فصل: الْعَالِي وَالنَّازِلُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***


الْعَالِي وَالنَّازِلُ

‏[‏طلبُ الإسنادِ العالي سُنَّةٌ‏]‏

737‏.‏ وَطَلَبُ الْعُلُوِّ سُنَّةٌ وَقَدْ *** فَضَّلَ بَعْضٌ النُّزُوْلَ وَهْوَ رَدّْ

738‏.‏ وَقَسَّمُوْهُ خَمْسَةً فَالأَوَّلُ *** قُرْبٌ مِنَ الرَّسُوْلِ وَهْوَ الأَفْضَلُ

739‏.‏ إِنْ صَحَّ الاسْنَادُوَقِسْمُ القُرْبِ *** إلى إِمَامٍ وَعُلُوٍّ نِسْبِي

740‏.‏ بِنِسْبَةٍ لِلْكُتُبِ السِّتَّةِ إِذْ *** يَنْزِلُ مَتْنٌ مِنْ طَرِيْقِهَا أُخِذْ

روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالَ‏:‏ طلبُ الإسنادِ العالي سُنَّةٌ عمَّنْ سلفَ‏.‏ وروينا عن محمدِ بنِ أسلمَ الطوسيِّ، قالَ‏:‏ قُرْبُ الإسنادِ قُرْبٌ، أو قُرْبَةٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ‏.‏ وقالَ الحاكمُ‏:‏ «وفي طلبِ الإسناد العالي سُنَّةٌ صحيحةٌ، فذكرَ حديثَ أنسٍ في مجيءِ الأعْرَابيِّ، وقولهِ‏:‏ يا محمدُ، أَتَانا رَسُولُكَ فَزَعَمَ كذا،‏.‏‏.‏‏.‏ الحديثَ‏.‏ قالَ‏:‏ ولو كانَ طلبُ العُلُوِّ في الإسنادِ غيرَ مستحَبٍّ لأنكرَ عليهِ سؤالَهُ عمَّا أخبرَهُ رسولُهُ عنهُ، ولأَمَرَهُ بالاقتصارِ على ما أخبرَهُ الرسولُ عنهُ»‏.‏ ولم يحكِ الحاكمُ خلافاً في تفضيلِ العُلُوِّ، وحكاهُ ابنُ خَلاَّدٍ، ثُمَّ الخطيبُ، فحكيا عن بعضِ أهلِ النَّظَرِ‏:‏ أنَّ التَّنَزُّلَ في الإسنادِ أفضلُ؛ لأنَّهُ يجبُ عَلَى الرَّاوِي أَنْ يجتهدَ في مَتْنِ الحديثِ، وتأويلهِ، وفي الناقلِ وتَعديلهِ، وكلَّما زادَ الاجتهادُ زادَ صاحبُهُ ثواباً‏.‏ قالَ ابنُ خَلاَّدٍ‏:‏ «وهذا مذهبُ مَنْ يزعُمُ أَنَّ الخبرَ أقوى مِنَ القياسِ»‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وهذا مذهبٌ ضعيفُ الحجَّةِ»‏.‏ قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ‏:‏ لأنَّ كثرةَ المشقةِ ليستْ مطلوبةً لنفسِها، قالَ‏:‏ «ومراعاةُ المعنى المقصودِ من الروايةِ، وَهُوَ الصحةُ أوْلَى»‏.‏ قلتُ‏:‏ وهذا بمثابةِ مَنْ يَقْصِدُ المسجدَ لصلاةِ الجماعةِ، فيسلُكُ طريقةً بعيدةً لتكثير الخُطَا، وإنْ أدَّاهُ سلوكُها إلى فواتِ الجماعةِ التي هي المقصودُ‏.‏ وذلكَ أنَّ المقصودَ من الحديثِ التَّوَصُّلُ إلى صحَّتِهِ وبُعْدُ الوَهَمِ‏.‏ وكلَّما كثُرَ رجالُ الإسنادِ تطرَّقَ إليهِ احتمالُ الخطأ والخلَلِ، وكلَّما قَصُرَ السندُ كانَ أسلمَ‏.‏ اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يكونَ رجالُ السندِ النازلِ، أوثقَ، أو أحفظَ، أو أفقهَ، ونحوَ ذلكَ، على ما سيأتي في آخرِ هذا الفصلِ‏.‏

‏[‏أقسام العلوِّ في الإسنادِ‏]‏

ثمَّ العلوُّ في الإسنادِ على خمسةِ أقسامٍ، كما قَسَّمَهُ أبو الفضلِ محمدُ بنُ طاهرٍ في جزءٍ لَهُ، أفردَهُ لذلكَ، وتبعَهُ ابنُ الصَّلاحِ على كونِها خمسةَ أقسامٍ، وإنِ اختلفَ كلامُهُمَا في مَاهِيَّةِ بعضِ الأقسامِ، كما سيأتي‏.‏

القسمُ الأولُ‏:‏ القربُ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ حيثُ العددُ بإسنادٍ نظيفٍ غيرِ ضعيفٍ‏.‏ وإليهِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏إنْ صَحَّ الاسنادُ‏)‏، فأمَّا إذا كانَ قربُ الإسنادِ مع ضعفِ بعضِ الرواةِ، فلا التفاتَ إلى هذا العلوِّ، لا سِيَّمَا إنْ كانَ فيهِ بعضُ الكذَّابينَ المتأخِّرِينَ ممَّنْ ادَّعَى سماعاً من الصحابةِ، كإبراهيمَ بنِ هُدْبَةَ، ودينارِ بنِ عبدِ اللهِ، وخراشٍ، ونُعَيمِ بنِ سالمٍ، ويَعْلَى بنِ الأشْدَقِ وأبي الدنيا الأشجِّ، ونحوِهم‏.‏ قالَ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ في ‏"‏ الميزانِ ‏"‏‏:‏ «متى رأيتَ المحدِّثَ يفرحُ بعوالي أبي هُدْبَةَ، ويَعْلَى بنِ الأشْدَقِ، وموسى الطويلِ، وأبي الدنيا، وهذا الضربِ، فاعلمْ أنَّهُ عَامِيٌّ بعدُ»‏.‏ وهذا القسمُ الأوَّلُ هوَ أفضلُ أنواعِ العُلُوِّ، وأجلُّها، وأعْلَى ما يقعُ للشيوخِ في هذا الزمانِ من الأحاديثَ الصِّحَاحِ المتصلةِ بالسَّمَاعِ؛ ما هُوَ تُساعيُّ الإسنادِ، ولا يقعُ ذلكَ في هذهِ الأزمانِ إلاَّ مِنَ ‏"‏ الغَيْلانياتِ ‏"‏، و‏"‏ جُزْءِ الأنصاريِّ ‏"‏، و‏"‏ جُزْءِ الغِطْريفِ ‏"‏ فقطْ‏.‏ أو ما هوَ مأخوذٌ مِنْهَا‏.‏ ولا يقعُ لأَمثالنِا من الصحيحِ المتصلِ بالسماعِ، إلاَّ عُشاريُّ الإسنادِ، وَقَدْ يقعُ لنا التساعيُّ الصحيحُ، وَلَكِنْ بإجازةٍ في الطريقِ، واللهُ أعلمُ‏.‏

وقولُ الذهبيِّ في ‏"‏ تأريخ الإسلامِ ‏"‏ في ترجمةِ ابنِ البخاريِّ‏:‏ وهو آخرُ مَنْ كانَ في الدنيا بينَهُ وبينَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمانيةُ رجالٍ ثقاتٍ، فإنَّهُ يريدُ معَ اتصالِ السماعِ‏.‏ أمَّا مَعَ الإجازةِ فقدْ تأخّرَ بعدَهُ جماعةٌ، واللهُ أعلمُ‏.‏

والقسمُ الثاني من أقسامِ العلوِّ‏:‏ القربُ إلى إمامٍ من أئِمَّةِ الحديثِ، كالأعمشِ وهشيمٍ، وابنِ جريجٍ، والأوزاعيِّ، ومالكٍ، وسفيانَ، وشعبةَ، وزُهيرٍ، وحمَّادَ بنِ زيدٍ، وإسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ، وغيرِهمِ من أئِمَّةِ الحديثِ‏.‏ وكلامُ الحاكمِ يشيرُ إلى ترجيحِ هذا القسمِ على غيرِهِ، وأنَّهُ المقصودُ من العلُوِّ، وإنما يوصفُ بالعلوِّ إذا صحَّ الإسنادُ إلى ذلكَ الإمامِ بالعددِ اليسيرِ، كما صرَّحَ بهِ الحاكمُ، وهو كذلكَ، كما مَرَّ في القسمِ الأوَّلِ‏.‏ وأعلى ما يقعُ اليومَ للشيوخِ بيَنهمُ وبينَ هؤلاءِ الأئِمَّةِ مِنْ حيثُ العددُ معَ صحةِ السَّنَدِ، واتِّصَالِهِ بالسَّماعِ أَنَّ بينَهمُ وبينَ الأعمشِ وهشيمٍ، وابنِ جُرَيْجٍ، والأوزاعيِّ، ثمانيةً‏.‏ وبينَهمُ وبينَ مالكٍ والثوريِّ، وشعبةَ، وزهيرٍ، وحمَّادِ بنِ سلمةَ، سبعةٌ، وبينَهم وبينَ ابنِ عُلَيَّةَ ستةٌ‏.‏ وقدْ سَاوينا الشُّيُوخَ بالنسبةِ إلى هشيمٍ، فبيننا وبينَهُ سبعةٌ بالسَّمَاعِ الصَّحيحِ المتصلِ‏.‏

والقسمُ الثالثُ‏:‏ العلوُّ المقيَّدُ بالنسبةِ إلى روايةِ الصحيحينِ، وبقيةِ الكتبِ السِّتَّةِ‏.‏ وسَمَّاهُ ابنُ دقيقِ العيدِ‏:‏ علوَّ التنزيلِ، ولم يذكرِ ابنُ طاهرٍ هذا القسمَ، وجعلَ القسمَ الثالثَ‏:‏ علوَّ تَقدُّمِ السَّمَاعِ، وجمعَ بينَهُ وبينَ قسمِ تقدُّمِ الوفاةِ، فجعلهُمَا قسماً واحداً، كما سيأتي ولكنَّ هذا القسمَ يؤخذُ من كلامِ ابنِ طاهرٍ في آخرِ الجزءِ المذكورِ، وإنْ لم يذكرْهُ في الأقسامِ‏.‏ وليسَ هذا علوّاً مطلقاً في جميعِ هذا القسمِ، وإنّما هو بالنسبةِ لهذهِ الكتبِ، إذ الراوي لَوْ رَوَى الحديثَ من طريقِ كتابٍ مِنَ السِّتَّةِ يقعُ أنزلَ مِمَّا لو رواهُ من غيرِ طريقِهَا، وقد يكونُ عالياً مطلقاً أيضاً، مثالُهُ‏:‏ حديثٌ رواهُ الترمذيُّ لابنِ مسعودٍ مرفوعاً‏:‏ يومَ كلَّمَ اللهُ موسى كانتْ عليهِ جُبَّةُ صُوْفٍ … الحديثَ‏.‏ رواهُ الترمذيُّ عن عليٍّ بنِ حُجْرٍ عن خَلَفِ بنِ خَليفةَ‏.‏ فلو رويناهُ من طريقِ الترمذيِّ وقعَ بينَنَا وبينَ خَلَفٍ تسعةٌ، فإذا رويناهُ من ‏"‏ جزءِ ابنِ عرفَةَ ‏"‏، وقعَ بيننا وبينَه سبعةٌ بعلوِّ درجتينِ‏.‏ فهذا معَ كونهِ علواً بالنسبةِ، فهو أيضاً علوٌّ مطلقٌ، ولا يقعُ اليومَ لأحدٍ هذا الحديثُ أعلى من هذا، وكلُّ واحدٍ منْ شَيْخِنا فَمن بَعْدَهُ إلى خَلَفٍ هو آخرُ مَنْ رواه عن شيخِهِ بالسَّماعِ من الجزءِ المذكورِ، وقولُ ابنِ الصلاحِ‏:‏ «إنَّ هذا النوعَ من العلوِّ، عُلوٌّ تابعٌ لنزولٍ» محمولٌ عَلَى الغالبِ، وإلاَّ فهذا الحديثُ المذكورُ عالٍ للترمذيِّ، وعالٍ لنا، وليسَ هُوَ عالياً بالنسبةِ فقطْ‏.‏ وهذا النوعُ هُوَ الَّذِي يقعُ فِيْهِ الموافقاتُ، والإبدالُ، والمساواةُ، والمصافحاتُ، عَلَى ما سيأتي بيانُها‏.‏

741‏.‏ فَإِنْ يَكُنْ فِي شَيْخِهِ قَدْ وَافَقَهْ *** مَعَ عُلُوٍّ فَهُوَ الْمُوَافَقَهْ

742‏.‏ أَوْ شَيْخِ شَيْخِهِ كَذَاكَ فَالْبَدَلْ *** وَإِنْ يَكُنْ سَاوَاهُ عَدَّاً قَدْ حَصَلْ

743‏.‏ فَهْوَ الْمُسَاوَاةُ وَحَيْثُ رَاجَحَهْ *** الأَصْلُ باِلْوَاحِدِ فَالْمُصَاَفَحَهْ

هذا إشارةٌ إلى بيانِ الموافقةِ، وما ذُكِرَ معها‏.‏فالموافقةُ‏:‏ أنْ يرويَ الراوي حديثاً في أحدِ الكُتبِ السِّتَّةِ بإسنادٍ لنفسِهِ، مِنْ غيرِ طرِيقِهَا، بحيثُ يجتمعُ مع أحدِ الستةِ في شيخِهِ معَ علوِّ هذا الطريقِ الذي رواهُ منه على ما لو رواهُ من طريقِ أحدِ الكتبِ الستةِ‏.‏مثالهُ‏:‏ حديثٌ رواهُ البخاريُّ عن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ، عن حُمَيْدٍ، عن أنسٍ مرفوعاً‏:‏ «كتابُ اللهِ القِصَاصُ» فإذا رويناهُ من‏"‏ جزءِ الأنصاريِّ ‏"‏ يقعُ موافقةً للبخاريِّ في شيخِهِ مع علوِّ درجةٍ‏.‏

وأمَّا البَدَلُ‏:‏ فهو أنْ يوافِقَهُ في شيخِ شيخِهِ مع العلوِّ أيضاً‏.‏ وإلى ذلكَ أشرتُ بقولي‏:‏ ‏(‏كذاكَ‏)‏‏.‏ مثالُهُ‏:‏ حديثُ ابنِ مسعودٍ الذي رواهُ الترمذيُّ، وتقدَّمَ في شرحِ الأبياتِ التي قبلَ هذهِ فهذا يطلقونَ عليهِ‏:‏ البَدَلَ، وقدْ يُسمُّونَهُ موافقةً مقيَّدةً، فيقالُ‏:‏ هو موافقةٌ في شيخِ شيخِ الترمذيِّ مثلاً‏.‏ ويؤخذُ ذلكَ من قولي‏:‏ ‏(‏أو شيخِ شيخِهِ‏)‏ أي‏:‏ وإنْ يكنْ قدْ وافَقَهُ في شيخِ شيخهِ فسَمَّاهُ موافقةً في شيخِ الشيخِ، وأمَّا تقييدُ الموافقةِ والبدلِ بصورةِ العلوِّ فكذا ذكرَهُ ابنُ الصَّلاحِ، أنَّهُ لا يطلقُ عليهِ ذلكَ إلاَّ مَعَ العلوِّ، فإنَّهُ قالَ‏:‏ ولوْ لَمْ يكنْ ذلكَ عالياً فهوَ أيضاً موافقةٌ وبدلٌ، لكنْ لا يُطلقُ عليهِ اسمُ الموافقةِ والبدلِ، لعدمِ الالتفاتِ إليهِ‏.‏ قلتُ‏:‏ وفي كلامِ غيرِهِ من المخَرِّجِيْنَ إطلاقُ اسمِ الموافقةِ والبدلِ؛ مع عدمِ العلوِّ، فإنْ علا قالَوا‏:‏ موافقةً عاليةً، أوْ بدلاً عالياً، كذا رأيتُهُ في كلامِ الشيخِ جمالِ الدينِ الظاهريِّ، وغيرِهِ، ورأيتُ في كلامِ الظاهريِّ، والذهبيِّ‏:‏ فوافقناهُ بنزولٍ‏.‏ فسمَّياهُ معَ النُّزُولِ موافقةً، ولكنْ مقيَّدةً بالنُّزُولِ، كما قَيَّدَهَا غيُرهُما بالعلوِّ‏.‏

