فصل: المَقْلُوْبُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***


المَقْلُوْبُ

242‏.‏ وَقَسَّمُوا المَقْلُوْبَ قِسْمَيْنِ إلى *** مَا كَانَ مَشْهُوراً بِراوٍ أُبْدِلا

243‏.‏ بِواحدٍ نَظِيْرُهُ، كَيْ يُرْغَبَا *** فِيهِ، لِلاغْرَابِ إذا مَا اسْتُغْرِبَا

أي‏:‏ من أقسامِ الضعيفِ المقلوبُ، وهو قسمانِ‏:‏

أحدُهما أنْ يكونَ الحديثُ مشهوراً براوٍ، فَجُعِلَ مكانَهُ راوٍ آخرُ في طبقتِهِ؛ ليصيرَ بذلك غريباً مرغوباً فيه‏.‏ كحديثٍ مشهورٍ بسالمٍ، فجُعلَ مكانَهُ نافعٌ‏.‏ وكحديثٍ مشهورٍ بمالكٍ فَجُعِلَ مكانَهُ عُبيدُ اللهِ بنُ عُمَرَ‏.‏ ونحوِ ذلكَ‏.‏

وممَّنْ كانَ يفعلُ ذلك من الوضّاعينَ‏:‏ حمّادُ بنُ عَمْرٍو النَّصِيْبِيُّ، وإسْماعيلُ بنُ أبي حَيَّة اليَسَعُ، وبَهْلُولُ بنُ عُبيدٍ الكِنْدِيُّ‏.‏ مثالُهُ‏:‏ حديثٌ رواهُ عمرُو بنُ خالدٍ الحرانيُّ، عن حمّادِ بنِ عمرٍو النَّصِيْبِيِّ، عن الأعمشِ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً‏:‏ «إذا لَقِيتُم المشركينَ في طريقٍ، فلا تبدؤوهم بالسلامِ، … الحديث»‏.‏ فهذا حديثٌ مقلوبٌ‏.‏ قلبهُ حمّادُ بنُ عمرٍو- أحدُ المتروكينَ- فجعلَهُ عن الأعمشِ، وإنّما هو معروفٌ بسهيلِ بن أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ‏.‏ هكذا رواهُ مسلمٌ في صحيحهِ من روايةِ شُعبةَ، والثوريِّ، وجريرِ بنِ عبدِ الحميدِ، وعبدِ العزيزِ بنِ محمدٍ الدَّراوَرْدِيِّ، كلُّهم عن سُهَيْلٍ‏.‏ قال أبو جعفرٍ العُقيليُّ‏:‏ لا يحفَظُ هذا من حديثِ الأعمشِ، إنَّما هذا حديثُ سُهيلِ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ‏.‏ ولهذا كَرِهَ أهلُ الحديثِ تتبُّعَ الغرائبِ، فإنهُ قلمّا يصحُّ منها، كما سيأتي في بابِهِ‏.‏

244‏.‏ وَمِنْهُ قَلْبُ سَنَدٍ لِمَتْنِ *** نَحْوُ‏:‏ امْتِحَانِهِمْ إمَامَ الفَنِّ

245‏.‏ في مائَةٍ لَمَّا أتَى بَغْدَادَا *** فَرَدَّهَا، وَجَوَّدَ الإسْنَادَا

هَذَا هُوَ القسمُ الثاني من قسمي المقلوبِ، وَهُوَ أنْ يُؤخذَ إسنادُ متنٍ، فيجعلَ عَلَى متنٍ آخرَ، ومتنُ هَذَا فيُجعل بإسنادٍ آخرَ‏.‏ وهذا قَدْ يُقصَدُ بهِ أيضاً الإغرابُ؛ فيكونُ

ذلك كالوضعِ، وقد يُفعلُ اختباراً لحفظِ المحدِّثِ، وهذا يفعلُهُ أهلُ الحديثِ كثيراً، وفي جوازِهِ نظرٌ إلا أنّهُ إذا فعلَهُ أهلُ الحديثِ لا يستقرُّ حديثاً، وإنّما يقصدُ اختبارُ حفظِ المحدّثِ بذلك، أو اختبارِهِ، هل يقبل التَّلْقين، أم لا‏؟‏ وممَّنْ فعل ذلك شعبةُ وحمّادُ بنُ سلمةَ‏.‏ وقد أنكرَ حَرَمِيُّ على شعبةَ لمّا حدَّثَهُ بهزٌ أنَّ شعبةَ قلبَ أحاديثَ على أبانَ بنِ أبي عيّاشٍ‏.‏ فقال حَرَميٌّ‏:‏ يا بئسَ ما صنعَ، وهذا يحِلُّ‏!‏‏.‏ فمما فعلَهُ أهلُ الحديثِ للاختبارِ، قِصّتُهم مع البخاريِّ ببغدادَ‏.‏ أخبرني محمدُ بنُ محمدِ بنِ إبراهيمَ المَيدُوميُّ، قال‏:‏ أخبرنا أبو الفرجِ عبدُ اللطيفِ بنُ عبدِ المنعمِ بنُ عليٍّ الحرّانيُّ، قال‏:‏ أخبرنا أبو الفرجِ عبدُ الرحمنِ بنُ عليِّ بنِ محمدِ بنُ الجوزيِّ الحافظُ قراءةً عليه وأنا أسمعُ ببغدادَ ‏(‏ح‏)‏ وأخبرني محمدُ بنُ إبراهيمَ بنُ محمدٍ البنانيُّ بقراءتي، واللفظُ لَهُ، قال‏:‏ أخبرنا يوسفُ بنُ يعقوبَ الشيبانيُّ كتابةً، قال‏:‏ أخبرنا أبو اليُمن الكنديُّ قالا‏:‏ أخبرنا أبو منصورٍ القزّازُ، قال‏:‏ أخبرنا الخطيبُ، قال‏:‏ حدّثني محمدُ بنُ أبي الحسنِ السَّاحليُّ، قال‏:‏ أخبرنا أحمدُ بنُ الحسنِ الرازيُّ، قال سمعتُ أبا أحمدَ بنَ عَدِيٍّ يقولُ‏:‏ سمعتُ عِدَّةَ مشايخَ يحكُونَ‏:‏ أنَّ محمدَ بنَ إسماعيلَ البخاريَّ قَدِمَ بغدادَ، فسمعَ به أصحابُ الحديثِ، فاجتمعوا وعَمَدوا إلى مائةِ حديثٍ فقلَبُوا متونَها، وأسانيدَها، وجعلوا مَتْنَ هذا الإسنادِ، لإسنادٍ آخرَ، وإسنادَ هذا المتنِ لمتنٍ آخرَ‏.‏ ودفعوا إلى عَشَرةِ أنفُسٍ، إلى كُلِّ رجلٍ عَشَرةَ أحاديثَ، وأمرُوهم إذا حَضُروا المجلسَ يُلقُون ذلك على البخاريِّ، وأخذوا الموعدَ للمجلسِ، فحضرَ المجلسَ جماعةُ أصحابِ الحديثِ من الغرباءِ من أهل خُراسانَ، وغيرِهم، ومن البغداديينَ‏.‏ فلما اطّمأنَّ المجلسُ بأهلِهِ انتدبَ إليه رجلٌ من العَشَرةِ، فسأله عن حديثٍ من تلك الأحاديثِ، فقال البخاريُّ‏:‏ لا أعرِفُهُ‏.‏ فسأله عن آخرَ، فقال‏:‏ لا أعرفُهُ‏.‏ فما زالَ يُلقي عليهِ واحداً بعدَ واحدٍ حتى فرغَ من عَشَرَتِهِ، والبخاريُّ يقولُ‏:‏ لا أعرفُهُ‏.‏ فكان الفهماءُ ممَّنْ حضرَ المجلسَ يلتفتُ بعضُهم إلى بعضٍ‏.‏ ويقولون‏:‏ الرجلُ فَهِمَ، ومَنْ كان منهم غيرَ ذلكَ يقضي على البخاريِّ بالعَجْزِ والتَّقصِيرِ وقِلّةِ الفَهْمِ، ثم انتدبَ رجلٌ آخرُ من العَشَرَةِ، وسألَهُ عن حديثٍ من تلك الأحاديثِ المقلوبة، فقال البخاريُّ‏:‏ لا أعرفُهُ‏.‏ فسألهُ عن آخرَ، فقال‏:‏ لا أعرفُهُ‏.‏ فسألهُ عن آخرَ، فقالَ‏:‏ لا أعرفُهُ‏.‏ فلم يزلْ يُلقي عليه واحداً بعدَ آخرَ، حتى فرغَ من عَشَرَتِهِ، والبخاريُّ يقولُ‏:‏ لا أعرفُهُ‏.‏ ثم انتدبَ له الثالثُ والرابعُ إلى تمام العَشَرةِ، حتى فرغُوا كلُّهم من الأحاديثِ المقلوبةِ، والبخاريُّ لا يَزِيدُهم على لا أعرفُه، فلمَّا عَلِمَ البخاريُّ أنَّهم قد فرغوا التفتَ إلى الأولِ منهم، فقال‏:‏ أمّا حديثُكَ الأولُ فهو كذا، وحديثُكَ الثاني فهو كذا، والثالثُ والرابعُ على الولاءِ، حتى أتى على تمامِ العَشَرَةِ، فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسنادِهِ، وكلَّ إسنادٍ إلى متنِهِ‏.‏ وفعلَ بالآخرينَ مثلَ ذلكَ، وردَّ متونَ الأحاديثِ كُلِّها إلى أسانِيدِها، وأسانيدَها إلى متونِها، فأقرَّ له الناسُ بالحفظِ وأَذْعَنُوا له بالفضلِ‏.‏

246‏.‏ وَقَلْبُ مَا لَمْ يَقْصِدِ الرُّوَاةُ *** نَحْوُ‏:‏ ‏(‏إذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ …‏)‏

247‏.‏ حَدَّثَهُ في مَجْلِسِ البُنَاني *** حَجَّاجٌ، اعْنِي‏:‏ ابْنَ أبي عُثمَانِ

248‏.‏ فَظَنَّهُ-عَنْ ثَابِتٍ- جَرِيْرُ *** بَيَّنَهُ حَمَّادٌ الضَّرِيْرُ

أيْ‏:‏ ومن أقسامِ المقلوبِ‏:‏ ما انقلبَ على راويهِ، ولم يقصدْ قلبَهُ‏.‏ مثالُهُ‏:‏ حديثٌ رواهُ جريرُ بنُ حازمٍ، عن ثابتٍ البُنانيِّ، عن أنسٍ، قال‏:‏ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فلا تَقُومُوا حتى تَرَوْني»‏.‏ فهذا حديثٌ انقلبَ إسنادهُ على جريرِ بنِ حازمٍ‏.‏ وهذا الحديثُ مشهورٌ ليحيى بن أبي كَثِيرٍ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي قَتَادةَ، عن أبيهِ، عن النبيِّصلى الله عليه وسلم‏.‏ هكذا رواهُ الأئمّةُ الخمسةُ من طرقٍ عن يحيى‏.‏ وهو عند مسلمٍ والنسائيِّ من روايةِ حجّاج بنِ أبي عثمانَ الصَّوَّافِّ، عن يحيى‏.‏ وجريرٌ إنّما سمعَهُ من حَجَّاجِ بن أبي عثمانَ الصوّافِ، فانقلبَ عليهِ‏.‏ وقد بَيَّنَ ذلك حمّادُ بنُ زيدٍ فيما رواهُ أبو داودَ في ‏"‏ المراسيلِ ‏"‏ عن أحمدَ بنِ صالحٍ، عن يحيى بنِ حسَّانَ، عن حمّادِ بنِ زيدٍ قال‏:‏ كنتُ أنا وجريرُ بنُ حازمٍ عند ثابتٍ البُنانيِّ، فحدّثَ حجّاجُ بنُ أبي عثمانَ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي قتادةَ، عن أبيهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذكَرَهُ‏.‏ فظنَّ جريرٌ أنّهُ إنّما حَدَّثَ به ثابتٌ، عن أنسٍ‏.‏ وهكذا قالَ إسحاقُ بنُ عيسى الطَّبَّاعُ‏:‏ حدّثنا جريرُ بنُ حازمٍ بهذا، فأتيتُ حمّادَ بنَ زيدٍ فسأْلتُهُ عن الحديثِ، فقال‏:‏ وَهِمَ أبو النَّضْرِ- يعني‏:‏ جريرُ بنُ حازمٍ- إنّما كُنَّا جميعاً في مجلسِ ثابتٍ البنانيِّ، فذكرَ نَحْوَ ما تقدّمَ‏.‏

تَنْبِيْهَاْتٌ‏:‏ ‏[‏حول التصحيح والتضعيف‏]‏

249‏.‏ وَإنْ تَجِدْ مَتْنَاً ضَعِيْفَ السَّنَدِ *** فَقُلْ‏:‏ ضَعِيْفٌ، أيْ‏:‏ بِهَذَا فَاقْصِدِ

250‏.‏ وَلاَ تُضَعِّفْ مُطْلَقَاً بِنَاءا *** عَلَى الطَّرِيْقِ، إذْ لَعَلَّ جَاءا

251‏.‏ بِسَنَدٍ مُجَوَّدٍ، بَلْ يَقِفُ *** ذَاكَ عَلَى حُكْمِ إمَامٍ يَصِفُ

252‏.‏ بَيَانَ ضَعْفِهِ، فَإنْ أطْلَقَهُ *** فَالشَّيْخُ فِيما بَعْدَهُ حَقَّقَهُ

إذا وَجدْتَ حديثاً بإسنادٍ ضعيفٍ، فلكَ أنْ تقولَ‏:‏ هذا ضعيفٌ، وتعني بذلكَ‏:‏ الإسنادَ‏.‏ وليسَ لكَ أنْ تعني بذلك ضَعْفَهُ مطلقاً، بناءً على ضَعْفِ ذلك الطريقِ؛ إذ لعلَّ له إسناداً آخرَ صحيحاً، يثبُتُ بمثلِهِ الحديثُ، بل يقفُ جوازُ إطلاقِ ضَعْفِهِ على حكمِ إمامٍ من أئمةِ الحديثِ، بأنّهُ ليس لَهُ إسنادٌ يثبتُ به، مع وصفِ ذلكَ الإمامِ لبيانِ وجهِ الضَّعْفِ مُفسَّراً، فإنْ أطلقَ ذلكَ الإمامُ ضَعْفَهُ ولم يفسِّرْهُ ففيهِ كلامٌ ذكرَهُ الشيخُ بعد هذا، في النوعِ الثالثِ والعشرينَ من كتابهِ، وسيأتي بعدَ هذا بتسعةَ عشرَ بيتاً‏.‏

253‏.‏ وَإنْ تُرِدْ نَقْلاً لِوَاهٍ، أوْ لِمَا *** يُشَكُّ فِيهِ لاَ بِإسْنَادِهِمَا

254‏.‏ فَأتِ بِتَمْرِيضٍ ك‍ ‏(‏يُرْوَى‏)‏، وَاجْزِمِ *** بِنَقْلِ مَا صَحَّ كـ ‏(‏قَالَ‏)‏ فَاعْلَمِ

