فصل: الجزء الأول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏

كتاب بدء الوحى

باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال لي أبو القاسم المهلب بن أبى صفرة، رحمه الله‏:‏ معنى هذه الآية أن الله تعالى أوحى إلى محمد، عليه الصلاة والسلام، كما أوحى إلى سائر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قبله وحى رسَالةٍ، لا وحى إلهام، لأن الوحى ينقسم على وجوه‏.‏

قال‏:‏ وإنما قدم البخارى، رحمه الله، حديث تمت الأعمال بالنيات- فى أول كتابه، ليعلم أنه قصد فى تأليفه وجه الله عز وجل ففائدة هذا المعنى، أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابه، أن يقصد به وجه الله تعالى كما قصده البخارى فى تأليفه‏.‏

وجعل هذا الحديث فى أول كتابه عوضًا من الخطبة التى يبدأ بها المؤلفون، ولقد أحسن العوض من عوَّض من كلامه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ما ينطق عن الهوى‏.‏

وقال جماعة من العلماء‏:‏ إن هذا الحديث ثلث الإسلام، وبه خطب النبى صلى الله عليه وسلم حين وصل إلى دار الهجرة وشهر الإسلام‏.‏

وقال أبو عبد الله بن الفخار‏:‏ إنما ذكر هذا الحديث فى هذا الباب، لأنه متعلق بالآية التى فى الترجمة، والمعنى الجامع بينهما أن الله عز وجل أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى الأنبياء قبله أن الأعمال بالنيات، والحجة لذلك قول الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ في هذه الآية وصَّاهم بالإخلاص لله عز وجل وعبادته لا شريك له‏.‏

وقال مجاهد فى قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ‏(‏، قال‏:‏ أوصاك به وأنبياءه كلهم دينًا واحدًا‏.‏

وقال أبو الزناد بن سراج‏:‏ إنما خص المرأة بالذكر من بين سائر الأشياء فى هذا الحديث، لأن العرب فى الجاهلية كانت لا تزوج المولى العربية، ولا يزوجون بناتهم إلا من الأَكْفَاء فى النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين فى مناكحهم، وصار كل واحد من المسلمين كفئًا لصاحبه، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة، ليتزوج بها، حتى سمى بعضهم مهاجر أم قيس‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْىُ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أَحْيَانًا يَأْتِينِى مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّى، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلا فَيُكَلِّمُنِى، فَأَعِى مَا يَقُولُ-‏.‏

قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فِى الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا، إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ- وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَة، َ وَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ‏:‏ اقْرَأْ، قَالَ‏:‏ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ‏:‏ فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ‏:‏ اقْرَأْ، قُلْتُ‏:‏ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى الثَّانِيَةَ فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ‏:‏ اقْرَأْ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1- 4‏]‏، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ‏:‏ تمت زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى-، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ‏:‏ تمت لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى-، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ‏:‏ كَلا وَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ‏:‏ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ‏:‏ يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى‏؟‏ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بخَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ‏:‏ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا، إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ‏.‏

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ-‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِىَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ‏.‏

وقال جَابِرَ فِى حَدِيثِهِ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ‏:‏ قَالَ‏:‏ بَيْنَا أَنَا أَمْشِى، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ‏:‏ زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1- 5‏]‏ فَحَمِىَ الْوَحْىُ وَتَتَابَعَ‏.‏

وقال يُونُسُ وَمَعْمَرٌ‏:‏ بَوَادِرُهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِ اللَّه تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16‏]‏ قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ‏(‏قَالَ‏:‏ جَمْعُهُ لَكَ فِى صَدْرِكَ، وَتَقْرَأَهُ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16- 19‏]‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَرَأَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ تمت فى مثل صلصلة الجرس-، يعنى قوة صوت الملك بالوحى، ليشغله عن أمور الدنيا، ويفرغ حواسه للصوت الشديد، فكان صلى الله عليه وسلم، يعى عنه، لأنه لم يبق فى سمعه مكان لغير صوت الملك ولا فى قلبه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وعلى هذه الصفة تتلقى الملائكة الوحى من الله، عز وجل‏.‏

ذكر البخارى عن ابن مسعود، قال‏:‏ تمت إذا تكلم الله بالوحى، سمع أهل السماوات-‏.‏

وقال أبو هريرة فى حديثه‏:‏ تمت إذا قضى الله الأمر فى السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها، خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، قال‏:‏ فإذا فزع عن قلوبهم وسكت الصوت عرفوا أنه الحق، وقالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا الحق-‏.‏

وقال أبو الزناد‏:‏ إنما ذكر صلى الله عليه وسلم أنه يأتيه الوحى فى مثل صلصلة الجرس، ويتمثل له رجلاً ولم يذكر الرؤيا، وقد أعلمنا صلى الله عليه وسلم أن رؤياه وحى، وذلك أنه أخبرهم بما ينفرد به دون الناس، لأن الرؤيا الصالحة قد يشركه غيره فيها‏.‏

وأما قول عائشة‏:‏ تمت أول ما بدء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح-‏.‏

قال المهلب‏:‏ هى تباشير النبوة وكيفية بدئها، لأنه لم يقع فيها ضغث، فيتساوى مع الناس فى ذلك، بل خص بصدقها كلها، وكذلك قال ابن عباس‏:‏ رؤيا الأنبياء وحى، وقرأ‏:‏ ‏(‏إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ فتمم الله عليه النبوة، بأن أرسل إليه الملك فى اليقظة، وكشف له عن الحقيقة، فكانت الأولى فى النوم، وصحة ما يوحى إليه فيه توشيحًا للنبوة وابتدائها حتى أكملها الله له فى اليقظة تفضلاً من الله تعالى، وموهبة خصَّه بها، والله يعلم حيث يجعل رسالاته والله ذو الفضل العظيم‏.‏

قال غيره‏:‏ وتزوده صلى الله عليه وسلم فى تحنثه يرد قول الصوفية‏:‏ أن من أخلص لله أنزل الله عليه طعامًا‏.‏

والرسول صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذه المنزلة، لأنه أفضل البشر، وكان يتزود‏.‏

وقال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ تمت فغطنى- فيه من الفقه أن الإنسان يذكر وينبه إلى فعل الخير وإن كان عليه فيه مشقة‏.‏

وقال أبو الزناد‏:‏ قوله‏:‏ تمت فغطنى- ثلاث مرات، فيه دليل على أن المستحب فى مبالغة تكرير التنبيه والحض على التعليم ثلاث مرات‏.‏

وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أنه كان إذا قال شيئًا أعاده ثلاثًا-، للإفهام، وقد استدل بعض الناس من هذا الحديث، أن يؤمر المؤدب أن لا يضرب صبيًا أكثر من ثلاث ضربات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ يدل على أنها أول ما نزل من القرآن‏.‏

وقال أبو الحسن بن القصار‏:‏ فى هذا رد على الشافعى فى قوله‏:‏ ‏(‏بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ‏(‏آية من كل سورة، وهذه أول سورة نزلت عليه، ولم يذكر فيها‏)‏ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏‏.‏

قال غيره‏:‏ رجوع الرسول فزعًا، فقال‏:‏ تمت زملونى-، ولم يخبر بشىء حتى ذهب عنه الروع، فيه دليل‏:‏ أنه لا يحب أن يسأل الفازع عن شىء من أمره ما دام فى حالة فزعه‏.‏

وكذلك قال مالك وغيره‏:‏ إن المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره فى حال فزعه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت لقد خشيت على نفسى-، يدل أنه من نزلت به ملمة أن له أن يشارك فيها من يثق بنصحه ورأيه‏.‏

وقولها‏:‏ تمت كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل- إلى آخر الحديث إنما هو قياس منها على العادات، والأكثر فى الناس فى حسن عاقبة من فعل الخير، وفيه جواز تزكية الرجل فى وجهه بما فيه الخير، وليس بمعارض لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت احثوا التراب فى وجوه المداحين-‏.‏

وإنما أراد بذلك إذا مدحوه بالباطل، وبما ليس فى الممدوح‏.‏

وقول يونس ومعمر‏:‏ تمت بوادره- يعنى‏:‏ ترجف بوادره مكان رواية من روى‏:‏ تمت يرجف فؤاده‏.‏