وأمَّا المُسَاوَاةُ‏:‏ فهو أنْ يكونَ بينَ الراوي وبينَ الصحابيِّ، أوْ مَنْ قَبْلَ الصحابيِّ إلى شيخِ أحدِ السِّتَّةِ كما بَيْنَ أحدِ الأئمةِ السِّتَّةِ وبينَ ذلكَ الصَّحابيِّ أو مَنْ قَبْلَهُ على ما ذكرَ‏.‏ أو يكونُ بينَهُ وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما بينَ أحدِ الأئمةِ الستةِ وَبيْنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من العددِ‏.‏ وهذا كُلُّهُ كانَ يوجدُ قديماً، وأمَّا اليومُ فلا توجدُ المساواةُ إلاَّ بأنْ يكونَ عَدُّ ما بينَ الراوي الآنَ، وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كَعَدِّ ما بينَ أحدِ الأئِمَّةِ السِّتَّةِ، وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومثالُ المساواةِ لشيوخِنَا، حديثُ النهي عن نكاحِ الْمُتْعَةِ، أخبرنا به محمدُ بنُ إسماعيلَ بنِ عبدِ العزيزِ، قالَ‏:‏ أخبرنا عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ المنعمِ الحرَّانيُّ، قالَ‏:‏ أنبأنا أسعدُ بنُ سعيدٍ بنِ رَوْحٍ، وعَفِيفةُ بنتُ أحمدَ الفَارفانيةُ، واللَّفظُ لها، قالاَ‏:‏ أخبَرَتْنَا فاطمةُ بنتُ عبدِ اللهِ الْجُوْزدانيِّةُ، قالَتْ‏:‏ أخبرنا أبو بكرِ بنُ رِيْذَةَ، قالَ‏:‏ أخبرنا سُليمانُ بنُ أحمدَ الطبرانيُّ، قالَ‏:‏ حدَّثَنا أبو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بنُ الفَرَجِ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنا يحيى بنُ بُكيرٍ، قالَ‏:‏ حَدَّثَني اللَّيثُ ح قالَ الطبرانيُّ‏:‏ وحَدَّثَنا يوسفُ القاضي، قالَ‏:‏ حَدَّثَنا أبو الوليدِ الطيالسيُّ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنا ليثُ بنُ سعدٍ، قالَ‏:‏ حَدَّثَني الرَّبيعُ بنُ سَبْرَةَ الْجُهنيُّ، عن أبيهِ- سَبْرَةَ- أنَّهُ قالَ‏:‏ أذنَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالْمُتْعَةِ، … الحديثَ، وفيهِ‏:‏ ثُمَّ إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ‏:‏ مَنْ كانَ عندَهُ شيءٌ منْ هذهِ النِّساءِ اللاَّتي يُتَمَتَّعُ بِهنَّ فَلْيُخَلِّ سَبيلَها، واللَّفظُ لحديثِ يحيىبنِ بُكَيرٍ‏.‏هذا حديثٌ صحيحٌ أخرجه مسلمٌ والنسائيُّ، عن قُتيبةَ، عن اللَّيثِ‏.‏ فوقعَ بدلاً لهما عالياً‏.‏ ووَرَدَ حديثُ النَّهْي عن نكاحِ الْمُتْعَةِ من حديثِ جماعةٍ من الصحابةِ منهم‏:‏ عليُّ بنُ أبي طالبٍ وهو مُتَّفَقٌ عليهِ من حديثهِ من طريقِ مالكٍ‏.‏ وقد رواهُ النسائيُّ في جمعهِ ‏"‏لحديثِ مالكٍ‏"‏ عن زكريا بنِ يحيى خيَّاطِ السُّنَّةِ، عنِ إبراهيمَ بنِ عبدِ اللهِ الهرويِّ، عن سعيدِ بنِ محبوبٍ، عن عَبْثَرَ بنِ القاسمِ، عن سفيانَ الثوريِّ، عن مالكٍ، عن ابنِ شهابٍ، عن عبدِ اللهِ، والحسنِ ابنَي محمّدِ ابنِ عليٍّ، عن أبيهِمَا، عن عليٍّ‏.‏ فباعتبارِ هذا العددِ كأنَّ شيخَنا سَاوَى فيهِ النسائيَّ، وكأَنِّي لَقيْتُ النسائيَّ وصافحْتُهُ بهِ، وللهِ الحمدُ‏.‏

وأمَّا المصافحةُ‏:‏ فهوَ أنْ يعلوَ طريقَ أحدِ الكتبِ الستةِ عن المساواةِ بدرجةٍ، فيكونُ الراوي كأنَّهُ سمعَ الحديثَ من البخاريِّ، أو مسلمٍ مثلاً‏.‏ وهو المرادُ بقولي‏:‏

‏(‏وَحَيْثُ راجَحَهُ الأصْلُ‏)‏ أي‏:‏ وحيثُ رجَّحَ أحدٌ من الأئِمَّةِ السِّتَّةِ براوٍ واحدٍ على الراوي الذي وقعَ لهُ ذلكَ الحديثُ، سَمَّوْهُ مصافحةً، بمعنى‏:‏ أنَّ الراوي كأَنَّهُ لقيَ أحدَ الأئِمَّةِ السِّتَّةِ، وصافحَهُ بذلكَ الحديثِ‏.‏ ومثَّلْتُ بالكتبِ السِّتَّةِ؛ لأنَّ الغالبَ عَلَى المخرِّجينَ استعمالُ ذلكَ بالنسبةِ إليهم فقطْ‏.‏ وقدِ استعملَهُ الظاهريُّ وغيرُهُ بالنسبةِ إِلَى مسندِ أحمدَ، ولا مُشَاحَّةَ في ذلكَ‏.‏ وَقَدْ وقعَ لنا غيرُ ما حديثٍ مصافحةً، فمِنْ ذَلِكَ‏:‏ الحديثُ المتقدِّمُ مثالاً للمساواةِ، فإنَّهُ مساواةٌ لشيوخِنا، مصافحةً لنا، كَمَا تقدَّمَ، واللهُ أعلمُ‏.‏

744‏.‏ ثُمَّ عُلُوُّ قِدَمِ الْوَفَاةِ *** أَمَّا الْعُلُوُّ لاَ مَعَ الْتِفَاتِ

745‏.‏ لآخَرٍ فَقِيْلَ لِلْخَمْسِيْنَا *** أَو الثَّلاَثِيْنَ مَضَتْ سِنِيْنَا

هذا القسمُ الرابعُ من أقسامِ العُلوِّ، وهو تَقدُّمُ وفاةِ الراوي عَنْ شيخٍ، على وفاةِ راوٍ آخَرَ عنْ ذلكَ الشيخِ، مثالُهُ‏:‏ مَنْ سمعَ ‏"‏ سننَ أبي داودَ ‏"‏ على الزكيِّ عبدِ العظيمِ، أعلى مِمَّنْ سمعَهُ على النجيبِ الحرَّانيِّ‏.‏

ومَنْ سمعَهُ على النجيبِ، أعلى ممَّنْ سمعَهُ على ابنِ خطيبِ المزَّةِ، والفخرِ بنِ البخاريِّ؛ وإِنِ اشتركَ الأَربعَةُ في روايةِ الكتابِ عن شيخٍ واحدٍ، وهو‏:‏ ابنُ طَبَرْزَذ؛ لتَقَدُّمِ وفاةِ الزكيِّ على النجيبِ، وتَقَدُّمِ وفاةِ النجيبِ على مَنْ بَعْدَهُ‏.‏

روينا عن أبي يعلى الخليليِّ، قالَ‏:‏ «قد يكونُ الإسنادُ يعلُو على غيرِهِ بتقدُّمِ مَوْتِ راويهِ، وإنْ كانا متساوِيَيْنِ في العدَدِ»‏.‏ وهذا كُلُّهُ بنسبةِ شيخٍ إلى شيخٍ‏.‏ أمَّا علوُّ الإسنادِ بتقدُّمِ موتِ الشيخِ، لا معَ التفاتِ لأمْرٍ آخرَ، أو شيخٍ آخرَ، فمَتى يُوصفُ بالعلوِّ‏؟‏ روينا عَنْ ابنِ جَوْصَا، قالَ‏:‏ إسنادُ خمسينَ سنةً من موتِ الشيخِ؛ إسنادُ عُلُوٍّ‏.‏ وروينا عَنْ أبي عبدِ اللهِ بنِ مَنْدَه، قالَ‏:‏ إذا مرَّ عَلَى الإسنادِ ثلاثونَ سنةً، فَهُوَ عالٍ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏سنيناً‏)‏، تمييزٌ‏.‏ والتقييدُ بالخمسينَ أُرِيدَ‏:‏ منْ موتِ الشيخِ، لا من وقْتِ السماعِ عليهِ، كما صرَّحَ به ابنُ جَوْصَا‏.‏ وأَمَّا كلامُ ابنِ مَنْدَه، فيحتملُ أنَّهُ أرادَ من حينِ السماعِ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّهُ يجوزُ أنْ يكونَ َشيخُهُ إلى الآن حيّاً، والظاهرُ أنَّهُ أرادَ إذا مضى على إسنادِ كتابٍ، أو حديثٍ، ثلاثونَ سنةً، وهوَ في تِلْكَ المدَّةِ لا يقعُ أعلى من ذلكَ، كسماعِ كتابِ البخاريِّ في سنةِ ستينَ وسبعمائةٍ مثلاً على أصحابِ أصحابِ ابنِ الزَّبيديِّ، فإنَّهُ مضتْ عليهِ ثلاثونَ سنةً مِنْ موتِ مَنْ كانَ آخرَ مَنْ يرويه عالياً، وهو الحجَّارُ‏.‏

746‏.‏ ثُمَّ عُلُوُّ قِدَمِ السَّمَاعِ *** وَضِدُّهُ النُّزُوْلُ كَالأَنْوَاعِ

747‏.‏ وَحَيْثُ ذُمَّ فَهْوَ مَا لَمْ يُجْبَرِ *** وَالصِّحَّةُ الْعُلُوُّ عِنْدَ النَّظَرِ

هذا القسمُ الخامسُ من أقسامِ العلوِّ، وهو تقدُّمُ السماعِ من الشيخِ، فمَنْ تقدَّمَ سماعُهُ من شيخٍ كانَ أعلى ممَّنْ سمعَ من ذلكَ الشيخِ نفسِهِ بعدَهُ‏.‏روينا عن محمدِ بنِ طاهرٍ، قالَ‏:‏ من العُلُوِّ تقدُّمُ السَّماعِ‏.‏ ولكنْ جعلَ ابنُ طاهرٍ، وتبعهُ ابنُ دقيقِ العيدِ، هذا القسمَ، والذي قبلَهُ، قسماً واحداً، وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «إنَّ كثيراً من هذا يدخلُ في النوعِ المذكورِ قبلَهُ، وفيهِ ما لا يدخلُ مثلُ أنْ يسمعَ شخصانِ مِن شيخٍ واحدٍ، وسماعُ أحدِهما من ستينَ سنةً مثلاً، وسماعُ الآخرِ من أربعينَ سنةً»، قلتُ‏:‏ وأهلُ الحديثِ مُجْمِعُوْنَ على أفضليةِ المتَقَدِّمِ في حَقِّ مَنِ اختلَطَ شيخُهُ، أو خَرِفَ لِهَرَمٍ، أو مَرَضٍ، وهو واضحٌ‏.‏ أمَّا مَنْ لَمْ يحصلْ لهُ ذلكَ فربَّما كانَ السماعُ المتأخِّرُ أرجحَ، بأنْ يكونَ تحديثُهُ الأولُ قبلَ أنْ يبلغَ درجةَ الإتقانِ، والضبطِ، ثُمَّ كانَ الشيخُ متصفاً بذلكَ في حالةِ سماعِ الراوي المتأخِّرِ السماعِ، فلهذا مزيةٌ، وفضلٌ على السماعِ المتقدِّمِ، وهو أرفعُ وأعلى، لكنَّهُ علوٌّ معنويٌّ على ما سيأتي‏.‏

فهذهِ أقسامُ العلوِّ ولَمَّا جمعَ ابنُ طاهرٍ، وابنُ دقيقِ العيدِ، بين قسمي تقدُّمِ السماعِ، وتقدُّمِ الوفاةِ، وجعلاهما قسماً واحداً، زادا بدلَ الساقطِ‏:‏ العلوَّ إلى صاحِبَي الصحيحينِ ومصنِّفي الكُتبِ المشهورةِ‏.‏وجعلَ ابنُ طاهرٍ هذا قسمينِ‏:‏ أحدُهُما‏:‏ العلوُّ إلى البخاريِّ ومسلمٍ، وأبي داودَ وأبي حاتِمٍ، وأبي زرعةَ‏.‏والآخرُ‏:‏ العلوُّ إلى كتبٍ مصنَّفَةٍ لأقْوَامٍ، كابنِ أبي الدنيا، والخطَّابيِّ، وأشباهِهِما، قالَ‏:‏ ابنُ طاهرٍ‏:‏ واعلمْ أنَّ كلَّ حديثٍ عَزَّ على المحدِّثِ، ولَمْ يجدْهُ عالياً ولابُدَّ لهُ مِنْ إيرادِهِ في تصنيفٍ، أو احتجاجٍ بِهِ؛ فمنْ أيِّ وجهٍ أوردَهُ، فهو عالٍ لعزَّتِهِ، ثُمَّ مَثَّلَ ذلكَ بأَنَّ البخاريَّ روى عن أماثلِ أصحابِ مالكٍ، ثُمَّ روَىَ حديثاً لأبي إسحاقَ الفَزَاريِّ عن مالكٍ، لمعنى فيه فكانَ فيهِ بينَهُ وبينَ مالكٍ ثلاثةُ رجالٍ، واللهُ أعلمُ‏.‏

‏[‏الإسناد النازل وأقسامُ النزولِ‏]‏

وأمّا أقسامُ النزولِ، فهي خمسةٌ أيضاً‏.‏ فإنَّ كُلَّ قسمٍ من أقسامِ العلوِّ ضدَّهُ قسمٌ مِن أقسامِ النزولِ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ‏.‏ وقالَ الحاكمُ في ‏"‏ علومِ الحديثِ ‏"‏‏:‏ «لَعَلَّ قائلاً يقولُ‏:‏ النزولُ ضدُّ العلوِّ، فمَنْ عَرَفَ العلوَّ، فقدْ عَرَفَ ضِدَّهُ‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ وليسَ كذلكَ، فإنَّ للنزولِ مراتبَ لا يعرفُها إلاَّ أهلُ الصنعةِ»، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «هذا ليسَ نفياً لكونِ النزولِ ضدَّ العلوِّ عَلَى الوجهِ الَّذِي ذكرتُهُ، بَلْ نفياً لكونهِ يُعرفُ بمعرفةِ العلوِّ‏.‏ قالَ‏:‏ وذلكَ يليقُ بِمَا ذكرَهُ هُوَ في معرفةِ العلوِّ، فإنَّهُ قَصَّرَ في بيانِهِ وتفصيلِهِ، وليسَ كذلكَ ما ذكرناهُ فإنَّهُ مفصَّلٌ تفصيلاً مبيّناً مُفْهِماً لمراتبِ النزولِ»‏.‏ ثُمَّ إنَّ النزولَ حيثُ ذَمَّهُ مَنْ ذَمَّهُ، كقولِ عليِّ بنِ المدينيِّ، وأبي عمرٍو المستمليِّ، فيما رويناهُ عنهما‏:‏ النزولُ شُؤْمٌ‏.‏ وكقولِ ابنِ معينٍ فيما رويناهُ عنهُ‏:‏ إلاسنادُ النازلُ قُرْحَةٌ في الوجهِ، فهو محمولٌ على ما إذا لم يكنْ مع النزولِ ما يجبرُهُ، كزيادَةِ الثقةِ في رجالِهِ على العالي، أو كونِهِم أحفظَ، أو أفقهَ، أو كونِهِ متَّصِلاً بالسماعِ وفي العالي حضورٌ، أو إجازةٌ، أو مناولةٌ، أو تساهلُ بعضِ رواتهِ في الحملِ، ونحوُ ذلكَ؛ فإنَّ العدولَ حينئذٍ إلى النزولِ ليسَ بمذمومٍ، ولا مفضولٍ‏.‏ وقد روينا عن وكيعٍ قالَ‏:‏ الأعمشُ أحبُّ اليكم عنْ أبي وائلٍ عَنْ عبدِ اللهِ‏؟‏ أو سفيانُ، عن منصورٍ عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، عن عبدِ اللهِ‏؟‏ فقلنا‏:‏ الأعمشُ عن أبي وائلٍ أقربُ‏.‏ فقالَ‏:‏ الأعمشُ شيخٌ، وأبو وائلٍ شيخٌ، وسفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عنْ علقمةَ فقيهٌ، عن فقيهٍ، عن فقيهٍ، عن فقيهٍ‏.‏ وروينا عن ابنِ المباركِ قالَ‏:‏ ليسَ جَوْدةُ الحديثِ قربَ الإسنادِ بلْ جَوْدةُ الحديثِ صحةُ الرجالِ‏.‏ وروينا عن السِّلفيِّ قالَ‏:‏ الأصلُ الأخذُ عن العلماءِ فنزولُهُم أَوْلَى من العُلُوِّ عن الجهلةِ على مذهبِ المحقِّقِينَ من النَقَلَةِ، والنازلُ حينئذٍ هو العالي في المعنى عندَ النظرِ والتحقيقِ، كما روينا عَنْ نِظامِ الْمُلْكِ قالَ‏:‏ عندي أنَّ الحديثَ العالي‏:‏ ما صحَّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإنْ بلغَتْ رواتُهُ مائةً‏.‏ وكما روينا عن السِّلَفيِّ من نظمهِ‏:‏

لَيْسَ حُسْنُ الْحَدِيْثِ قُرْبَ رِجَالٍ عِنْدَ أرْبَابِ عِلْمِهِ النُّقَّادِ

بلْ عُلُوُّ الْحَدِيْثِ بينَ أُولي الحِـ ـفْظِ والإتقانِصِحَّةُ الإسْنَادِ

وإذا ما تَجَمَّعَا في حَدِيْثٍ فاغْتَنِمْهُ فَذَاكَ أقْصَى الْمُرَادِ

قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «هذا ليسَ منْ قَبيلِ العلوِّ المتعارفِ إطلاقُهُ بينَ أهلِ الحديثِ، وإنَّما هو عُلُوٌّ مِنْ حيثُ المعنى فحسبُ»‏.‏