أي إذا أردتَ نقلَ حديثٍ ضعيفٍ، أو ما يُشكُّ في صحتِهِ وضعفِهِ يغيرِ إسنادٍ، فَلاَ تذكرْهُ بصيغةِ الجزمِ، كقالَ وفعلَ، ونحوِ ذَلِكَ‏.‏ وأتِ بِهِ بصيغةِ التمريضِ، كيُرْوى، ورُوي، ووردَ، وجاءَ، وبلغنا، وروى بعضُهم، ونحوِ ذَلِكَ‏.‏ أمّا إذا نقلتَ حديثاً صحيحاً بغيرِ إسنادٍ فاذكرْهُ بصيغةِ الجزمِ، كقالَ، ونحوِها‏.‏

255‏.‏ وَسَهَّلُوا في غَيْرِ مَوْضُوْعٍ رَوَوْا *** مِنْ غَيْرِ تَبْيِينٍ لِضَعْفٍ، وَرَأوْا

256‏.‏ بَيَانَهُ في الحُكْمِ وَالعَقَائِدِ *** عَنِ ‏(‏ابنِ مَهْدِيٍّ‏)‏ وَغَيْرِ وَاحِدِ

تقدّمَ أنَّهُ لا يجوزُ ذكرُ الموضوعِ إلاّ مَعَ البيانِ، في أيِّ نوعٍ كانَ‏.‏ وأمّا غيرُ الموضوعِ فجوّزوا التساهُل في إسنادِهِ وروايتِهِ من غيرِ بيانٍ لضَعْفِهِ إذا كانَ في غيرِ الأحكامِ والعقائدِ‏.‏ بلْ في الترغيبِ والترهيبِ، من المواعظِ والقصصِ، وفضائلِ الأعمالِ، ونحوِها‏.‏ أما إذا كانَ في الأحكامِ الشرعيةِ من الحلالِ والحرامِ وغيرِهما، أو في العقائدِ كصفاتِ اللهِ تَعَالَى، وما يجوزُ ويستحيلُ عَلَيْهِ، ونحوِ ذلكَ‏.‏ فَلَمْ يَرَوا التساهلَ في ذَلِكَ‏.‏ وممَّنْ نصَّ عَلَى ذَلِكَ من الأئمةِ عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وعبدُ اللهِ بنُ المباركِ، وغيرُهُمْ‏.‏ وقدْ عقدَ ابنُ عديٍّ في مقدّمةِ ‏"‏ الكاملِ ‏"‏، والخطيبُ في ‏"‏ الكفايةِ ‏"‏ باباً لذلكَ‏.‏ فقولي‏:‏ ‏(‏عَنِ ابنِ مَهْدِيٍّ‏)‏، خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أي‏:‏ هذا عن ابنِ مهديٍّ‏.‏

مَعْرِفَةُ صِفَةِ مَنْ تُقَبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ

257‏.‏ أَجْمَعَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الأَثَرْ *** وَالْفِقْهِ فِي قَبُوْلِ نَاقِلِ الْخَبَرْ

258‏.‏ بِأنْ يَكُوْنَ ضَابِطاً مُعَدَّلاَ *** أيْ‏:‏ يَقِظاً، وَلَمْ يَكُنْ مُغَفَّلاَ

259‏.‏ يَحْفَظُ إنْ حَدَّثَ حِفْظاً، يَحْوِيْ *** كِتَابَهُ إِنْ كَانَ مِنْهُ يَرْوِيْ

260‏.‏ يَعْلَمُ مَا فِي الَّلَفْظِ مِنْ إحِالَهْ *** إنْ يَرْوِ بالْمَعْنَى، وَفِي الْعَدَالَهْ

261‏.‏ بِأنْ يَكُوْنَ مُسْلِمَاً ذَا عَقْلِ *** قَدْ بَلَغَ الْحُلْمَ سَلِيْمَ الفِعْلِ

262‏.‏ مِنْ فِسْقٍ اوْ خَرْمِ مُرُوْءةٍ وَمَنْ *** زَكَّاهُ عَدلاَنِ، فَعَدْلٌ مُؤْتَمَنْ

263‏.‏ وَصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ بِالْوَاحِدِ *** جَرْحَاً وَتَعْدِيْلاً خِلاَفَ الشَّاهِدِ

قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ أجمعَ جماهيرُ أئمّةِ الحديثِ والفقهِ، على أنَّهُ يشترطُ فيمَنْ يُحْتَجُّ برِوَايَتِهِ أنْ يكونَ عدلاً ضابطاً لما يرويِهِ، ثمَّ فَصَّلَ شروطَ العدالةِ، ثُمَّ شروطَ الضبطِ‏.‏ وقَدَّمْتُ شروطَ الضبطِ على العدالةِ؛ لتقدمِ الضبطِ في النَّظْمِ‏.‏

‏[‏صفة العدالة‏]‏

فقولي‏:‏ ‏(‏أي‏:‏ يقظاً‏)‏، إلى قولي‏:‏ ‏(‏وفي العدالةِ‏)‏، تفسيرٌ للضبطِ؛ ويَقُِظَ- بضمِ القافِ وكسرِها- لغتانِ، حكاهما الجوهريُّ وغيرُهُ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏يحوي كتابَهُ‏)‏، أي‏:‏ يحتوي عليه، ويحفظُهُ من التبديلِ والتغييرِ‏.‏ وقد نصَّ الشافعيُّ على اعتبارِ هذهِ الأوصافِ فيمَنْ يحتجُّ بخبرِهِ، فقالَ في كتابِ ‏"‏ الرسالةِ ‏"‏ التي أرسلَ بها إلى عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ‏:‏ لا تقومُ الحجةُ بخبرِ الخاصّةِ حتّى يَجمعَ أموراً منها‏:‏ أنْ يكونَ مَنْ حَدَّثَ به ثقةً في دينِهِ، معروفاً بالصدقِ في حديثِهِ، عاقِلاً لما يُحدِّثُ به، عالِماً بما يُحِيلُ مَعانِيَ الحديثِ من اللفظِ، أو يكونَ ممَّنْ يُؤَدِّي الحديثَ بحروفِهِ، كما سمعَهُ، لا يُحدِّثُ به على المعنى؛ لأنَّهُ إذا حدَّثَ به على المعنى، وهو غيرُ عالمٍ بما يحيلُ معناهُ، لم يَدْرِ لعلَّهُ يُحيلُ الحلالَ إلى الحرامِ‏.‏ وإذا أدَّاهُ بحروفِهِ فلم يَبْقَ وجهٌ يُخافُ فيه إحالتُهُ الحديثَ، حافظاً إنْ حدَّثَ مِنْ حفظِهِ، حافظاً لكتابِهِ إنْ حدَّثَ مِن كتابِهِ، إذا شَرِكَ أهلَ الحفظِ في الحديثِ وافَقَ حديثَهُم، بريئاً من أنْ يكونَ مُدلِّساً، يُحَدِّثُ عمَّنْ لقيَ ما لم يَسْمَعْ منه، ويحدِّثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بما يُحدِّثُ الثقاتُ خلافَهُ، ويكونُ هكذا مَنْ فوقَه ممَّنْ حدَّثَهُ، حتى يُنْتهَى بالحديثِ موصُولاً إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو إلى مَنْ انْتُهيَ بهِ إليهِ دونَهُ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهم مُثبِّتٌ مَنْ حَدَّثَهُ ومُثْبِتٌ على مَن حَدَّثَ عنه، فلا يُسْتغنَى في كلِّ واحدٍ منهم عمّا وصفْتُ‏.‏ انتهى كلامُ الشافعيِّ رضي الله عنه‏.‏

‏[‏بيان لشروط العدالة‏]‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وفي العدالةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، إلى آخر قولي‏:‏ ‏(‏أو خرم مروءة‏)‏، بيانٌ لشروطِ العدالةِ، وهي خمسةٌ‏:‏ الإسلامُ، والبلوغُ، والعقلُ، والسلامةُ من الفسق- وهو ارتكابُ كبيرةٍ، أو إصرارٌ على صغيرةٍ- والسلامةُ ممّا يخرمُ المروءة، ولم نذكرْ في شروطِها الحريةَ، وإنْ ذكرَه الفقهاءُ في الشهاداتِ؛ لأنَّ العبدَ مقبولُ الروايةِ بالشروطِ المذكورةِ بالإجماعِ، كما حكاه الخطيبُ بخلافِ الشهادةِ‏.‏ على أنَّ جماعةً من السلفِ أجازوا شهادةَ العبدِ العدلِ‏.‏ وإنْ كان الجمهورُ على خلافِ ذلك‏.‏ وهذا مما تفترقُ فيه الروايةُ والشهادةُ، كما ذكرهُ القاضي أبو بكرٍ وغيرُهُ‏.‏

فهذهِ إذاً شروطُ العدالةِ في الروايةِ‏.‏ ومَنْ يقبلُ أيضاً روايةَ الصبيِّ المميِّزِ الموثوقِ به، لم يشترطِ البلوغَ‏.‏ وفي المسألةِ وجهانِ حكاهما البغويُّ والإمامُ وتَبِعهَما الرَّافعيُّ، إلا أنّهُ قيَّدَ الوجهينِ في التيمُّمِ بالمُراهِقِ، وصحَّحَ عدمَ القبولِ، وتَبِعَهُ عليه النوويُّ، وقيَّدَهُ في استقبالِ القبلةِ بالمميِّزِ، وحكى عن الأكثرين عدمَ القبولِ‏.‏ وحكى النوويُّ في ‏"‏شرحِ المهذَّبِ‏"‏ عن الجمهورِ قبولَ أخبارِ الصبيِّ المميِّزِ فيما طريقُهُ المشاهدةُ بخلافِ ما طريقُهُ النقلُ، كالافتاءِ، وروايةِ الأخبارِ، ونحوهِ وسبقَهُ إلى ذلك المُتَولِّي فتبعَهُ، واللهُ أعلمُ‏.‏

‏[‏ما تثبت به العدالة‏]‏

وقولي‏:‏ ‏(‏ومَنْ زَكَّاهُ عدلانِ‏)‏، إلى آخرهِ، بيانٌ لما تثبتُ به العدالةُ‏.‏ فمما تثبتُ به تنصيصُ معدّلِينَ على عدالتِهِ، كما في الشهادةِ‏.‏

واختلفوا هل تثبتُ العدالةُ والجرحُ بالنسبةِ إلى الروايةِ بتعديلِ عدلٍ واحدٍ وجَرحِه، أو لا يثبتُ ذلك إلا باثنينِ، كما في الجرحِ والتعديلِ في الشهادات؛ على قولينِ‏.‏ وإذا جُمعتِ الروايةُ مع الشهادةِ صارَ في المسألةِ ثلاثةُ أقوالٍ‏:‏

أحدُها‏:‏ أنّهُ لا يقبلُ في التزكيةِ إلا رجلانِ، سواءٌ التزكيةُ للشهادةِ والروايةِ وهو الذي حكاهُ القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ عن أكثرِ الفقهاءِ من أهلِ المدينةِ وغيرِهم‏.‏

والثاني‏:‏ الاكتفاءُ بواحدٍ في الشهادةِ والرواية معاً، وهو اختيارُ القاضي أبي بكرٍ المذكورِ؛ لأنَّ التزكيةَ بمثابةِ الخبرِ‏.‏ قال القاضي‏:‏ والذي يوجبُهُ القياسُ وجوبُ قَبولِ تزكيةِ كُلِّ عدلٍ مَرْضِيٍّ، ذكرٍ، أو أنثى، حرٍّ أو عبدٍ، لشاهدٍ ومُخبِرٍ‏.‏

والثالثُ‏:‏ التفرقةُ بين الشهادةِ والروايةِ، فيشترطُ اثنانِ في الشهادةِ ويُكتفى بواحدٍ في الروايةِ‏.‏ورجَّحَهُ الإمامُ فخرُ الدينِ، والسيفُ الآمديُّ ونقلَهُ عن الأكثرينَ‏.‏ وكذلك نقلَهُ أبو عمرٍو بنُ الحاجبِعن الأكثرينَ، وهو مخالفٌ لما نقلهُ القاضي عنهم‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ والصحيحُ الذي اختارهُ الخطيبُ وغيرُهُ أنَّهُ يثبتُ في الروايةِ بواحدٍ؛ لأنَّ العددَ لَمْ يُشترطْ في قبولِ الخبرِ، فَلَمْ يشترطْ في جرحِ راويهِ وتعديلهِ بخلافِ الشهاداتِ‏.‏

‏[‏تعديل المرأة العدل، والعبد العدل‏]‏

وقولي‏:‏ ‏(‏بالواحدِ‏)‏ أي‏:‏ بالعدلِ الواحدِ، فيدخلُ فيه تعديلُ المرأةِ العدلِ، والعبدِ العدلِ‏.‏

وقد اختلفوا في تعديلِ المرأةِ، فحكى القاضي أبو بكرٍ عن أكثرِ الفقهاءِ من أهلِ المدينةِ وغيرِهم‏:‏ أنّهُ لا يقبلُ في التعديلِ النساءُ، لا في الروايةِ، ولا في الشهادةِ‏.‏ واختار القاضي أنّهُ يُقبلُ تزكيةُ المرأةِ مطلقاً في الروايةِ والشهادةِ؛ إلا تزكيتُها في الحكمِ الَّذِي لا تُقبلُ شهادتُها فِيْهِ‏.‏ وأطلق صاحبُ ‏"‏ المحصولِ ‏"‏ وغيرُهُ قبولَ تزكيةِ المرأةِ من غيرِ تقييدٍ بما ذكرهُ القاضي‏.‏

وأما تزكيةُ العبدِ، فقال القاضي أبو بكرٍ‏:‏ إنَّهُ يجبُ قبولُها في الخبرِ دونَ الشهادةِ؛ لأنَّ خبَرهُ مقبولٌ، وشهادَتَهُ مردودةٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ والذي يوجبُهُ القياسُ وجوبُ قَبولِ تزكيةِ كلِّ عدلٍ مَرْضِيٍّ، ذكرٍ، أو أنثى، حرٍّ، أو عبدٍ لشاهدٍ ومُخِبرٍ‏.‏ وهذا ما صرَّحَ بِهِ صاحبُ ‏"‏ المحصولِ ‏"‏ وغيرُهُ‏.‏ قَالَ الخطيبُ في ‏"‏ الكفايةِ ‏"‏‏:‏ الأصلُ في هَذَا البابِ سؤالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ في قِصَّةِ الإفْكِ عن حالِ عائشةَ أمِّ المؤمنينَ، وجوابُها لَهُ‏.‏

264‏.‏ وَصَحَّحُوا استِغْنَاءَ ذِي الشُّهْرَةِ عَنْ *** تَزكِيَةٍ، كـ ‏(‏مَالكٍ‏)‏ نَجْمِ السُّنَنْ

265‏.‏ و ‏(‏لابنِ عَبْدِ البَرِّ‏)‏ كُلُّ مَنْ عُنِي *** بِحَمْلِهِ العِلْمَ وَلَمْ يُوَهَّنِ

266‏.‏ فَإنَّهُ عَدْلٌ بِقَوْلِ المُصْطَفَى *** ‏(‏يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ‏)‏ لكِنْ خُوْلِفَا

أي‏:‏ وممَّا تثبتُ به العدالةُ‏:‏ الاستفاضةُ والشهرةُ‏.‏ فمن اشتهرتْ عدالتُهُ بين أهلِ النقلِ، أو نحوِهم من أهلِ العلمِ، وشاعَ الثناءُ عليه بالثقةِ والأمانةِ استُغنيَ فيه بذلك عن بينةٍ شاهدةٍ بعدالتهِ تنصيصاً‏.‏

