فصل: باب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، سُئلت أَىُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قَالَتِ‏:‏ الدَّائِمُ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ فَأَىَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَنْ يُنَجّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ‏)‏، قَالُوا‏:‏ وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا وَاغْدُوا، وَرُوحُوا، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ فِى حديث آخر‏:‏ ‏(‏اكْلَفُوا مِنَ العمل مَا تُطِيقُونَ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ عَلْقَمَة‏:‏ سَأَلْتُ عَائِشَةَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأيَّامِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، صَلَّى لَنَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا الصَّلاةَ، ثُمَّ رَقِىَ الْمِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏قَدْ أُرِيتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِى قُبُلِ هَذَا الْجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ‏)‏، مرتين‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما حضّ النبى صلى الله عليه وسلم أمته على القصد والمداومة على العمل، وإن قلّ خشية الانقطاع عن العمل الكثير فكأنه رجوع فى فعل الطاعات، وقد ذمّ الله ذلك، ومدح من أوفى بالنذر، وقد تقدم بيان هذا المعنى فى أبواب صلاة الليل فى آخر كتاب الصلاة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إن قول عائشة‏:‏ إن النبى لم يكن يخص شيئًا من الأيام بالعمل؛ يعارضه قولها‏:‏ ما رأيت رسول الله أكثر صيامًا منه فى شعبان‏.‏

قيل‏:‏ لا تعارض بين شىء من ذلك، وذلك أنه كان كثير الأسفار فى الجهاد، فلا يجد سبيلا إلى صيام الثلاثة الأيام من كل شهر، فيجمعها فى شعبان، ألا ترى قول عائشة‏:‏ كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم فهذا يبين أنه كان لا يخصّ شيئًا من الزمان؛ بل كان يوقع العبادة على قدر نشاطه، وفراغه لذلك من جهاده وأسفاره، فيقل مرةً ويكثر أخرى، هذا قول المهلب، وقد قيل فى معنى كثرة‏:‏ صيامه فى شعبان وجوه آخر قد ذكرتها فى باب صوم شعبان فى كتاب الصيام‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى ذكر حديث أنس فى هذا الباب‏؟‏ قيل‏:‏ معناه أن يوجب ملازمة العمل وإدمانه ما مثل له من الجنة للرغبة، ومن النار للرهبة، فكان فى ذلك فائدتان‏:‏ إحداهما‏:‏ تنبيه للناس أن يتمثلوا الجنة والنار بين أعينهم إذا وقفوا بين يدى الله، كما مثلها الله لنبيه، وشغله بالفكرة فيهما عن سائر الأفكار الحادثة عن تذكير الشيطان بما يسهيه حتى لا يدرى كم صلّى، والثانية‏:‏ أن يكون الخوف من النار الممثلة والرغبة فى الجنة نصب عينى المصلى فيكونا باعثين له على الصبر، والمداومة على العمل المبلغ إلى رحمة الله والنجاة من النار برحمته‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لن يدخل أحدكم عمله الجنة‏)‏ يعارض قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 72‏]‏‏.‏

قيل‏:‏ ليس كما توهمت، ومعنى الحديث غير معنى الآية، أخبر النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث أنه لا يستحق أحد دخول الجنة بعمله، وإنما يدخلها العباد برحمة الله، وأخبر الله تعالى فى الآية أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، ومعلوم أن درجات العباد فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم، فمعنى الآية فى ارتفاع الدرجات وانخفاضها والنعيم فيها، ومعنى الحديث فى الدخول فى الجنة والخلود فيها، فلا تعارض بين شيء من ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد قال تعالى فى سورة النحل‏:‏ ‏{‏سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏، فأخبر أن دخول الجنة بالأعمال أيضًا‏.‏

فالجواب‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏(‏ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏ كلام مجمل يبينه الحديث، وتقديره ادخلوا منازل الجنة وبيوتها بما كنتم تعملون، فالآية مفتقرة إلى بيان الحديث‏.‏

وللجمع بين الحديث وبين الآيات وجه آخر هو أن يكون الحديث مفسرًا للآيات، ويكون تقديرها‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 72‏]‏، و‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 19‏]‏، و‏)‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏ مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأن فضله تعالى ورحمته لعباده فى اقتسام المنازل فى الجنة، كما هو فى دخول الجنة لا ينفك منه، حين ألهمهم إلى ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شىء من مجازاة الله عباده من رحمته وتفضله، ألا ترى أنه تعالى جازى على الحسنة عشرًا، وجازى على السيئة واحدة، وأنه ابتدأ عباده بنعم لا تحصى، لم يتقدم لهم فيها سبب ولا فعل، منها أن خلقهم بشرًا سويا، ومنها نعمة الإسلام ونعمة العافية ونعمة تضمنه تعالى لأرزاق عباده، وأنه كتب على نفسه الرحمة، وأن رحمته سبقت غضبه، إلى ما لا يهتدى إلى معرفته من ظاهر النعم وباطنها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إلا أن يتغمدنى الله‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ لا أحسب يتغمدنى إلا مأخوذ من غمد السيف، لأنك إذا غمدته فقد ألبسته إياه وغشيته به‏.‏