الغَرِيْبُ، وَالْعَزِيْزُ، وَالْمَشْهُوْرُ

748‏.‏ وَمَا بِهِ مُطْلَقاً الرَّاوِي انْفَرَدْ *** فَهْوَ الْغَرِيْبُ وَابْنُ مَنْدَةَ فَحَدْ

749‏.‏ بِالانْفِرَادِ عَنْ إِمَامٍ يُجْمَعُ *** حَدِيْثُهُ فَإِنْ عَلَيْهِ يُتْبَعُ

750‏.‏ مِنْ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ فَالْعَزِيْزُ أَوْ *** فَوْقُ فَمَشْهُوْرٌ وَكُلٌّ قَدْ رَأَوْا

751‏.‏ مِنْهُ الصَّحِيْحَ وَالضَّعِيْفَ ثُمَّ قَدْ *** يَغْرُبُ مُطْلَقاً أَوِ اسْنَاداً فَقَدْ

قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «الحديثُ الذي ينفردُ به بعضُ الرواةِ، يوصَفُ بالغريبِ، قالَ‏:‏ وكذلكَ الحديثُ الذي ينفردُ فيهِ بعضهم بأمرٍ لا يذكرُهُ فيهِ غيرُهُ، إمَّا في متنِهِ، وإمَّا في إسنادِهِ»‏.‏ وروينا عَنْ أبي عبدِ اللهِ بنِ مَنْدَه قالَ‏:‏ الغريبُ من الحديثِ كحديثِ الزهريِّ وقتادةَ وأشباهِهِمَا مِنَ الأَئِمَّةِ ممَّنْ يُجْمَعُ حديثُهُم إذا انفردَ الرجلُ عنهم بالحديثِ يُسمَّى غريباً، فإذا روى عنهم رجلانِ، أو ثلاثةٌ، واشتركوا يُسمَّى عزيزاً، فإذا روى الجماعةُ عنهم حديثاً، يُسَمِّي مشهوراً، وهكذا قالَ محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ، وكأنَّهُ أخذَهُ من كلامِ ابنِ مَنْدَه‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وَكُلٌّ قَدْ رَأَوْا، مِنْهُ الصَّحِيْحَ وَالضَّعِيْفَ‏)‏ أي‏:‏ إنْ وُصِفَ الحديثُ بكونِهِ مشهوراً، أو عزيزاً، أو غريباً، لايُنافي الصِّحَّةَ، ولا الضعفَ، بل قد يكونُ مشهوراً صحيحاً، أو مشهوراً ضعيفاً، أو غريباً صحيحاً، أو غريباً ضعيفاً، أو عزيزاً صحيحاً، أو عزيزاً ضعيفاً‏.‏ ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ كونَ العزيزِ يكونُ منهُ الصحيحُ والضعيفُ، بل ذَكَرَ ذلكَ في المشهورِ والغريبِ فقطْ‏.‏ ومَثَّلَ المشهورَ الصحيحَ بحديثِ‏:‏ «الأعمالُ بالنِّيَّاتِ» وتبعَ في ذلكَ الحاكمَ، وفيهِ نظرٌ، فإنَّ الشهرةَ إنَّما طَرَأَتْ لهُ مِنْ عندِ يحيى بنِ سعيدٍ، وأوَّلُ الإسنادِ فردٌ، كما تقدَّمَ‏.‏ وقد نَبَّهَ على ذلكَ ابنُ الصلاحِ في آخرِ النوعِ الحادي والثلاثينَ، وهو الذي يلي نوعَ المشهورِ، وكانَ ينبغي لهُ أنْ يُمثِّلَ بغيرِهِ مما مَثَّلَ بهِ الحاكمُ أيضاً، كحديثِ‏:‏ «إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انْتِزَاعاً، …» وحديثِ‏:‏ «مَنْ أتَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ، …»، وحديثِ رفعِ اليدينِ في الصلاةِ، وغيرِ ذلكَ‏.‏ وَمَثَّلَ ابنُ الصلاحِ المشهورَ الذي ليسَ بصحيحٍ، بحديثِ‏:‏ «طلبُ العلمِ فريضةٌ على كُلِّ مُسلمٍ»، وتبعَ في ذلكَ أيضاً الحاكمَ، وقد صَحَّحَ بعضُ الأئِمَّةِ بعضَ طرقِ الحديثِ، كما بَيَّنْتُهُ في تخريجِ أحاديثِ ‏"‏ الإحياءِ ‏"‏‏.‏ ومَثَّلَهُ الحاكمُ أيضاً، بحديثِ‏:‏ «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ»‏.‏ وبأمثلةٍ كثيرةٍ بعضُها صحيحٌ، وإنْ لم تُخَرَّجْ في واحدٍ من الصحيحينِ‏.‏وذكرَ ابنُ الصلاحِفي أمثلتهِ ما بلغَهُ عن أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالَ‏:‏ أربعةُ أحاديثَ تَدُورُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الأسواقِ، ليس لها أصلٌ‏:‏ «مَنْ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ آذارَ بَشَّرْتُهُ بالجنَّةِ»، «ومَنْ آذى ذمِّيَّاً، فَأَنَا خَصْمُهُ يومَ القيامةِ»، «ويومُ نَحْرِكُم يومُ صَوْمِكُم»، «وللسَّائلِ حقٌّ، وإنْ جاءَ على فَرَسٍ»، قلتُ‏:‏ وهذا لا يصحُّ عن أحمدَ، وقد أخرجَ أحمدُ في ‏"‏ مُسْنَدِهِ ‏"‏ هذا الحديثَ الرابعَ عن وكيعٍ، وعبدِ الرحمن بنِ مهديٍّ، كلاهما عن سفيانَ، عن مصعبِ بنِ محمدٍ، عن يعلى ابنِ أبي يحيى، عن فاطمةَ بنتِ الحُسَينِ عن أبيهَا حسينِ بنِ عليٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو إسنادٌ جَيِّدٌ‏.‏ ويَعْلَى وإنْ جَهَّلَهُ أبو حاتِمٍ، فقد وَثَّقَهُ أبو حاتمِ بنِ حبَّانَ‏.‏ وأمَّا مصعبٌ، فوثَّقَهُ يحيى بنُ مَعِيْنٍ، وغيرُهُ‏.‏ وأخرجه أبو داودَ في ‏"‏ سُنَنِهِ ‏"‏ وسكتَ عنهُ، فهو عندَهُ صالحٌ‏.‏ وأخرجهُ أيضاً من حديثِ عليٍّ، وفي إسنادِهِ مَنْ لم يُسَمَّ‏.‏ ورويناهُ أيضاً من حديثِ ابنِ عباسٍ، ومن حديثِ الهِرْمَاسِ بنِ زيادٍ‏.‏

وأمّا حديثُ‏:‏ «مَنْ آذى ذِمِّيّاً»فقد رواهُ بنحوِهِ أبو داودَ أيضاً، وسكتَ عليهِ، من روايةِ صَفْوانَ بنِ سُليمٍ، عن عدةٍ مِنْ أبناءِ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن آبائِهِم دِنْيَةً عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ‏:‏ «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِداً أو انْتَقَصَهُ، أو كَلَّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، أو أخذَ منهُ شيئاً من غيرِ طِيْبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يومَ القيامةِ»‏.‏ وهذا إسنادٌ جَيِّدٌ، وإنْ كانَ فيهِ مَنْ لم يُسَمَّ، فإنَّهُم عِدَّةٌ مِنْ أبناءِ الصحابَةِ يبلغونَ حَدَّ التواترِ الذي لا يُشتَرطُ فيهِ العدالةُ‏.‏ فقد روينا في سننِ البيهقيِّ، وفيهِ‏:‏ «عن ثلاثينَ مِن أبناءِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»‏.‏

وأمَّا الحديثانِ الآخرانِ فلا أَصْلَ لهما كما ذَكَرَ‏.‏ وأمَّا مثالُ الغريبِ الصحيحِ، فكأفرادِ الصحيحِ، وهي كثيرةٌ، منها حديثُ مالكٍ عن سُمَيٍّ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ، مرفوعاً‏:‏ «السَّفَرُ قِطْعَةٌ من العذابِ»‏.‏ وأمَّا الغريبُ الذي ليسَ بصحيحٍ فهو الغالبُ على الغرائبِ‏.‏ وقد روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالَ‏:‏ «لا تكتبوا هذهِ الأحاديثَ الغرائبَ، فإِنَّها مَنَاكِيرُ، وعامَّتُها عنِ الضُّعَفَاءِ»‏.‏ وروينا عن مالكٍ قالَ‏:‏ شرُّ العلمِ الغريبُ، وخَيْرُ العلمِ الظاهرُ الذي قد رواهُ الناسُ‏.‏ وروينا عن عبدِ الرزاقِ قالَ‏:‏ كُنَّا نَرَى أَنَّ غريبَ الحديثِ خيرٌ، فإذا هو شرٌ‏.‏ وَقَسَّمَ الحاكمُ الغريبَ إلى ثلاثةِ أنواعٍ‏:‏ غرائبُ الصحيحِ، وغَرَائبُ الشُّيُوخِ، وغَرَائبُ المتونِ‏.‏ وقَسَّمَهُ ابنُ طاهرٍ إلى خمسةِ أنواعٍ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إِنَّ مِنَ الغريبِ ما هو غريبٌ متناً، وإسناداً، وهو الحديثُ الذي تفرَّدَ بروايةِ مَتْنِهِ راوٍ واحدٌ‏.‏ ومنهُ ما هو غريبٌ إسناداً لا متناً، كالحديثِ الذي متنُهُ معروفٌ، مرويٌّ عن جماعةٍ من الصحابةِ، إذا تفرَّدَ بعضُهُم بروايتِهِ عن صحابيٍّ آخرَ، كانَ غريباً مِنْ ذلكَ الوجهِ‏.‏ قالَ ومِنْ ذلكَ‏:‏ غرائبُ الشيوخِ في أسانيدِ المتونِ الصحيحةِ، قالَ‏:‏ وهذا الذي يقولُ فيه الترمذيُّ‏:‏ غريبٌ من هذا الوجهِ، قلتُ‏:‏ و أشرتُ إلى القسمِ الأولِ بقولي‏:‏ ‏(‏ثُمَّ قَدْ يَغْرُبُ مُطْلَقَاً‏)‏، وإلى الثاني بقولي‏:‏ ‏(‏أو اسْنَاداً فَقَدْ‏)‏ أي‏:‏ فقطْ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ ولا أرى هذا النوعَ ينعكسُ، فلا يوجدُ إذاً ما هو غريبٌ متناً، وليسَ غريباً إسناداً، وإلاَّ إذا اشتهَرَ الحديثُ الفردُ عَمَّنْ تفرَّدَ بهِ، فرواهُ عنهُ عددٌ كثيرونَ، فإنَّ إسنادَهُ متصفٌ بالغرابةِ في طرفِهِ الأوَّلِ، متصفٌ بالشهرةِ في طرفِهِ الآخِرِ، كحديثِ‏:‏ «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»، وكسائرِ الغرائبِ التي اشْتَمَلَتْ عليها التصانيفُ المشتهرةُ، هكذا قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّهُ لا يوجدُ ما هو غريبٌ متناً لا سنداً، إلاَّ بالتأويلِ الذي ذكرَهُ‏.‏ وقد أطلقَ أبو الفتحِ اليَعْمريُّ ذِكْرَ هذا النوعِ في جملةِ أنواعِ الغريبِ من غيرِ تقيّدٍ بآخِرِ السندِ، فقالَ في ‏"‏ شرح الترمذيِّ ‏"‏‏:‏ «الغريبُ على أقسامٍ‏:‏ غريبٌ سنداً ومتناً، ومتناً لا سنداً، وسنداً لا متناً، وغريبٌ بعضَ السندِ فقطْ، وغريبٌ بعضَ المتنِ فقطْ»‏.‏ فالقسمُ الأوَّلُ واضحٌ، والقسمُ الثاني هو الذي أطلقَهُ أبو الفتحِ، ولم يذكرْ لهُ مِثالاً، والقسمُ الثالثُ مثالُهُ حديثٌ رواهُ عبدُ المجيدِ بنُ عبدِ العزيزبنِ أبي روَّادٍ، عن مالكٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ‏:‏ «الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ»‏.‏ قالَ الخليليُّ في ‏"‏ الإرشادِ ‏"‏‏:‏ «أخطأَ فيهِ عبدُ المجيدِ، وهو غيرُ محفوظٍ من حديثِ زيدِ بنِ أسلمَ بوجهٍ، قالَ‏:‏ فهذا مِمَّا أخطأَ فيهِ الثِّقةُ عَنِ الثِّقةِ»‏.‏ وقالَ أبو الفتحِ اليعمريُّ‏:‏ «هذا إسنادٌ غريبٌ كُلُّهُ، والمتنُ صحيحٌ»، والقسمُ الرابعُ مثالُهُ حديثٌ رواه الطبرانيُّ في ‏"‏ المعجمِ الكبيرِ ‏"‏ من روايةِ عبدِ العزيزِ بنِ محمدٍ الدَّراوَرْدِيِّ، ومن روايةِ عبَّادِ بنِ منصورٍ، فرَّقهُمَا كلاهُما عن هِشامِ بنِ عُرْوةَ، عن أبيهِ، عن عائشةَ بحديثِ أمِّ زَرْعٍ‏.‏ والمحفوظُ ما رواه عيسى بنُ يونُسَ عن هِشامِ بنِ عُرْوةَ عن أخيهِ عبدِ اللهِ بنِ عُروةَ، عن عُروةَ عن عائشةَ‏.‏ هكذا اتفقَ عليهِ الشيخانِ‏.‏ وكذا راوهُ مسلمٌ من روايةِ سعيدِ بنِ سلمَةَ بنِ أبي الْحُسَامِ، عن هِشامٍ‏.‏ قالَ أبو الفتحِ‏:‏ «فهذهِ غَرَابةٌ تخصُّ موضعاً من السندِ، والحديث صحيحٌ» قلتُ‏:‏ ويصلحُ ما ذكرناهُ من عندِ الطبرانيِّ مثالاً للقسمِ الخامسِ؛ لأنَّ عبدَ العزيزِ وعبَّاداً جعلا جميعَ الحديثِ مرفوعاً، وإنَّما المرفوعُ مِنْهُ

قولُهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كنتُ لكِ كأبي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ»، فَهَذَا غَرَاْبَةُ بعضِ المتنِ، أيضاً‏.‏ واللهُ اعلمُ‏.‏

752‏.‏ كَذَلِكَ الْمَشْهُوْرُ أَيْضاً قَسَّمُوْا *** لِشُهْرِةٍ مُطْلَقَةٍ كَـ«الْمُسْلِمُ

753‏.‏ مَنْ سَلِمَ الْحَدِيْثَ» وَالْمَقْصُوْرِ *** عَلَى الْمُحَدِّثِيْنَ مِنْ مَشْهُوْرِ

754‏.‏ «قُنُوتُهُ بَعْدَ الرُّكُوْعِ شَهْرَا» *** وَمِنْهُ ذُوْ تَوَاتُرٍ مُسْتَقْرَا

755‏.‏ فِي طَبَقَاتِهِ كَمَتْنِ «مَنْ كَذَبْ» *** فَفَوْقَ سِتِّيْنَ رَوَوْهُ وَالْعَجَبْ

756‏.‏ بِأَنَّ مِنْ رُوَاتِهِ لَلْعَشَرَهْ *** وَخُصَّ بِالأَمْرَيْنِ فِيْمَا ذَكَرَهْ

757‏.‏ الشَّيْخُ عَنْ بَعْضِهِمْ، قُلْتُ‏:‏ بَلَى *** «مَسْحُ الخِفَافِ» وَابْنُ مَنْدَةَ إلى

758‏.‏ عَشْرَتِهِمْ «رَفْعِ اليَدَيْنِ» نَسَبَا *** وَنَيَّفُوْا عَنْ مِائَةٍ «مَنْ كَذَبَا»

أي‏:‏ كما أَنَّ المشهورَ ينقسمُ إلى صحيحٍ وضعيفٍ، كذلكَ ينقسمُ من وجهٍ آخرَ إلى ما هوَ مشهورٌ شُهرةً مطلقةً بينَ أهلِ الحديثِ، وغيرِهمِ، كحديثِ‏:‏ «المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ»، وما أشبهَ ذلكَ في الشهرةِ المطلقةِ، وإلى ما هو مشهورٌ بينَ أهلِ الحديثِ خاصّةً، كحديثِ أنسٍ «أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْراً بعدَ الركوعِ، يَدْعُو على رِعْلٍ؛وذَكْوَاْنَ» فهذا حديثٌ اتفقَ عليهِ الشيخانِ من روايةِ سُليمانَ التَّيْمِيِّ، عن أبي مِجْلَزٍ واسمُهُ‏:‏ لاحقُ بنُ حُميدٍ، عن أنسٍ، وَقَدْ رواهُ عن أنسٍ غيرُ أبي مجلزٍ، وعن أبي مجلزٍ غيرُ سليمانَ التيميِّ، وعن سليمانَ التيميِّ جماعةٌ، وهو مشهورٌ بينَ أهلِ الحديثِ، وقد يستغربُهُ غيرُهم؛ لأَنَّ الغالبَ على روايةِ التَّيْميِّ، عن أنسٍ، كونُها بغيرِ واسطةٍ، وهذا الحديثُ بواسطةِ أبي مجلزٍ‏.‏