قالَ ابنُ الصَّلاحِ‏:‏ وهذا هو الصحيحُ في مذهبِ الشافعيِّ، وَعَلَيْهِ الاعتمادُ في أصولِ الفقهِ‏.‏ وممَّنْ ذكرَهُ من أهلِ الحديثِ؛ الخطيبُ، وَمَّثلَ ذلك بمالكٍ، وشعبةَ، والسفيانَيْنِ، والأوزاعيِّ، والليثِ، وابنِ المباركِ، ووكيعٍ، وأحمدَ، وابنِ معينٍ، وابنِ المدينيِّ، ومَنْ جرى مجراهم في نَباهةِ الذكرِ واستقامة الأمرِ، فلا يُسألُ عن عدالةِ هؤلاءِ، وأمثالهِمِ، وإنّما يُسأل عن عدالةِ مَنْ خَفِيَ أمرُهُ على الطالبينَ‏.‏ انتهى‏.‏ وقد سُئِلَ أحمدُ بنُ حنبلٍ عن إسحاقَ بنِ راهويهِ، فقال‏:‏ مثلُ إسحاقَ يُسألُ عنه‏؟‏‏!‏ وسُئِلَ ابنُ معينٍ عن أبي عُبيدٍ، فقال‏:‏ مثلي يُسألُ عن أبي عبيد‏؟‏‏!‏ أبو عُبيدٍ يُسألُ عن الناسِ‏.‏ وقال القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ‏:‏ الشاهدُ والمُخبِرُ إنمّا يحتاجانِ إلى التزكيةِ متى لم يكونا مشهورينِ بالعدالةِ والرِّضا، وكان أمرُهما مُشْكِلاً مُلتبِسَاً، ومُجوَّزاً فيه العدالةُ وغيرُها‏.‏ قال‏:‏ والدليلُ على ذلك أنَّ العلمَ بظهورِ سِتْرِهما‏.‏ واشتهارُ عدالتهِما أقوى في النفوسِ من تعديلِ واحدٍ واثنينِ يجوز عليهما الكذبُ والمحاباةُ في تعديلِهِ، وأغراضٌ داعيةٌ لهما إلى وصفِهِ بغيرِ صفتِهِ، إلى آخركلامِهِ‏.‏

وقولي في وصف مالكٍ‏:‏ ‏(‏نجمِ السننِ‏)‏، اقتداءٌ بالشافعيِّ حيث يقولُ‏:‏ إذا ذُكِرَ الأثرُ فمالكٌ النَّجْمُ‏.‏

وقالَ ابنُ عبد البرِّ‏:‏ كلُّ حاملِ علمٍ معروفِ العِنايةِ به، فهو عدلٌ محمولٌ في أمرهِ أبداً على العدالةِ، حتى يتبينَ جَرْحُهُ‏.‏ واستدلَّ على ذلك بحديثٍ رواهُ من طريقِ أبي جعفرٍ العُقيليِّ من روايةِ مُعَان بنِ رِفَاعةَ السَّلاَميِّ، عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العُذريِّ، قال‏:‏ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عنه تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المُبْطِلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ»‏.‏ أوردَهُ العُقيليُّ في ‏"‏الضُّعفاءِ‏"‏ في ترجمةِ مُعَانِ بنِ رِفَاعةَ، وقال‏:‏ لا يُعرفُ إلا به‏.‏ ورواهُ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ ‏"‏ الجرحِ والتعديلِ ‏"‏، وابنِ عَدِيٍّ في مقدّمةِ ‏"‏ الكاملِ ‏"‏، وهو مرسلٌ أو معضلٌ ضعيفٌ‏.‏ وإبراهيمُ الذي أرسلَهُ قالَ فيه ابنُ القطّانِ‏:‏ لا نعرفُهُ البتةَ في شيءٍ من العلمِ غيرَ هذا‏.‏ وفي كتاب ‏"‏ العلل ‏"‏ للخَلاَّلِ‏:‏ أنَّ أحمدَ سُئلَ عن هذا الحديثِ، فقيلَ له‏:‏ كأنَّهُ كلامٌ موضوعٌ‏؟‏ فقالَ‏:‏ لا‏.‏ هُوَ صحيحٌ‏.‏ فقيل لَهُ‏:‏ ممَّنْ سمعتُهُ‏؟‏ قال‏:‏ من غيرِ واحدٍ‏.‏ قيل له‏:‏ مَنْ هُم‏؟‏ قال‏:‏ حدّثني به مِسْكِينٌ، إلاّ أنّهُ يقولُ عن مُعَانٍ، عن القاسمِ بنِ عبدِ الرحمنِ، قال أحمدُ‏:‏ ومُعَانٌ لا بأسَ بهِ‏.‏ ووثَّقَهُ ابنُ المدينيِّ أيضاً‏.‏ قال ابنُ القطّان‏:‏ وخَفِيَ على أحمدَ من أمرهِ ما علمَهُ غيرُهُ، ثم ذكرَ تضعيفَهُ عن ابنِ معينٍ وأبي حاتِمٍ، والسَّعْديِّ وابنِ عَدِيٍّ، وابن حبانَ‏.‏ انتهى‏.‏ وقد وردَ هذا الحديثُ مرفوعاً مسنداً من حديثِ أبي هريرةَ، وعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ، وابنِ عُمرَ، وأبي أُمامةَ، وجابرِ بنِ سَمُرةَ رضي الله عنهم‏.‏ وكلُّها ضعيفةٌ‏.‏ قال ابنُ عَدِيٍّ‏:‏ ورواهُ الثقاتُ عن الوليدِ بنِ مسلمٍ، عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العذريِّ، قال‏:‏ حدّثنا الثقةُ من أصحابِنا أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فذَكَرَهُ‏.‏ وممَّنْ وافقَ ابنَ عبدِ البرِّ على قولِهِ هذا من المتأخّرينَ‏:‏ أبو عبدِ اللهِ بنُ الموَّاقِ، فقال في كتابِهِ ‏"‏ بُغيةِ النُّقادِ ‏"‏‏:‏ وأهلُ العلمِ محمولونَ على العدالةِ حتى يظهرَ منهم خلافُ ذلكَ‏.‏

وقولُهُ‏:‏ ‏(‏لكنْ خُولفا‏)‏، أي‏:‏ خُولفَ ابنُ عبدِ البرِّ في اختيارِهِ هذا وفي استدلالهِ بهذا الحديثِ، أما اختيارُهُ فقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ فيما قالَهُ اتّساعٌ غيرُ مَرْضِيٍّ‏.‏ وأما استدلالُهُ بهذا الحديثِ، فلا يصحُّ من وجهينِ‏:‏

أحدُهما‏:‏ إرسالُهُ وضعفُهُ‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّهُ إنّما يصحُّ الاستدلالُ بهِ، أنْ لو كان خبراً، ولا يصحُّ حملُهُ على الخبرِ لوجودِ من يحملُ العلمَ، وهو غيرُ عدلٍ، وغيرُ ثقةٍ، فلم يبقَ له محملٌ إلا على الأمرِ‏.‏ ومعناهُ أنّهُ أمرَ الثِّقاتِ بحملِ العلمِ؛ لأنَّ العلمَ إنّما يُقبلُ عن الثقاتِ‏.‏ والدليلُ عَلَى أنّه للأمرِ‏:‏ أنَّ في بعضِ طُرقِ أبي حاتِمٍ‏:‏ «لِيحْمِلْ هَذَا العلمَ»، بلامٍ للأمْرِ‏.‏

267‏.‏ وَمَنْ يُوَافِقْ غَالِباً ذا الضَّبْطِ *** فَضَابِطٌ، أوْ نَادِراً فَمُخْطِيْ

لمّا تقدّمَ أنهُ لا يقبلُ إلاّ العدلُ الضابطُ، احتيجَ أنْ يذكرَ ما الذي يُعرفُ به ضبطُ الراوي، وذلك بأنْ يُعتبَرَ حديثُهُ بحديثِ الثقاتِ الضابطينَ، فإنْ وافقَهم في روايِتهم في اللفظِ، أو في المعنى، ولو في الغالبِ، عرفنا حينئذٍ كونَهُ ضابطاً، وإن كانَ الغالبُ على حديثِهِ المخالفةَ لهم، وإنْ وافقَهم فنادرٌ، عرفنا حينئذٍ خطأهُ، وعدمَ ضبطِهِ، ولم يحتَجَّ بحديثِهِ‏.‏

‏[‏التعديلِ والجرحِ، هل يقبلانِ، أو أحدُهما من غيرِ ذكرِ أسبابِهِما، أم لا يقبلانِ إلاّ مُفسّرَينِ‏؟‏‏]‏

268‏.‏ وَصَحَّحُوا قَبُوْلَ تَعْدِيْلٍ *** بِلاَ ذِكْرٍ لأسْبَابٍ لَهُ، أنْ تَثْقُلاَ

269‏.‏ وَلَمْ يَرَوْا قَبُوْلَ جَرْحٍ أُبْهِمَا *** لِلْخُلْفِ في أسبَابِهِ، وَرُبَّمَا

270‏.‏ اسْتُفْسِرَ الجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ، كَمَا *** فَسَّرَهُ ‏(‏شُعْبَةُ‏)‏ بِالرَّكْضِ، فَمَا

271‏.‏ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الأثَرْ *** كـ‏(‏شَيْخَيِ الصَّحِيْحِ‏)‏ مَعْ أهْلِ النَّظَرْ

اختُلِفَ في التعديلِ والجرحِ، هل يقبلانِ، أو أحدُهما من غيرِ ذكرِ أسبابِهِما، أم لا يقبلانِ إلاّ مُفسّرَينِ‏؟‏ على أربعةِ أقوالٍ‏:‏

الأولُ‏:‏ وهو الصحيحُ المشهورُ‏:‏ التفرقةُ بين التعديلِ والجرحِ، فيقبلُ التعديلُ من غيرِ ذكرِ سببِهِ؛ لأنَّ أسبابَهُ كثيرةٌ، فتثقلُ ويشُقُّ ذكرُها؛ لأنَّ ذلكَ يُحوِجُ المُعدِّلَ إلى أنْ يقولَ ليسَ يفعلُ كذا ولا كذا، وَيَعُدُّ ما يجبُ عليه تركُهُ‏.‏ ويفعلُ كذا وكذا، فيعدُّ ما يجبُ عليه فِعْلُهُ‏.‏ فيشقُّ ذلك، ويطُولُ تفصيلُهُ‏.‏ وأما الجرحُ فإنَّهُ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً مُبَيَّنَ السببِ؛ لأنَّ الجرحَ يحصلُ بأمرٍ واحدٍ، فلا يشقُّ ذِكْرُهُ؛ ولأنَّ الناسَ مختلفونَ في أسبابِ الجرحِ‏.‏ فيطلقُ أحدُهم الجرحَ بناءً على ما اعتقدَهُ جرحاً، وليس بجرحٍ في نفسِ الأمرِ، فلا بدَّ من بيانِ سببِهِ، ليَظْهرَ أهو قادحٌ أم لا‏؟‏

ويدلُّ على أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ غيرَ مُفَسَّرٍ، أنّهُ ربَّما استُفْسِرَ الجارحُ، فذكرَ ما ليس بجرحٍ‏.‏

فقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى محمدِ بنِ جعفرٍ المدائنيِّ، قال‏:‏ قيل لشعبةَ‏:‏ لِمَ تركتَ حديثَ فلانٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رأيتُهُ يركُضُ عَلَى بِرْذَوْنٍ، فتركتُ حديثَهُ‏.‏

وقولي في آخرِ البيتِ‏:‏ ‏(‏فما‏)‏، أي‏:‏ فماذا يلزمُ من ركضِهِ على برذونٍ‏.‏ وروى بنُ أبي حاتِمٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، قالَ‏:‏ أتى شعبةُ المِنْهالَ بنَ عمرٍو، فسمِعَ صوتاً فترَكَهُ‏.‏ قال بنُ أبي حاتِمٍ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ يعني أنّهُ سَمِعَ قراءةً بألحانٍ فكَرِهَ السماعَ منه من أجلِ ذلك‏.‏ هكذا قالَ أبو حاتِمٍ في تفسيرِ الصوتِ‏.‏ وقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى وَهْبِ بنِ جريرٍ، قالَ‏:‏ قالَ شعبةُ‏:‏ أتيتُ منزلَ المِنْهالِ بنِ عَمْرٍو فسمعتُ منه صوتَ الطُّنْبُورِ، فرجعتُ‏.‏ فقيلَ له‏:‏ فهلاَّ سألتَ عنه أنْ لا يَعْلَمَ هو‏.‏ وروينا عن شعبةَ قال‏:‏ قلتُ للحكمِ بنِ عُتَيْبةَ‏:‏ لِمَ لَمْ تروِ عن زَاذانَ‏؟‏ قال‏:‏ كانَ كثيرَ الكلامِ‏.‏ وقال محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ‏:‏ حدّثنا جريرٌ قال‏:‏ رأيتُ سِمَاكَ بنَ حَرْبٍ يبولُ قائماً، فلم أكتبْ عنه‏.‏ وقد عقدَ الخطيبُ لهذا باباً في ‏"‏ الكفاية ‏"‏‏.‏

والقولُ الثاني‏:‏ عكسُ القولِ الأولِ، أنّهُ يجبُ بيانُ سببِ العدالةِ، ولا يجبُ بيانُ سببِ الجرحِ؛ لأنَّ أسبابَ العدالةِ يكثرُ التَّصنُّعُ فِيْهَا، فيبني المُعدِّلُونَ عَلَى الظاهرِ‏.‏ حكاهُ صاحبُ ‏"‏ المحصولِ ‏"‏، وغيرُهُ‏.‏ ونقلَهُ إمامُ الحرمينِ في ‏"‏ البرهانِ ‏"‏، والغزاليُّ في ‏"‏ المنخولِ ‏"‏ تَبَعاً له؛ عن القاضي أبي بكرٍ‏.‏ والظاهرُ أنّهُ وَهْمٌ منهما، والمعروفُ عنه أنّهُ لا يجبُ ذكرُ أسبابِهِما معاً، كما سيأتي‏.‏

والقولُ الثالثُ‏:‏ أنَّهُ لابدَّ من ذكرِ أسبابِ العدالةِ والجرحِ معاً‏.‏ حكاهُ الخطيبُ، والأصوليونَ، قالوا‏:‏ وكما قد يجرحُ الجارحُ بما لا يَقْدحُ، كذلك قد يوثّقُ المُعَدِّلُ بما لا يقتضي العدالةَ‏.‏ كما روى يعقوبُ الفَسَويُّ في ‏"‏ تاريخه ‏"‏، قال‏:‏ سمعتُ إنساناً يقولُ لأحمدَ بنِ يونسَ‏:‏ عبدُ اللهِ العمريُّ ضعيفٌ‏.‏ قال‏:‏ إنّما يضعّفُهُ رافضيٌّ مبغِضٌ لآبائِهِ، لو رأيتَ لحيتَهُ، وخِضابَهُ، وهيئتَهُ؛ لعرفتَ أنّهُ ثقةٌ‏.‏ فاستدلَّ أحمدُ بنُ يونسَ على ثقتِهِ بما ليسَ بحجّة، لأنَّ حُسنَ الهيئةِ يشتركُ فيه العَدْلُ والمجروحُ‏.‏