وسيأتى تفسير ذلك فى آخر هذا الباب، إن شاء الله تعالى‏.‏

ومعنى أمره تعالى نبيه لا يحرك بالقرآن لسانه ليعجل به‏:‏ وعدته له أن يجمعه فى صدره، لكى يتدبره ويتفهمه، وتبدو له عجائب القرآن وحكمته، وتقع فى قلبه مواعظه، فيتذكر بذلك، ولتتأسى به أمته فى تلاوته، فينالوا بركته، ولا يحرموا حكمته‏.‏

وقد ذكر الله هذا المعنى، فقال‏:‏ ‏(‏لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن القرآن لا يحفظه أحد، إلا بعون الله له على حفظه وتيسيره، ويشهد لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِى كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى ذلك‏:‏ أنه امتثل صلى الله عليه وسلم قول الله وأمره، فى تقديم الصدقة بين يدى نجوى الرسول، الذى كان ‏[‏الله‏]‏ تعالى أمر به عباده، فقال‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 12‏]‏، ثم عفا عنهم لإشفاقهم منه، فامتثل ذلك النبى عند مناجاة الملك، وترداده عليه فى رمضان‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا أمر منسوخ، قيل‏:‏ قد فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى خاصته أشياء منع منها أمته، كالوصال فى الصيام، فإنه صلى الله عليه وسلم واصل، ونهى عنه غيره، وقال‏:‏ تمت أيكم مثلى-‏؟‏ وكان يلتزم من طاعة ربه ما لا يقدر عليه غيره، وكان يصلى حتى تتفطر قدماه، ويقول‏:‏ تمت أفلا أكون عبدًا شكورًا-‏؟‏ وما كانت مدارسته للقرآن إلا لتزيده رغبة فى الآخرة، وتزهدًا فى الدنيا‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن الجليس الصالح ينتفع بمجالسته‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى مدارسة جبريل للنبى صلى الله عليه وسلم القرآن وقد ضمن الله لنبيه ألا ينساه بقوله‏:‏ ‏(‏سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى ‏(‏‏؟‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏ فالجواب‏:‏ أن الله تعالى إنما ضمن له ألا ينساه بأن بقرئه إياه فى المستأنف، لأن السين فى‏)‏ سَنُقْرِؤُكَ ‏(‏دخلت للاستئناف، فأنجز له ذلك بإقراء جبريل، ومدارسته له القرآن فى كل رمضان‏.‏

وخص رمضان بذلك، لأن الله تعالى أنزل فيه القرآن إلى السماء الدنيا، ولتتأسى بذلك أمته فى كل أشهر رمضان، فيكثروا فيه من قراءة القرآن، فيجتمع لهم فضل الصيام والتلاوة والقراءة والقيام‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ، فِى الْمُدَّةِ الَّتِى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِى مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ‏؟‏ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا‏.‏

فَقَالَ‏:‏ أَدْنُوهُ مِنِّى، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ‏:‏ قُلْ لَهُمْ‏:‏ إِنِّى سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِى عَنْهُ أَنْ قَالَ‏:‏ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ‏؟‏ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ‏:‏ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَبَّعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ‏:‏ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ‏:‏ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا‏.‏

قَالَ‏:‏ فَهَلْ يَغْدِرُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِى مُدَّةٍ لا نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ‏:‏ وَلَمْ تُمْكِنِّىِّ كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ‏:‏ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ‏:‏ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ‏.‏

فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ‏:‏ قُلْ لَهُ‏:‏ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ‏؟‏ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ‏:‏ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ‏؟‏ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ‏:‏ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ‏:‏ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ‏؟‏ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ‏؟‏ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمِ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ‏؟‏ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ‏؟‏ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ‏؟‏ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ‏؟‏ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّى أَعْلَمُ أَنِّى أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ‏.‏

ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِى بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ الكَلْبِى إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ‏:‏ تمت بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ بن عَبْدِ اللَّهِ رسول اللَّه إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّين، َ وَ‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏- ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ فَلَمَّا قَالَ، مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا‏.‏

فَقُلْتُ لأصْحَابِى حِينَ أُخْرِجْنَا‏:‏ لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَر، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإسْلامَ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ، وَهِرَقْلَ أسقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّاْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ‏:‏ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ‏:‏ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ‏:‏ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلا الْيَهُودُ، فَلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِىَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ، قَالَ‏:‏ اذْهَبُوا، فَانْظُرُوا، مُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لا‏؟‏ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ‏:‏ هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ‏:‏ هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ هِرَقْلُ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ، حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ، يُوَافِقُ رَأْىَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ الرسول، وَأَنَّهُ نَبِىٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ، فَقَالَ‏:‏ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ‏؟‏ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإيمَانِ، قَالَ‏:‏ رُدُّوهُمْ عَلَىَّ، وَقَالَ‏:‏ إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ، وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ تمت فى المدة التى مادَّ فيها رسول الله أبا سفيان وكفار قريش-، فإن أهل السير ذكروا أن الرسول صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة سنة ست، عام الحديبة، عشر سنين، ثم إن أهل مكة نقضوا العهد الذى كان بينهم وبين الرسول بقتالهم خزاعة حلفاء النبى صلى الله عليه وسلم، ثم سألو أبا سفيان أن يجدد لهم العهد، فامتنع النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏ بعد أن قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 12‏]‏ فأوجب قتالهم حين نكثوا أيمانهم‏.‏

وغير جائز أن يترك النبى صلى الله عليه وسلم ما أمر به من قتالهم بعد قوله‏:‏ ‏(‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14، 15‏]‏ فأمر بقتالهم وأخبر بما يكون من النصر والتشفى خبرًا لا يجوز أن ينقلب‏.‏

وفى سؤال هرقل‏:‏ تمت أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل‏؟‏- دليل أن أقارب الإنسان أولى بالسؤال عنه من غيرهم من أجل أنه لا ينسب إلى قريبه ما يلحقه به عار فى نسبه عند العداوة كما يفعل غير القريب‏.‏

وقوله‏:‏ تمت قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره-، خشى أن يستحى منه أصحابه عند نظرهم إليه إن كذب فى قوله‏.‏

وقال لهم‏:‏ تمت كذبنى فكذبوه- وإن صدقنى فصدقوه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فوالله لولا الحياء من أن يأثروا على كذابًا لكذبت عليه- يدل أن الكذب مهجور فى كل أمة ومعيبًا فى كل ملة‏.‏

وفيه‏:‏ أن العدو لا يؤمن عليه الكذب على عدوه، وكذلك لا يجوز شهادته على عدوه‏.‏

وفيه‏:‏ أن الرسل لا ترسل إلا من أكرم الأنساب، لأن من شرف نسبه كان أبعد له من الانتحال لغير الحقائق‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فى نسب قومها- يعنى‏:‏ أفضله وأشرفه‏.‏

وكذلك الإمام الذى هو خليفة الرسول ينبغى أن يكون من أشرف قومه‏.‏

وفيه‏:‏ أن الإمام الكاشف وجهه فى الإمامة وكل من حاول مطلبًا عظيمًا إذا لم يتأس بأحد تقدمه من أهله ولا طلب رئاسة سلفه كان أبعد للمظنة به وأبرأ لساحته‏.‏

وفيه‏:‏ أن من أخبر بحديث وهو معروف بالصدق أنه يصدق فيه، وإن كان معروفًا بالكذب أنه لا يقبل حديثه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت أشراف الناس اتبعوه- فإن أشراف الناس هم الذين يأنفون من الخصال التى شرف صاحبهم عليهم بها، ويُحَطُّ شرفهم إلى أن يكونوا تابعين فى أحوال الدنيا، فلذلك قال‏:‏ إن كان يعاديه أشراف الناس فهى دلالة على نبوته، وأما ضعفاؤهم الذين لا تتكبر نفوسهم عن اتباع الحق حيث رأوه ولا يجد الشيطان السبيل إلى نفخ الكبرياء فى نفوسهم، فهم متبعون للحق حيث سمعوه لا يمنعم من ذلك طلب رئاسة ولا أنفة شرف، وزيادتهم دليل على صحة النبوة، لأنهم يرون الحق كل يوم يتجدد ويتبين لهم، فيدخل فيه كل يوم طائفة‏.‏

وأما سؤاله عن ارتدادهم، فإن كل من لم يدخل على بصيره فى شىء وعلى يقين منه فقريب رجوعه واضطرابه، ومن دخل على بصيرة وصحة يقين فيمتنع رجوعه‏.‏