ثُمَّ إنَّ المشهورَ أيضاً ينقسمُ باعتبارٍ آخرَ إلى ما هو متواترٌ، وإلى ما هو مشهورٌ غيرُ متواترٍ‏.‏ وقد ذكرَ المتواترَ الفقهاءُ والأصوليونَ وبعضُ أهلِ الحديثِ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وأهلُ الحديثِ لا يذكرونَهُ باسمهِ الخاصِّ المشعرِ بمعناهُ الخاصِّ، وإنْ كانَ الخطيبُ قد ذكرَهُ في كتابهِ ‏"‏ الكفايةِ ‏"‏ ففي كلامهِ ما يُشْعِرُ بأنَّهُ اتَّبَعَ فيهِ غيرَ أهلِ الحديثِ»‏.‏ قلتُ‏:‏ قد ذكرَهُ الحاكمُ، وابنُ حَزْمٍ وابنُ عبدِ البَرِّ‏.‏ وهو الخبرُ الذي ينقلُهُ عددٌ يَحْصُلُ العِلْمُ بصدْقِهِمْ ضَرُوْرَةً‏.‏ وعبَّرَ عنه غيرُ واحدٍ بقولِهِ‏:‏ عددٌ يستحيلُ تواطؤُهم على الكذبِ‏.‏ ولا بُدَّ مِنْ وجودِ ذلكَ في رواتِهِ منْ أَوَّلِهِ إلى منتهاهُ، وإلى ذلكَ أشرتُ بقولي‏:‏ ‏(‏في طبقاتِهِ‏)‏‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ ومَنْ سُئِلَ عن إبرازِ مثالٍ لذلكَ أعياهُ تَطَلُّبُهُ‏.‏ ثُمَّ قالَ‏:‏ نعمْ‏.‏‏.‏ حديثُ‏:‏ «منْ كَذَبَ عليَّ متعمِّداً فليتَبَوَّأْ مقعدَهُ من النارِ»، نراهُ مثالاً لذلكَ فإنَّهُ نقلَهُ من الصحابةِ رضي الله عنهم العددُ الجمُّ، وهو في ‏"‏ الصحيحينِ ‏"‏ مرويٌّ عن جماعةٍ منهم‏.‏ قالَ‏:‏ وذكرَ أبو بكرٍ البزَّارُ في ‏"‏ مسندِهِ ‏"‏‏:‏ أنَّهُ رواهُ نحوٌ من أربعينَ رجلاً منَ الصحابةِ‏.‏ قالَ‏:‏ وذكرَ بعضُ الحفَّاظِ‏:‏ أنَّهُ رواهُ اثنانِ وستونَ نفساً من الصحابةِ، وفيهم العشرةُ المشهودُ لهم بالجنَّةِ‏.‏ قالَ‏:‏ وليسَ في الدنيا حديثٌ اجتمعَ على روايتِهِ العشرةُ غيرَهُ ولا يُعْرَفُ حديثٌ يُروَى عن أكثرِ من ستينَ نفساً من الصحابةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إلاَّ هذا الحديثُ الواحدُ قالَ‏:‏ وبلغَ بهمبعضُ أهلِ الحديثِ أكثرَ من هذا العددِ، وفي بعضِ ذلكَ عددُ التواترِ‏!‏ انتهى‏.‏ وما حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِ الحفَّاظِ، وأبهمَهُ، هو في كلامِ ابنِ الجوزيِّ، فإنَّهُ ذكرَ في مقدّمةِ ‏"‏الموضوعاتِ‏"‏، أنَّهُ رواهُ من الصحابةِ أحدٌ وستون نفساً، ثُمَّ رَوَى بعدَ ذلكَ بأَورَاقٍ عن أبي بكرٍ محمدِ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ الوهابِ الإسفرايينيِّ، أنَّهُ ليسَ في الدنيا حديثٌ اجتمعَ عليهِ العشرةُ غيرَهُ‏.‏ ثُمَّ قالَ ابنُ الجوزيِّ قلتُ‏:‏ ما وقَعَتْ إليَّ روايةُ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ إلى الآنَ‏.‏قالَ‏:‏ ولا عرفتُ حديثاً رواهُ عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أحدٌ وستونَ نفساً، وعلى قولِ هذا الحافظِ اثنانِ وستونَ نفساً، إلاَّ هذا الحديثَ»‏.‏ هذا كلامُهُ في النسخةِ الأُولى من الموضوعاتِ، ومن خَطِّ الحافظِ أبي محمدٍ المنذريِّ نقلتُ‏.‏ وأمَّا كلامُهُ المحكيُّ عن الكتابِ المذكورِ في آخرِ الفصلِ، فهو في النسخةِ الأخيرةِ، فاعلمْ ذلكَ‏.‏ قلتُ‏:‏ وما ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِ الحفَّاظِ، من تخصيصِ هذا الحديثِ بهذا العددِ، وبكونِهِ من روايةِ العشرةِ منقوضٌ

بحديثِ المَسْحِ على الْخُفَّيْنِ، فقدْ رواهُ أكثرُ من ستينَ من الصحابةِ، ومنهم العشرةُ، ذكرَ ذلكَ أبو القاسمِ عبدُ الرحمنِ بنُ محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ مَنْدَه في كتابٍ لهُ سَمَّاهُ ‏"‏ المستخرَج من كتبِ الناسِ ‏"‏‏.‏ وذكرَ صاحبُ ‏"‏ الإمامِ ‏"‏ عن ابنِ الْمُنْذِرِ قالَ‏:‏ روينا عن الحسنِ أنَّهُ قالَ‏:‏ حَدَّثَني سبعونَ مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مسحَ لى الْخُفَّينِ‏.‏ انتهى‏.‏ وجعلَهُ ابنُ عبدِ البرِّ متواتراً، فقالَ‏:‏ رَوَى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المسحَ على الْخُفَّينِ، نحوُ أربعينَ من الصحابةِ، و استفاضَ، وتواترَ‏.‏ قلتُ‏:‏ فهذا مثالٌ آخرُ للمتواترِ، صرَّحَ بوصفِهِ بذلكَ‏.‏وإلى ذلكَ أشرتُ بقولي‏:‏ ‏(‏قُلْتُ‏:‏ بَلَى مَسْحُ الخِفَافِ‏)‏‏.‏

وأيضاً فحديثُ رَفْعِ اليدينِ قد عزاهُ غيرُ واحدٍ من الأئمة إلى رواية العشرَةِ أيضاً، منهم ابنُ مَنْدَه المذكورُ في كتابِ ‏"‏ المستخرج ‏"‏، والحاكمُ أبو عبدِ اللهِ، وجعلَ ذلكَ مما اختصَّ بهِ حديثُ رَفْعِ اليدينِ، قالَ البيهقيُّ‏:‏ سمعتُهُ يقولُ‏:‏ لا نعلمُ سُنَّةً اتَّفَقَ على روايتِها عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الخلفاءُ الأربعةُ، ثُمَّ العشرةُ الذين شَهِدَ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجنَّةِ، فمَنْ بعدَهُم مِنْ أَكابرِ الصحابةِ، على تفرُّقِهِم في البلادِ الشاسِعَةِ؛ غيرَ هذهِ السُّنَّةِ‏.‏ قالَ البيهقيُّ‏:‏ وهو كما قالَ أستاذُنا أبو عبدِ اللهِ رضي الله عنه‏.‏ فقد روى هذهِ السُّنَّةَ عن العشرَةِ وغيرِهِم، وأَمَّا عِدَّةُ مَنْ رواهُ من الصحابةِ، فقالَ ابنُ عبدِ البرِّ في ‏"‏ التمهيدِ ‏"‏‏:‏ رواهُ ثلاثةَ عَشَرَ رجلاً مِن الصحابةِ‏.‏ وقالَ السِّلَفِيُّ‏:‏ رواهُ سبعةَ عشرَ‏.‏ قلتُ‏:‏ وقدْ جمعتُ رواتَهُ فبلغوا نحوَ الخمسينَ، وللهِ الحمدُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وَنَيَّفُوا عَنْ مِائَةٍ‏)‏ أي‏:‏ وَرَوَوْا حديثَ «مَنْ كَذَبَ عَليَّ متعمِّداً» عن مائةٍ ونَيِّفٍ من الصحابةِ‏.‏ وقالَ ابنُ الجوزيِّ في مقدمةِ ‏"‏ الموضوعات ‏"‏‏:‏ رواهُ من الصحابةِ ثَمَانيةٌ وتسعونَ نفساً‏.‏ انتهى‏.‏ هكذا نقلتُهُ مِنْ خَطِّ عليٍّ، وَلَدِ المصنِّفِ، وهي النسخةُ الأخيرةُ منِ الكتابِ المذكورِ وفيها زوائدُ ليستْ في النسخةِ الأولى التي كُتِبَتْ عنه‏.‏ وقد جَمَعَ الحافظُ أبو الحجَّاجِ يوسفُ بنُ خليلٍ الدِّمشقيُّ طُرُقَهُ في جزأينِ، فبلغَ بهم مائةً واثنينِ، وأخبرني بعضُ الحفَّاظِ‏:‏ أنَّهُ رَأى في كلامِ بعضِ الحفَّاظِ‏:‏ أنَّهُ رواهُ مائتانِ من الصحابةِ، وأنا أستبعدُ وقوعَ ذلكَ، واللهُ أعلمُ‏.‏

غَرْيِبُ أَلْفَاْظِ الأَحَاْدِيْثِ

759‏.‏ وَالنَّضْرُ أَوْ مَعْمَرُ خُلْفٌ أَوَّلُ *** مَنْ صنَّفَ الْغَرِيْبَ فِيْمَا نَقَلُوْا

760‏.‏ ثُمَّ تَلا أبو عُبَيْدٍ وَاقْتَفَى *** القُتَبِيُّ ثُمَّ حَمْدٌ صنَّفَا

761‏.‏ فَاعْنِ بِهِ وَلاَ تَخُضْ بالظَّنِّ *** وَلاَ تُقَلِّدْ غَيْرَ أَهْلِ الْفَنِّ

762‏.‏ وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ *** كَالدُّخِّ بِالدُّخَانِ لاِبْنِ صَائِدِ

763‏.‏ كَذَاكَ عِنْدَ التِّرْمِذِيْ، وَالْحَاكِمُ *** فَسَّرَهُ الْجِمَاعَ وَهْوَ وَاهِمُ

غريبُ الحديثِ، هو ما يقعُ فيهِ من الألفاظِ الغامضةِ البعيدةِ عن الفَهْمِ‏.‏ وقد صنَّفَ فيه جماعةٌ من الأئِمَّةِ، واختلفوا في أوَّلِ مَنْ صنَّفَ فيهِ‏.‏ فقالَ الحاكمُ في‏"‏ علومِ الحديثِ ‏"‏‏:‏ «أوَّلُ مَنْ صنَّفَ الغريبَ في الإسلامِ النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ‏.‏ ثُمَّ صنَّفَ فيهِ أبو عُبَيْدٍ القاسمُ بنُ سلاَّمٍ كتابَهُ الكبيرَ» قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «ومنهم مَنْ خالَفَهُ فقالَ‏:‏ أوَّلُ مَنْ صنَّفَ فيهِ أبو عُبَيدةَ مَعْمَرُ بنُ الْمُثَنَّى»‏.‏ وقالَ الحافظُ محبُّ الدينِ الطبريُّ في كتابِ ‏"‏ تقريبِ المرامِ ‏"‏‏:‏ وقد قيلَ‏:‏ إنَّ أوَّلَ مَنْ جَمَعَ في هذا الفنِّ شيئاً، وألَّفَهُ أبو عُبَيدةَ معمرُ بنُ الْمُثَنَّى، ثُمَّ النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ، ثُمَّ عبدُ الملكِ بنُ قُرَيبٍ الأصمعيُّ، وكانَ في عصرِ أبي عُبيدةَ، وتأخّرَ، وكذلكَ قُطْرُبٌ، وغيرُهُ مِنْ أئِمَّة الفِقْهِ، واللُّغَةِ، جمعوا أحاديثَ تَكَلَّمُوا على لغتِها، ومعناها، في أوراقٍ ذواتِ عَدَدٍ، ولَمْ يكن أحدٌ منهم ينفردُ عن غيرِهِ بكثيرِ حديثٍ لم يذكرْهُ الآخرُ‏.‏ واستمرتِ الحالُ إلى زمنِ أبي عُبيدٍ القاسمِ بنِ سلاَّمِ، وذلكَ بعدَ المائتينِ، فجمعَ كتابَهُ المشهورَ في غريبِ الحديثِ والآثارِ‏.‏ انتهى‏.‏ ثُمَّ بعدَ ذلكَ صنَّفَ أبو محمدٍ عبدُ اللهِ بنُ مسلمِ بنِ قُتيبةَ الدِّيْنَوَرِيُّ القُتبيُّ كتابَهُ المشهورَ فزادَ على أبي عُبيدٍ مواضعَ وتَتَبَّعَهُ في مواضعَ‏.‏ ثُمَّ صنَّفَ بعدَهُ أبو سليمانَ حَمْدُ بنُ محمدِ بنِ إبراهيمَ الخطَّابيُّ كتابَهُ في ذلك، فزادَ على القُتبيِّ، وَنَبَّهَ على أغالِيْطَ لهُ‏.‏

وصنَّفَ فيهِ جماعةٌ منهم‏:‏ قاسمُ بنُ ثابتِ بنِ حزمٍ السَّرَقُسْطِيُّ، وعبدُ الغافِرِ الفارسيُّ كتاباً سماهُ‏:‏ ‏"‏ مَجْمَعُ الغرائبِ ‏"‏، وصنَّفَ الزمخشريُّ كتابَهُ ‏"‏ الفائقَ ‏"‏، وبعدهُ أبو الفرجِ ابنُ الجوزيِّ‏.‏ وكانَ جمعَ بينَ الغريبينِ‏:‏ غريْبَي القرآنِ والحديثِ أبو عُبيدٍ أحمدُ بنُ محمدٍ الْهَرَويُّ، صاحبُ أبي منصورٍ الأزْهَرِيِّ، وَذَيَّلَ عليهِ الحافظُ أبو موسى المدينيُّ ذيلاً حَسَناً‏.‏ ثُمَّ جمعَ بينهُما مقتصراً على غريبِ الحديثِ فقط أبو السعاداتِ المباركُ بنُ محمدِ بنِ الأثيرِ الْجَزَرِيُّ، وزادَ عليهِما زياداتٍ كثيرةً، وذلكَ في كتابهِ ‏"‏ النهايةِ ‏"‏‏.‏ وبلغني أنَّ الإمامَ صفيَّ الدينِ محمودَ بنَ محمدِ بنِ حامدٍ الأُرْمويَّ، ذَيَّلَ عليهِ ذيلاً لم أَرَهُ، وبَلَغَني أنَّهُ كَتبَهُ حواشٍ على أصلِ النهايةِ فقطْ، وإنَّ الناسَ أفردوهُ‏.‏ وقد كنتُ كتبتُ على نسخةٍ- كانتْ عندي من النهايةِ- حواشيَ كثيرةً، وأرجو أنْ أجمَعَهَا، وأُذيِّلَ عليهِ بذيلٍ كبيِرٍ، إنْ شاءَ اللهُ تعالى‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏فاعْنِ بهِ‏)‏ أي بعلمِ الغريبِ، أي‏:‏ اجعلَهُ من عنايتِكَ، واحفظْهُ، واشتغِلْ بهِ‏.‏ فإنْ قيلَ‏:‏ إنَّمَا تستعملُ هذه اللفظةُ مبينةً لما لم يُسَمَّ فاعلُه، يقالَ‏:‏ عُنِيْتُ بالأمرِ عِنَايةً، كما جزمَ به صاحبا ‏"‏ الصحاحِ ‏"‏ و ‏"‏ المحكمِ ‏"‏، وعلى هذا فلا يؤمرُ منهُ بصيغةٍ على صيغةِ افْعَلْ‏.‏ قالَ الجوهريُّ وإذا أَمَرْتَ منهُ قلتَ‏:‏ لِتُعْنَ بِحَاجَتي قلتُ فيهِ لغتانِ‏:‏ عُنِيَ، وَعَنِيَ‏.‏ وممَّنْ حكاهما صاحبُ الغريبينِ، والْمُطَرِّزيُّ‏:‏ وفي الحديثِ‏:‏ أنَّهُ قالَ لرجلٍ‏:‏ لقدْ عَنِيَ اللهُ بِكَ‏.‏ قالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ‏:‏ أي‏:‏ حَفِظَ دينَكَ‏.‏ قالَ الهرويُّ‏:‏ يُقالَ عُنِيْتُ بأمْرِكَ، فأنا مَعْنِيٌّ بكَ، وعَنِيْتُ بأمْرِكَ أيضاً، فأَنا عانٍ‏.‏

ولا ينبغي لمَنْ تَكَلَّمَ في غريبِ الحديثِ أنْ يخوضَ فيه رجماً بالظنِّ، فقدْ روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عن حرفٍ منهُ، فقالَ‏:‏ سَلُوا أصحابَ الغريبِ، فإنيِّ أكرَهُ أن أتَكَلَّمَ في قولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالظَّنِّ‏.‏ وسُئِلَ الأصمعيُّ عن حديثِ‏:‏ «الجارُ أحقُّ بِسَقَبِهِ»، فقالَ‏:‏ أنا لا أفَسِّرُ حديثَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ العربَ تزعمُ أنَّ السَّقَبَ‏:‏ اللَّزيقُ‏.‏