والقولُ الرابعُ‏:‏ عكسُهُ‏:‏ أنّهُ لا يجبُ ذكرُ سببٍ واحدٍ منهما، إذا كانَ الجارحُ والمعدِّلُ عالماً بصيراً‏.‏ وهو اختيارُ القاضي أبي بكرٍ، ونقلَهُ عن الجمهورِ فقال‏:‏ قالَ الجمهورُ من أهلِ العلمِ‏:‏ إذا جَرَحَ مَنْ لا يعرفُ الجَرْحَ، يجبُ الكشفُ عن ذلكَ‏.‏ ولم يوجبوا ذلك على أهلِ العلمِ بهذا الشأنِ‏.‏ قال‏:‏ والذي يقوِّي عندنا تركُ الكشفِ عن ذلك، إذا كان الجارحُ عالماً، كما لا يجبُ استفسارُ المعدِّلِ عمّا بهِ صارَ عندَهُ المزكّى عدلاً، إلى آخرِ كلامِهِ‏.‏ وممَّن حكاهُ عن القاضي أبي بكرٍ، الغزاليُّ في ‏"‏المستصفى‏"‏ خلافَ ما حكاهُ عنه في ‏"‏ المنخولِ ‏"‏‏.‏ وما ذَكَرَهُ عنه في ‏"‏ المستصفى ‏"‏ هو الذي حكاهُ صاحبُ ‏"‏ المحصولِ ‏"‏، والآمديُّ، وهو المعروفُ عن القاضي، كما رواهُ عنه الخطيبُ في ‏"‏ الكفايةِ ‏"‏‏.‏

والقولُ الأولُ هو الذي نصَّ عليه الشافعيُّ‏.‏ وقالَ الخطيبُ‏:‏ هو الصوابُ عندنا‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنّهُ الصحيحُ المشهورُ‏.‏ وحكى الخطيبُ أنّهُ ذهبَ الأئمةُ من حفّاظِ الحديثِ ونقّادِهِ، مثلُ البخاريِّ، ومسلمٍ، وغيرِهما، إلى أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وهو ظاهرٌ مقررٌ في الفقِهِ وأُصولِهِ‏.‏

272‏.‏ فَإنْ يُقَلْ‏:‏ ‏(‏قَلَّ بَيَانُ مَنْ جَرَحْ‏)‏ *** كَذَا إذَا قَالُوا‏:‏ ‏(‏لِمَتْنٍ لَمْ يَصِحْ‏)‏

273‏.‏ وَأبْهَمُوا، فَالشَّيْخُ قَدْ أجَابَا *** أنْ يَجِبَ الوَقْفُ إذا اسْتَرَابا

274‏.‏ حَتَّى يُبِيْنَ بَحْثُهُ قَبُوْلَهْ *** كَمَنْ أُوْلُو الصَّحِيْحِ خَرَّجُوا لَهْ

275‏.‏ فَفي ‏(‏البُخَارِيِّ‏)‏ احتِجَاجاً ‏(‏عِكْرِمَه‏)‏ *** مَعَ ‏(‏ابْنِ مَرْزُوْقٍ‏)‏، وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ

276‏.‏ وَاحْتَجَّ ‏(‏مُسْلِمٌ‏)‏ بِمَنْ قَدْ ضُعِّفَا *** نَحْوَ ‏(‏سُوَيْدٍ‏)‏ إذْ بِجَرْحٍ مَا اكتَفَى

277‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ قَالَ ‏(‏أبُو المَعَاليْ‏)‏ *** واخْتَارَهُ تِلْمِيْذُهُ ‏(‏الغَزَاليْ‏)‏

278‏.‏ و ‏(‏ابْنُ الخَطِيْبِ‏)‏‏:‏ الْحَقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا *** أطْلَقَهُ العَالِمْ بِأسْبَابِهِمَا

هذا سؤالٌ أوردَهُ ابنُ الصلاحِ على قولِهِم‏:‏ إنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً‏.‏ وكذلك تضعيفُ الحديثِ، فقال‏:‏ ولقائلٍ أنْ يقولَ‏:‏ إنّما يعتمدُ الناسُ في جرحِ الرواةِ، وردِّ حديثِهِم، على الكُتُبِ التي صنَّفَها أئمةُ الحديثِ في الجرحِ، أو في الجرحِ والتعديلِ‏.‏ وقلَّما يتعرضونَ فيها لبيانِ السببِ، بل يقتصرونَ على مجردِ قولِهم‏:‏ فلانٌ ضعيفٌ، وفلانٌ ليس بشيءٍ، ونحوُ ذلك‏.‏وهذا حديثٌ ضعيفٌ، وهذا حديثٌ غيرُ ثابتٍ، ونحوُ ذلكَ‏.‏ فاشتراطُ بيانِ السببِ، يُفضِي إلى تعطيلِ ذلكَ، وسدِّ بابِ الجرحِ في الأغلبِ الأكثرِ‏.‏قال‏:‏ وجوابُهُ أنَّ ذلكَ وإنْ لم نعتمدْهُ في إثباتِ الجرحِ، والحكمِ بهِ، فقد اعتمدناهُ في أنْ توقَّفنا عن قبولِ حديثِ مَنْ قالوا فيه مثلَ ذلك، بناءً على أنَّ ذلك أوقعَ عندنا فيهم رِيبةً قويةً، يوجبُ مثلُها التوقُّفَ‏.‏ ثم مَنِ انزاحتْ عنه الريبةُ منهم، ببحثٍ عن حالِهِ، أوْجَبَ الثقةَ بعدالتِهِ؛ قبلنا حديثَه، ولم نتوقَّفْ‏.‏ كالذينَ احتجَّ بهم صاحِبا ‏"‏ الصحيحينِ ‏"‏، وغيرُهما ممَّنْ مسَّهم مثلُ هذا الجرحِ من غيرِهم‏.‏ فافْهَمْ ذلك فإنهُ مَخْلَصٌ حسَنٌ‏.‏ ولمّا نقلَ الخطيبُ عن أئمّة الحديثِ‏:‏ أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً، قال‏:‏ فإنَّ البخاريَّ احتجَّ بجماعةٍ سبقَ من غيرِهِ الطعنُ فيهم، والجرحُ لهم، كعِكْرِمَةَمولى ابنِ عبّاسٍ في التابعينَ، وكإسماعيلَبنِ أبي أويسٍ، وعاصمِ بنِ عليٍّ، وعمرِو بنِ مَرْزوقٍ في المتأخّرينَ‏.‏

قالَ‏:‏ وهكذا فعلَ مسلمٌ، فإنّهُ احتجَّ بسُوَيْدِ بنِ سعيدٍ، وجماعةٍ غيرِهم، اشتَهَرَ عمَّنْ ينظرُ في حالِ الرواةِ الطعنُ عليهم‏.‏ قالَ‏:‏ وسلكَ أبو داودَ هذه الطريقةَ، وغيرُ واحدٍ ممَّنْ بعدَهُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏إذ بجرح‏)‏، أي‏:‏ بمطلقِ جرحٍ، وذلك لأنَّ سويدَ بنَ سعيدٍ صدوقٌ في نفسهِ، كما قالَ أبو حاتمٍ، وصالحٌ جزرةُ، ويعقوبُ بنُ شيبةَ وغيرُهم‏.‏ وقد ضعّفهُ البخاريُّ، والنسائيُّ‏.‏ فقال البخاريُّ‏:‏ حديثُهُ منكرٌ‏.‏ وقال النسائيُّ‏:‏ ضعيفٌ‏.‏ ولم يفسِّرِ الجرحَ‏.‏ وأكثرُ مَنْ فَسَّرَ الجرحَ فيه، ذكرَ أنّهُ لما عَمِي ربَّما تلقّنَ الشيءَ‏.‏ وهذا وإنْ كانَ قادحاً فإنّما يقدحُ فيما حدّثَ به بعد العَمى، وما حدَّثَ به قبلَ ذلك فصحيحٌ‏.‏ ولعلَّ مسلماً إنّما خَرَّجَ عنه ما عُرِفُ‏:‏ أنَّهُ حدَّثَ به قبلَ عَماهُ‏.‏ وأما تكذيبُ ابنِ معينٍ له، فإنّه أنكرَ عليه ثلاثةَ أحاديثَ‏:‏ حديثَ‏:‏ «مَنْ عَشِقَ، وعَفَّ»، وحديثَ‏:‏ «مَنْ قالَ في دِيننا بِرَأيهِ فاقتُلُوهُ»، وحديثَهُ عن أبي معاويةَ، عن الأعمشِ، عن عطيّةَ، عن أبي سعيدٍ مرفوعاً‏:‏ «الحسنُ والحُسَينُ سَيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّةِ»‏.‏ فقالَ ابنُ مَعِينٍ‏:‏ هذا باطلٌ عن أبي معاويةَ‏.‏ قال الدارقطنيُّ‏:‏ فلما دخلتُ مِصْرَ، وجدْتُ هذا الحديثَ في مُسندِ المَنْجَنِيْقيِّ، وكان ثقةً، عن أبي كُرَيبٍ، عن أبي معاويةَ، فتخلَّصَ منه سُويدٌ، فأنكرَهُ عليه ابنُ معينٍ؛ لظنِّهِ أنَّهُ تفرّدَ به عن أبي معاويةَ، ولا يحتملُ التفرّدَ، ولم ينفردْ بهِ، وإنّما كذَّبَهُ ابنُ معينٍ فيما تلقّنَهُ آخراً‏.‏ فنسبَهُ إلى الكذبِ لأجلهِ‏.‏ ويدلُّ عليه أنَّ محمّدَ بنَ يحيى السُّوسيَّ، قال‏:‏ سألتُ ابنَ معينٍ، عن سُويدٍ، فقال‏:‏ فيما حدَّثَكَ فاكتُبْ عنه، وما حدَّثَكَ به تلقيناً فلا‏.‏ فَدَلَّ هذا على أنّهُ صدوقٌ عندَهُ، أنْكَرَ عليه ما تلقَّنَهُ، واللهُ أعلمُ‏.‏

وإنّما روى عنه مسلمٌ لطلبِ العُلوِّ مما صحَّ عندَهُ بنزولٍ‏.‏ ولم يخرجْ عنه ما انفرَدَ به‏.‏ وقد قالَ إبراهيمُ بن أبي طالبٍ‏:‏ قلتُ لمسلمٍ‏:‏ كيفَ استجزتَ الروايةَ عن سويدٍ في الصحيحِ‏؟‏ فقال‏:‏ ومِنْ أين كنتُ آتي بنسخةِ حفصِ بنِ ميسرةَ‏؟‏ وذلك أنَّ مسلماً لم يروِ عن أحدٍ ممَّنْ سمعَ مِنْ حفصِ بنِ ميسرةَ في الصحيحِ، إلا عن سويدِ بنِ سعيدٍ فقط‏.‏ وقد رَوَى في الصحيحِ عن واحدٍ، عن ابنِ وَهْبٍ، عن حفصٍ، والله أعلمُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏قلتُ …‏)‏ إلى آخر البيتينِ، هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ‏.‏ وهما ردٌّ على السؤالِ الذي ذكرهُ، وذلك أنَّ إمامَ الحرمينِ، أبا المعَالي الجُوينيَّ، قالَ في كتابِ ‏"‏ البُرهانِ ‏"‏‏:‏ الحقُّ أنّهُ إنْ كان المزكّيِّ عالماً بأسبابِ الجرحِ والتعديلِ، اكتفينا بإطلاقِهِ‏.‏ وإلاّ فلا‏.‏ وهذا هو الذي اختارَهُ أبو حامدٍ الغزاليُّ، والإمامُ فخرُ الدينِ بنُ الخطيبِ، وقد تقدّم نقلُهُ في شرحِ الأبياتِ التي قبلَ هذهِ عن القاضي أبي بكرٍ، وأنّهُ نقلَهُ عن الجمهورِ‏.‏ وممَّنْ اختارَهُ أيضاً من المحدّثينَ‏:‏ الخطيبُ، فقالَ بعدَ أنْ فرّقَ بينَ الجرحِ والتعديلِ في بيانِ السببِ‏:‏ على أنّا نقولُ أيضاً‏:‏ إنْ كان الذي يرجعُ إليهِ في الجرحِ عدلاً مرضيّاً في اعتقادِهِ، وأفعالِهِ، عارفاً بصفةِ العدالةِ والجرحِ، وأسبابِهما، عالماً باختلافِ الفقهاءِ في أحكامِ ذلك؛ قُبِلَ قولُهُ فيمَنْ جرحَهُ مجملاً، ولا يُسألُ عَنْ سببهِ‏.‏

‏[‏إذا تعارضَ الجرحُ والتعديلُ في راوٍ واحدٍ‏]‏

279‏.‏ وَقَدَّمُوا الجَرْحَ، وَقِيْلَ‏:‏ إنْ ظَهَرْ *** مَنْ عَدَّلَ الأكْثَرَ فَهْوَ المُعْتَبَرْ

إذا تعارضَ الجرحُ والتعديلُ في راوٍ واحدٍ‏.‏ فجرَّحَهُ بعضُهم، وَعدَّلَهُ بعضُهم، ففيهِ ثلاثةُ أقوالٍ‏:‏

أحدُها‏:‏ أنَّ الجرحَ مقدَّمٌ مطلقاً، ولو كانَ المعدِّلُونَ أكثرَ‏.‏ونقلَهُ الخطيبُعن جمهورِ العلماءِ‏.‏وقال ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّهُ الصحيحُوكذا صحَّحَهُ الأصوليونَ، كالإمامِ فخرِ الدينِ والآمديِّ؛ لأنَّ مع الجارحِ زيَادةَ علمٍ، لم يطّلعْ عليها المعدِّل؛ ولأنَّ الجارحَ مصدّقٌ للمعدِّل فيما أخبرَ به عن ظاهرِ حالِهِ، إلا أنّهُ يخبرُ عن أمرٍ باطنٍ خَفِي عن المعدِّلِ‏.‏

والقولُ الثاني‏:‏ أنّهُ إنْ كانَ عددُ المعدّلينَ أكثرَ قُدِّمَ التعديلُ‏.‏ حكاه الخطيبُ في ‏"‏ الكفايةِ ‏"‏، وصاحبُ ‏"‏ المحصولِ ‏"‏؛ وذلك لأنَّ كثرةَ المعدّلين تقوِّي حالَهُم، وتوجبُ العملَ بخبرِهم‏.‏ وقلّةَ الجارحينَ تُضْعِفُ خبرَهُم‏.‏ قال الخطيبُ‏:‏ وهذا خطأٌ وبُعْدٌ ممَّنْ توهَّمَهُ؛ لأنَّ المعدِّلين، وإن كثروا ليسُوا يخبرُونَ عن عَدَمِ ما أخبرَ به الجارحُونَ‏.‏ ولو أخبرُوا بذلكَ لكانتْ شهادةً باطلةً على نفيٍّ‏.‏