وأما سؤاله عن الغدر، فإن من طلب الرئاسة والدنيا خاصة لم يسأل عن أى طريق وصل إليها، ومن طلب شرف الآخرة والدنيا لم يدخل فيما يعاب ولا فيما يأثم فيه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت ونحن منه فى مدة لا ندرى ما يكون منه-، قال‏:‏ تمت ولم تمكنى كلمة أنتقصه فيها غير ما- فيه من الفقه‏:‏ أن من شك فى كمال أحوال النبى صلى الله عليه وسلم فهو مرتاب غير مؤمن به‏.‏

وسؤاله عن حربهم وقوله‏:‏ تمت وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة- فتبتلى ليعظم لها الأجر ولمن اتبعها، ولئلا يخرج الأمر عن العادة، ولو أراد الله إخراج الأمر عن العادات لجعل الناس كلهم له متبعين، ولقذف فى قلوبهم الإيمان به، ولكن أجرى الأمور على العادة بحكمة بالغة؛ ليكون فريق فى الجنة، وفريق فى السعير‏.‏

وأما قوله لترجمانه‏:‏ تمت قل له‏:‏ إنى سألتك عن نسبه- إلى آخر سؤاله، فقال فى كل فصل منها‏:‏ وكذلك الرسل تبعث فى مثل هذا، فإنما أخبر بذلك عن الكتب القديمة‏.‏

وأن ذلك كله نعت للنبى صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم فى التوارة والإنجيل، وكذلك قوله‏:‏ تمت قد كنت أعلم أنه خارج- إنما علم ذلك من التوارة والإنجيل‏.‏

وقول هرقل‏:‏ تمت لو كنت أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه- دون خلع من ملكه، ولا اعتراض عليه فى شىء، وهذا التجشم هى الهجرة، وكانت فرضًا على كل مسلم قبل فتح مكة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن النجاشى لم يهاجر قبل فتح مكة وهو مؤمن فكيف سقط عنه فرض الهجرة‏؟‏‏.‏

قيل له‏:‏ هو فى أهل مملكته أعْنَى عن الله، وعن رسوله، وعن جماعة المسلمين منه، لو هاجر بنفسه فردًا؛ لأن أول عنائه حبسه الحبشة كلهم من مقاتلة النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين مع طوائف الكفار، مع أنه كان ملجأ لمن أوذى من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وردءًا لجماعة المسلمين، وحكم الردء فى جميع أحكام الإسلام حكم المقاتل، وكذلك فى رد اللصوص والمحاربين عند مالك وأكثر الكوفيين يقتل بقتلهم، ويجب عليه ما يجب عليهم، وإن كانوا لم يحضروا الفعل‏.‏

ومثل تخلف عثمان وطلحة وسعيد بن زيد عن بدر، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهامهم من غنيمة بدر، وقالوا‏:‏ وأجرنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ تمت وأجركم-‏.‏

وقوله‏:‏ تمت أسلم تسلم- هذا التجنيس فى غاية البلاغة، وهو من بديع الكلام، ومثله فى كتاب الله‏:‏ ‏(‏وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ تمت يؤتك الله أجرك مرتين- أى‏:‏ بإيمانك بعيسى صلى الله عليه وسلم وإيمانك بى بعده‏.‏

ودعاية الإسلام هى توحيد الله عز وجل والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولم يصح عندنا أن هرقل جهر بالإيمان وأعلن بالإسلام، وإنما عندنا أنه آثر ملكه على الجهر بكلمة الحق، ولسنا نقنع بالاعتقاد للإسلام دون الجهر به لقوله‏:‏ تمت أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله وأنى رسول الله-، وقد أرخص الله لمن خاف، وأكره على الكفر أن يضمر الإيمان بقوله‏:‏ ‏(‏إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏، ولم يبلغنا أن هرقل أكره على شىء من ذلك فيقوم له عذر وأمره إلى الله تعالى‏.‏

وأما بعثه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل بكتاب فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، وآية من القرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو-، وقال العلماء‏:‏ لا يُمكَّن المشركون من الدراهم التى فيها اسم الله تعالى‏.‏

وإنما فعل ذلك، والله أعلم، لأنه فى أول الإسلام، ولم يكن بد من أن يدع الناس إلى دين الله كافة وتبليغهم توحيده كما أمره الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فإن عليك إثم الأريسيين- يريد الرؤساء المتبوعين على الكفر، وسيأتى اشتقاق هذه اللفظة فى آخر هذا الباب إن شاء الله‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ فحذره صلى الله عليه وسلم، إذ كان رئيسًا متبوعًا مسموعًا منه أن يكون عليه إثم الكفر، وإثم من عمل به واتبعه عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت من سنَّ سُنَّة سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة-‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأصله فى كتاب الله‏:‏ ‏(‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وليس على البخارى فى إدخاله أحاديث عن أهل الكتاب، هرقل وغيره، ولا فى قوله‏:‏ تمت وكان حزَّاءً ينظر فى النجوم- حرج؛ لأنه إنما أخبر أنه كان فى الإنجيل ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وكان من يتعلق قبل الإسلام بالنجامة ينذر بنبوته؛ لأن علم النجامة كان مباحًا ذلك الوقت، فلما جاء الإسلام منع منه، فلا يجوز لأحد اليوم أن يقضى بشىء منه، وكان علم النجوم قبل الإسلام على التظنين والتبحيث يصيب مرة ويخطئ كثيرًا، فاشتغالهم بما فيه الخطأ الغالب ضلال، فبعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالوحى الصحيح، ونسخ ذلك العناء الذى كانوا فيه من أمر النجوم، وقال لهم‏:‏ نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب‏.‏

وقال أبو المعتز فى كتاب الأدب‏:‏ لا يصلح لذى عقل ودين تعاطى علم النجوم؛ لأنه لا سبيل إلى إيصال الصواب منها، والذى يشبه الصواب منها إنما يتهيأ بالاتفاق، وكيف يرضى العاقل من نفسه أن يكذب مرة ويصدق أخرى، وإنما عمر الإنسان كالساعة التى لا ينبغى أن ينفقها إلا فى علم يزداد بالإيغال فيه بعدًا من الباطل وقربًا من الحق، ولو أمكن ألا يخطئ الناظر فى علم النجوم لكان فى ذلك تنغيص العيش، وتكدير لصفوه، وتضييق لمتفسح الآمال التى بها قوت الأنفس وعمارة الدنيا، ولم يف ما يرجى من الخير بما يتوقع من الشر؛ لأن بعض الناس لو علم أنه يموت إلى سنة لم ينتفع بشىء من دنياه، وهذا لا يشبه بفضل الله وإحسانه ورأفته بخلقه، ولو علم الناظر فيها أنه يعيش مائة سنة فى صحة وغنى لبطر وما انتهى عن فاحشة ولا تورع عن محرم، ولا أتى حنقًا هاجمًا ولزالت نعمه، ولفسدت الدنيا بإهمال الناس لو تركوا أمره ونهيه ولأكل الناس بعضهم بعضًا، ولعل بعضهم كان يؤخر التوبة إلى يوم أو ساعة أو سنة قبل موته متحاذق على ربه، ويدخل الجنة بتوبته، وليس هذا فى حكمة الله وصواب تدبيره، ولا شك أن الخير فيما اختاره الله لنا من طى ذلك عنا، فلله الحمد على جميل صنعه ولطيف إحسانه‏.‏

وقال أبو الحسن الجرجانى النسابة فى معنى نسبة قريشٍ رسول الله إلى أبى كبشة قال‏:‏ إنما كانت تدعوه بذلك وتغير اسمه؛ عداوة له إذ لم يمكنهم الطعن فى نسبه المهذب، صلوات الله عليه، وكان وهب بن عبد مناف بن زهرة أبو آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى‏:‏ أبا كبشة، وكان عمرو بن زيد بن أسد بن البخارى أبو سلمى أم عبد المطلب يدعى‏:‏ أبا كبشة، وكان فى أجداده من قِبَل أمه أبو كبشة، وجد ابن غالب بن الحارث وهو أبو قيلة أم وهب بن عبد مناف أبى آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم وكان أبوه من الرضاعة يدعى‏:‏ أبا كبشة وهو الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدى‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ إنما نسبه صلى الله عليه وسلم إلى أبى كبشة وهو الحارث بعض أجداد أمه؛ لأنه رجل عبد الشعرى، ولم تعرف العرب عبادة الشعرى لأحد قبله، وجعلوا فعله فى ذلك شذوذًا فى الدين، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يعرفونه من دينهم ودين آبائهم وشذ عنهم فى ترك عبادة الأوثان، ودعا إلى دين الله ودين إبراهيم؛ شبهوه بأبى كبشة فى شذوذه فى عبادة الشعرى‏.‏