ولا ينبغي أنْ يقلِّدَ من الكتبِ المصنَّفَةِ في الغريبِ، إلاَّ ما كانَ مصنِّفُوها أئِمَّةً جِلَّةً في هذا الشأْنِ‏.‏ فمَنْ لم يكنْ مِنْ أهلِهِ، تَصَرَّفَ فيهِ فأخْطَأَ‏.‏ وقدْ كانَ بعضُ العَجَمِ يقرأُ عليَّ مِنْ مُدَّةِ سنينَ في ‏"‏ المصابيحِ ‏"‏ للبغويِّ، فقرأَ حديثَ‏:‏ «إذا سَافرتُمْ في الخِصْبِ، فأَعْطُوا الإبلَ حَقَّها، وإذا سافرتُمْ في الجَدْبِ، فبادِرُوا بها نِقْيَها»، فَقَرَأَها نَقْبَها- بفتحِ النونِ وبالباءِ الموحدةِ بعدَ القافِ- فقلتُ لهُ‏:‏ إنَّمَا هيَ نِقْيَهَا- بالكسرِ والياءِ آخرَ الحروفِ- فقالَ‏:‏ هكذا ضبطَهُ بعضُ الشُّرَّاحِ في طُرَّةِ الكتابِ‏.‏ فأخذْتُ منهُ الكتابَ، وإذا على الحاشيةِ كما ذكرَ‏.‏ وقالَ النَّقْبُ‏:‏ الطَّرِيْقُ الضَّيِّقُ بينَ جبَلَينِ‏.‏ فقلتُ‏:‏ هذا خطأٌ وتصحيفٌ فاحشٌ، وإنَّما هو النِّقْيُ، أي‏:‏ الْمُخُّ الذي في العَظْمِ‏.‏ ومنهُ قولُهُ في حديثِ أُمِّ زَرْعٍ‏:‏ «لا سَمِينَ فَيُنْتَقى»، وفي حديثِ الأُضْحيَّةِ‏:‏ «والعَجْفاءِ التي لا تُنْقِي»‏.‏ فليحذرِ طالبُ العلمِ ضبطَ ذلكَ من الحواشي، إلاَّ إذا كانتْ بخطِّ مَنْ يُعْرَفُ خطُّهُ من الأئِمَّةِ‏.‏

وأحسنُ ما يفسَّرُ به الغريبُ ما جاءَ مُفَسَّراً بهِ في بعضِ طرقِ الحديثِ، كقولِ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ المتفقِ عليهِ لابنِ صائدٍ‏:‏ «قد خَبَأْتُ لكَ خَبِيئاً فما هُوَ‏؟‏ قالَ‏:‏ الدُّخُّ»‏.‏ فالدُّخُّ هنا‏:‏ هُوَ الدُّخَانُ، وَهُوَ لغةٌ فيهِ‏.‏ حكاها ابنُ دُرَيْدٍ، وابنُ السِّيْدِ، والجوهريُّ، وغيرُهم‏.‏ وحكى ابنُ السِّيْدِ فيهِ أيضاً‏:‏ فَتْحَ الدالِ‏.‏ وَقَدْ رَوَى أبو داودَ والترمذيُّ من روايةِ الزهريِّ، عن سالِمٍ، عن ابنِ عُمرَ في هَذَا الحديثِ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ‏:‏ «إنِّي قدْ خَبَأْتُ لكَ خَبِيْئَةً»-وقالَ الترمذيُّ‏:‏ «خَبِيْئاً»- وخَبَأَ لهُ ‏]‏ يَوْمَ تَأَتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِيْنٍ ‏[‏ قالَ الترمذيُّ‏:‏ هَذَا حديثٌ صحيحٌ، والحديثُ مُتَّفَقٌ عليهِ دون ذِكْرِ الآيةِ‏.‏ وذكرَ أبو موسى المدينيُّ‏:‏ أنَّ السِّرَّ في كونِهِ خَبَأَ لَهُ الدُّخانَ، أنَّ عيسى صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُهُ بِجَبَلِ الدُّخَانِ فهذا هو الصوابُ في تفسيرِ الدُّخِّ هنا‏.‏ وقد فسَّرَهُ غيرُ واحدٍ على غيرِ ذلكَ فأخطأَ، ومنهم الحاكمُ في ‏"‏ علوم الحديث ‏"‏، قالَ‏:‏ سألتُ الأدباءَ عن تفسيرِ الدُّخِّ، قالَ‏:‏ يَدُخُّها، ويَزُخُّها، بمعنى واحدٍ، الدُّخُّ والزَّخُّ، قالَ‏:‏ والمعنى الذي أشارَ إليه ابنُ صَيَّادٍ- خَذَلَهُ اللهُ- فيهِ مفهومٌ، ثُمَّ أنشدَ لعليِّ ابنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه‏:‏

طُوْبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مَزَخَّهْ *** يَزُخُّهَا ثُمَّ يَنَامُ الفَخَّهْ

فالْمَزَخَّةُ- بالفتحِ-‏:‏ هي المرأةُ‏.‏ قالَهُ الجوهريُّ‏.‏ ومعنى يَزُخُّها‏:‏ يجامِعُها‏.‏ والفَخَّةُ‏:‏ أنْ ينامَ فينفخَ في نومِهِ‏.‏ هذا الذي فَسَّرَ الحاكمُ بهِ الحديثَ من كونِهِ الجماعَ، تخليطٌ فاحشٌ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ، ثُمَّ إنِّي لم أرَ في كلامِ أهلِ اللغةِ أَنَّ الدُّخَّ-بالدال-‏:‏ هو الجماعُ‏.‏ وإنما ذكروهُ بالزاي فقطْ‏.‏ ومِمَّنْ فسَّرَهُ على غيرِ الصوابِ أيضاً أبو سليمانَ الخطَّابيُّ فرجَّحَ أَنَّ الدُّخَّ‏:‏ نَبْتٌ موجودٌ بينَ النخيلِ، وقالَ‏:‏ لا معنى للدُّخَانِ هاهنا، إِذ ليسَ ممَّا يُخَبَّأُ، إلاَّ أنْ يُريدَ بـ‏:‏ خَبَأْتُ أضْمَرْتُ وما قالَهُ الخطابيُّ أيضاً غيرُ مَرْضِيٍّ‏.‏وقولي‏:‏ ‏(‏والحاكمُ‏)‏، هُوَ ابتداءُ كلامٍ مرفوعٍ، ‏(‏وَفَسَّرَهُ‏)‏‏:‏ في موضعِ الخبرِ‏.‏

الْمُسَلْسَلُ

764‏.‏ مُسَلْسَلُ الْحَدِيْثِ مَا تَوَارَدَا *** فِيْهِ الرُّوَاةُ وَاحِداً فَوَاحِدَا

765‏.‏ حَالاً لَهُمْ أوْ وَصْفاً اوْ وَصْفَ سَنَدْ *** كَقَوْلِ كُلِّهِمْ‏:‏ سَمِعْتُ فَاتَّحَدْ

766‏.‏ وَقَسْمُهُ إلى ثَمَانٍ مُثُلُ *** وَقَلَّمَا يَسْلَمُ ضَعْفاً يَحْصُلُ

767‏.‏ وَمِنْهُ ذُوْ نَقْصٍ بِقَطْعِ السِّلْسِلَهْ *** كَأوَّلِيَّةٍ وَبَعْضٌ وَصَلَهْ

التسلسلُ من صفاتِ الأسانيدِ، فالحديثُ المُسَلْسَلُ‏:‏ هو ما تواردَ رجالُ إسنادِهِ واحداً فواحداً على حالةٍ واحدةٍ أوْ صفةٍ واحدةٍ سواءٌ كانتِ الصفةُ للرواةِ، أو للإسنادِ‏.‏ وسواءٌ كانَ ما وقعَ منهُ في الإسنادِ في صيغِ الأداءِ، أو متَعَلّقاً بزمنِ الروايةِ، أو بالمكانِ‏.‏ وسواءٌ أكانتْ أحوالُ الرواةِ، أو صفاتُهم أقوالاً، أمْ أفعالاً‏؟‏

‏[‏التسلسل بأحوالِ الرواةِ القوليَّةِ‏]‏

مثالُ التسلسلِ بأحوالِ الرواةِ القوليَّةِ، حديثُ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ‏:‏ «يا معاذُ، إنِّي أُحبُّكَ، فَقُلْ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ‏:‏ اللَّهُمَّ أَعِنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عِبَادَتِكَ»، فَقَدْ تَسَلْسَلَ لنا بقولِ كُلٍّ من رواتهِ‏:‏ وأنا أحبُّكَ فقلْ‏.‏

‏[‏التسلسل بأحوالِ الرواةِ الفعليَّةِ‏]‏

ومثالُ التسلسلِ بأحوالِ الرواةِ الفعليَّةِ، حديثُ أبي هريرةَ قالَ‏:‏ شَبَّكَ بيدي أبو القاسمِ صلى الله عليه وسلم، وقالَ‏:‏ خَلَقَ اللهُ الأرضَ يومَ السَّبْتِ، …الحديثَ‏.‏ فقدْ تسلسلَ لنا تشبيكُ كُلِّ واحدٍ من رواتِهِ بيدِ مَنْ رواهُ عنهُ‏.‏ وقدْ يجتمعُ تسلسلُ الأقوالِ والأفعالِ في حديثٍ واحدٍ كالحديثِ الذي أخبرنا بهِ محمدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الأنصاريُّ سماعاً عليهِ بدمشقَ في الرحلةِ الأولى، قالَ‏:‏ أخبرنا والدِي، ويحيى بنُ عليِّ بنِ محمدٍ القلانسيُّ قالاَ‏:‏ أخبرنا عليُّ بنُ محمدِ ابنِ أبي الحسنِ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يحيى بنُ محمودٍ الثقفيُّ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إسماعيلُ بنُ محمدِ بنِ الفضلِ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ عليِّ بنِ خَلَفٍ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الزبيرُ بنُ عبدِ الواحدِ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يوسفُ ابنُ عبدِ الأحدِ الشافعيُّ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سليمانُ بنُ شعيبٍ الكَيْسانيُّ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سعيدٌ الأَدَمُ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِهابُ بنُ خِرَاشٍ، قالَ‏:‏ سمعتُ يزيدَ الرَّقَاشِيَّ يُحَدِّثُ عن أنسِ بنِ مالكٍ، قالَ‏:‏ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يَجِدُ العبدُ حلاوةَ الإيمانِ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ» قالَ‏:‏ وقبضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على لحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وقَبَضَ أنسٌ على لحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ يزيدُ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقدرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ شهابٌ بلحيتِهِ، فقالَ‏:‏ آمنتُ بالقدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ سعيدٌ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ سليمانُ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ يوسفُ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ الحاكمُ‏:‏ وأخذَ الزبيرُ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ الحاكمُ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ ابنُ خَلَفٍ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ إسماعيلُ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ يحيى الثقفيُّ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ عليُّ بنُ محمدٍ بلحيتِهِ وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ‏:‏ وأخذَ كُلٌّ مِنْ يحيى بنِ القلانسيِّ وإسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، وأخذَ شيخُنا أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ إسماعيلَ بلحيتِهِ، وقالَ‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ‏.‏

‏[‏التسلسلُ بصفاتِ الرواةِ القوليةِ‏]‏

ومثالُ التسلسلِ بصفاتِ الرواةِ القوليةِ، كالحديثِ المُسلسلِ بقراءةِ سورةِ الصفِّ ونحوِهِ‏.‏ وأحوالُ الرواةِ القوليَّةُ، وصفاتهُم القوليةُ، متقاربةٌ بل متماثلةٌ‏.‏ ومثالُ التسلسلِ بصفاتِ الرواةِ الفعليَّةِ، كالحديثِ المسلسلِ بالفقهاءِ، وهو حديثُ ابنِ عمرَ مرفوعاً‏:‏ «البَيِّعَانِ بالخِيَارِ» فقد تسلسلَ لنا بروايةِ الفقهاءِ‏.‏ وكالحديثِ المسلسلِ بروايةِ الحفَّاظِ، ونحوِ ذلكَ‏.‏ ومثالُ التسلسلِ بصفاتِ الإسنادِ والروايةِ، كقولِ كُلٍّ من رواتِهِ‏:‏ سمعتُ فلاناً، وإليهِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏كقولِ كُلِّهم‏:‏ سمعتُ فاتَّحِدْ‏)‏، لفظُ الأَدَاءِ في جميعِ الرواة فصارَ مسلسلاً بذلكَ، وكذلكَ قولُ جميعِهِمُ حدَّثَنا، أو قولُهَم‏:‏ أخبرنا، وقولهُمُ‏:‏ شهدتُ على فلانٍ، قالَ‏:‏ شهدتُ على فلانٍ، ونحوُ ذلكَ‏.‏ وجعلَ الحاكمُ من أنواعِهِ أنْ تكونَ ألفاظُ الأداءِ في جميعِ الرواةِ دالةٌ على الاتصالِ، وإنِ اختلفَتْ، فقالَ بعضُهم‏:‏ سمعتُ، وبعضُهم‏:‏ أخبرنا، وبعضُهم‏:‏ حَدَّثَنَا، ولَم يُدْخِلِ الأكثرونَ في المسلسلاتِ إلاَّ ما اتفقتْ فيهِ صيغُ الأداءِ بلفظٍ واحدٍ، ومثالُ التسلسلِ في وقتِ الروايةِ حديثُ ابنِ عباسٍ، قالَ‏:‏ شهدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في يومِ عيدِ فِطْرٍ، أَوْ أَضْحَى، … الحديث‏.‏ فقد تسلسلَ لنا بروايةِ كُلِّ واحدٍ من الرواةِ له في يومِ عيدٍ وكحديثِ تسلسُلِ قَصِّ الأظفارِ بيومِ الخميسِ، ونحوِ ذلكَ‏.‏ ومثالُ التسلسلِ بالمكانِ، كالحديثِ المسلسلِ بإجابةِ الدعاءِ في الْمُلْتَزمِ‏.‏

‏[‏أنواع أخرى للتسلسل‏]‏

وأنواعُ التسلسلِ كثيرةٌ‏.‏ وقد ذكرَهُ الحاكمُ في علومِهِ ثَمَانيةَ أنواعٍ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ والذي ذكرَهُ فيها إنَّمَا هو صُوَرٌ، وأمثلةٌ ثَمَانيةٌ، ولا انحصارَ لذلكَ في ثَمَانيةٍ‏.‏ قلتُ‏:‏ لم يقل الحاكمُ إنَّهُ يَنْحَصِرُ في ثَمَانيةِ أنواعٍ، كما فهمَهُ ابنُ الصلاحِ، وإنَّمَا قالَ بعدَ ذِكْرِهِ الثَّمَانيةَ‏:‏ «فهذه أنواعُ المسلسَلِ من الأسانيدِ المتصلةِ التي لا يشوبُهَا تدليسٌ وآثارُ السماعِ بينَ الراويينِ ظاهرةٌ»‏.‏ انتهى‏.‏ فالحاكمُ إِنَّمَا ذَكَرَ من أنواعِ المُسَلْسَلِ ما يدلُّ على الاتصالِ‏.‏ فالأولُ‏:‏ المسلسلُ بـ‏:‏ سَمِعْتُ‏.‏ والثاني‏:‏ المسلسلُ بقولِهِم‏:‏ قُمْ فصبَّ عليَّ حتى أريَك وضوءَ فلانٍ‏.‏ والثالثُ‏:‏ المسلسلُ بمطلقِ ما يدلُّ على الاتصالِ من «سمعتُ» أو «أخبرَنا» أو «حَدَّثَنَا»، وإنِ اختلفَتْ ألفاظُ الرواةِ‏.‏ والرابعُ‏:‏ المسلسلُ بقولِهِم‏:‏ فإنْ قيلَ لفلانٍ‏:‏ مَنْ أَمَرَكَ بهذا‏؟‏ قالَ‏:‏ يقولُ‏:‏ أمرني فلانٌ‏.‏ والخامسُ‏:‏ المسلسلُ بالأخذِ باللحيةِ، وقولِهِم‏:‏ آمنتُ بالقَدَرِ، الحديث، وقد تقدَّمَ‏.‏ والسادسُ‏:‏ المسلسلُ بقولِهِم‏:‏ وعدَّهُنَّ في يدي‏.‏ والسابعُ‏:‏ المسلسلُ بقولِهِم‏:‏ شهدْتُ على فلانٍ‏.‏ والثامنُ‏:‏ المسلسلُ بالتشبيكِ باليدِ مع أَنَّ من أمثلتِهِ ما يدلُّ على الاتصالِ، ولم يذكرْهُ، كالمسلسلِ بقولِهِم‏:‏ أطعَمَنا وسقانا‏.‏ والمسلسلِ بقولِهِم‏:‏ أضافَنَا بالأسودَيْنِ، التمرِ والماءِ‏.‏ والمسلسلِ بقولِهِم‏:‏ أخذَ فلانٌ بيدي‏.‏ والمسلسلِ بالمصافَحةِ‏.‏ والمسلسلِ بقصِّ الأظفارِ يومَ الخميسِ، ونحوِ ذلكَ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وخيرُها ما كانَ فيه دلالةٌ على اتِّصَالِ السَّماعِ وعدمِ التدليسِ، قالَ‏:‏ ومن فضيلةِ التسلسلِ اشتمالُه على مزيدِ الضَّبْطِ من الرواةِ‏.‏ قالَ‏:‏ وقلَّما تَسْلَمُ المسلسلاتُ من ضَعْفٍ، أعني‏:‏ في وصفِ التسلسُلِ لا في أصلِ المتنِ»‏.‏ ومن المسلسلِ ما هو ناقصُ التسلسُلِ بقطعِ السِلسِلةِ في وَسَطِهِ، أو أوَّلِهِ، أو آخرِهِ، كحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو المسلسلِ بالأَوَّلِيَّةِ، فإِنَّهُ إنَّمَا يصحُّ التسلسلُ فيهِ إلى سفيانَ بنِ عُيينةَ، وانقطعَ التسلسلُ بالأَوَّلِيَّةِ في سماعِ سفيانَ من عمرٍو، وفي سماعِ عمرٍو من أبي قَابُوسَ، وفي سماعِ أبي قابوسَ من عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، وفي سماعِ عبدِ اللهِ من النبيِّصلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد وقعَ لنا- بإسنادٍ متصلٍ- التسلسلُ إلى آخرِهِ، ولا يصحُّ ذلكَ، واللهُ أعلمُ‏.‏