والقولُ الثالثُ‏:‏ أنّهُ يتعارضُ الجرحُ والتعديلُ فلا يرجَّحُ أحدُهما، إلاّ بمرجِّحٍ، حكاهُ ابنُ الحاجبِ‏.‏ وكلامُ الخطيبِ يقتضي نفي هذا القولِ الثالثِ‏.‏فإنّهُ قالَ‏:‏ اتّفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ مَنْ جَرَّحَهُ الواحدُ والاثنانِ، وعَدَّلَهُ مثلُ عددِ مَنْ جَرَّحَهُ، فإنَّ الجرحَ به أولى‏.‏ ففي هذهِ الصورةِ حكايةُ الإجماعِ على تقديمِ الجرحِ، خلافَ ما حكاهُ ابنُ الحاجبِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏الأكثرَ‏)‏، هو في موضعِ الحالِ، وجاءَ معرّفاً، كما قُرِئَ في الشاذِّ قولُهُ تعالى‏:‏ ‏{‏لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُ مِنْهَا الأذَلَّ‏}‏‏.‏ على أنَّ ‏(‏يَخرجُ‏)‏‏:‏ ثلاثيٌّ قاصرٌ، و ‏(‏الأذلَّ‏)‏‏:‏ في موضعِ الحالِ‏.‏

‏[‏التعديلُ على الإبهامِ‏]‏

280‏.‏ وَمُبْهَمُ التَّعْدِيْلِ لَيْسَ يَكْتَفِيْ *** بِهِ ‏(‏الخَطِيْبُ‏)‏ والفَقِيْهُ ‏(‏الصَّيْرَفِيْ‏)‏

281‏.‏ وَقِيْلَ‏:‏ يَكْفِي، نَحْوُ أنْ يُقالا‏:‏ *** حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، بَلْ لَوْ قَالاَ‏:‏

282‏.‏ جَمِيْعُ أشْيَاخِي ثِقَاتٌ لَوْ لَمْ *** أُسَمِّ، لاَ يُقْبَلُ مَنْ قَدْ أَبْهَمْ

283‏.‏ وَبَعْضُ مَنْ حَقَّقَ لَمْ يَرُدَّهُ *** مِنْ عَالِمٍ في حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ

التعديلُ على الإبهامِ من غيرِ تسميةِ المعدَّلِ، كما إذا قال‏:‏ حدّثني الثقةُ، ونحوَ ذلك، من غيرِ أنْ يسمّيَهُ؛ لا يُكتَفَى به في التوثيقِ، كما ذكرهُ الخطيبُ أبو بكرٍ، والفقيهُ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ، وأبو نصرٍ بنُ الصَّبَّاغِ من الشافعيةِ، وغيرُهم‏.‏ وحكى ابنُ الصباغِ في ‏"‏ العُدَّةِ ‏"‏ عن أبي حنيفةَ أنّهُ يُقْبَلُ، وهو ماشٍ على قولِ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ، وأولى بالقبولِ‏.‏ والصحيحُ الأولُ؛ لأنَّهُ وإنْ كان ثقةً عندَهُ، فربَّما لو سمّاهُ لكان ممَّنْ جَرَّحَهُ غيرُهُ بجرحٍ قادحٍ‏.‏ بل إضرابُهُ عن تَسْمِيتِهِ ريبةٌ تُوْقِعُ تردداً في القلبِ‏.‏ بل زادَ الخطيبُ على هذا بأنّهُ لو صَرَّحَ بأنَّ جميعَ شيوخِهِ ثقاتٌ، ثم رَوى عمَّنْ لم يسمِّهِ، أنّا لا نعملُ بتزكيتهِ له‏.‏ قالَ الخطيبُ في ‏"‏ الكفايةِ ‏"‏‏:‏ «إذا قالَ العَالِمُ كُلُّ مَنْ رَوَيْتُ عنه فهو ثقةٌ، وإنْ لم أُسمِّهِ‏.‏ ثم رَوَى عمَّنْ لم يُسَمِّهِ، فإنّهُ يكونُ مُزَكِّيَاً لهُ‏.‏ غيرَ أنَّا لا نَعملُ على تزكيتِهِ؛ لجوازِ أنْ نعرفَهُ إذا ذكرَهُ بخلاف العدالةِ»‏.‏ نعمْ، إذا قالَ العالمُ‏:‏ كُلُّ مَنْ أَروي لكم عنه وأُسميهِ فهو عدلٌ مرضيٌّ مقبولُ الحديثِ كان هذا القولُ تعديلاً لكلِّ مَنْ رَوَى عنه وسمَّاهُ‏.‏ هكذا جزمَ به الخطيبُ، قال‏:‏ وكان ممَّنْ سلكَ هذهِ الطريقةَ عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ‏.‏ زادَ البيهقيُّ مع ابنِ مهديٍّ مالكَ بنَ أنسٍ، ويحيى بنَ سعيدٍ القطّانِ‏.‏ قال‏:‏ وقد يوجدُ في روايةِ بعضِهم الروايةُ عن بعضِ الضُّعفاءِ لخفاءِ حالِهِ عليهِ، كروايةِ مالكٍ، عن عبد الكريمِ بن أبي المُخَارِقِ‏.‏

وفي التعديلِ على الإبهامِ قولانِ آخرانِ‏:‏

أحدُهما‏:‏ أنّهُ يقبلُ مطلقاً، كما لو عيَّنَهُ؛ لأنَّهُ مأمونٌ في الحالتينِ معاً‏.‏

القولُ الثاني‏:‏ وهو ما حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن اختيارِ بعضِ المحقّقينَ أنّهُ إنْ كانَ القائلُ لذلك عالماً أجزأَ ذلكَ في حقِّ مَنْ يوافقُهُ في مذهبِهِ كقولِ مالكٍ‏:‏ أخبرني الثقةُ، وكقولِ الشافعيِّ ذلكَ أيضاً في مواضعَ‏.‏ وعليه يدلُّ كلامُ ابنِ الصباغِ في ‏"‏ العدّةِ ‏"‏، فإنّهُ قال‏:‏ إنَّ الشافعيَّ لم يُورِدْ ذلكَ احتجاجاً بالخبرِ على غيرِهِ، وإنَّما ذَكَرَ لأَصحابهِ قيامَ الحجَّةِ عندَهُ على الحُكْمِ‏.‏ وقد عرف هو مَنْ رَوَى عنه ذلك‏.‏ وقد بَيَّنَ بعضُ العلماءِ بعضَ ما أبهما مِنْ ذلكَ باعتبارِ شيوخِهما‏.‏ فحيثُ قال مالكٌ‏:‏ عن الثقةِ-عندَهُ- عن بُكَيْرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأشجِّ‏.‏ فالثقةُ مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ‏.‏ وحيث قالَ‏:‏ عن الثقةِ، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ، فقيلَ‏:‏ الثقةُ عبدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ، وقيل‏:‏ الزهريُّ‏.‏ ذكر ذلك أبو عُمر بنُ عبدِ البرِّ‏.‏ وقالَ أبو الحسنِ محمدُ بنُ الحسينِ بنِ إبراهيمَ الأثريُّ السجستانيُّ في كتابِ ‏"‏ فضائلِ الشافعيِّ ‏"‏‏:‏ سمعتُ بعضَ أهلِ المعرفةِ بالحديثِ يقولُ‏:‏ إذا قال الشافعيُّ في كتبهِ‏:‏ أخبرنا الثقةُ، عن ابنِ أبي ذِئْبٍ، فهو ابنُ أبي فُدَيكَ‏.‏ وإذا قالَ‏:‏ أخبرنا الثقةُ، عن الليثِ بنِ سعدٍ، فهو يحيى بنُ حَسَّانَ‏.‏ وإذا قال‏:‏ أخبرنا الثقةُ، عن الوليدِ بنِ كثيرٍ فهو أبو أسامَةَ‏.‏ وإذا قال‏:‏ أخبرنا الثقةُ، عن الأوزاعيِّ، فهو عمرُو بنُ أبي سَلَمَةَ‏.‏وإذا قال‏:‏ أخبرنا الثقةُ، عن ابنِ جُريجٍ، فهو مسلمُ بنُ خالدٍ‏.‏ وإذا قالَ‏:‏ أخبرنا الثقةُ، عن صالحٍ مولى التَّوْأَمَةِ، فهو إبراهيمُ بنُ أبي يحيى‏.‏

‏[‏روايةُ العدلِ عن شيخٍ بصريحِ اسمِهِ، فهلْ ذلكَ تعديلٌ له أم لا‏؟‏‏]‏

284‏.‏ وَلَمْ يَرَوْا فُتْيَاهُ أوْ عَمَلَهُ *** عَلَى وِفَاقِ المَتْنِ تَصْحِيْحَاً لَهُ

285‏.‏ وَلَيْسَ تَعْدِيلاً عَلَى الصَّحِيْحِ *** رِوَايَةُ العَدْلِ عَلَى التَّصْرِيْحِ

أيْ‏:‏ ولم يَرَوْا فُتيا العالمِ على وفقِ حديثٍ حُكماً منه بصحةِ ذلك الحديثِ؛ لإمكانِ أنْ يكونَ ذلك منه احتياطاً، أو لدليلٍ آخرَ وافقَ ذلكَ الخبرَ‏.‏ وأما روايةُ العدلِ عن شيخٍ بصريحِ اسمِهِ، فهلْ ذلكَ تعديلٌ له أم لا‏؟‏ فيه ثلاثة أقوالٍ‏:‏

أحدُها‏:‏ أنَّهُ ليس بتعديلٍ؛ لأنَّهُ يجوزُ أنْ يرويَ عن غيرِ عَدْلٍ‏.‏ وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ من أهلِ الحديثِ، وغيرِهم‏.‏ وهو الصحيحُ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ‏.‏

والثاني‏:‏ أنّهُ تعديلٌ مطلقاً؛ إذ لو علمَ فيه جرحاً لذكرَهُ، ولكان غاشاً في الدينِ، لو علِمَهُ ولم يذكرْهُ حكاه الخطيبُ وغيرُهُ‏.‏ قال أبو بكر الصَّيْرفيُّ‏:‏ وهذا خطأٌ؛ لأنَّ الروايةَ تعريفٌ لهُ والعدالةُ بالخبرةِ‏.‏

وأجاب الخطيبُ‏:‏ بأنَّهُ قد لا يَعلمُ عدالتَهُ، ولا جرحَهُ‏.‏

والثالث‏:‏ أنّهُ إنْ كانَ ذلكَ العَدْلُ الذي روي عنه لا يَروي إلا عن عدلٍ كانت روايتُهُ تعديلاً، وإلاّ فلا‏.‏ وهذا هو المختارُ عن الأصوليينَ، كالسيفِ الآمديِّ، وأبي عمرِو بنِ الحاجبِ، وغيرِهما‏.‏ أما إذا رَوَى عَنْهُ من غيرِ تصريحٍ باسمِهِ، فإنهُ لا يكونُ تعديلاً، بَلْ وَلَوْ عدلهُ عَلَى الإبهامِ لَمْ يكتفِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

‏[‏روايةِ المجهولِ‏]‏

286‏.‏ وَاخْتَلَفُوا‏:‏ هَلْ يُقْبَلُ المَجْهُوْلُ‏؟‏ *** وَهْوَ عَلَى ثَلاَثَةٍ مَجْعُوْلُ

287‏.‏ مَجْهُوْلُ عَيْنٍ‏:‏ مَنْ لَهُ رَاوٍ فَقَطْ *** وَرَدَّهُ الأَكْثَرُ، وَالقِسْمُ الوَسَطْ

288‏.‏ مَجْهُوْلُ حَالٍ بَاطِنٍ وَظَاهِرِ *** وَحُكْمُهُ‏:‏ الرَّدُّ لَدَى الجَمَاهِرِ

289‏.‏ وَالثَّالِثُ‏:‏ المَجْهُولُ لِلعَدالَه *** في بَاطِنٍ فَقَطْ‏.‏ فَقَدْ رَأَى لَه

290‏.‏ حُجِّيَّةً-في الحُكْمِ-بَعْضُ مَنْ مَنَعْ *** مَا قَبْلَهُ، مِنْهُمْ ‏(‏سُلَيْمٌ‏)‏ فَقَطَعْ

291‏.‏ بِهِ، وَقَالَ الشَّيْخُ‏:‏ إنَّ العَمَلا *** يُشْبِهُ أنَّهُ عَلَى ذَا جُعِلا

292‏.‏ في كُتُبٍ منَ الحَدِيْثِ اشْتَهَرَتْ *** خِبْرَةُ بَعْضِ مَنْ بِهَا تَعَذَّرَتْ

293‏.‏ في بَاطِنِ الأمْرِ، وبَعْضٌ يَشْهَرُ *** ذَا القِسْمَ مَسْتُوْراً، وَفِيْهِ نَظَرُ

اختلفَ العلماءُ في قَبولِ روايةِ المجهولِ، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ‏:‏ مجهولِ العينِ، ومجهولِ الحالِ ظاهراً وباطناً، ومجهولِ الحال باطناً‏.‏

القسمُ الأولُ‏:‏ مجهولُ العَيْنِ، وهو مَنْ لم يروِ عنه إلا راوٍ واحدٌ‏.‏ وفيه أقوالٌ‏:‏

الصحيحُ الذي عليه أكثرُ العلماءِ من أهلِ الحديثِ، وغيرِهم، أنّهُ لا يقبلُ‏.‏

والثاني‏:‏ يقبلُ مطلقاً‏.‏وهذا قولُ مَنْ لم يشترطْ في الراوي مزيداً على الإسلامِ‏.‏

والثالثُ‏:‏ إن كان المنفردُ بالروايةِ عنه لا يروي إلا عَنْ عَدْلٍ، كابنِ مهديٍّ، ويحيى بنِ سعيدٍ، ومَنْ ذُكرَ معهُما، واكتفينا في التعديلِ بواحدٍ قُبلَ، وإلاّ فلا‏.‏

والرابعُ‏:‏ إنْ كان مشهوراً في غيرِ العلمِ بالزُّهْدِ، أو النَّجْدةِ قُبلَ، وإلاّ فلا‏.‏ وهو قولُ ابنِ عبدِ البرِّ، وسيأتي نقلهُ عنه‏.‏

والخامسُ‏:‏ إنْ زَكَّاه أحدٌ من أئمةِ الجرحِ والتعديلِ مع روايةِ واحدٍ عنهُ قُبل، وإلاّ فلا‏.‏ وهو اختيارُ أبي الحسنِ بنِ القطّانِ في كتابِ ‏"‏ بيان الوهمِ والإيهامِ ‏"‏‏.‏