ذكر ما فى كتاب بدء الوحى من غريب اللغة

قوله‏:‏ تمت صلصلة الجرس- الصلصلة والصليل‏:‏ الصوت‏.‏

يقال‏:‏ صلت أجواف الإبل من العطش، إذا يبست ثم شربت فسمعت للماء فى أجوافها صوتًا، والجرس معروف، وهو شبه الناقوس الصغير يوضع فى أعناق الإبل، وأجرس بالجرس صوَّت به، والجرس‏:‏ الصوت‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فيفصم عنى-‏.‏

قال صاحب الأفعال‏:‏ فصمت الشىء فصما‏:‏ صدعته من غير أن أبينه، وفصم الشىء عنك‏:‏ ذهب، وفصمت العقدة‏:‏ حللتها‏.‏

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ انفِصَامَ لَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 256‏]‏‏.‏

وفيه لغة أخرى‏.‏

قال الأصمعى‏:‏ يفصم‏:‏ يقلع، ومنه قولهم‏:‏ أفصم المطر إذا أقلع، فيقال‏:‏ منه فعل وأفعل‏.‏

وقوله‏:‏ تمت يتفصد عرقًا- يعنى‏:‏ يسيل عرقًا، ومنه الفصد‏:‏ قطع العرق‏.‏

وقول عائشة‏:‏ تمت فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح- يعنى‏:‏ ضوء الصبح، والفلق‏:‏ هو الصبح بعينه، وقد قيل فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 1‏]‏، يعنى به الصبح، وقيل‏:‏ إن الفلق اسم جبٍّ فى جهنم‏.‏

وقوله‏:‏ تمت كان يتحنث-‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ التحنث تفعل من الحنث، وليس بمعنى كسب الحنث؛ إنما هو أن يلقيه عن نفسه، وجاءت ثلاثة أفعال مخالفة لسائر الأفعال يقال‏:‏ تحنث، وتحوب، وتأثم‏:‏ إذا ألقى الحنث، والحوب، والإثم عن نفسه، وغيرها من الأفعال إنما يكون تفعل منها بمعنى تكسب‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فغطنى-‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ غطه فى الماء يغِطه ويغَطه‏:‏ غرَّقه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت يرجف فؤاده-‏.‏

يقال‏:‏ رجف الشىء يرجف رجفًا‏:‏ تحرك‏.‏

وقول يونس ومعمر‏:‏ ترجف بوادره‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ البادرة‏:‏ اللحمة التى بين أصل العنق والمنكب الضاربة‏.‏

وأنشد غيره‏:‏

وجاءت الخيل محمّرا بوادرها ***

وقوله‏:‏ تمت الناموس الذى نزل الله على موسى‏.‏

قال ابن دريد‏:‏ ناموس الرجل‏:‏ صاحب سره، وكل شىء سترت فيه شيئًا فهو ناموس له‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ الناموس جبريل صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ تمت نصرًا مؤزرًا- أى‏:‏ قويًا، مأخوذ من الأزر وهو القوة‏.‏

ومنه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 30، 31‏]‏ أى‏:‏ قوتى، وقيل‏:‏ أزرى‏:‏ ظهرى، خص الظهر؛ لأن القوة فيه‏.‏

وقوله‏:‏ تمت ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى- أى‏:‏ لم ينشب فى شىء من الأمور، وكأن هذه اللفظة عند العرب عبارة عن السرعة والعجلة‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فحمى الوحى- فتتابع هو، كقوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين حين اشتدت الحرب وهاجت‏:‏ تمت الآن حمى الوطيس- والوطيس‏:‏ النفور‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ حميت النار والشمس‏:‏ اشتد حرها وحمى الفرس إذا سخن وعرق، وأحميت الحديد فى النار‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فى المدة التى ماد فيها كفار قريش- فهو صلح الحديبية، و تمت ماد-‏:‏ فاعل من المدة التى اتفق معهم على الصلح مدة ما من الزمان، تقول العرب‏:‏ تماد الغريمان والمتبايعان إذا اتفقا على أجل ومدة وهى مفاعلة من اثنين‏.‏

وقوله‏:‏ تمت الحرب بيننا وبينه سجال-، قال صاحب العين‏:‏ الحرب سجال، أى‏:‏ مرة فيها سجل على هؤلاء وسجل على هؤلاء، والسجل مثل الدلو، والمساجلة‏:‏ المناوأة فى العمل أيهما يغلب صاحبه‏.‏

وأنشد‏:‏

من يساجلنى يساجل ماجدًا *** يملأ الدلو إلى عقد الكرب

وأصله من تساجلهما فى الاستقاء‏.‏

قال المبرد‏:‏ فضربته العرب مثلا للمفاخرة والمساماة‏.‏

وقوله‏:‏ تمت وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب-، أصل البشاشة‏:‏ اللطف والإقبال على الرجل، يقال‏:‏ بششت بشا وبشاشة، وقد تبشبشت، عن صاحب العين، فبشاشة الإيمان على هذا فرح قلب المؤمن به وسروره‏.‏

وقال الحربى فى تفسير تمت الأريسيين- عن بعض أهل اللغة قال‏:‏ الأريس الأمير، والمؤرس الذى يستعمله الأمير وقد أرسه، والأصل رأسه، فقلب وغير فى النَسَبٍ، والنَسَبُ يغير له الكلام كثيرًا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والصواب على هذا أن يقال‏:‏ الإِرِّيسيين بكسر الهمزة وتشديد الراء‏.‏

وذكر المطرز، عن ثعلب، عن عمرو بن أبى عمرو، عن أبيه، قال‏:‏ الأريس الأكَّار، والصخب الصياح، صخب صخبًا إذا صاح‏.‏

وقوله‏:‏ تمت أَمِرَ أَمْرُ ابن أبى كبشة-، يقال‏:‏ أمر الشىء إذا كثر‏.‏

وقال ابن الأنبارى‏:‏ وإنما قيل للروم‏:‏ بنو الأصفر؛ لأن حبشيا غلب على ناحيتهم فى بعض الدهور فوطئ سبيًا فولدن أولادًا فيهم من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرًا لعسًا، فنسبت الروم إلى الأصفر بذلك‏.‏

وقوله‏:‏ تمت ابن الناطور-، قال دريد‏:‏ الناطور‏:‏ حافظ النخل والتمر، وقد تكلمت به العرب وإن كان أعجميًا‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ هو الناظور بالظاء المعجمة، والنبط يجعلون الظاء طاء وإنما سمى الناظور من النظر‏.‏

قوله‏:‏ تمت وكان حزَّاء-، قال صاحب العين‏:‏ حَزَا يحزُّ حزوًا‏:‏ إذا كهن، وحزى يحزى حزيًا وتحذى تحذية‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فلم يرم حمص-، يعنى‏:‏ لم يبرح، عن صاحب العين، يقال‏:‏ ما يريم بفعل كذا، أى‏:‏ ما يبرح‏.‏

و تمت الدسكرة- بناء كالقصر حوله بيوت‏.‏

وقوله‏:‏ تمت حاصوا حيصة حمر الوحش-، قال أبو عبيد‏:‏ حاص يحيص وجاص يجيص بمعنى واحد‏:‏ إذا عدل عن الطريق، وقال أبو زيد‏:‏ حاص رجع، وجاص‏:‏ عدل‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير كِتَابُ الإيمَان

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ بُنِىَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ

وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏،‏)‏ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 13‏]‏،‏)‏ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 76‏]‏،‏)‏ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏،‏)‏ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏،‏)‏ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124‏]‏‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124‏]‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَزَادَهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 22‏]‏ وَالْحُبُّ فِى اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِى اللَّهِ مِنَ الإيمَانِ‏.‏

وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ‏:‏ إِنَّ لِلإيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ‏.‏

وقال إِبْرَاهِيمُ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

وقال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ‏:‏ اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً‏.‏

وقال ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ الْيَقِينُ الإيمَانُ‏.‏

وقال ابْنُ عُمَرَ‏:‏ لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ‏.‏

وقال مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏(‏شَرَعَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ سَبِيلا وَسُنَّةً‏.‏

باب دعاؤكم إيمانكم

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت بُنِىَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ‏:‏ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ مذهب جماعة أهل السُّنَّة من سَلَف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخارى من كتاب الله من ذكر الزيادة فى الإيمان وبيان ذلك أنه من لم تحصل له بذلك الزيادة، فإيمانه أنقص من إيمان من حصلت له‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن الإيمان فى اللغة التصديق وبذلك نطق القرآن، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏ أى ما أنت بمصدق، يعنى فى إخبارهم عن أكل الذئب ليوسف فلا ينقص التصديق‏.‏