النَّاسِخُ، وَالْمَنْسُوْخُ

768‏.‏ وَاَلنَّسْخُ رَفْعُ الشَّارِعِ السَّابقَ مِنْ *** أَحْكَامِهِ بِلاَحِقٍ وَهْوَ قَمِنْ

769‏.‏ أَنْ يُعْتَنَى بِهِ وَكَانَ الشَّافِعِي *** ذَا عِلْمِهِ ثُمَّ بِنَصِّ الشَّارِعِ

770‏.‏ أَوْ صَاحِبٍ أَوْ عُرِفَ التَّارِيْخُ أَوْ *** أُجْمِعَ تَرْكَاً بَانَ نَسْخٌ وَرَأَوْا

771‏.‏ دَلاَلَةَ الإِجْمَاعِ لاَ النَّسْخَ بِهِ *** كَالْقَتْلِ فِي رَابِعَةٍ بِشُرْبِهِ

النسخُ يطلقُ لغةً‏:‏ على الإزالةِ، وعلى التحويلِ‏.‏ وأمَّا نسخُ الأحكامِ الشرعيَّةِ، وهو المحدودُ هنا، فهو عبارةٌ عن‏:‏ «رَفْعُ الشَّارعِ حُكْماً مِنَ أحكامِهِ سابقاً، بحكمٍ من أحكامِهِ لاحقٌ»‏.‏

والمرادُ برفعِ الحكمِ‏:‏ قطعُ تَعَلُّقِهِ بالمكلّفينَ، وإلاَّ فالحكمُ قديمٌ لا يرتفعُ‏.‏ فقولنُا‏:‏ ‏(‏رفعُ‏)‏، احترازٌ عن بيانِ مجملٍ، فإنَّهُ ليسَ برفعٍ‏.‏

وقولنا‏:‏ ‏(‏الشارعِ‏)‏، احترازٌ عن إخبارِ بعضِ مَنْ شاهدَ النسخَ من الصحابةِ، فإنَّهُ لا يكونُ نسخاً، وإنْ كانَ التكليفُ إِنَّمَا حصلَ بإخبارِهِ لِمَنْ لم يكنْ بلغَهُ قَبْلَ ذلكَ‏.‏

وقولُنا‏:‏ حكماً من أَحكامِهِ احترازٌ عن رفعِ الإباحةِ الأصليةِ، فإنَّهُ لا يُسَمَّى نسخاً‏.‏

وقولُنا‏:‏ سابقاً، احترازٌ عن التخصيصِ المتصلِ بالتكليفِ، كالاستثناءِ، ونحوِهِ‏.‏

وقولُنا‏:‏ بحكمٍ من أحكامِهِ، احترازٌ عن رَفْعِ الحكمِ لموتِ المكلفِ، أو زوالِ التكليفِ بجنونٍ، أو نحوِهِ‏.‏

وقولُنا‏:‏ لاحقٌ، احترازٌ عن انتهاءِ الحكمِ بانتهاءِ الوقتِ، كقولهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّكُمْ لاَقُوا العَدُوَّ غَداً، والفِطْرُ أَقْوَى لَكُم، فَأَفْطِرُوا»‏.‏ فالصومُ- مثلاً- بعدَ ذلكَ اليومِ ليسَ لنسخِ متَأخّرٍ، وإنَّمَا المأمورُ بهِ مُؤَقَّتٌ وقدْ انقضى وَقْتُهُ بعدَ ذلكَ اليومِ المأمورِ بإفطارِهِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وهو قَمِنْ‏)‏- بفتحِ القافِ وكسرِ الميمِ- على إحدى اللُّغتينِ، بمعنى‏:‏ حقيقٌ، أي‏:‏ وعِلْمُ الناسخِ والمنسوخِ حقيقٌ أنْ يُعتَنَى بهِ‏.‏

وقولي‏:‏ ذا عِلْمِهِ، أي‏:‏ صاحبُ علمهِ‏.‏ وقد روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ، أنَّهُ قالَ‏:‏ ما عَلِمْنَا الْمُجْمَلَ مِنَ الْمُفَسَّرِ، ولا ناسخَ حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من منسوخِهِ حتى جالسْنَا الشافعيَّ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏ثُمَّ بنَصِّ الشَّارِعِ …‏)‏ إلى آخرِهِ‏.‏ الجارُ والمجرورُ هنا متعلقٌ بقولي‏:‏ ‏(‏بانَ نسخٌ‏)‏ أي‏:‏ يتبينُ النسخُ، ويعرفُ بنصِّ الشارعِ عليهِ، أو بنصِّ صاحبٍ من الصحابةِ عليهِ، أو بمعرفِةِ التاريخِ للواقعتينِ، أو بأنْ يُجمعَ على تركِ العملِ بحديثٍ‏.‏

فالأولُ‏:‏ كقولِهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كُنْتُ نَهَيْتُكُم عن زيَارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوْهَا‏.‏ وكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن لُحُومِ الأضَاحِي فوقَ ثلاثٍ فكُلُوا ما بَدَا لكُمْ‏.‏ وكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الظُّرُوْفِ، … الحديثَ»‏.‏ أخرجه مسلمٌ والترمذيُّ وصحَّحَهُ من حديثِ بُرَيْدَةَ بنِ الْحُصَيْبِ‏.‏

والثاني‏:‏ كقولِ جابرٍ‏:‏ كانَ آخِرَ الأمْرَيْنِ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الوُضُوءِ ممَّا مَسَّتِ النَّارُ‏.‏ رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ‏.‏ وكقولِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ‏:‏ كانَ الماءُ من الماءِ رُخْصَةً في أوَّلِ الإسلامِ ثُمَّ أُمِرَ بالغُسْلِ‏.‏ رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ وَصَحَّحَهُ، وابنُ ماجه‏.‏ هكذا أطلقَ ابنُ الصلاحِ أنَّ مما يُعْرَفُ النسخُ به قولَ الصحابي، وهو واضحٌ‏.‏ وخصَّصَ أهلُ الأصولِ ثبوتَ النسخِ بقولِهِ فيما إذا أخبرَ‏:‏ بأنَّ هذا متأخّرٌ‏.‏ فإنْ قالَ‏:‏ هذا ناسخٌ‏.‏ لم يثبتْ بهِ النسخُ‏.‏ قالَوا‏:‏ لجوازِ أنْ يقولَهُ عن اجتهادِهِ، بناءً على أنَّ قولَهُ ليسَ بحجَّةٍ‏.‏ وما قالَهُ أهلُ الحديثِ أوضحَ وأشهرَ‏.‏ والنسخُ لا يُصارُ إليهِ بالاجتهادِ والرأي، وإنَّمَا يُصارُ إليهِ عندَ معرفةِ التأريخِ‏.‏ والصحابةُ أورعُ من أنْ يحكمَ أحدٌ منهم على حُكمٍ شرعيٍّ بنسخٍ من غيرِ أنْ يعرفَ تأخُّرَ الناسخِ عنهُ‏.‏ وفي كلامِ الشافعيِّ موافقةٌ لأهلِ الحديثِ، فقدْ قالَ فيما رواهُ البيهقيُّ في ‏"‏ المدخلِ ‏"‏‏:‏ ولا يُسْتَدَلُّ على الناسخِ والمنسوخِ إلاَّ بخبرٍ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أو بوقتٍ يَدُلُّ على أَنَّ أحدَهُما بعدَ الآخَرِ، أو بقولِ مَنْ سَمِعَ الحديثَ، أو العامَّةِ‏.‏

فقولُهُ‏:‏ أو بقولِ مَنْ سمعَ الحديثَ، أرادَ بهِ قولَ الصحابةِ مطلقاً، فذكرَ الوجوهَ الأربعةَ التي يُعْرَفُ بها النسخُ، واللهُ أعلمُ‏.‏

والثالثُ‏:‏ كحديثِ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ «أَفْطَرَ الحاجِمُ والْمَحْجُومُ»‏.‏ رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ، وابنُ ماجه‏.‏ فذكرَ الشافعيُّ رضي الله عنه‏:‏ أنَّهُ منسوخٌ بحديثِ ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجمَ وهو مُحْرِمٌ صائمٌ‏.‏ أخرجَهُ مسلمٌ‏.‏ فإنَّ ابنَ عبَّاسٍ إنَّمَا صَحِبَهُ مُحْرِماً في حجَّةِ الوداعِ سنةَ عشرٍ‏.‏ وفي بعضِ طرقِ حديثِ شَدَّادٍ‏:‏ أنَّ ذلكَ كانَ زَمَنَ الفتحِ، وذلكَ في سنةِ ثمانٍ، واللهُ أعلمُ‏.‏

والرابعُ‏:‏ كحديثِ مُعاويةَ قالَ‏:‏ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فاجْلِدُوهُ، فإنْ عادَ في الرابعةِ فَاقْتُلُوهُ»‏.‏ رواهُ أصحابُ السنِنِ، أبو داود، والترمذيُّ، وابنُ ماجه، قالَ الترمذيُّ في آخرِ ‏"‏ الجامعِ ‏"‏‏:‏ «جميعُ ما في هذا الكتابِ معمولٌ بهِ، وقد أخذَ بهِ بعضُ أهلِ العِلْمِ ما خَلاَ حديثينِ‏:‏ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ في الجمعِ بين الظهرِ والعصرِ بالمدينةِ، والمغربِ والعشاءِ من غيرِ خَوفٍ، ولا سفرٍ، وحديثُ، إذا شربَ الخمرَ فاجلدوهُ، فإنْ عادَ في الرابعةِ فاقْتُلُوهُ»‏.‏ قالَ النوويُّ في ‏"‏ شرحِ مسلمٍ ‏"‏‏:‏ «وهذا في حديثِ شاربِ الخمرِ هو كما قالَهُ، فهو حديثٌ منسوخٌ دلَّ الإجماعُ على نَسْخِهِ‏.‏ قالَ‏:‏ وأمَّا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ فلَمْ يُجْمِعُوا على تَرْكِ العَمَلِ بهِ»‏.‏قلتُ‏:‏ وقولُهُ عن حديثِ شاربِ الخمرِ‏:‏ أنَّهُ كما قالَهُ، فيهِ نظرٌ من حيثُ إنَّ ابنَ حَزْمٍ خالفَ في ذلكَ‏.‏ اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يُقالَ‏:‏ إنَّ خلافَ الظاهريَّةِ لا يقدحُ في الإجماعِ‏.‏ وقد ذكرَ أبو الفتحِ اليعمريُّ في ‏"‏شرحِ الترمذيِّ‏"‏، أنَّهُ روى ذلكَ أيضاً عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، واللهُ أعلمُ‏.‏

ومعَ الإجماعِ على خلافِ العملِ به فقد وردَ النَّسْخُ لذلكَ-كما قالَ الترمذيُّ- من روايةِ محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ، عنْ جابرٍ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ‏:‏ «إنْ شَرِبَ الخمرَ فاجْلِدُوهُ، فإنْ شَرِبَ في الرابعةِ فاقْتُلُوهُ»‏.‏ قالَ‏:‏ ثُمَّ أُتِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلكَ برجلٍ قد شَرِبَ الخَمْرَ في الرابعةِ فضرَبهُ ولم يقتلْهُ، قالَ‏:‏ وكذلكَ روى الزهريُّ، عن قَبِيْصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، نحوَ هذا، قالَ‏:‏ فرُفِعَ القتلُ، وكانتْ رُخْصَةً‏.‏ ولم يجعلْ أبو بكرٍ الصَّيرفيُّ الإجماعَ دليلاً على تَعَيُّنِ المصيرِ للنسخِ، بل جعلَهُ متردداً بينَ النسخِ والغَلَطِ، فإنَّهُ قالَ في كتابهِ ‏"‏ الدلائلِ ‏"‏‏:‏ فإنْ أُجْمِعَ على إبطالِ حُكْمِ أحدِهما، فهو منسوخٌ، أوْ غلطٌ، والآخرُ ثابتٌ‏.‏ وما قالَهُ محتَملٌ، واللهُ أعلمُ‏.‏

التَّصْحِيْفُ

772‏.‏ وَالْعَسْكَرِيْ وَالدَّارَقُطْنِيْ صَنَّفَا *** فِيْمَا لَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ صَحَّفَا

773‏.‏ فِي الْمَتْنِ كَالصُّوْلِيِّ «سِتّاً» غَيَّرْ *** «شَيْئاً»، أوِ الإِسْنَادِ كَابْنِ النُّدَّرْ

774‏.‏ صَحَّفَ فِيْهِ الطَّبَرِيُّ قالاَ‏:‏ *** «بُذَّرُ» بالبَاءِ وَنَقْطٍ ذَالاَ

معرفةُ التصحيف فَنٌّ مهمٌّ، وقد صنَّفَ فيهِ أبو الحسنِ الدَّارقطنيُّ، وصنَّفَ فيهِ أبو أحمدَ العسكريُّ كتابَهُ المشهورَ في ذلكَ، وذِكْرُ العسكريِّ من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ بغيرِ تمييزٍ‏.‏

ثُمَّ التصحيفُ ينقسمُ إلى تصحيفٍ في متنِ الحديثِ، وإلى تصحيفٍ في الإسنادِ‏.‏ وينقسمُ أيضاً إلى تصحيفِ البصرِ-وهو الأكثرُ- وإلى تصحيفِ السَّمْعِ-كما سيأتي-‏.‏ وينقسمُ أيضاً إلى تصحيفِ اللَّفْظِ- وهو الأكثرُ- وإلى تصحيفِ المعنى- كما سيأتي-‏.‏ فمثالُ التصحيفِ في المتنِ ما ذكرَهُ الدارقطنيُّ‏:‏ أَنَّ أبا بكرٍ الصُّوليَّ أَمْلَى في الجامعِ حديثَ أبي أيوبَ مرفوعاً‏:‏ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وأَتْبَعَهُ سِتّاً من شَوَّالٍ، …»‏.‏ فقالَ فيهِ‏:‏ شيئاً- بالشينِ المعجمةِ، والياءِ آخرِ الحروفِ-‏.‏ وكقولِ هِشامِ بنِ عُرْوةَ في حديثِ أبي ذَرٍّ‏:‏ «تُعِينُ ضَايعاً»- بالضادِ المعجمة والياءِ آخرِ الحروفِ-‏.‏ والصوابُ- بالمهملةِ والنونِ-‏.‏ وكقولِ وكيعٍ في حديثِ معاويةَ‏:‏ «لعنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذينَ يُشَقِّقُوْنَ الحَطبَ» بفتح الحاء المهملة- وإنَّمَا هو بضمِّ المعجمَةِ-‏.‏ وحُكِيَ‏:‏ أنَّ ابنَ شاهيَن صحَّفَهُ كذلكَ‏.‏ وكقولِ أبي موسى محمدِ بنِ الْمُثَنَّى في حديثِ‏:‏ «أو شاةٍ تَنْعَرُ- بالنونِ- وإنَّمَا هو بالياءِ آخرِ الحروفِ‏.‏ وكقولِ أبي بكرٍ الإسماعيليِّ في حديثِ عائشةَ‏:‏ «قَرَّ الزُّجَاجَةِ» بالزاي، وإِنَّما هو بالدالِ المهملةِ المفتوحةِ‏.‏

ومثالُ التصحيفِ في الإسنادِ ما ذكرَهُ الدارقطنيُّ‏:‏ أنَّ محمدَ بنَ جريرٍ الطبريَّ قالَ فيمَنْ روى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بني سُليمٍ، ومنهم‏:‏ عُتبةُ بنُ البُذَّرِ، قالَهُ‏:‏ بالموحّدةِ والذالِ المعجمةِ، وإنَّمَا هو بالنونِ المضمومةِ، وفتحِ الدالِ المهملةِ المشدَّدَةِ‏.‏ وكقولِ يحيى بنِ مَعينٍ‏:‏ العَوَّامُ بنُ مُزَاحِمٍ- بالزاي والحاء المهملة- وإنَّمَا هو بالراءِ والجيمِ‏.‏

775‏.‏ وَأَطْلَقُوْا التَّصْحِيْفَ فِيْمَا ظَهَرَا *** كَقَوْلِهِ‏:‏ «احْتَجَمْ» مَكَانَ «احْتَجَرا»