قال الخطيبُ في ‏"‏ الكفاية ‏"‏‏:‏ المجهولُ عند أصحابِ الحديثِ‏:‏ كُلُّ مَنْ لم يشتهرْ بطلبِ العلمِ في نفسِهِ، ولا عرفَهُ العلماءُ به‏.‏ ومَنْ لم يُعرفْ حديثُهُ إلاّ من جهةِ راوٍ واحدٍ، مثلُ‏:‏ عَمْرٍو ذِي مرٍّ، وجَبَّارٍ الطَّائيِّ، وعبدِ اللهِ بنِ أَعَزَّ الهَمْدانيِّ، والهَيْثَمِ بنِ حَنَشٍ، ومالكِ بنِ أَعزَّ، وسعيدِ بنِ ذي حُدَّانَ، وقَيْسِ بنِ كُرْكُمٍ، وخَمْرِ بنِ مالكٍ‏.‏ قال‏:‏ وهؤلاءِ كلُّهم لم يَرْوِ عنهم غيرُ أبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ‏.‏ ومثلُ‏:‏ سَمْعانَ بنِ مُشَنَّجٍ، والهَزْهازِ بنِ مَيْزنٍ، لا يُعرفُ عنهما راوٍ إلاّ الشَّعبيُّ‏.‏ ومثلُ‏:‏ بَكْرِ بنِ قِرْواشٍ، وحَلاَّمِ بنِ جَزْلٍ، لم يروِ عنهما إلا أبو الطُّفَيلِ عامرُ بنُ واثلةَ‏.‏ ومثلُ‏:‏ يزيدَ بنِ سُحَيْمٍ، لم يروِ عنه إلا خِلاَسُ بنُ عَمْرٍو‏.‏ ومثلُ‏:‏ جُرَي بنِ كُلَيبٍ، لم يروِ عنه إلا قتادةُ بن دِعَامةَ‏.‏ ومثلُ‏:‏ عُمَيرِ بنِ إسحاقَ، لم يروِ عنه سوى عبدِ اللهِ بنِ عَوْنٍ‏.‏ وغيرُ من ذَكرنا‏.‏ وروينا عن محمدِ بنِ يحيى الذُّهْلِيِّ، قال‏:‏ إذا رَوَى عن المحدِّثِ رجلانِ ارتفعَ عنه اسمُ الجهالةِ‏.‏ وقال الخطيبُ‏:‏ أقلُّ ما تُرفعُ به الجهالةُ أن يرويَ عنه اثنانِ فصاعداً، من المشهورينَ بالعلمِ، إلا أنّه لا يثبتُ له حكمُ العدالةِ بروايتهِما عنه‏.‏ واعترضَ عليه ابنُ الصلاحِ بأنَّ الهَزْهازَ رَوَى عنه الثوريُّ أيضاً‏.‏ قلت‏:‏ وروى عنه أيضاً الجرَّاحُ بنُ مَلِيحٍ، فيما ذكرَهُ ابنُ أبي حاتمٍ، وسمَّى أباهُ مازناً، بالألفِ لا بالياءِ‏.‏ ولعلَّ بعضَهُم أمالَهُ فكتبَهُ بالياءِ‏.‏ وخَمْرُ ابنُ مالكٍ روى عنه أيضاً عبدُ اللهِ بنُ قَيْسٍ، وذكرَهُ ابنُ حبّانَ في ‏"‏ الثقاتِ ‏"‏، وسمَّاهُ خُمَيْرَ بنَ مالكٍ، وذكرَ الخلافَ فيه في التَّصْغيرِ والتّكبيرِ ابنُ أبي حاتِمٍ‏.‏ وكذلِكَ الهَيْثمُ ابنُ حَنَشٍ رَوَى عنه أيضاً سَلَمةُ بنُ كُهَيْل، قالَهُ أبو حاتمٍ الرازيُّ‏.‏ وأما عبدُ اللهِ بنُ أَعزّ، ومالكُ بن أعزَّ، فقد جعلَهُما ابنُ ماكولا واحداً، اختُلفَ على أبي إسحاقَ في اسمِهِ‏.‏ وبَكْرُ بنُ قِرْواشٍ روى عنه أيضاً قتادةُ فيما ذكرَهُ البخاريُّ، وابنُ حبّانَ في ‏"‏ الثقاتِ ‏"‏‏.‏ وسمَّى ابن أبي حاتم أباهُ قُرَيشاً‏.‏ وحَلاَّمُ بنُ جَزْلٍ ذكرَهُ البخاريُّ في ‏"‏ تاريخه ‏"‏ فقالَ‏:‏ حِلاَبٌ، أي‏:‏ بباء موحّدةٍ، وخطَّأهُ ابنُ أبي حاتمٍ في كتابٍ جمعَ فيهِ أوهامَهُ في ‏"‏ التاريخ ‏"‏، وقال‏:‏ «إنّما هو حَلاَّمٌ»، أي‏:‏ بالميمِ‏.‏ ثم تعقّبَ ابنُ الصلاحِ بعضَ كلامِ الخطيبِ المتقدّم بأنْ قال‏:‏ قد خَرَّجَ البخاريُّ حديث جماعةٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم‏:‏ مِرْدَاسٌ الأسلميُّ، لم يروِ عنه غيرُ قَيْسٍ بنِ أبي حازمٍ‏.‏ وخَرَّجَ مسلمٌ حديثَ قومٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم‏:‏ ربيعةُ بنُ كعبٍ الأسلميُّ، لم يروِ عنه غيرُ أبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ‏.‏ وذلك منهما مَصِيرٌ إلى أنَّ الراوي قد يَخْرُجُ عن كونِهِ مجهولاً مردوداً، بروايةِ واحدٍ عنه‏.‏ والخلافُ في ذلك مُتَّجِهٌ، نحوَ اتجاهِ الخلافِ المعروفِ في الاكتفاءِ بواحدٍ في التعديلِ‏.‏

قلتُ‏:‏ لم ينفردْ عن مِرْداسٍ قَيْسٌ، بل روى عنه أيضاً زيادُ بنُ عِلاَقةَ فيما ذكرَهُ المزّيُّ في ‏"‏ التهذيبِ ‏"‏، وفيه نظرٌ‏.‏ ولم ينفردْ عن ربيعةَ أبو سَلَمةَ، بل رَوَى عنه أيضاً نُعَيْمٌ المُجْمِرُوحَنْظلةُ بنُ عليٍّ‏.‏وأيضاً فمِرْداسٌ وربيعةُ من مشاهيرِ الصحابةِ، فمِرداسٌ من أهلِ الشَّجَرَةِ، وربيعةُ من أهل الصُّفَّةِ‏.‏وقد ذكرَ أبو مسعودٍ إبراهيمُ بنُ محمدٍ الدِّمَشْقيُّ في «جُزْءٍ له أجابَ فيه عن اعتراضاتِ الدارقطنيِّ على كتابِ مسلمٍ»، فقال‏:‏ لا أعلمُ رَوَى عن أبي عليٍّ عمرِو بنِ مالكٍ الجَنْبيِّ أحدٌ غيرُ أبي هانيءٍ، قال‏:‏ وبروايةِ أبي هانيءٍ وَحْدَهُ لا يرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ، إلا أنْ يكونَ معروفاً في قبيلتهِ، أو يروي عنه أحدٌ معروفٌ مع أبي هانئٍ، فيرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ‏.‏ وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ في النوعِ السابعِ والأربعينَ عن ابنِ عبدِ البرِّ، قال‏:‏ كُلُّ مَنْ لم يروِ عنه إلا رجلٌ واحدٌ، فهو عندَهم مجهولٌ إلا أنْ يكونَ رجلاً مشهوراً في غيرِ حملِ العلمِ كاشتهارِ مالكِ بنِ دينارٍ بالزُّهْدِ، وعَمْرِو بن مَعْديْ كَرِبَ بالنَّجْدةِ‏.‏ فشهرةُ هذينِ بالصُّحبةِ عند أهلِ الحديثِ آكدُ في الثقةِ به من مالكٍ وعمرٍو، والله أعلمُ‏.‏

والقسمُ الثاني‏:‏ مجهولُ الحالِ في العدالةِ في الظاهرِ والباطنِ، مع كونِهِ معروفَ العَيْنِ بروايةِ عدلينِ عنه‏.‏ وفيه أقوالٌ‏:‏

أحدُها‏:‏ وهو قولُ الجماهيرِ، كما حكاهُ ابنُ الصلاحِ أنَّ روايتَهُ غيرُ مقبولةٍ‏.‏

والثاني‏:‏ تقبلُ مطلقاً، وإنْ لم تقبلْ روايةُ القسمِ الأولِ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وقد يَقبلُ روايةَ المجهولِ العدالةِ مَنْ لا يَقبلُ روايةَ المجهولِ العينِ‏.‏

والثالثُ‏:‏ إنْ كانَ الراويانِ، أو الرواةُ عنه فيهم مَنْ لا يَروِي عن غيرِ عَدْلٍ قُبِلَ، وإلاَّ فلاَ‏.‏

والقسمُ الثالثُ‏:‏ مجهولُ العدالةِ الباطنةِ، وهو عدلٌ في الظاهرِ، فهذا يحتَجُّ به بعضُ مَنْ رَدَّ القسمَينِ الأولَينِ، وبهِ قطعَ الإمامُ سُلَيمُ بنُ أيوبَ الرازيُّ، قال‏:‏ لأنَّ الإخبارَ مَبنيٌّ على حُسْنِ الظَّنِّ بالراوي؛ لأنَّ روايةَ الأخبارِ تكونُ عندَ مَنْ تَتَعذَّرُ عليه معرفةُ العدالةِ في الباطنِ، فاقتُصِرَ فيها على معرفةِ ذلك في الظاهرِ‏.‏ وتُفَارِقُ الشهادَةَ، فإنَّها تكونُ عند الحُكَّامِ، ولا يتعذّرُ عليهم ذلكَ، فاعتُبِرَ فيها العدالةُ في الظاهرِ والباطنِ‏.‏ قالَ ابنُ الصّلاحِ‏:‏ ويشبهُ أنْ يكونَ العملُ على هذا الرأي في كثيرٍ من كتبِ الحديثِ المشهورةِ في غيرِ واحدٍ من الرُّواةِ الذين تقادَمَ العهدُ بهم، وتعذَّرَتِ الخِبْرةُ الباطنةُ بهم، واللهُ أعلمُ‏.‏ وأطلقَ الشافعيُّ كلامَهُ في اختلافِ الحديثِ أنَّهُ لا يحتجُّ بالمجهولِ، وحكى البيهقيُّ في ‏"‏ المدخلِ ‏"‏‏:‏ أنَّ الشافعيَّ لا يحتجُّ بأحاديثِ المجهولينَ‏.‏ ولما ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القسمَ الأخيرَ، قال‏:‏ وهو المستورُ، فقد قال بعضُ أئمتِنا‏:‏ المَسْتُورُ مَنْ يكونُ عَدْلاً في الظَّاهرِ، ولا تُعْرَفُ عدالتُهُ باطناً‏.‏ انتهى كلامُه‏.‏ وهذا الذي نَقَلَ كلامَهُ آخراً، ولم يسمِّهِ، هو البغويُّ، فهذا لفظُهُ بحروفِهِ في ‏"‏ التهذيبِ ‏"‏، وتَبِعهُ عليه الرافعيُّ‏.‏ وحكى الرافعيُّ في الصومِ وجهين في قبولِ روايةِ المستورِ من غيرِ ترجيحٍ‏.‏ وقالَ النوويُّ في ‏"‏ شرحِ المهذّبِ ‏"‏‏:‏ «إنَّ الأصحَّ قبولُ روايتِهِ»‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وفيه نظرٌ‏)‏، ليس في كلامِ ابنِ الصلاحِ، فهو من الزوائدِ التي لم تتميَّزْ ووجهُ النظرِ الذي أشرتُ إليهِ هو أنَّ في عبارة الشافعيِّ في اختلافِ الحديثِ ما يقتضي أنَّ ظاهِرَي العدالةِ مَنْ يحكمُ الحاكمُ بشهادتِهِمَا‏.‏

فقالَ في جوابِ سؤالٍ أوردَهُ‏:‏ فلا يجوزُ أنْ يَتركَ الحُكْمَ بشهادتِهما إذا كانا عَدْلَيْنِ في الظاهرِ‏.‏ فعلى هذا لا يُقالُ لمَنْ هو بهذهِ المثابةِ مستورٌ‏.‏ نَعَمْ، في كلامِ الرافعيِّ في الصومِ أنَّ العدالةَ الباطنةَ هي التي يُرْجَعُ فيها إلى أقوالِ المُزَكِّينَ‏.‏ ونقلَ الرُّوْيَانيُّ في ‏"‏ البَحر ‏"‏ عن نصِّ الشافعيِّ في ‏"‏ الأمِّ ‏"‏‏:‏ أنَّهُ لو حضَرَ العقدَ رجلانِ مسلمانِ، ولا يُعرفُ حالُهما من الفِسْقِ والعَدالةِ انعقدَ النكاحُ بهما في الظاهرِ‏.‏ قال‏:‏ لأنَّ الظّاهرَ من المسلمينَ العدالةُ‏.‏ والله أعلم‏.‏

‏[‏رواية المبتدع‏]‏

294‏.‏ وَالخُلْفُ في مُبْتَدِعٍ مَا كُفِّرَا *** قِيْلَ‏:‏ يُرَدُّ مُطلَقَاً، وَاسْتُنْكِرَا

295‏.‏ وَقْيِلَ‏:‏ بَلْ إذا اسْتَحَلَّ الكَذِبَا *** نُصْرَةَ مَذْهَبٍ لَهُ، وَنُسِبَا

296‏.‏ ‏(‏لِلشَّافِعيِّ‏)‏، إذْ يَقُوْلُ‏:‏ أقْبَلُ *** مِنْ غَيْرِ خَطَّابِيَّةٍ مَا نَقَلُوْا

297‏.‏ وَالأكْثَرُوْنَ وَرَآهُ الأعْدَلاَ *** رَدُّوَا دُعَاتَهُمْ فَقَطْ، وَنَقَلا

298‏.‏ فِيهِ ‏(‏ابْنُ حِبَّانَ‏)‏ اتِّفَاقاً، وَرَوَوْا *** عَنْ أهْلِ بِدْعٍ في الصَّحِيْحِ مَا دَعَوْا

اختلفوا في روايةِ مبتدعٍ لم يُكفَّرْ في بدعتِهِ، على أقوالٍ‏:‏

فقيلَ‏:‏ تردُّ روايتُهُ مُطلقاً؛ لأنَّهُ فاسقٌ ببدعتِهِ‏.‏ وإنْ كانَ متأوِّلاً فتردُّ كالفاسقِ مَنْ بغيرِ تأويلٍ، كما استوى الكافرُ المتأوّلُ، وغيرُ المتأوِّلِ‏.‏

وهذا يُروَى عن مالكٍ، كما قالَ الخطيبُ في ‏"‏ الكفايةِ ‏"‏‏.‏ وقالَ ابنُ الصَّلاحِ‏:‏ إنّهُ بعيدٌ مباعِدٌ للشائعِ عن أئمّةِ الحديثِ‏.‏ فإنَّ كتبَهم طافحةٌ بالروايةِ عن المتبدعةِ غيرِ الدُّعاةِ، كما سيأتي‏.‏

والقولُ الثاني‏:‏ أنَّهُ لم يكنْ ممَّنْ يستحلُّ الكذبَ في نُصرةِ مذهبِهِ، أو لأهلِ مذهبِهِ قُبِلَ، سواءٌ دَعَى إلى بِدْعَتِهِ‏.‏ أو لا‏؟‏ وإنْ كان ممَّنْ يستحلُّ ذلكَ لم يقبلْ، وعزا الخطيبُ هذا القولَ للشافعيِّ، لقولِهِ‏:‏ أقبل شَهادةَ أهلِ الأهواءِ، إلاّ الخَطّابيّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لأنَّهم يَرَوْنَ الشهادةَ بالزُّورِ لموافِقِيهم‏.‏ قالَ‏:‏ وحُكِي هذا أيضاً عن ابنِ أبي لَيلَى، والثوريِّ، وأبي يوسفَ القاضي‏.‏ ورَوَى البيهقيُّ في ‏"‏ المدخلِ ‏"‏ عن الشافعيِّ، قال‏:‏ ما في أهلِ الأهواءِ قومٌ أشهدُ بالزُّورِ من الرَّافِضَةِ‏.‏