قال المهلب‏:‏ فالجواب فى ذلك أن التصديق وإن كان يسمى إيمانًا فى اللغة، فإن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان من كمال إيمانه، وبهذه الجملة يزيد الإيمان، وبنقصانها ينقص‏.‏

ألا ترى قول عمر بن عبد العزيز‏:‏ إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسُننًا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول فى الإيمان‏.‏

وأما التصديق بالله وبرسله فلا ينقص، ولذلك توقف مالك فى بعض الروايات عنه عن القول بالنقصان فيه، إذ لا يجوز نقصان التصديق، لأنه إن نقص صار شكا، وانتقل عن اسم الإيمان‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصى من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السُنَّة، ذكر أحمد بن خالد، قال‏:‏ حدثنا عبيد بن محمد، بصنعاء، قال‏:‏ حدثنا مسلمة بن شبيب، ومحمد بن يزيد، قالا‏:‏ سمعت عبد الرزاق يقول‏:‏ سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثورى، ومالك بن أنس، وعبد الله بن عمر، والأوزاعى، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، يقولون‏:‏ الإيمان قول وعمل يزيد وينقص‏.‏

ومن غير رواية عبد الرزاق، وهو قول ابن مسعود وحذيفة والنخعى‏.‏

وحكى الطبرى‏:‏ أنه قول الحسن البصرى، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد تقدم من قولكم أن الإيمان فى اللغة التصديق، وأنه لا ينقص، فكيف يكون الإيمان قولاً وعملاً‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ كذلك نقول‏:‏ التصديق فى نفسه لا ينقص إلا أنه لا يتم بغير عمل، إلا لرجل أسلم، ثم مات فى حين إسلامه قبل أن يدرك العمل فهذا معذور، لأنه لم يتوجه إليه فرض الأمر والنهى ولا لزمه‏.‏

وأما من لزمه فرض الأمر والنهى فلا يتم تصديقه لقوله إلا بفعله‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ألا ترى أن من وعد عدة، ثم أنجز وعده وحقق بالفعل قوله، أنه يقال‏:‏ صدق فلان قوله بفعله، فالتصديق يكون بالقلب وباللسان والجوارح، والمعنى الذى يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه المعانى الثلاثة، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه أنه لا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من توحيد ربه أنه غير مستحق اسم مؤمن، وكذلك لو أقر بالله وبرسله ولم يعمل الفرائض مؤمنًا بالإطلاق، وإن كان فى كلام العرب قد يجوز أن يسمى بالتصديق مؤمنًا، فغير مستحق ذلك فى حكم الله، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2- 4‏]‏، فأخبر تعالى أن المؤمن على الحقيقة من كانت هذه صفته، دون من قال ولم يعمل وضيع ما أمر به وفرط، والحجة لذلك من السُنَّة أيضًا ما رواه الطبرى، قال‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد المكى، قال‏:‏ حدثنا عبد السلام بن صالح، قال‏:‏ حدثنا الرضا على بن موسى، عن جعفر، عن أبيه، عن علىِّ بن حسين، عن أبيه، عن علىِّ بن أبى طالب، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ تمت الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وتصديق بالعمل‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت بُنى الإسلام على خمس‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏- إلى آخر الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فهذه الخمس هى دعائم الإسلام التى بها ثباته، وعليها اعتماده، وبإدامتها يعصم الدم والمال، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله-، وبهذا احتج الصِّدِّيق حين قاتل أهل الردة حين مَنْعِهِمُ الزكاة، وقال‏:‏ واللهِ لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واتبعه على ذلك جميع الصحابة‏.‏

وكذلك ينبغى أن يقاس على فعل أبى بكر، رضى الله عنه، فنقتل من جحد فريضة ومن ضيعها، فيجب عليه قضاؤها، فصح أن الإيمان قول وعمل‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت بُنِىَ الإسلام على خمس-، كان فى أول الإسلام قبل فرض الجهاد، والله أعلم‏.‏

وأما قول عمر بن عبد العزيز‏:‏ إن للإيمان فرائض وشرائع، فإن أعش فسأبينها لكم‏.‏

إن قال قائل‏:‏ كيف ظن عمر بأهل العراق أنهم لا يعرفون شرائع الإسلام وعندهم علماء التابعين وكيف أخر تعريفهم بها‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن عمر إنما رأى واجبًا على الإمام أن يتفقد، رعيته ويتخولهم أبدًا بذكر أمور الدين، وألا يدع ذلك على كل حال فيمن عَلِمَ منهم أو جَهِلَ، وفيمن قرب منهم أو بعد، فأراد عمر أن يخرج نفسه مما لزمه من ذلك، وأن يعيد ذكره مرارًا متى استطاع وأخر تعريفهم، لأن تأخير البيان جائز إذا لم تدع إليه ضرورة‏.‏

وأما قول ابن عباس‏:‏ تمت دعاؤكم إيمانكم-، فإن المفسرين اختلفوا فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 77‏]‏، فعلى قول ابن عباس يكون معناه‏:‏ قل‏:‏ ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم الذى هو زيادة فى إيمانكم، لأنه قد جاء فى الحديث أن الدعاء أفضل العبادة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ المعنى ما يفعل بكم ربى لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه وتطيعوه، قال‏:‏ وهو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 147‏]‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المعنى ما يعبأ بعذابكم ربى لولا دعاؤكم غيره، أى‏:‏ لولا عبادتكم غيره، وقول ابن عباس يوافق مذهب البخارى، لأنه سمى الدعاء إيمانًا، والدعاء عمل‏.‏

باب أُمُورِ الإيمَان

وقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏إلى‏)‏ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ الآيَةَ‏.‏

- فيه أَبو هُرَيْرَةَ أن رسول الله قَالَ‏:‏ تمت الإيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فقه هذا الباب كالذى قبله، أن كمال الإيمان بإقامة الفرائض والسنن والرغائب، وأن الإيمان قول وعمل بخلاف قول المرجئة‏.‏

ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ الْبِرَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ أى‏:‏ ليس غاية البرِّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن غاية البرِّ وكماله بِرُّ من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، إلى سائر ما ذكره تعالى فى الآية، فحذف الصفة وأقام الموصوف مقامه، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قال سيبويه‏:‏ أراد كخلق نفس واحدة وبعثها‏.‏

وبالمبالغة فى أفعال البر مدح الله المؤمنين فى قوله‏:‏ ‏(‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1- 11‏]‏‏.‏

وهذا المعنى مُطابق لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة-، فجعله أشياء كثيرة، ثم قال‏:‏ تمت الحياء شعبةٌ من الإيمان-، فدل الكتاب والسُّنَّة على خلاف قول المرجئة‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ وقوله‏:‏ تمت الحياء شعبة من الإيمان- يريد، والله أعلم، أن الحياء يبعث على طاعة الله ويمنع من ارتكاب المعاصى، كما يمنع الإيمان، وإن كان الحياء غريزة فالإيمان فعل المؤمن، فاشتبها من هذه الجهة‏.‏

فإن قال قائل من المرجئة‏:‏ كيف يجوز أن تسمى أفعال البرِّ كلها إيمانًا، وقد تقدم من قولكم أن الإيمان هو التصديق‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ قد تقدم قول المهلب أن أعمال البر إذا انضافت إلى التصديق كمل تصديق صاحبها بها على تصديق من عرى من أعمال البر، وقد تقدم قول الطبرى أن التصديق يكون بالفعل كما يكون بالقول‏.‏

وقد أجاب أبو بكر بن الطيب أيضًا فى ذلك قال‏:‏ إن الرسول إنما سمَّى أفعال البرِّ كلها إيمانًا على معنى أنها من دلائل الإيمان وسجايا المؤمنين وأفعالهم، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما مدح هذه الأفعال إذا وقعت من عارف بالله، ومصدق به، ولو وقعت من غير عارف به لم تكن قربةً ولا مدح فاعلها، فلما لم تكن قربة دون حصول المعرفة والإقرار بالقلب، سميت إيمانًا باسم الأصل الذى لا يتم الحكم لها بأنها طاعة وقربة دون حصوله‏.‏

باب الْمُسْلِمِ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ تمت الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ-‏.‏