أي‏:‏ وقد أطلقَ مَنْ صنَّفَ في التصحيفِ، التصحيفَ على ما لا تشتبِهُ حروفُهُ بغيرِهِ، وإنَّمَا أخطأَ فيه راويهِ، أو سقطَ بعضُ حروفِهِ من غيرِ اشتباهٍ‏.‏ مثالُهُ ما ذكرهَ مسلمٌ في ‏"‏التمييزِ‏"‏‏:‏ أنَّ ابنَ لهيعةَ صَحَّفَ في حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ‏:‏ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «احْتَجَرَ في المسجدِ»، فقالَ‏:‏ احْتَجَمَ بالميمِ‏.‏ وكما رَوَى يحيى بنُ سَلاَّمٍ الْمُفَسِّرُ عن سعيدِ بن أبي عَرُوبةَ عن قَتَادةَ في قولِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏سأُرِيْكُمْ دَارَ الْفَاسِقِيْنَ‏}‏، قالَ‏:‏ مِصْرُ، وقدِ استعظمَ أبو زُرْعَةَ الرازيُّ هذا واستقبحَهُ، وذكرَ- أنَّهُ في تفسيرِ سعيدٍ عن قتادةَ-‏:‏ مَصِيْرُهُم، فأطلقوا على مثلِ هذا اسمَ التصحيفِ، وإنْ لم يشتبهْ‏.‏ ولكنَّهُ سقطَ الضميرُ والياءُ، فوقعَ هكذا‏.‏

776‏.‏ وَوَاصِلٌ بِعَاصِمٍ وَالأَحْدَبُ *** بِأَحْوَلٍ تَصْحِيْفَ سَمْعٍ لَقَّبُوا

777‏.‏ وَصَحَّفَ الْمَعْنَى إِمَامُ عَنَزَهْ *** ظَنَّ الْقَبِيْلَ بحَدِيْثِ «الْعَنَزَهْ»

778‏.‏ وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ سُكُوْنَ نَوْنِهْ *** فَقالَ‏:‏ شَاَةٌ خَابَ فِي ظُنُوْنِهْ

هذا مثالٌ لتصحيفِ السمعِ، وتصحيفِ المعنى‏.‏ فأمّا تصحيفُ السَّمْعِ فهو‏:‏ أنْ يكونَ الاسمُ واللقبُ، أو الاسمُ واسمُ الأبِ على وزن اسمٍ آخرَ ولقبِهِ، أو اسمٍ آخرَ واسمِ أبيهِ؛ والحروفُ مختلفةٌ شكلاً ونطقاً، فيشتبِهُ ذلكَ على السَّمْعِ، كأنْ يكونَ الحديثُ لعاصمٍ الأحولِ فيجعلُهُ بعضُهم عن واصلٍ الأحدبِ‏.‏ فذكرَ الدارقطنيُّ‏:‏ أنَّهُ من تصحيفِ السمعِ‏.‏ وكذا عكسُهُ، مثالُهُ ما ذكرَهُ النسائيُّ عن يزيدَ بنِ هارونَ، عن شعبةَ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن أبي وائلٍ، عن ابنِ مسعودٍ بحديث‏:‏ «أيُّ الذنبِ أعظمُ‏؟‏ … الحديث»‏.‏ وكذلكَ ذكرَهُ الخطيبُ في ‏"‏ المُدْرَجَاتِ ‏"‏ من طريقِ مهديِّ بنِ ميمونٍ، عن عاصمٍ الأحولِ، والصوابُ‏:‏ واصلٌ الأحدبُ مكانَ عاصمٍ الأحولِ من طريقِ شعبةَ، ومهديٍّ، وغيرِهما‏.‏ قالَ النسائيُّ‏:‏ حديثُ يزيدَ خطأٌ، إنَّما هو عن واصلٍ‏.‏ وقالَ الخطيبُ‏:‏ إنَّ قولَ بعضِهِم‏:‏ عن مهديِّ بنِ ميمونٍ، عن عاصمٍ الأحولِ؛ وَهْمٌ‏.‏ قالَ‏:‏ وقد رواهُ شعبةُ والثوريُّ ومالكُ بنُ مِغْولٍ، وسعيدُ بنُ مسروقٍ، عن واصلٍ الأحدبِ‏.‏ عن أبي وائلٍ‏.‏ قالَ‏:‏ وهذا أيضاً هو المشهورُ من روايةِ مهديٍّ‏.‏ ومن ذلك ما رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ من روايةِ شعبةَ عن مالكِ ِعُرْفُطَةَ، عن عبدِ خيرٍ، عن عليٍّ في صفةِ الوضوءِ والصوابُ‏:‏ خالدُ بنُ عَلْقَمَةَ، مكانَ‏:‏ مالكِ بنِ عُرْفُطةَ‏.‏ قالَهُ النسائيُّ‏.‏ وقد نسبَ شعبةَ فيهِ إلى الخطأ أبو داودَ والنسائيُّ وغيرُهما‏.‏ وقد سمَّى أحمدُ بنُ حنبلٍ هذا تصحيفاً، فقالَ في حديثٍ رواهُ شُعبةُ عن مالك بنِ عُرْفُطةَ، عن عبدِ خَيرٍ، عن عائشةَ في النهي عنِ الدُّبَّاءِ، والْمُزَفَّتِ، صَحَّفَ فيه شُعبةُ، وإنَّمَا هو خالدُ بنُ عَلْقَمةَ‏.‏وأما تصحيفُ المعنى، فمثالُهُ ما ذكرَهُ الدارقطنيُّ‏:‏ أنَّ أبا موسى محمدَ بنَ الْمُثَنَّى العَنَزِيَّ الملقَّبَ بالزَّمِنِ، أحدَ شيوخِ الأئِمَّةِ السِّتَّةِ، وَهُوَ المرادُ في قولي‏:‏ ‏(‏إِمَامُ عَنَزَهْ‏)‏، قالَ يوماً‏:‏ نحنُ قومٌ لنا شَرَفٌ، نحنُ من عَنَزَةَ قَدْ صَلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلينا‏.‏ يريدُ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إلى عَنَزَةَ فَتَوَهَّمَ أنَّهُ صَلَّى إلى قبيلتِهِم‏.‏ وإنَّمَا العَنَزَةُ هنا الحربةُ تُنْصَبُ بينَ يديهِ‏.‏ وأعجبُ مِن ذلكَ ما ذكرهُ الحاكمُ عن أعرابيٍّ‏:‏ أنَّهُ زعمَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا صَلَّى نُصِبَتْ بينَ يديهِ شاةٌ فصحَّفَها عَنْزَة- بإسكان النون- ثُمَّ رواهُ بالمعنى على وهْمِهِ فاخطأَ في ذلكَ من وجهينِ، واللهُ أعلمُ‏.‏ ومن أمثلةِ تصحيفِ المعنى، ما ذكرَهُ الخطَّابيُّ عن بعضِ شيوخِهِ في الحديثِ‏:‏ أنّهُ لما روى حديثَ النهيِ عن التحليقِ يومَ الْجُمعةِ قبلَ الصلاةِ، قالَ‏:‏ ما حَلَقْتُ رأسي قبلَ الصلاةِ منذُ أربعينَ سنةً‏.‏ فهِمَ منهُ تحليقَ الرؤوسِ، وإنَّمَا المرادُ تحليقُ الناسِ حِلَقاً، واللهُ أعلمُ‏.‏

مُخْتَلِفُ الْحَدِيْثِ

779‏.‏ وَالْمَتْنُ إِنْ نَافَاهُ مَتْنٌ آخَرُ *** وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلاَ تَنَافُرُ

780‏.‏ كَمَتْنِ «لاَ يُوْرِدُ» مَعْ «لاَ عَدْوَى» *** فَالنَّفْيُ لِلطَّبْعِ وَفِرَّ عَدْوَا

781‏.‏ أَوْلاَ فَإِنْ نَسْخٌ بَدَا فَاعْمَلْ بِهِ *** أَوْ لاَ فَرَجِّحْ وَاعْمَلَنْ بِالأَشْبَهِ

هذا فنٌّ تكلَّمَ فيهِ الأئِمَّةُ الجامعونَ بينَ الحديثِ والفقهِ‏.‏ وأوَّلُ مَنْ تكلَّمَ فيهِ الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه في كتابهِ ‏"‏ اختلافُ الحديثِ ‏"‏، ذكرَ فيهِ جُملةً من ذلكَ يَتَنَبَّهُ بها على طريقِ الجمعِ، ولم يقصدِ استيفاءَ ذلكَ، ولم يفردْهُ بالتأليفِ، إنَّما هو جزءٌ من كتابِ ‏"‏ الأُمِّ ‏"‏‏.‏ ثُمَّ صنَّفَ في ذلكَ أبو محمدِ بنُ قتيبةَ فأَتى بأشياءَ حسنةٍ، وقَصُرَ باعُهُ في أشياءَ قَصَّرَ فيها‏.‏ وصنَّفَ في ذلكَ محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ، وأبو جَعْفَرٍ الطحاويُّ كتابَهُ ‏"‏ مُشْكِلُ الآثارِ ‏"‏، وهو من أَجلِّ كُتُبِهِ وكانَ الإمامُ أبو بكرِ بنُ خُزيمةَ مِنْ أَحسنِ الناسِ كلاماً في ذلكَ، حتى إنَّهُ قالَ‏:‏ لا أعرفُ حديثينِ صحيحينِ متضادَّينِ، فَمَنْ كانَ عندَهُ فليأتني بهِ لأُؤَلِّفَ بينهُمَا‏.‏ وجملةُ الكلامِ في ذلك‏:‏ إنَّا إذا وجدْنَا حديثينِ مختلفي الظاهرِ، فلا يخلو إمّا أنْ يُمْكنَ الجمعُ بينهما بوجهٍ يَنْفي الاختلافَ بينهما، أوْ لا‏؟‏ فإنْ أمْكَنَ ذلكَ بوجهٍ صحيحٍ، تَعَيَّنَ الجمعُ، ولا يُصَارُ إلى التعارُضِ، أوِ النَّسْخِ، معَ إمكانِ الجمعِ، مثالُهُ قولُهُ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ‏:‏ «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ»‏.‏ وقولُهُ‏:‏ «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فرارَكَ من الأسدِ» معَ قولِهِ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ أيضاً‏:‏ «لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ»، فقد جعلَهَا بعضُهم متعارضةً، وأدخلَهَا بعضُهم في الناسخِ والمنسوخِ، كأبي حفصِ بنِ شاهينَ‏.‏ والصوابُ الجمعُ بَيْنَهُما، ووجهُهُ أَنَّ قولَه‏:‏ «لا عَدْوَى» نفيٌ لما كانَ يعتقدُهُ أهلُ الجاهليةِ، وبعضُ الحكماءِ، مِن أنَّ هذهِ الأمراضَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا، ولهذا قالَ‏:‏ «فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ»، أي‏:‏ إنَّ اللهَ هوَ الخالقُ لذلكَ بسببٍ وغيرِ سببٍ، وإنَّ قولَه «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ»، «وفِرَّ منَ الْمَجْذُومِ»، بيانٌ لما يخلقُهُ اللهُ منَ الأسبابِ عندَ المخالطَةِ للمريضِ، وقدْ يتخلَّفُ ذلكَ عن سببِهِ، وهذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ‏.‏ كما أَنَّ النارَ لا تُحْرِقُ بطَبْعِهَا، ولا الطعامُ يُشْبِعُ بطبعِهِ، ولا الماءُ يُرْوِي بطبعِهِ، وإنَّما هيَ أسبابٌ، والقَدَرُ وراءَ ذلك‏.‏ وقد وجدنا من خالطَ المصابَ بالأمراض التي اشتهرتْ بالإعْدَاءِ، ولم يتأثَّرْ بذلكَ‏.‏ ووجدْنَا من احترزَ عن ذلكَ، الاحترازَ الممكنَ، وأُخِذَ بذلكَ المرضِ‏.‏

‏(‏وعَدْوا‏)‏ في آخرِ البيتِ، مصدرُ قولِكِ عَدَا يَعْدُوْا عَدْواً، إذا أسرعَ في مَشْيِهِ، إشارةٌ إلى قولِهِ‏:‏ «فِرَّ منَ الْمَجْذُومِ فِراركَ من الأسدِ»‏.‏

وإنْ لم يمكنِ الجمعُ بينَ الحديثينِ المختلفينِ، فإنْ عُرف المتأخّرُ منهما فإنَّهُ يُصارُ حينئذٍ إلى النسخِ، ويعملُ بالمتأخِّرِ منهما‏.‏ وإنْ لم يدُلَّ دليلٌ على النسخِ، فقد تعارضَا حينئذٍ فيُصَارُ إلى الترجيحِ، ويُعْمَلُ بالأرجحِ منهما، كالترجيحِ بكثرةِ الرواةِ، أو بصفاتِهِم في خمسينَ وَجْهاً من وُجوهِ الترجيحاتِ وأكثرَ‏.‏ كذا ذكرَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ أنَّ وجوهَ الترجيحاتِ خمسونَ، وأكثرُ‏.‏ وتَبِعَ في ذلكَ الحازميَّ، فإنَّهُ كذلكَ قالَ في كتابِ ‏"‏ الاعتبار ‏"‏ لهُ في الناسخِ والمنسوخِ‏.‏ وقد رأينا أنْ نسرُدَها مُختصَرةً‏:‏

الأولُ‏:‏ كثرةُ الرواةِ‏.‏

الثاني‏:‏ كونُ أحدِ الراوِيَيْنِ أتقنَ وأحفظَ‏.‏

الثالثُ‏:‏ كونُهُ مُتَّفَقاً على عدالتِهِ‏.‏

الرابعُ‏:‏ كونُهُ بالغاً حالةَ التحمُّلِ‏.‏

الخامسُ‏:‏ كونُ سماعِهِ تحديثاً، والآخَرِ عَرْضاً‏.‏

السادسُ‏:‏ كونُ أحدِهما سماعاً، أوْ عَرْضاً، والآخرِ كتابةً، أو وِجادةً، أو مُناولةً‏.‏

السابعُ‏:‏ كونُهُ مباشراً لما رواهُ‏.‏

الثامنُ‏:‏ كونُهُ صاحبَ القِصَّةِ‏.‏

التاسعُ‏:‏ كونُهُ أحسنَ سياقاً، واستقصاءً لحديثِهِ‏.‏

العاشرُ‏:‏ كونُهُ أقربَ مكاناً‏.‏

الحادي عشرَ‏:‏ كونُهُ أكثرَ ملازمةً لشيخِهِ‏.‏

الثاني عشرَ‏:‏ كونُهُ سمِعَهُ من مشايخِ بلدِهِ‏.‏

الثالث عشرَ‏:‏ كونُ أحدِ الحديثينِ له مخارجُ‏.‏

الرابعَ عشرَ‏:‏ كونُ إسنادِهِ حِجازياً‏.‏

الخامسَ عشرَ‏:‏ كونُ رواتِهِ من بلدٍ لا يرضونَ التدليسَ‏.‏

السادسَ عشرَ‏:‏ دلالةُ ألفاظِهِ على الاتِّصالِ، كـ‏:‏ سمعتُ، و‏:‏ حدَّثنا‏.‏

السابعَ عشرَ‏:‏ كونُهُ مشافِهاً مُشاهداً لشيخِهِ عندَ الأَخذِ‏.‏

الثامنَ عشرَ‏:‏ عدمُ الاختلافِ في الحديثِ‏.‏

التاسعَ عشرَ‏:‏ كونُ راويهِ لم يضطربْ لفظُهُ، وهو قريبٌ من الذي قبلَهُ‏.‏

العشرونَ‏:‏ كونُ الحديثِ مُتَّفَقاً على رفْعِهِ‏.‏

الحادي والعشرونَ‏:‏ كونُهُ مُتَّفَقاً على اتِّصالِهِ‏.‏

الثاني والعشرونَ‏:‏ كونُ راويهِ لا يجيزُ الروايةَ بالمعنى‏.‏

الثالثُ والعشرونَ‏:‏ كونُهُ فَقِيهاً‏.‏

الرابعُ والعشرونَ‏:‏ كونُهُ صاحبَ كتابٍ يَرْجِعُ إليهِ‏.‏

الخامسُ والعشرونَ‏:‏ كونُ أحدِ الحديثينِ نصاً وقولاً ‏[‏ والآخَرُ نُسِبَ إليهِ استدلالاً واجتهاداً ‏]‏‏.‏