والقولُ الثالثُ‏:‏ أنَّهُ إنْ كانَ داعيةً إلى بدعتِهِ، لم يقبلْ، وإنْ لم يكنْ داعيةً قُبِلَ‏.‏ وإليهِ ذهبَ أحمدُ، كما قالَ الخطيبُ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وهذا مذهبُ الكثيرِ، أو الأكثر‏.‏ وهو أَعدَلُها وأَوْلاَها‏.‏ قال ابنُ حبّانَ‏:‏ الداعيةُ إلى البدعِ لا يجوزُ الاحتجاجُ به عند أئمتنا قاطبةً، لا أعلمُ بينهم فيه اختلافاً‏.‏ وهكذا حَكَى بعضُ أصحابِ الشافعيِّ أنَّهُ لا خلافَ بين أصحابهِ أنّهُ لا يقبلُ الداعيةُ، وإنَّ الخلافَ بينَهم فيمَنْ لم يَدْعُ إلى بدعتِهِ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏وَنَقَلَ فِيهِ ابنُ حِبَّانَ اتِّفَاقاً‏)‏، أي‏:‏ في رَدِّ روايةِ الداعيةِ، وفي قبولِ غيرِ الداعيةِ أيضاً‏.‏ واقتصرَ ابنُ الصلاحِ على حكايةِ الاتفاقِ عنه في الصورةِ الأولى‏.‏ وأمَّا الثانيةُ فإنهُ قال في ‏"‏ تاريخ الثقاتِ ‏"‏ في ترجمةِ جعفرِ بنِ سُليمانَ الضُّبَعيِّ‏:‏ ليسَ بين أهلِ الحديثِ مِنْ أئمتنا خلافٌ أنَّ الصدوقَ المتقنَ إذا كان فيهِ بدعةٌ، ولم يكن يَدْعُوا إليها أنَّ الاحتجاجَ بأخبارِهِ جائزٌ‏.‏ فإذا دَعَى إلى بِدْعَتِهِ سقطَ الاحتجاجُ بأخبارِهِ‏.‏ وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ لم يحكِه ابنُ الصلاحِ، أنَّهُ تقبلُ أخبارُهم مطلقاً، وإنْ كانوا كفّاراً، أو فُسَّاقاً بالتأويلِ‏.‏ حكاهُ الخطيبُ عن جماعةٍ من أهلِ النَّقْلِ، والمتكلمينَ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وَرَآهُ الأعْدَلا‏)‏، أي‏:‏ ابنُ الصلاحِ‏.‏ وهي جملةٌ معترضةٌ بينَ المبتدأ والخبرِ‏.‏ وفي الصحيحينِ كثيرٌ من أحاديثِ المبتدعةِ غير الدُّعاةِ، احتجاجاً واستشهاداً‏.‏ كعِمرانَ بنِ حِطّانَ، وداودَ بنِ الحُصَينِ، وغيرِهما‏.‏ وفي ‏"‏ تاريخِ نيسابورَ ‏"‏ للحاكمِ في ترجمةِ محمدِ بنِ يعقوبَ بنِ الأخرمِ أنَّ كتابَ مُسْلِمٍ ملآنٌ من الشِّيعةِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وَالخُلْفُ في مُبتَدِعٍ مَا كُفِّرَا‏)‏، احترازٌ عن المبتدعِ الذي يُكَفَّرُ ببدعتِهِ، كالمجسمِةِ إنْ قلنا بتكفيرِهم على الخلافِ فيه‏.‏ فإنَّ ابنَ الصلاحِ لم يحكِ فيه خلافاً‏.‏ وحكاهُ الأصوليونَ، فذهب القاضي أبو بكرٍ إلى رَدِّ روايتِهِ مطلقاً، كالكافرِ المخالَفِ، والمسلمِ الفاسقِ‏.‏ ونقَلهُ السيفُ الآمديُّ عن الأكثرينَ وبهِ جزمَ أبو عمرِو بنِ الحاجبِ‏.‏ وقالَ صاحبُ ‏"‏ المحصولِ ‏"‏‏:‏ الحقَّ أنّهُ إنِ اعتقَدَ حرمةَ الكذبِ، قَبِلْنَا روايتَهُ، وإلا فلا؛ لأنَّ اعتقادَ حرمةِ الكذبِ يمنعُهُ مِنْهُ، واللهُ أعلمُ‏.‏

‏[‏رواية مَنْ تَعمَّدَ الكَذِبَ في حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏]‏

299‏.‏ وَ ‏(‏لِلحُمَيْدِيْ‏)‏ وَالإمَامِ ‏(‏أحْمَدَا‏)‏ *** بأنَّ مَنْ لِكَذِبٍ تَعَمَّدا

300‏.‏ أيْ فِي الحَدِيْثِ، لَمْ نَعُدْ نَقْبَلُهُ *** وَإنْ يَتُبْ، وَ ‏(‏الصَّيْرَفِيِّ‏)‏ مِثْلُهُ

301‏.‏ وَأطْلَقَ الكِذْبَ، وَزَادَ‏:‏ أنَّ مَنْ *** ضُعِّفَ نَقْلاً لَمْ يُقَوَّ بَعْدَ أنْ

302‏.‏ وَلَيْسَ كَالشَّاهِدِ، وَ ‏(‏السَّمْعَانِيْ *** أبُو المُظَفَّرِ‏)‏ يَرَى فِي الجَانِيْ

303‏.‏ بِكَذِبٍ فِي خَبَرٍ إسْقَاطَ مَا *** لَهُ مِنَ الحَدِيْثِ قَدْ تَقدَّمَا

مَنْ تَعمَّدَ كَذِباً في حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإنهُ لا تُقبلُ روايتُهُ أبداً، وإن تابَ، وحسنُتْ توبَتُهُ، كما قالَهُ غيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ، منهم‏:‏ أحمدُ بنُ حنبلٍ، وأبو بكرٍ الحُمَيديُّ‏.‏

أمَّا الكذبُ في حديثِ الناسِ، وغيرِهِ من أسبابِ الفِسْقِ‏.‏ فإنّهُ تقبلُ روايةُ التائبِ منهُ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وأطلقَ الإمامُ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ الشافعيُّ فيما وَجَدْتُ له في «شرحِهِ لرسالةِ الشافعيِّ» فقال‏:‏ كُلُّ مَنْ أسقطنا خبَرهُ من أهلِ النَّقْلِ بكذبٍ، وجدناهُ عليه، لم نَعُدْ لِقَبُوْلِهِ بتوبةٍ تظهرُ‏.‏ ومَنْ ضعَّفنَا نقلَهُ لم نجعلْهُ قويّاً بعدَ ذلكَ‏.‏ وذَكَرَ أنَّ ذلكَ ممَّا افترقَتْ فيه الروايةُ والشهادةُ‏.‏ قلتُ‏:‏ الظاهرُ أنَّهُ إنّما أرادَ الكذبَ في حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لا مطلقاً‏.‏ بدليلِ قولِهِ‏:‏ من أهلِ النَّقْلِ، أيْ‏:‏ للحديثِ‏.‏ ويدلُّ على ذلكَ أنَّهُ قيدَ ذلك بالمحدِّثِ فيما رأيتُه في كتابِ ‏"‏الدلائلِ و الاعلامِ‏"‏، فقال‏:‏ وليس يطعنُ على المحدِّثِ إلاّ أنْ يقولَ‏:‏ عَمَدْتُ الكَذِبَ، فهو كاذبٌ في الأوّلِ، ولا يُقبلُخبَرُهُ بعدَ ذلكَ‏.‏ انتهى‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏والصيرفِيِّ‏)‏، هو مجرورٌ عَطْفَاً على قولِهِ‏:‏ ‏(‏وللحميديْ‏)‏، وقولي‏:‏ ‏(‏بعدَ أنْ‏)‏، أيْ‏:‏ بعدَ أنْ ضُعِّفَ‏.‏ فحذفَ لدلالةِ ضُعِّفَ المتقدّمةِ عليهِ‏.‏ وذكرَ أبو المظفرِ السَّمْعَانيُّ‏:‏ أنَّ مَنْ كَذَبَ في خبرٍ واحدٍ وجبَ إسقاطُ ما تَقَدَّمَ مِنْ حديثِهِ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وهذا يُضاهي مِنْ حيثُ المعنى ما ذكرَهُ الصَّيْرفيُّ‏.‏

‏[‏إذا روى ثقةٌ عن ثقةٍ حديثاً فكذَّبَهُ المُرْوَى عنهُ صريحاً‏]‏

304‏.‏ وَمَنْ رَوَى عَنْ ثِقَةٍ فَكَذَّبَهْ *** فَقَدْ تَعَارَضَا، وَلَكِنْ كَذِبَهْ

305‏.‏ لاَ تُثْبِتَنْ بِقَوْلِ شَيْخِهِ، فَقَدْ *** كَذَّبَهُ الآخَرُ، وَارْدُدْ مَا جَحَدْ

306‏.‏ وَإنْ يَرُدَّهُ بِـ ‏(‏لاَ أذْكُرُ‏)‏ أوْ *** مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ، فَقَدْ رَأوْا

307‏.‏ الحُكْمَ لِلذَّاكِرِ عِنْدَ المُعْظَمِ *** وَحُكِيَ الإسْقَاطُ عَنْ بَعْضِهِمِ

308‏.‏ كَقِصَّةِ الشَّاهِدِ واليَمِيْنِ إذْ *** نَسِيَهُ ‏(‏سُهَيْلٌ‏)‏ الَّذِي أُخِذْ

309‏.‏ عَنْهُ، فَكَانَ بَعْدُ عَنْ ‏(‏رَبِيْعَهْ‏)‏ *** عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيْهِ لَنْ يُضِيْعَهْ

310‏.‏ وَ ‏(‏الشَّافِعي‏)‏ نَهَى ‏(‏ابْنَ عَبْدِ الحَكَمِ‏)‏ *** يَرْوِي عَنِ الحَيِّ لخَوْفِ التُّهَمِ

إذا روى ثقةٌ عن ثقةٍ حديثاً فكذَّبَهُ المُرْوَى عنهُ صريحاً، كقولِهِ‏:‏ كَذَبَ عليَّ، أو بنفيٍ جازم، كقولِهِ‏:‏ ما رويتُ هذا لهُ‏.‏ فقدْ تعارضَ قولُهما، فيردُّ ما جحَدَهُ الأصلُ؛ لأنَّ الراوي عنه فرعُهُ‏.‏ ولكن لا يَثْبُتُ كذبُ الفَرْعِ بتكذيبِ الأصلِ له في غيرِ هذا الذي نفاهُ، بحيثُ يكونُ ذلك جرحاً للفرعِ؛ لأنَّهُ أيضاً مُكَذِّبٌ لشَيخِهِ في نَفْيهِ لذلكَ‏.‏ وليسَ قَبولُ جَرْحِ كُلٍّ منهما بأوْلى من الآخرِ فتَساقَطا‏.‏

وقولي في آخرِ البيتِ‏:‏ ‏(‏كَذِبَهْ‏)‏، مفعولٌ مقدّمٌ لقولي‏:‏ ‏(‏لاَ تُثْبِتَنْ‏)‏‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏وَارْدُدْ مَا جَحَدْ‏)‏ أي‏:‏ اردُدْهُ من حيثُ الفرعُ إذا نفى الأصلُ تحديثَهُ للفرعِ به خاصّةً ولا يردُّ من حيثُ الأصلُ نفسهُ إذا حدَّثَ به، كما صرَّحَ بهِ القاضي أبو بكرٍ فيما حكاهُ الخطيبُ عنه‏.‏ وكذا إذا حَدَّثَ به فرعٌ آخرُ ثقةٌ عنه، ولم يكذبْهُ الأصلُ، فهو مقبولٌ، وهذا واضحٌ‏.‏ أما إذا لم يكذبْهُ الأصلُ صريحاً، ولكنْ قالَ‏:‏ لا أذكرُهُ، أو لا أعْرِفُهُ، ونحوَ ذلكَ ممّا يقتضي جوازَ أنْ يكونَ نَسِيَهُ، فذلكَ لا يقتضي رَدَّ روايةِ الفرعِ عنهُ‏.‏ ومَعَ ذلكَ فقد اختُلفَ فيه هل يكونُ الحكمُ للفرعِ الذاكرِ، أو للأصلِ الناسي‏؟‏ فذهبَ جمهورُ أهلِ الحديثِ، وجمهورُ الفقهاءِ، والمتكلِّمينَ إلى قبولِ ذلكَ‏.‏ وأنَّ نسيانَ الأصلِ لا يُسقِطُ العملَ بما نسيَه‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وهو الصحيحُ‏.‏ وذهبَ بعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ إلى إسقاطِهِ بذلك، وحكاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في ‏"‏ العُدَّة ‏"‏ عن أصحابِ أبي حنيفةَ‏.‏

مثالُهُ‏:‏ حديثٌ رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ، وابنُ ماجه من روايةِ ربيعةَ بنِ أبي عبدِ الرحمنِ، عن سُهيلٍ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قَضَى باليمينِ معَ الشاهدِ»‏.‏ زادَ أبو دوادَ في روايةٍ‏:‏ أنَّ عبدَ العزيزِ الدَّراوَرديَّ، قال‏:‏ فذكرتُ ذلك لسهيلٍ، فقال‏:‏ أخبرني ربيعةُ- وهو عندي ثقةٌ- أَنِّي حَدَّثْتُهُ إيّاهُ، ولا أحفظُهُ‏.‏ قالَذذ عبدُ العزيزِ‏:‏ وقدْ كانَ أصابتْ سهيلاً علّةٌ أذهبَتْ بعضَ عقلِهِ، ونسيَ بعضَ حديثِهِ‏.‏ فكانَ سهيلٌ بعدُ يُحدِّثهُ، عن ربيعةَ عنه، عن أبيهِ‏.‏

ورواهُ أبو داودَ أيضاً من روايةِ سليمانَ بنِ بلالٍ، عن ربيعةَ، قالَ سليمانُ‏:‏ فلقيتُ سهيلاً، فسألتُهُ عن هذا الحديثِ، فقال‏:‏ ما أعرفُهُ‏.‏ فقلتُ لهُ‏:‏ إنَّ ربيعةَ أخبرني بهِ عنكَ‏.‏ قال‏:‏ فإنْ كانَ ربيعةُ أخبركَ عَنِّي، فحدِّثْ به عَنْ ربيعةَ عَنِّي‏.‏

وقد مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ بحديثٍ آخرَ، تركتُ التمثيلَ به لما سأذكرُهُ‏.‏وَهُوَ حديثٌ رواه الثلاثةُ المذكورونَ من روايةِ سليمانَ بنِ موسى، عن الزهريِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ رضي اللهُ عنها مرفوعاً‏:‏ «إذا نُكِحَتِ المرأةُ بغيرِ إذْنِ وَليِّها، فنِكاحُها باطلٌ»فذكرَ الترمذيُّ‏:‏ أنَّ بعضَ أهلِ الحديثِ ضعَّفَهُ من أجلِ أنَّ ابنَ جُريجٍ قَالَ‏:‏ ثُمَّ لقيتُ الزهريَّ، فسألتُهُ فأنكَرَهُ‏.‏

