَّ عَلى ذَا فَاحْتَذِي

أي‏:‏ ما قَصَرَ عَلَى رتبةِ الحسنِ فَهُوَ ضعيفٌ‏.‏ وقولُ ابنِ الصلاحِ‏:‏ هُوَ ما لَمْ يجمعْ صفاتِ الصحيحِ، ولا صفاتِ الحسنِ‏.‏ فذِكْرُ الصحيحِ غيرُ محتاجٍ إِلَيْهِ؛ لأنَّ ما قصرَ عن الحسنِ فهو عن الصحيحِ أقصرُ، وإنْ كان بعضُهُم يقولُ‏:‏ إنَّ الفردَ الصحيحَ لا يُسَمَّى حسناً، على رأي الترمذيِّ‏.‏ فقد تقدّمَ ردُّه وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وإنْ بَسْطٌ بُغِي …‏)‏ إلى آخره، أي‏:‏ وإنْ أُريدَ بَسْطَ أقسامِ الضعيفِ، فما فُقدَ فيه شرطٌ من شروطِ القبولِ قِسْمٌ‏.‏ وشروطُ القبولِ هي شروطُ الصحيحِ والحسنِ، وهي ستةٌ‏:‏

اتصالُ السندِ حيث لم ينجبرِ المرسلُ بما يُؤَكِّدُهُ على ما سيأتي‏.‏

وعدالةُ الرجالِ‏.‏

والسلامةُ من كثرةِ الخطأ والغفلةِ‏.‏

ومجيءُ الحديثِ من وجهٍ آخرَ حيثُ كان في الإسنادِ مستورٌ لم تُعْرَفْ أهليتُهُ، وليس متّهماً كثيرَ الغَلَطِ‏.‏

والسلامةُ من الشذوذِ‏.‏

والسلامةُ من العلةِ القادحةِ‏.‏

فما فقد فيه الاتّصالُ قسمٌ، ويدخل تحتَهُ قسمان‏:‏

الأولُ‏:‏ المنقطعُ، الثاني‏:‏ المرسلُ الذي لم ينجبرْ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏واثنينِ قسمٌ غيرُهُ‏)‏، أي‏:‏ وما فقد فيه شرطٌ آخرُ مع الشرطِ المتقدّمِ، قسمٌ آخرُ ويدخلُ تحتَهُ اثنا عَشَرَ قِسْمَاً؛ لأنَّ فقدَ العدالةِ يَدْخُلُ تحتَهُ الضعيفُ والمجهولُ وهذه أقسامُهُ‏.‏

الثالث‏:‏ مرسلٌ في إسنادِهِ ضعيفٌ‏.‏ الرابعُ‏:‏ منقطعٌ فيه ضعيفٌ‏.‏ الخامسُ‏:‏ مرسلٌ فيه مجهولٌ‏.‏ السادس‏:‏ منقطعٌ فيه مجهولٌ‏.‏ السابعُ‏:‏ مرسلٌ فيه مغفَّلٌ كثيرُ الخطأ، وإنْ كانَ عدلاً‏.‏ الثامنُ‏:‏ منقطعٌ فيهِ مغفَّلٌ كذلك‏.‏ التاسعُ‏:‏ مرسلٌ فيه مستورٌ، ولم ينجبر بمجيئِهِ من وجهٍ آخرَ‏.‏ العاشرُ‏:‏ منقطعٌ فيه مستورٌ، ولم يَجِئ من وجهٍ آخرَ‏.‏ الحادي عشر‏:‏ مرسلٌ شاذٌّ‏.‏ الثاني عشر‏:‏ منقطعٌ شاذٌ‏.‏ الثالث عشر‏:‏ مرسلٌ معلّلٌ‏.‏ الرابعَ عشر‏:‏ منقطعٌ معللٌ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وضموا سواهما فثالث‏)‏، أي‏:‏ وضموا إلى فقدِ الشرطينِ المتقدمَينِ فقدَ شرطٍ ثالثٍ، فهو قسمٌ ثالثٌ من أصلِ الأقسامِ‏.‏ ويدخل تحتَهُ عشرَةُ أقسامٍ، وهي هذهِ‏:‏