السادسُ والعشرونَ‏:‏ كونُ القولِ يقارنُهُ الفعلُ‏.‏

السابعُ والعشرونَ‏:‏ كونُهُ مُوَافقاً لظاهرِ القرآنِ‏.‏

الثامنُ والعشرونَ‏:‏ كونُهُ مُوَافقاً لِسُنَّةٍ أُخرى‏.‏

التاسعُ والعشرونَ‏:‏ كونُهُ موافقاً للقياسِ‏.‏

الثلاثونَ‏:‏ كونُهُ معه حديثٌ آخرُ مرسلٌ، أو منقطعٌ‏.‏

الحادي والثلاثونَ‏:‏ كونُهُ عملَ به الخلفاءُ الراشدونَ‏.‏

الثاني والثلاثونَ‏:‏ كونُهُ مع عَمَلِ الأُمَّةِ‏.‏

الثالثُ والثلاثونَ‏:‏ كونُ ما تضمَّنَهُ من الحكمِ منطوقاً‏.‏

الرابعُ والثلاثونَ‏:‏ كونُهُ مُستقلاً لا يحتاجُ إلى إضمارِ‏.‏

الخامسُ والثلاثونَ‏:‏ كونُ حكمِهِ مَقْرُوناً بصفةٍ، والآخرُ بالاسمِ‏.‏

السادس والثلاثونَ‏:‏ كونُهُ مقروناً بتفسيرِ الراوي‏.‏

السابعُ والثلاثونَ‏:‏ كونُ أحدِهِما قولاً، والآخرُ فعلاً، فيرجَّحُ القولُ‏.‏

الثامنُ والثلاثونَ‏:‏ كونُهُ لم يدخلْهُ التخصيصُ‏.‏

التاسعُ والثلاثونَ‏:‏ كونُهُ غيرَ مُشعرٍ بنوعِ قدحٍ في الصحابةِ‏.‏

الأربعونَ‏:‏ كونُهُ مُطلقاً، والآخرُ وردَ على سببٍ‏.‏

الحادي والأَربعونَ‏:‏ دلالةُ الاشتقاقِ على أحدِ الحكمينِ‏.‏

الثاني والأربعونَ‏:‏ كونُ أحدِ الخصمينِ قائلاً بالخبرينِ‏.‏

الثالثُ والأربعونَ‏:‏ كونُ أحدِ الحديثينِ فيه زيادةٌ‏.‏

الرابعُ والأربعونَ‏:‏ كونُهُ فيه احتياطٌ للفرضِ وبراءةُ الذِّمَّةِ‏.‏

الخامسُ والأربعونَ‏:‏ كونُ أحدِ الحديثينِ له نظيرٌ متفقٌ على حُكمِهِ‏.‏

السادسُ والأربعونَ‏:‏ كونُهُ يدُلُّ على الحظرِ، والآخرُ على الإباحةِ‏.‏

السابعُ والأربعونَ‏:‏ كونُهُ يثبتُ حُكماً موافقاً لحكمِ ما قبلَ الشَّرْعِ، فقيلَ‏:‏ هو أَوْلَى، وقيلَ‏:‏ هما سواءٌ‏.‏

الثامنُ والأربعونَ‏:‏ كونُ أحدِ الخبرينِ مُسقطاً للحدِّ، فقيلَ‏:‏ هو أَوْلَى، وقيلَ‏:‏ لا ترجيحَ‏.‏

التاسعُ والأربعونَ‏:‏ كونُهُ إثباتاً يتضمنُ النقلَ عن حُكمِ العقلِ والآخرُ نفياً يتضمنُ الإقرارَ على حكمِ العقلِ‏.‏

الخمسونَ‏:‏ أنْ يكونَ أحدُهما في الأقضيةِ، وراويه عليٌّ‏:‏ أو في الفرائضِ، وراويه زيدُ ابنُ ثابتٍ، أو في الحلالِ والحرامِ وراويه مُعاذُ بنُ جَبَلٍ، وَهَلُمَّ جَرّاً‏.‏

فالصحيحُ الذي عليهِ الأكثرونَ، كما قالَ الحازميُّ‏:‏ الترجيحُ بهِ‏.‏ وقدِ اقتصرَ الحازميُّ على ذكرِ هذهِ الخمسينَ وجهاً، قالَ‏:‏ وثَمَّ وجوهٌ كثيرةٌ أضْرَبْنَا عن ذِكْرِها، كي لا يطولَ بهِ هذا الْمُخْتَصَرُ‏.‏ قلتُ‏:‏ وقدْ خالفَهُ بعضُ الأصوليينَ في بعضِ ما ذكرَهُ من وُجوهِ الترجيحاتِ، فرجَّحَ مقابلَهُ، أو نَفى التَّرجيحَ‏.‏ وقد زادَ الأصوليونَ كالإمامِ فخرِ الدينِ الرازيِّ، والسيفِ الآمديِّ، وأتباعِهِما؛ وجوهاً أُخرى للترجيحِ، إذا انضمتْ إِلَى هذهِ، زادتْ عَلَى المائةِ‏.‏ وَقَدْ جمعتُها فِيْمَا جمعتُهُ عَلَى كلامِ ابنِ الصَّلاحِ، فلتراجعْ من هناكَ، وقدِ اقتصرتُ هنا عَلَى ما أودَعَهُ المحدِّثُونَ كُتُبَهُمْ، واللهُ أعلمُ‏.‏

خَفِيُّ الإِرْسَالِ، وَالْمَزِيْدُ فِي الإِسْنَادِ

782‏.‏ وَعَدَمُ السَّمَاعِ وَالِلِّقَاءِ *** يَبْدُو بِهِ الإِرْسَالُ ذُوْ الْخَفَاءِ

783‏.‏ كَذَا زِيَادَةُ اسْمِ رَاوٍ فِي السَّنَدْ *** إِنْ كَانَ حَذْفُهُ بِعَنْ فِيْهِ وَرَدْ

784‏.‏ وَإِنْ بِتَحْدِيْثٍ أَتَى فَالْحُكْمُ لَهْ *** مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ قَدْ حمَلَهْ

785‏.‏ عَنْ كُلٍّ الاَّ حَيْثُ مَا زِيْدَ وَقَعْ *** وَهْماً وَفِي ذَيْنِ الْخَطِيْبُ قَدْ جَمَعْ

ليسَ المرادُ هُنا بالإرسالِ ما سقطَ منهُ الصحابيُّ، كما هو المشهورُ في حدِّ المرسلِ‏.‏ وإنَّمَا المرادُ هُنا‏:‏ مُطلقُ الانقطاعِ‏.‏

‏[‏نوعا الإرسال‏]‏

ثُمَّ الإرسالُ على نوعينِ‏:‏ ظاهرٌ، وخفيٌّ‏:‏

فالظاهرُ‏:‏ هو أَنْ يرويَ الرجلُ عَمَّنْ لم يعاصرْهُ بحيثُ لا يشتبهُ إرسالُهُ باتصالِهِ على أهلِ الحديثِ، كأنْ يرويَ مالكٌ- مثلاً- عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ، وكحديثٍ رواهُ النسائيُّ من روايةِ القاسمِ بنِ محمدٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قالَ‏:‏ أصابَ النبيُّصلى الله عليه وسلم بعضَ نسائِهِ، ثُمَّ نامَ حَتَّى أصبحَ، … الحديثَ‏.‏ فإنَّ القاسمَ لَمْ يُدْرِكِ ابنَ مسعودٍ‏.‏

والخفيُّ‏:‏ هو أنْ يرويَ عمَّنْ سمعَ منهُ ما لم يسمعْهُ منهُ، أوْ عمَّنْ لقيَهُ ولم يسمعْ منه، أوْ عمَّنْ عاصرَهُ ولم يلقَهُ، فهذا قد يخفى على كثيرٍ من أهلِ الحديثِ، لكونِهِما قد جمعَهُما عصرٌ واحدٌ‏.‏ وهذا النوعُ أشبهُ برواياتِ المدَلِّسِينَ‏.‏ وقد أفردَهُ ابنُ الصلاحِ بالذِّكْرِ عن نوعِ المرسلِ، فتبعتُهُ على ذلكَ‏.‏

‏[‏ما يعرفُ به خفيُّ الإرسالِ‏]‏

ويعرفُ خفيُّ الإرسالِ بأمورٍ‏:‏

أحدُها‏:‏ أنْ يُعْرَفَ عدمُ اللقاءِ بينهما بنصِّ بعضِ الأئمةِ على ذلك، أوْ يُعْرَفَ ذلكَ بوجهٍ صحيحٍ، كحديثٍ رواه ابنُ ماجَه من روايةِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، عن عُقْبَةَ بنِ عامرٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ‏:‏ «رَحِمَ اللهُ حَارِسَ الْحَرَسِ»، فإنَّ عمرَ لم يلقَ عُقبةَ، كما قالَ المِزِّيُّ في ‏"‏ الأطرافِ ‏"‏‏.‏

والثاني‏:‏ بأنْ يُعْرَفَ عَدَمُ سماعِهِ منهُ مطلقاً بنصِّ إمامٍ على ذلكَ، أوْ نحوِهِ، كأحاديثِ أبي عُبيدةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ عن أبيهِ، وهي في السُّنَنِ الأربعةِ‏.‏ فقد روى الترمذيُّ‏:‏ أنَّ عَمْرَو بنَ مُرَّةَ قالَ لأبي عُبيدةَ‏:‏ هلْ تذكرُ مِنْ عبدِ اللهِ شيئاً‏؟‏ قالَ‏:‏ لا‏.‏

والثالثُ‏:‏ بأنْ يُعْرَفَ عدمُ سماعِهِ منهُ لذلكَ الحديثِ فَقَطْ، وإنْ سَمِعَ منهُ غيرُهُ؛ إمَّا بنصِّ إمامٍ، أو إخبارِهِ عن نفسِهِ بذلكَ في بعضِ طرقِ الحديثِ، أو نحوِ ذلكَ‏.‏

والرابعُ‏:‏ بأنْ يَرِدَ في بعضِ طرقِ الحديثِ زيادةُ اسمِ راوٍ بينهما، كحديثٍ رواهُ عبدُ الرزاقِ، عن سفيانَ الثوريِّ، عن أبي إسحاقَ، عن زيدِ بنِ يُثَيْعٍ، عن حُذَيْفَةَ مرفوعاً‏:‏ «إنْ وَلَّيتُمُوْهَا أبا بكرٍ، فقويٌّ، أَمينٌ»، فهو منقطعٌ في موضعينِ؛ لأنَّهُ رُويَ عن عبدِ الرزاقِ، قالَ‏:‏ حدَّثَني النُّعمانُ بنُ أبي شيبةَ، عن الثوريِّ، ورُوِي أيضاً عن الثوريِّ، عن شَرِيْكٍ، عن أبي إسحاقَ‏.‏

وهذا القسمُ الرابعُ محلُّ نظرٍ لا يُدْرِكُهُ إلاَّ الحفَّاظُ النقَّادُ، ويَشَتَبِهُ ذلكَ على كثيرٍ من أهلِ الحديثِ؛ لأنَّهُ ربَّمَا كانَ الحكمُ للزائدِ، وربَّما كانَ الحكمُ للناقصِ والزائدُ وَهْمٌ فيكونُ من نوعِ المزيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ؛ فلذلكَ جمعتُ بينَهُ وبينَ نوعِ خفيِّ الإرسالِ، وإنْ كانَ ابنُ الصلاحِ جعلَهُمَا نوعينِ، وكذلكَ الخطيبُ أفردَهُما بالتصنيفِ، فصنَّفَ في الأولِ كتاباً سمَّاهُ ‏"‏ التفصيل لمُبْهَمِ المراسيلِ ‏"‏، وصَنَّفَ في الثاني كتاباً سمَّاهُ ‏"‏تمييز المزيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ ‏"‏، وفي كثيرٍ مما ذكرَهُ فيهِ نظرٌ‏.‏ والصوابُ ما ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ من التفصيلِ واقتصرتُ عليهِ، وهوَ‏:‏ أَنَّ الإسنادَ الخالي عن الراوي الزائدِ، إنْ كانَ بلفظةِ‏:‏ «عن» في ذلكَ- وكذلكَ ما لا يقتضي الاتصالَ، كـ‏:‏ قالَ ونحوِها- فينبغي أنْ يُحْكَمَ بإرسالِهِ، ويُجْعَلَ مُعَلَّلاً بالإسنادِ الَّذِي ذُكِرَ فيهِ الرَّاوِي الزائدُ؛ لأَنَّ الزيادةَ من الثقةِ مقبولةٌ‏.‏ وإنْ كانَ بلفظٍ يقتضي الاتصالَ، كـ‏:‏ حَدَّثَنا، وأخبرنا، وسمعتُ، فالحكمُ للإسنادِ الخالي عن الرواي الزائدِ؛ لأنَّ معَهُ الزيادةَ، وهيَ إثباتُ سماعِهِ منهُ‏.‏ ومثالُهُ حديثٌ رواهُ مسلمٌ والترمذيُّ من طريق ابنِ المباركِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ، عن بُسْرِ بنِ عُبيدِ اللهِ، قالَ‏:‏ سمعتُ أبا إدريسَ الْخَوْلاَنيَّ قالَ‏:‏ سمعتُ واثلةَ يقولُ‏:‏ سمعتُ أبا مرثدٍ يقولُ‏:‏ سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ‏:‏ «لا تَجْلِسُوا على القُبُورِ ولا تُصَلُّوا إليها»‏.‏ فَذِكْرُ أبي إدريسَ في هذا الحديثِ وَهَمٌ من ابنِ المباركِ؛ لأنَّ جماعةً من الثقاتِ روَوْهُ عن ابنِ جابرٍ، عن بسرٍ، عن واثلةَ بلفظِ الاتصالِ بينَ بُسْرٍ وواثلةَ‏.‏ رواهُ مسلمٌ والترمذيُّ أيضاً، والنسائيُّ عن عليِّ بنِ حُجْرٍ، عن الوليدِ بنِ مسلمٍ، عن ابنِ جابرٍ، عن بسرٍ، قالَ‏:‏ سمعتُ واثلةَ‏.‏ ورواهُ أبو داودَ عن إبراهيمَ بنِ موسى، عن عيسى بنِ يونُسَ، عن ابنِ جابرٍ كذلكَ‏.‏ وحكى الترمذيُّ عن البخاريِّ قالَ‏:‏ «حديثُ ابنِ المباركِ خطأٌ، إنَّما هُوَ عن بُسْرِ بنِ عُبيدِ اللهِ، عن واثلةَ، هكذا» رَوَى غيرُ واحدٍ عن ابنِ جابرٍ‏.‏ قالَ‏:‏ وبُسْرٌ قَدْ سمعَ من واثلةَ‏.‏ وقالَ أبو حاتِمٍ الرازيُّ‏:‏ يرونَ أَنَّ ابنَ المباركِ وَهِمَ في هَذَا‏.‏ قالَ‏:‏ وكثيراً ما يُحَدِّثُ بُسْرٌ، عن أبي إدريسَ، فغلطَ ابنُ المباركِ، وظنَّ أنَّ هَذَا ممَّا رُوِيَ عن أبي ادريسَ، عن واثلةَ‏.‏ قالَ‏:‏ وَقَدْ سمعَ هَذَا بُسْرٌ من واثلةَ نفسِهِ‏.‏ وقالَ الدارقطنيُّ‏:‏ زادَ ابنُ المباركِ في هَذَا أبا إدريسَ ولا أحسَبُهُ إلاَّ أَدخلَ حديثاً في حديثٍ‏.‏ فَقَدْ حكمَ هؤلاءِ الأئمةُ عَلَى ابنِ المباركِ بالوَهْمِ في هَذَا‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏مع احتمالِ كونِهِ قد حملَهْ عن كُلٍّ الاَّ حيثُ ما زيدَ وَقَعْ وَهْماً‏)‏ أي‏:‏ معَ جوازِ أَنْ يكونَ قد سمعَهُ من هذا، ومِنْ هذا، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «فجائزٌ أَنْ يكونَ سمعَ ذلكَ من رَجُلٍ عنهُ، ثُمَّ سمعَهُ منهُ نفسُهُ، قالَ‏:‏ فيكونُ بسرٌ في هذا الحديثِ قد سمعَهُ من أبي إدريسَ عن واثلةَ، ثمَّ لقيَ واثلةَ فسمعَهُ منهُ، كما جاءَ مثلُهُ مُصَرَّحاً به في غيرِ هذا‏.‏ اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ توجدَ قرينةٌ تدُلُّ على كونِهِ، أي‏:‏ الطريقُ الزائدُ- وَهَماً- كنحوِ ما ذكرهُ أبو حاتِمٍ الرازيُّ في المثالِ المذكورِ، قالَ‏:‏ وأيضاً، فالظاهرُ ممَنْ وقعَ لهُ مثلُ هذا أَنْ يذكرَ السَّمَاعَيْنِ، فإذا لم يجئ عنهُ ذِكْرُ ذلكَ حَمَلْنَاهُ على الزيادةِ المذكورةِ‏.‏ وقد وقعَ في هذا الحديثِ وَهَمٌ آخرُ لمَنْ دونَ ابنِ المُباركِ بزيادةِ راوٍ آخرَ في السندِ، فقالَ فيهِ‏:‏ عن ابنِ المباركِ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنا سفيانُ عن ابنِ جابرٍ، حدَّثَني بُسْرٌ، قالَ‏:‏ سمعتُ أبا إدريسَ، قالَ‏:‏ سمعتُ واثلةَ، فَذِكْرُ سفيانَ في هذا وَهَمٌ ممَّنْ دونَ ابنِ المباركِ؛ لأَنَّ جماعةً ثقاتٍ رَوَوْهُ عن ابنِ المباركِ، عن ابنِ جابرٍ، من غيرِ ذِكْرِ سُفْيَانَ، منهم عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، وحسنُ بنُ الربيعِ، وهنَّادُ بنُ السريِّ وغيرُهم‏.‏ وزادَ فيهِ بعضُهُم التصريحَ بلفظِ الإِخبارِ بينهما‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وفي ذَيْنِ‏)‏ أي‏:‏ وفي هذينِ النوعينِ، وهما‏:‏ الإرسالُ الخفيُّ، والمزيدُ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ، قد صنَّفَ الخطيبُ كتابيهِ اللَّذَينِ سبقَ ذِكْرُهُمَا‏.‏