وإنّما تركتُ التمثيلَ بهذا المثالِ؛ لعدم صحةِ إنكارِ الزهريِّ لَهُ‏.‏ فَقَدْ ذَكَرَ الترمذيُّ بعدَهُ عن ابنِ مَعِينٍ أنَّهُ لَمْ يذكرْ هَذَا الحرفَ عَلَى ابنِ جريجٍ، إلاّ إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وسَمَاعُهُ عن ابنِ جريجٍ ليسَ بذاكَ‏.‏ إنّما صَحَّحَ كُتُبَهُ عَلَى كتبِ عبدِ المجيدِ بنِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي رَوَّادٍ، ما سمعَ من ابنِ جُريجٍ‏.‏ وضَعَّفَ يَحْيَى روايةَ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ، عن ابنِ جريجٍ‏.‏ وَقَدْ جمعَ غيرُ واحدٍ من الأئمةِ أخبارَ مَنْ حَدَّثَ، ونَسِيَ، مِنْهُمْ‏:‏ الدارقطنيُّ، والخطيبُ، قالَ الخطيبُ في ‏"‏ الكفايةِ ‏"‏‏:‏ ولأجلِ أنَّ النسيانَ غيرُ مأمونٍ عَلَى الإنسانِ، فيبادرُ إِلَى جحودِ ما رُوي عَنْهُ، وتكذيبِ الرَّاوِي لَهُ، كَرِهَ مَنْ كَرِهَ من العلماءِ التحديثَ عن الأحياءِ‏.‏ ثُمَّ رَوَى عن الشعبيِّ أنّهُ قَالَ لابنِ عَوْنٍ‏:‏ لا تحدّثْعن الأحياءِ‏.‏ وعن مَعْمَرٍ أنّهُ قالَ لعبدِ الرزاقِ‏:‏ إنْ قَدَرْتَ ألاّ تحدِّثَ عن رجلٍ حيٍّ فافعلْ‏.‏وعن الشافعيِّ أنَّهُ قَالَ لابنِ عبدِ الحكم‏:‏ إيَّاكَ والروايةَ عن الأحياءِ‏.‏ وفي روايةِ البيهقيِّ في ‏"‏ المدخلِ ‏"‏‏:‏ لا تُحدِّثْ عن حيٍّ، فإنَّ الحيَّ لا يؤمَنُ عَلَيْهِ النسيانُ، قالَه لهُ حينَ رَوَى عنِ الشافعيِّ حكايةً فأنكرَها، ثُمَّ ذكرَها‏.‏

‏[‏رواية مَنْ أخذَ على التحديثِ أجرا‏]‏

311‏.‏ وَمَنْ رَوَى بأُجْرَةٍ لَمْ يَقْبَلِ *** ‏(‏إسْحَاقُ‏)‏ و ‏(‏الرَّازِيُّ‏)‏ و ‏(‏ابْنُ حَنْبَلِ‏)‏

312‏.‏ وَهْوَ شَبيْهُ أُجْرَةِ القُرْآنِ *** يَخْرِمُ مِنْ مُرُوْءةِ الإنْسَانِ

313‏.‏ لَكِنْ ‏(‏أبُوْ نُعَيْمٍ الفَضْلُ‏)‏ أَخَذْ *** وَغَيْرُهُ تَرَخُّصَاً، فإنْ نَبَذْ

314‏.‏-شُغْلاً بِهِ- الكَسْبَ أجِزْ إرْفَاقَا *** أفْتَى بِهِ الشَّيْخُ ‏(‏أبُوْ إسْحَاقا‏)‏

اختلفوا في قَبولِ روايةِ مَنْ أخذَ على التحديثِ أجراً‏.‏ فذهبَ أحمدُ وإسحاقُ وأبو حاتِمٍ الرازيُّ، إلى‏:‏ أنَّهُ لا يقبلُ‏.‏ورَخَّصَ في ذلكَ آخرون، منهم‏:‏ أبو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ، شيخُ البخاريِّ، وعليُّ بنُ عبدِ العزيزِ البغويُّ، فأَخَذُوا العِوَضَ علىالتحديثِ‏.‏قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وذلكَ شبيهٌ بأخْذِ الأُجرةِ على تعليمِ القرآنِ ونحوِهِ‏.‏ غيرَ أنَّ في هذا مِنْ حيثُ العرفُ خَرْماً للمروءةِ، والظنُّ، يُساءُ بفاعلِهِ، إلاّ أنْ يَقترنَ ذلكَ بعُذرٍ يَنْفِي ذلكَ عنه‏.‏كمثِل ما حدَّثنيه الشيخُ أبو المُظفّرِ، عن أبيهِ الحافظِ أبي سعدٍ السَّمْعانيِّ أنَّ أبا الفضلِ محمدَ بنَ ناصرٍ، ذكرَ أنَّ أبا الحُسينِ بنَ النَّقُوُّرِ فعَلَ ذلكَ لأنَّ الشيخَ أبا إسحاقَ الشّيرازيَّ، أفتاهُ بجوازِ أخذِ الأُجرةِ على التحديثِ؛لأنَّ أصحابَ الحديثِ كانوا يمنعونَهُ عن الكسبِ لعيالِهِ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏يَخْرِمُ من مروءةِ الإنسانِ‏)‏، أي‏:‏ أخْذَ الأُجرةِ على التحديثِ، لا على القرآنِ‏.‏ فعلى هذا يكونُ يَخْرِمُ خبراً بعدَ خبرٍ‏.‏

‏[‏روايةُ مَنْ عُرِفَ بالتساهُلِ في سماعِ الحديثِ وتحمُّلِهِ‏]‏

315‏.‏ وَرُدَّ ذُوْ تَسَاهُلٍ في الحَمْلِ *** كَالنَّوْمِ وَالأدَا كَلاَ مِنْ أصْلِ

316‏.‏ أوْ قَبِلَ التَّلقِيْنَ، أوْ قَدْ وُصِفَا *** بِالمُنْكَرَاتِ كَثْرَةً، أوْ عُرِفَا

317‏.‏ بِكَثْرَةِ السَّهْوِ، وَمَا حَدَّثَ مِنْ *** أصْلٍ صَحِيْحٍ فَهْوَ رَدٌّ، ثُمَّ إنْ

318‏.‏ بُيِّنْ لَهُ غَلَطُهُ فَمَا رَجَعْ *** سَقَطَ عِنْدَهُمْ حَدِيْثُهُ جُمَعْ

319‏.‏ كَذَا ‏(‏الحُمَيْدِيُّ‏)‏ مَعَ ‏(‏ابْنِ حَنْبَلِ‏)‏ و ‏(‏ابْنِ المُبَارَكِ‏)‏ رَأَوْا فِي العَمَلِ

320‏.‏ قَالَ‏:‏ وَفيهِ نَظَرٌ، نَعَمْ إذَا *** كَانَ عِنَادَاً مِنْهُ مَا يُنْكَرُ ذَا

أي‏:‏ وردوا روايةَ مَنْ عُرِفَ بالتساهُلِ في سماعِ الحديثِ وتحمُّلِهِ، كالنومِ أي‏:‏ كمَنْ ينامُ هو، أو شيخُهُ في حالةِ السماعِ، ولا يُبالي بذلك‏.‏ وكذلك رَدُّوا روايةَ مَنْ عُرفَ بالتساهُلِ في حالةِ الأداءِ للحديثِ، كأنْ يؤدي لا مِنْ أصلٍ صحيحٍ مُقَابَلٍ على أصلهِ، أو أصلِ شيخِهِ، على ما سيأتي‏.‏

وكذا ردُّوا روايةَ مَنْ عُرفَ بقبولِ التَّلقِيْنِ في الحديثِ، وهو أنْ يُلَقَّنَ الشيءَ فيُحدِّثَ بهِ من غيرِ أنْ يَعلمَ أنَّهُ من حديثِهِ‏.‏ كموسى بنِ دينارٍ ونحوِهِ‏.‏ وكذلكَ رَدُّوا حديثَ مَنْ كَثُرَتِ المناكيرُ والشواذُّ في حديثِهِ، كما قالَ شعبةُ‏:‏ لا يجيئكَ الحديثُ الشاذُّ إلا من الرجلِ الشاذِّ‏.‏ وقيل له أيضاً‏:‏ مَنْ الذي تُتْرَكُ الروايةُ عنه‏؟‏ قال‏:‏ إذا أكثرَ عن المعروفِ من الروايةِ ما لا يُعرَفُ من حديثِهِ، وأكثرَ الغلط‏.‏

وكذلك رَدُّوا روايةَ مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهوِ في رواياتِهِ إذا لم يحدِّثْ من أصلٍ صحيحٍ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏وما حَدَّثَ مِنْ أصلٍ‏)‏، هو في موضعِ الحالِ، أَيْ‏:‏ ورُدَّ حديثُ مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهْوِ في حالِ كونِهِ ما حدَّثَ مِنْ أصلٍ صحيحٍ‏.‏ أما إذا حدَّثَ من أصلٍ صحيحٍ فالسماعُ صحيحٌ، وإنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهوِ؛ لأنَّ الاعتمادَ حينئذٍ على الأصلِ، لا على حفظِهِ‏.‏ قال الشافعيُّ في ‏"‏الرسالةِ‏"‏‏:‏ من كثُرَ غلطُهُ من المحدِّثينَ، ولم يَكُنْ له أصلُ كتابٍ صحيحٍ، لم يُقبلْ حديثُهُ، كما يكونُ مَنْ أكثرَ الغلطَ في الشهاداتِ لم تُقْبَلْ شهادتُهُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏فهو رَدُّ‏)‏، أي‏:‏ مردودٌ‏.‏

وأمَّا مَنْ أصرَّ على غَلَطِهِ بعدَ البيانِ، فوردَ عن ابنِ المباركِ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، والحُميديِّ، وغيرِهم، أنَّ مَنْ غَلِطَ في حديثٍ، وبُيِّنَ له غلطُهُ، فلم يرجعْ عنه وأصَرَّ على روايةِ ذلك الحديثِ، سقطَتْ رواياتُهُ، ولم يُكتَبْ عنه‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وفي هذا نظرٌ، وهو غيرُ مستنْكَرٍ، إذا ظهرَ أنَّ ذلك منه على جِهَةِ العِنَادِ، أو نحوِ ذلكَ‏.‏ وقالَ ابنُ مهديٍّ لشُعبةَ‏:‏ مَنِ الذي تَتْركُ الروايةَ عنه‏؟‏ قَالَ‏:‏ إذا تمادَى في غَلَطٍ مُجتمعٍ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَّهِم نفسَهُ عندَ اجتماعِهِم عَلَى خلافِهِ، أو رجلٌ يُتَّهَمُ بالكذبِ‏.‏ وَقَالَ ابنُ حبّانَ‏:‏ إنْ بُيِّنَ لَهُ خطؤهُ، وعَلِمَ، فلمْ يَرْجَعْ عَنْهُ، وتمادَى في ذلكَ كانَ كَذَّاباً بعلمٍ صحيحٍ‏.‏

‏[‏ما يُكْتَفَى به في أهليةِ الشيخِ وضبط الراوي‏]‏

321‏.‏ وَأعْرَضُوا فِي هَذِهِ الدُّهُوْرِ *** عَنِ اجتِمَاعِ هَذِهِ الأمُوْرِ

322‏.‏ لِعُسْرِهَا، بَلْ يُكْتَفَى بِالعَاقِلِ *** المُسْلِمِ البَالِغِ، غَيْرِ الفَاعِلِ

323‏.‏ لِلفِسْقِ ظَاهِراً، وَفِي الضَّبْطِ بأنْ *** يُثْبِتَ مَا رَوَى بِخَطِّ مُؤْتَمَنْ

324‏.‏ وَأنَّهُ يَرْوِي مِنَ اصْلٍ وَافَقَا *** لأصْلِ شَيْخِهِ، كَمَا قَدْ سَبَقَا

325‏.‏ لِنَحْوِ ذَاكَ ‏(‏البَيْهَقِيُّ‏)‏، فَلَقَدْ *** آلَ السَّمَاعُ لِتَسَلْسُلِ السَّنَدْ

أعرضَ الناسُ في هذهِ الأعصارِ المتأخّرةِ، عن اعتبارِ مجموعِ هذهِ الشروطِ لعُسْرِها، وتعذُّرِ الوَفاءِ بها، فيُكْتَفَى في أهليةِ الشيخِ بكونِهِ مُسلِماً بالغاً عاقلاً، غيرَ متظاهرٍ بالفِسْقِ، وما يخرمُ المروءةَ، على ما تقدَّمَ‏.‏ ويُكتَفَى في اشتراطِ ضَبْطِ الراوي بوجودِ سَماعِهِ متثبتاً بخطِّ ثقةٍ غيرِ مُتَّهَمٍ، وبروايتِهِ مِنْ أصلٍ موافقٍ لأصلِ شيخِهِ‏.‏ وقد سبقَ إلى نحوِ ذلكَ البيهقيُّ لمّا ذكرَ تَوَسُّعَ منْ تَوَسَّعَ في السماعِ مِنْ بعضِ محدِّثِي زمانِهِ الذينَ لا يَحْفَظُونَ حديثَهُم، ولا يُحْسِنُونَ قراءَتَهُ مِنْ كُتُبِهم، ولا يعرفُونَ ما يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أنْ تكونَ القراءةُ عليهم مِنْ أصْلِ سماعِهِم، وذلكَ لتدوينِ الأحاديثِ في الجوامعِ التي جمعَها أئمّةُ الحديثِ‏.‏ قالَ فَمَنْ جاءَ اليومَ بحديثٍ لا يُوجَدُ عندَ جميعِهم، لم يُقْبَلْ منه‏.‏ ومَنْ جَاءَ بحديثٍ معروفٍ عندَهُم، فالذي يرويهِ لا ينفردُ بروايتِهِ، والحجّةُ قائمةٌ بحديثِهِ، بروايةِ غيرِهِ‏.‏ والقَصْدُ من روايتِه والسماعِ منه، أنْ يصيرَ الحديثُ مُسَلْسَلاً بـ‏:‏ حَدَّثَنا، وأخبرنا‏.‏ وتبقى هذهِ الكرامةُ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأمةُ شَرَفاً لِنبيِّنا صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكذلكَ قالَ السِّلَفِيُّ في جزءٍ لهُ جمَعَهُ في ‏"‏شرطِ القراءةِ‏"‏‏:‏ إنَّ الشيوخَ الذينَ لا يَعرفُونَ حديثَهم الاعتمادُ في روايتِهم على الثِّقةِ المقيّدِعنهم لا عليهم‏.‏وإنَّ هذا كُلَّهُ توسُّلٌ من الحفّاظِ إلىحفظِ الأسانيدِ، إذ ليسوا من شرطِ الصحيحِ، إلاّ على وجهِ المتابعةِ، ولولا رُخصةُ العلماءِ؛لما جازتِ الكتابةُ عنهم، ولا الروايةُ إلاّ عن قومٍ منهم دونَ آخرينَ‏.‏ انتهى‏.‏وهذا هو الذي استقرَّ عليه العملُ‏.‏ قالَ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ ‏"‏الميزان‏"‏‏:‏ العمدةُ في زمانِنا ليسَ على الرواةِ، بل على المحدِّثينَ، والمقيِّدينَ، الذين عُرِفَتْ عدالتُهم وصدقُهم في ضَبْطِ أسماءِ السَّامِعِيْنَ‏.‏ قال‏:‏ ثُمَّ مِنَ المَعلُومِ أنَّهُ لابُدَّ من صَوْنِ الراوي وسَتْرِهِ‏.‏