قال المهلب‏:‏ يريد المسلم المستكمل لأُمور الإسلام خلاف قول المرجئة‏.‏

والمراد بهذا الحديث الحض على ترك أذى المسلمين باللسان واليد والأذى كله، ولهذا قال الحسن البصرى‏:‏ الأبرار هم الذين لا يؤذون الذّر والنمل‏.‏

وقوله‏:‏ تمت والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه-‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ لما انقطعت الهجرة، وفضلها حزن على فواتها من لم يدركها من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فأعملهم أن المهاجر على الحقيقة من هجر ما نهى الله عنه، وقال غيره‏:‏ أعلم المهاجرين أنه واجب عليهم أن يلتزموا هجر ما نهى الله عنه، ولا يتكلوا على الهجرة فقط‏.‏

باب أَىِّ الإسْلامِ أَفْضَلُ‏؟‏

- فيه‏:‏ أَبو مُوسَى قَالَ‏:‏ قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الإسْلامِ أَفْضَلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ-‏.‏

قال‏:‏ هذا الجواب خرج على سؤال سائل، لأنه قد سُئل صلى الله عليه وسلم مثل هذا السؤال، فأجاب بغير هذا الجواب، وذلك تمت أنه سئل‏:‏ أى الإسلام خير‏؟‏ قال‏:‏ تطعم الطعام، وتقرأ السلام-‏.‏

فدل اتفاق السؤال واختلاف الجواب أن ذلك كله منه صلى الله عليه وسلم فى أوقات مختلفة، لقوم شتى، فجاوب كل إنسان بما به الحاجة إلى علمه، وجعل إسلام من سلم المسلمون من لسانه ويده من أفضل الإسلام، وهو خلاف قول المرجئة‏.‏

باب إِطْعَامِ الطَّعَامِ مِنَ الإيمان

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَىُّ الإسْلامِ خَيْرٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ-‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ فى هذا الحديث الحض على المواساة، واستجلاب قلوب الناس بإطعام الطعام وبذل السلام، لأنه ليس شىء أجلب للمحبة وأثبت للمودة منهما، وقد مدح الله المطعم للطعام، فقال‏:‏ ‏(‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 8‏]‏ الآية، ثم ذكر الله جزيل ما أثابهم عليه، فقال‏:‏ ‏(‏فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 11، 12‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وصف تعالى من لم يطعمه بقوله تعالى فى صفة أهل النار‏:‏ ‏(‏مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 43- 45‏]‏، وعاب تعالى من أراد أن يحرم طعامه أهل الحاجة إليه، فذكر أهل الجنة‏:‏ ‏(‏إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏إلى‏)‏ كَالصَّرِيمِ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 17- 20‏]‏، يعنى المقطوع، فأذهب تعالى ثمارهم، وحرمهم إياها حين أمَّلُوا الاستئثار بها دون المساكين‏.‏

وفى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف- ندب إلى التواضع وترك الكبر، قال المهلب‏:‏ وهذا كما يظن العالم أن السائل محتاج إلى علمه، وهو من كمال الإيمان‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ تمت تقرأ السلام- أى تسلم عليه، قال أبو زيد‏:‏ أقرأنى خبرًا، أخبرنى به‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ يقال‏:‏ اقرأ صلى الله عليه وسلم وأقرئه الكتاب، ولا يقال‏:‏ أقرئه السلام إلا أن يكون مكتوبًا فى كتاب، ويقال‏:‏ أقرئه إياه، ولا يقال‏:‏ أقرئ السلام إلا فى لغة شنوءة‏.‏

باب مِنَ الإيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ

- فيه‏:‏ أَنَسٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معناه‏:‏ لا يؤمن أحدكم الإيمان التام، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وقال أبو الزناد‏:‏ ظاهره التساوى وحقيقته التفضيل، لأن الإنسان يحب أن يكون أفضل الناس، فإذا أحب لأخيه مثله، فقد دخل هو فى جملة المفضولين، ألا ترى أن الإنسان يجب أن ينتصف من حقه ومظلمته، فإذا كمل إيمانه وكانت لأخيه عنده مظلمة أو حق، بادر إلى إنصافه من نفسه، وآثر الحق، وإن كان عليه فيه بعض المشقة‏.‏

وقد روى هذا المعنى عن الفضيل بن عياض، أنه قال لسفيان بن عيينة‏:‏ إن كنت تريد أن يكون الناس كلهم مثلك، فما أديت لله النصيحة، كيف وأنت تود أنهم دونك‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ المراد بهذا الحديث كف الأذى والمكروه عن الناس، ويشبه معناه قول الأحنف بن قيس، قال‏:‏ كنت إذا كرهت شيئًا من غيرى لم أفعل بأحد مثله‏.‏

باب حُب الرسول مِنَ الإيمَان

- فيه‏:‏ أبو هُرَيْرَةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ‏.‏

- وَقالَ أَنَسٍ فِى حديثه‏:‏ تمت وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ هذا من جوامع الكلم الذى أوتيه صلى الله عليه وسلم، لأنه قد جمع فى هذه الألفاظ اليسيرة معانى كثيرة، لأن أقسام المحبة ثلاثة‏:‏ محبة إجلال وعظمة كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة استحسان ومشاكلة كمحبة سائر الناس، فحصر صنوف المحبة‏.‏

ومعنى الحديث، والله أعلم‏:‏ أن من استكمل الإيمان علم أن حق الرسول وفضله آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين، لأن بالرسول استنقذ الله أُمته من النار وهداهم من الضلال، فالمراد بهذا الحديث بذل النفس دونه صلى الله عليه وسلم، وقال الكسائى فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ أى حسبك الله ناصرًا وكافيًا، وحسبك من اتبعك من المؤمنين ببذل أنفسهم دونك‏.‏

باب حَلاوَةِ الإيمَان

- فيه‏:‏ أَنَسِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ-‏.‏

معنى وجود حلاوة الإيمان هو استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات فيما يرضى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإيثار ذلك على عرض الدنيا، رغبة فى نعيم الآخرة، الذى لا يبيد ولا يفنى‏.‏

وروى عن عتبة الغلام أنه قال‏:‏ كابدت الصلاة عشرين سنة، ثم تلذذت بها باقى عمرى‏.‏

ومحبة العبد لخالقه هى التزام طاعته والانتهاء عن معاصيه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، وكذلك محبة رسول الله هى التزام شريعته واتباع طاعته، ولما لم نصل إلى الإيمان إلا بالرسول، كانت محبته من الإيمان، وقد سئل بعض الصالحين عن المحبة ما هى‏؟‏ فقال‏:‏ مواطأة القلب لمراد الرب، أن توافق الله عز وجل فتحب ما أحب وتكره ما كره‏.‏

ونظم محمود الوراق هذا المعنى فقال‏:‏ تعصى الإله وأنت تظهر حبه لو كان حبًا صادقًا لأطعته هذا لعمرى فى القياس بديع إن المحب لمن يحب مطيع وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أن يحب المرء لا يحبه إلا لله-، فمن أجل أن الله قد جعل المؤمنين إخوة، وأكد النبى صلى الله عليه وسلم كلامه بقوله‏:‏ تمت لو كنت متخذًا خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن خلة الإسلام أفضل- وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله- فعد منهم‏:‏ تمت رجلين تحابا فى الله-، والمراد بالحديث‏:‏ الحث على التحاب فى الله والتعاون على البر والتقوى، وما يؤدى إلى النعيم الدائم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قيل‏:‏ فهل حب المرء اكتساب للعبد أم غريزة وجبلَّة‏؟‏ فإن قلت‏:‏ إن ذلك اكتساب للعبد، إذا شاء أحب وإذا شاء أبغض، قيل‏:‏ فما وجه الخبر الوارد‏:‏ تمت أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها‏؟‏- وإن قلت‏:‏ إن ذلك جبلة وغريزة، فما وجه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا يجد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله‏؟‏- فالجواب‏:‏ أن الله تعالى، وإن كان هيأ القلوب هيئة لا يمتنع معها حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، فإن العبد إنما يلحقه الحمد والذم على ما كلف مما له السبيل إليه من تذكيرها إحسان المحسن وإساءة المسىء إليها، وتنبيها على ما أغفلته من سالف أيادى المحسن إليها والمسىء، فإلى العبد التنبيه والتذكر الذى هو بفعله مأمور إن كان لله، تعالى، طاعة وعن التقدم عليه منهى إن كان له معصية، وذلك أن الرجل إذا تذكر سالف أيادى الله وأيادى رسوله صلى الله عليه وسلم وما منَّ عليه أن هداه للإسلام وأنقذه من الضلالة، وعرفه الأسباب التى توخيه إلى النجاة من عذاب الأبد والخلود فى جهنم، وغير ذلك من النعم التى وصلت إليه به مما لا كفاء لها، ولا استحقها من الله لسابقة تقدمت منه إلا بفضله تعالى، وجب أن يخلص المحبة لله ولرسوله فوق كل شىء من جميع المحاب، وكذلك إذا علم ما فى حب المرء فى الله عز وجل من المنزلة عند الله آثرها على أسباب الدنيا، لينال ثوابها يوم القيامة ولم يحبه لأعراض الدنيا الفانية‏.‏