الخامس عشر‏:‏ مرسلٌ شاذٌّ فيه عدلٌ مغفلٌ كثيرُ الخَطَأ‏.‏ السادسَ عشرَ‏:‏ منقطعٌ شاذٌّ فيه مغفلٌ كذلك‏.‏ السابعَ عشرَ‏:‏ مرسلٌ معللٌ فيه ضعيفٌ‏.‏ الثامنَ عشرَ‏:‏ منقطعٌ معللٌ فيه ضعيفٌ‏.‏ التاسعَ عشرَ‏:‏ مرسلٌ معللٌ فيه مجهولٌ‏.‏ العشرونَ‏:‏ منقطعٌ معللٌ فيه مجهولٌ‏.‏ الحادي والعشرون‏:‏ مرسلٌ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك‏.‏ الثاني والعشرونَ‏:‏ منقطعٌ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك‏.‏ الثالث والعشرون‏:‏ مرسلٌ معللٌ فيه مستورٌ ولم ينجبر‏.‏ الرابعُ والعشرون‏:‏ منقطعٌ معللٌ فيه مستورٌ كذلك‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏وهكذا‏)‏، أي‏:‏ وهكذا فافعلْ إلى آخرِ الشروطِ، فخذ ما فَقَدَ فيه الشرطَ الأولَ، وهو الاتصالُ مع شرطينِ آخرينِ، غيرَ ما تقدم، وهما السلامةُ من الشذوذِ والعلةِ‏.‏ ثم خذ ما فُقِدَ فيه شرطٌ آخرُ مضموماً إلى فَقْدِ هذهِ الشروطِ الثلاثةِ، وهي هذهِ‏:‏

الخامسُ والعشرون‏:‏ مرسلٌ شاذٌّ معللٌ‏.‏ السادسُ والعشرون‏:‏ منقطعٌ شاذٌّ معللٌ‏.‏ السابع والعشرون‏:‏ مرسلٌ شاذٌّ معللٌ فيه مغفلٌ كثيرُ الخطأ‏.‏ الثامنُ والعشرون‏:‏ منقطعٌ شاذٌّ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وعُدْ لشرطٍ غَيرَ مبدوٍّ‏)‏، أي‏:‏ وَعُدْ فابدأ بما فُقِدَ فيه شرطٌ واحدٌ غيرَ ما بدأتَ به أولاً، وهو ثقةُ الرواةِ، وتحتَهُ قسمانِ وهما‏:‏

التاسعُ والعشرون‏:‏ ما في إسنادِهِ ضعيفٌ‏.‏ الثلاثون‏:‏ ما فيه مجهولٌ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ زِدْ غيرَ الذي قدمتُهُ‏)‏، أي‏:‏ ثم زِدْ على فَقْدِ عدالةِ الراوي فَقْدَ شرطٍ آخرَ غيرَ ما بدأتَ به، وتحتهُ قسمان وهُما‏:‏

الحادي والثلاثون‏:‏ ما فيه ضعيفٌ وعلّةٌ‏.‏ الثاني والثلاثون‏:‏ ما فيه مجهولٌ وعلةٌ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏ثم على ذا فاحتذي‏)‏، أي‏:‏ ثم احذُ على هذا الحذوِ‏.‏ وأدخلتِ الياءُ في آخرِهِ؛ لضرورةِ القافيةِ، والمرادُ فكمل هذا العملُ الثاني الذي بدأتَ فيهِ بفَقْدِ الشرطِ المثنى به، كما كَمَّلْتَ الأولَ، أي فَضُمَّ إلى فقدِ هذينِ الشرطينِ فقدَ شرطٍ ثالثٍ، ثم عُدْ فابدأْ بما فُقِدَ فيه شرطٌ آخرُ غيرُ المبدوِّ به، والمثنى به‏.‏ وهو سلامةُ الراوي من الغَفْلَةِ ثم زِدْ عليهِ وجودَ الشذوذِ أوِ العلَّةِ أو هما معاً‏.‏ ثمَّ عُدْ فابدأْ بما فُقِدَ فيه الشرطُ

الرابعُ، وهو عدمُ مجيئه من وجهٍ آخرَ حيث كان في إسنادِهِ مستورٌ‏.‏ ثم زِدْ عليهِ وجودَ العِلَّةِ‏.‏ ثمَّ عُدْ فَابدَأْ بما فُقِدَ فيه الشرطُ الخامسُ، وهو السلامةُ من الشذوذِ‏.‏ ثم زدْ عليه وجودَ العلةِ معه، ثم اخْتِمْ بفَقْدِ الشرطِ السادسِ‏.‏

ويدخلُ تحتَ ذلك أيضاً عشرةُ أقسامٍ، وهي‏:‏ الثالثُ والثلاثونَ‏:‏ شاذٌّ معلّلٌ فيه عدلٌ مغفلٌ كثيرُ الخطأ‏.‏ الرابعُ والثلاثونَ‏:‏ ما فيه مغفلٌ كثير الخطأ‏.‏ الخامسُ والثلاثون‏:‏ شاذٌّ فيهِ مغفلٌ كذلك‏.‏ السادسُ والثلاثون‏:‏ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك‏.‏ السابعُ والثلاثون‏:‏ شاذٌّ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك‏.‏ الثامنُ والثلاثونَ‏:‏ ما في إسنادِهِ مستورٌ لم تُعْرفْ أهليتُهُ، ولم يُرو من وجهٍ آخرَ‏.‏ التاسعُ والثلاثون‏:‏ معللٌ فيه مستورٌ كذلك‏.‏ الأربعون‏:‏ الشاذُّ‏.‏ الحادي والأربعون‏:‏ الشاذُّ المعلل‏.‏ الثاني والأربعون‏:‏ المعللُ‏.‏ فهذهِ أقسامُ الضعيفِ باعتبارِ الانفرادِ، والاجتماع‏.‏ وقد تركتُ من الأقسامِ التي يظنُّ انقسامُهُ إليها بحسَبِ اجتماعِ الأوصافِ عدّةُ أقسامٍ، وهي‏:‏ اجتماعُ الشذوذِ، ووجودُ ضعيفٍ أو مجهولٍ أو مستورٍ في سندِهِ؛ لأنَّه لا يمكنُ اجتماعُ ذلك على الصَّحِيْحِ؛ لأنَّ الشّذوذَ تفردُ الثقةِ فلا يمكنُ وصفُ ما فيه راوٍ ضعيفٌ، أو مجهولٌ أو مستورٌ بأنَّهُ شاذٌّ، واللهُ أعلمُ‏.‏

ومن أقسامِ الضعيفِ ما لَهُ لقبٌ خاصٌّ كالمُضطَرِبِ، والمَقْلوبِ، والمَوضوعِ، والمُنْكَرِ، وهو بمعنى الشاذِّ كما سيأتي‏.‏

94‏.‏ وَعَدَّهُ ‏(‏البُسْتِيُّ‏)‏ فِيما أوْعَى *** لِتِسْعَةٍ وَأرْبَعِيْنَ نَوْعَا

أي‏:‏ عَدَّ أبو حاتِم محمّدُ بنُ حبّانَ البستيُّ أنواعَ الضعيفِ تسعةً وأربعينَ نوعاً‏.‏ وقولُهُ‏:‏ ‏(‏أوعَى‏)‏، أي‏:‏ جمعَ، حكاه صاحبُ ‏"‏ المشارقِ ‏"‏‏.‏ ويقال‏:‏ وَعَى العلمَ، وأوعاه‏:‏ حَفِظَهُ وجمعَهُ‏.‏