قال غيره‏:‏ وقوله‏:‏ تمت وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار- معناه‏:‏ أن من وجد حلاوة الإيمان وخالط قلبه علم أن الكافر فى النار، فكره الكفر لكراهيته لدخول النار، وقد ترجم له باب‏:‏ من كره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يلقى فى النار‏.‏

باب عَلامَةِ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ

- فيه‏:‏ أنس، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت آيَةُ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عُبَادَةَ- وَكَانَ قَدَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ‏:‏ تمت بَايِعُونِى عَلَى ألا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوا الله فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ-‏.‏

فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما قوله‏:‏ تمت علامة الإيمان حب الأنصار- فهو بَيِّن فى حديث أنس‏.‏

وأما حديث عبادة فإنما ذكره فى الباب؛ لأن الأنصار لهم من السبق إلى الإسلام بمبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم ما استحقوا به هذه الفضيلة، وهذه أول بيعة عقدت على الإسلام، وهو بيعة العقبة الأولى بمكة، ولم يشهدها غير اثنى عشر رجلا من الأنصار، ذكر ذلك ابن إسحاق‏.‏

وكذلك قال عبادة‏:‏ تمت وحوله عصابة من أصحابه-، مع أن المهاجرين بمكة قد كانوا أسلموا ولم يبايعوا مثل هذه البيعة، فصح أن الأنصار المبتدئون بالبيعة على إعلان توحيد الله وشريعته حتى يموتوا على ذلك؛ فحبهم علامة الإيمان، ومجازاة لهم على حبهم من هاجر إليهم، ومواساتهم لهم فى أموالهم كما وصفهم الله، تعالى، واتباعًا بحب الله لهم بقوله‏:‏ ‏(‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، فكان الأنصار ممن اتبعه أولا، فوجبت لهم محبة الله، ومن أحب الله وجب على العباد حبه، وقد مدح الله، تعالى، الذين يقولون‏:‏ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان؛ لأنهم سنوا لنا سُنة حسنة لهم أجرها وآجر من عمل بها إلى يوم القيامة‏.‏

ذكر ابن إسحاق قال‏:‏ حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير مرثد بن عبد الله اليزنى، عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحى، عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ تمت كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان- وساق الحديث على ما ذكره البخارى‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فى الدنيا فهو كفارة- لفظه لفظ العموم، والمراد به الخصوص، لأنا قد علمنا أن من أشرك فعوقب بشركه فى الدنيا فليس ذلك بكفارة له، فدل أنه أراد بقوله‏:‏ تمت فمن أصاب من ذلك شيئًا- ما سوى الشرك، ومثله فى القرآن كثير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ ‏(‏، ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏‏)‏ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ‏(‏، ‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏ ومعلوم أنها لم تدمر السموات والأرض ولا جميع الأشياء ولا دمرت مساكنهم، ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ‏(‏، وقوله‏:‏ ‏(‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ ‏(‏، ومعلوم أن بلقيس لم تؤت ملك سليمان‏.‏

وقوله‏:‏ تمت من أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه- يرد قول من أنفذ الوعيد على القاتل، وعلى سائر المذنبين من الموحدين، والحُجَّة فى السنة لا فى قول من خالفها، وسأذكر هذه المسألة فى كتاب الديات فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏، أو فى آخر كتاب الطب فى باب‏:‏ شرب السم، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ

- فيه‏:‏ أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الحديث يدل على إباحة الانفراد والاعتزال عند ظهور الفتن، طلبًا لإحراز السلامة فى الدين، خشية أن تحل عقوبة فتعم الكل، وهذا كله من كمال الدين، وقد جاء فى الحديث‏:‏ تمت أنه إذا فشا المنكر، وكان بالناس قوة على تغييره، فلم يغيروه امتحنهم الله بعقوبة، وبعث الصالحين على نياتهم، وكان نقمة للفاسقين، وتكفيرًا للمؤمنين-‏.‏

وقد اعتزل سلمة بن الأكوع عند قتل عثمان، وقال له الحجاج‏:‏ أرتددت على عقبيك، تعربت‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن رسول الله أذن لى فى البدو‏.‏

وقال أبو الزناد‏:‏ خص الغنم من بين سائر الأشياء حضًا على التواضع وتنبيهًا على إيثار الخمول وترك الاستعلاء والظهور، وقد رعاها الأنبياء والصالحون، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم-‏.‏

وأخبر أن السكينة فى أهل الغنم‏.‏

وشعف الجبال‏:‏ رءوسها، وشعفة كل شىء أعلاه، عن صاحب العين‏.‏

باب قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ

وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 225‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَهُمْ مِنَ الأعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا‏:‏ لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر، َ فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ تمت أَنَا أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ‏(‏أى بما اعتقدته وأضمرته، فسمى ذلك الإعتقاد فعلاً للقلب، وأخبر أنه لا يؤاخذ عباده من الأعمال إلا بما اعتقدته قلوبهم، فثبت بذلك أن الإيمان من صفات القلوب، خلاف قول الكرامية وبعض المرجئة‏:‏ أن الإيمان قول باللسان دون عقد بالقلب، وإنما أمر أمته صلى الله عليه وسلم من الأعمال بما يطيقون ليأخذوها بالنشاط ولا يتجاوزوا حَدَّهم فيها فيضعفوا عنها، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إن المنبتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى- ضَرَبَه مثلاً فى الأعمال‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ وقولهم‏:‏ تمت لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر-، فإنما قالوا ذلك رغبة فى التزيد من الأعمال، لما كانوا يعلمونه من اجتهاده فى العبادة، وهو قد غفر له ما تقدم من ذنبه، فعند ذلك غضب إذ كان أولى منهم بالعمل، لعلمه بما عند الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أفلا أكون عبدًا شكورًا-، وفى اجتهاده فى عمله، وغضبه من قولهم دليل أنه لا يجب أن يَتَّكل العامل على عمله، وأن يكون بين الرجاء والخوف‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه‏:‏ أن الرجل الصالح يلزمه من التقوى والخشية ما يلزم المذنب التائب، لا يُؤَمِّن الصالح صلاحه، ولا يوئس المذنب ذنبه ويقنطه، بل الكل خائف راجٍ، وكذلك أراد تعالى أن يكون عباده واقفين تحت الخوف والرجاء اللذين ساس بهما خلقه سياسة حكمه لا انفكاك منها‏.‏

وقوله‏:‏ تمت إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا- فيه من الفقه أن للإنسان أن يخبر عن نفسه بما فيه من الفضل لضرورة تدعوه إلى ذلك، لأن كلامه صلى الله عليه وسلم بذلك وقع فى حال عتاب لأصحابه، ولم يُرِد به الفخر، كقوله‏:‏ تمت أنا سيد ولد آدم ولا فخر‏.‏

باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الإيمَانِ فِي الأعْمَالِ

- فيه‏:‏ أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَ النَّبِى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا- أَوِ الْحَيَاةِ شَكَّ مَالِكٌ- فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً‏؟‏‏.‏

وَقَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى‏:‏ تمت خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَىَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ‏:‏ فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِىَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَىَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ-، قَالُوا‏:‏ فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت الدِّينَ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ تفاضل المؤمنين فى أعمالهم لا شك فيه، وأن الذى خرج من النار بما فى قلبه من مقدار حبة من خردل من إيمان معلوم أنه كان ممن انتهك المحارم وارتكب الكبائر، ولم تفِ طاعته لله عند الموازنة بمعاصيه‏.‏

ومن أطاع الله وقام بما وَجَبَ عليه وبرئ من مظالم العباد فلا شك أن عمله أفضل من عمل الرجل المنتهك‏.‏

وقد مَثَّل ذلك صلى الله عليه وسلم بالقمص التى كانت تبلغ الثدى، وبقميص عمر الذى كان يجرُّه، ومعلوم أن عمل عمر فى إيمانه أفضل من عمل من بلغ قميصه ثدييه‏.‏

فإيمانه أفضل من إيمانه بما زاد عليه من العمل، وتأويله صلى الله عليه وسلم ذلك بالدين يدل أن الإيمان الواقع على العمل يُسمى دينًا، كالإيمان الواقع على القول‏.‏

وهذا يرد قول أهل البدع الذين يزعمون أن إيمان المذنبين كإيمان جبريل، وأنه لا تفاضل فى الإيمان، وقولهم غلط لا يخفى، لأن الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وسائر الخلق يملُّون ويفترون‏.‏

فكيف يبلغ أحدٌ منهم منزلتهم فى العمل، وفى كتاب الله حجةٌ لتفاضل المؤمنين فى الإيمان، وذلك أن إبراهيم سأل ربه تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى، فطلب المعاينة التى هى أعلى منازل العلم التى تسكن النفوس إليها، وتقع الطمأنينة بها، ولا يجوز أن نظن بإبراهيم خليل الله ونبيه أنه حين سأل المعاينة لم يكن مؤمنًا، أو أنه اعترضه شك فى إيمانه‏.‏

والدليل على صحة هذا قوله لربه حين قال له‏:‏ ‏(‏أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏، فأوجب لنفسه الإيمان قبل أن يعاين ما طلب معاينته، وعَذَرَهُ الله تعالى فى طلب ذلك، لأن المعاينة أشفى ويهجم على النفوس منها ما لا يهجم من الخبر‏.‏

ألا ترى أن موسى حين كلمه ربه لم يشك أن الله هو المتكلم له، ولكن طلب ما هو أرفع من ذلك وهى المعاينة، فقال‏:‏ ‏(‏رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، فأعلمه ربه أنه لا يجوز أن تقع عليه حاسّة البصر، وأنه لا تدركه الأبصار بما أراه الله من الآيات فى الجبل الذى صار دكًا بتجليه له تعالى‏.‏

ومما يشبه هذا المعنى أن الله تعالى أخبر موسى عن بنى إسرائيل بعبادة العجل، فلم يشك فى صدق خبره، فلما رجع إلى قومه وعاين حالهم حدث فى نفسه من الإنكار والتغيير ما لم يحدث بالخبر، فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه‏.‏

وقد نبَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال‏:‏ تمت ليس الخبر كالمعاينة-، والحبّة بذور البقل، ويقال‏:‏ هو نبت ينبت فى الحشيش، عن صاحب العين‏.‏

باب الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَان

- فيه‏:‏ ابن عمر، أَنَّ النبِى صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ، فَقَالَ‏:‏ تمت دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ-‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ معنى هذا الحديث أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصى كما يمنعُ الإيمان، فجاز أن يُسمى إيمانًا، لأن العرب تُسمى الشىء باسم ما قام مقامه، أو كان شبيهًا به، ألا ترى أنهم يُسمون الركوع والسجود صلاةً، وأصل ذلك الدعاء، فلما كان الدعاء يكون فى الصلاة سميت صلاة، وكذلك الزكاة هى تثمير المال ونماؤه، فلما كان النماء يقع بإخراج الصدقة عن المال سمِّى زكاةً‏.‏

قال غيره‏:‏ وهذا الحديث يقتضى الحضّ على الامتناع من مقابح الأمور ورذائلها، وكل ما يحتاج إلى الاستحياء من فعله والاعتذار منه‏.‏

باب ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّها، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال أنس بن مالك‏:‏ هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وتوبتهم خلع الأوثان، وعبادتهم لربهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم قال فى آية أخرى‏:‏ ‏(‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏، فقام الدليل الواضح من هاتين الآيتين أن من ترك الفرائض، أو واحدة منها، فلا يُخلَّى سبيله، وليس بأخٍ فى الدين، ولا يُعصم دمه ومالُه، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها-، وبهذا حكم أبو بكر الصِّدِّيق فى أهل الردة، وهذا يَرُد قول المرجئة أن الإيمان غير مفتقر إلى الأعمال‏.‏

وقولهم مخالف لدليل الكتاب والآثار وإجماع أهل السُّنَّة‏.‏

فمن ضيع فريضة من فرائض الله جاحدًا لها فهو كافر، فإن تاب وإلا قُتل، ومن ضيع منها شيئًا غير جاحد لها فأمره إلى الله، ولا يُقطع عليه بكفر، وسيأتى حكم تارك الصلاة فى كتاب المرتدين فى باب قتل من أبى قبول الفرائض، وما نسبوها إلى الردَّة، ويأتى فى باب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة فى كتاب الجهاد، زيادة فى الكلام فى معنى هذا الحديث، إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ تمت وحسابهم على الله- يدل أن محاسبة العباد على سرائرهم وخفيان اعتقادهم إلى الله دون خلقه، وأن الذى جعل للنبى صلى الله عليه وسلم وإلى الأئمة بعده ما ظهر من أمورهم دون ما خفى يدل على ذلك حديث أبى سعيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قَسم، فقال له رجل‏:‏ اتق الله، فقال له‏:‏ تمت ويلك أَوَ لست أحق أهل الأرض أن يتقى الله-‏؟‏ فقال خالد بن الوليد‏:‏ يا رسول الله، ألا أضرب عنقه‏؟‏ قال‏:‏ تمت لا، لعله أن يكون يصلِّى-، قال خالد‏:‏ وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس فى قلبه، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إنى لم أؤمر أن أشق عن قلوب الناس، ولا عن بطونهم-، ذكره البخارى فى المغازى فى باب بعثه علىّ إلى اليمين‏.‏

وفى هذا الحديث حجة لمن أجاز قبول توبة الزنديق، وسيأتى مذاهب العلماء فى ذلك فى الديات والحدود، إن شاء الله‏.‏

باب مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ الإيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 72‏]‏‏.‏

وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 92، 93‏]‏ عَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 61‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ سُئِلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ تمت إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ-، قِيلَ‏:‏ ثُمَّ مَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ-، قِيلَ‏:‏ ثُمَّ مَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت حَجٌّ مَبْرُورٌ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 72‏]‏ حجة فى أن العمل تنال به درجات الجنة، وأن الإيمان قول وعمل ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل أى العمل أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ تمت إيمان بالله-، ثم ذكر الأعمال معه فى جواب السائل‏.‏

فإن قيل‏:‏ أليس قد تقدم من قولكم أن الإيمان هو التصديق‏؟‏ قيل‏:‏ التصديق هو أول منازل الإيمان، ويوجب للمصدق الدخول فيه، ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يقال له‏:‏ مؤمنًا مطلقًا، لأن الله تعالى فرض على عباده فرائض وشرع شرائع، لا يقبل تصديق من جحدها، ولم يرض من عباده المؤمنين بالتصديق والإقرار دون العمل لما تقدم بيانه فى غير موضع من هذا الكتاب‏.‏

هذا مذهب جماعة أهل السُّنَّة، أن الإيمان قول وعمل‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وهو قول مالك والثورى والأوزاعى ومن بعدهم من أرباب العلم والسُّنَّة الذين كانوا مصابيح الهدى، وأئمة الدين من أهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم‏.‏

وهذا المعنى أراد البخارى، رحمه الله، إثباته فى كتاب الإيمان وعليه بَوَّب أبوابه كلها، فقال‏:‏ باب أمور الإيمان، وباب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وباب إطعام الطعام من الإيمان، وباب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وباب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، وباب الصلاة من الإيمان، وباب الزكاة من الإيمان، وباب الجهاد من الإيمان وسائر أبوابه‏.‏

وإنما أراد الرَّد على المرجئة، لقولهم‏:‏ إن الإيمان قول بلا عمل، وتبيين غلطهم وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسُّنَّة، ومذهب الأئمة‏.‏

وقال المهلب فى حديث أبى هريرة‏:‏ إنما اختلفت هذه الأحاديث فى ذكر الفرائض، لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم كل قوم بما لهم الحاجة إليه، ألا تراه قد أسقط ذكر الصلاة والزكاة والصيام من جوابه للسائل‏:‏ أى العمل أفضل، وهى آكد من الجهاد والحج، وإنما ترك ذلك لعلمه أنهم كانوا يعرفون ذلك ويعملون به، فأعلمهم ما لم يكن فى علمهم حتى تمت دعائم الإسلام والحمد لله‏.‏