وقول عائشة‏:‏ ‏(‏كان عمله ديمةً‏)‏ يعنى دائمًا، وأصل الديمة‏:‏ المطر الدائم مع سكون، قال لبيد‏:‏ باتتْ وأسبلَ واكف من ديمةٍ يروى الخمائلَ دائمًا تسجامها فأخبر أن الديمة‏:‏ الدائم، فشبهت عائشة عمله صلى الله عليه وسلم فى دوامه مع الاقتصاد وترك الغلو بديمة المطر‏.‏

باب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقال عُمَرُ‏:‏ وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ إِلا أَعْطَاهُ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَهُمْ مَا يَكُونْ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ لا أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الْمُغِيرَة، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أرفع الصابرين منزلة عند الله من صبر عن محارم الله، وصبر على العمل بطاعة الله، ومن فعل ذلك فهو من خالص عباد الله وصفوته، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لن تعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر‏)‏ وسئل الحسن عن قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان فقال‏:‏ ‏(‏الصبر والسماح‏)‏ فقيل للحسن‏:‏ ما الصبر والسماح‏؟‏ فقال‏:‏ السماح بفرائض الله، والصبر عن محارم الله‏.‏

وقال الحسن‏:‏ وجدت الخير فى صبر ساعةٍ‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله‏)‏ معناه من يعفه الله يستعفف، ومن يصبره الله يتصبر، ومن يغنه الله يستغن، وهذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5، 6‏]‏ الآية‏.‏

يبين صحة هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏، فلولا ما سبق فى علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا، وكذلك لولا ما سبق فى علم الله أنهم ممن يستعفف ويستغنى ويصبر ما قدروا على شىء من ذلك بفعلهم‏.‏

يبين ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اعملوا فكل ميسرّ لما خلق له‏)‏ وهذا حجة فى أن أفعال العباد خلق لله تعالى والصبر فى حديث المغيرة صبر على العمل بطاعة الله، لأنه كان صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل حتى ترم قدماه، ويقول‏:‏ ‏(‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقد اختلف السلف فى حد الشكر فقال بعضهم‏:‏ شكر العبد لربه على أياديه عنده رضاؤه بقضائه، وتسليمه لأمره فيما نابه من خير أو شر، ذكره الربيع بن أنس عن بعض أصحابه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الشكر لله هو الإقرار بالنعم أنها منه، وأنه المتفضل بها، وقالوا الحمد والشكر بمعنى واحد روى ذلك عن ابن عباس وابن زيد‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصّواب فى ذلك أن شكر العبد هو إقراره بأن ذلك من الله دون غيره وإقرار الحقيقة الفعل، ويصدقه العمل، فأما الإقرار الذى يكذبه العمل، فإن صاحبه لا يستحق اسم الشاكر بالإطلاق، ولكنه يقال شكر باللسان والدليل على صحة ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏، ومعلوم أنه لم يأمرهم، إذ قال لهم ذلك، بالإقرار بنعمه؛ لأنهم كانوا لا يجحدون أن يكون ذلك تفضلا منه عليهم، وإنما أمرهم بالشكر على نعمه بالطاعة له بالعمل، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم حين تفطرت قدماه فى قيام الليل‏:‏ ‏(‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏)‏‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فأى المنزلتين أعلى درجةً‏:‏ الصبر أو الشكر‏؟‏ قيل‏:‏ كل رفيع الدرجة شريف المنزلة، وما ذو العافية والرخاء كذى الفاقة والبلاء، وفى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏، وخصوصه إياهم من الأجر على صبرهم دون سائر من ضمن له ثوابًا على عمله ما يبين عن فضل الصبر‏.‏

وقد روى الأعمش، عن أبى الزبير، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم فى الدنيا كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب الله تعالى لأهل البلاء‏)‏ وذكر ابن أبى الدنيا من حديث أم هانئ قالت‏:‏ ‏(‏دخل علىّ رسول الله فقال‏:‏ أبشرى، فإن الله قد أنزل لأمتى الخير كله، قد أنزل‏)‏ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏، قلت‏:‏ بأبى وأمى وما الحسنات‏؟‏ قال الصلوات الخمس ودخل علىّ فقال‏:‏ أبشرى فإنه قد أنزل خير لا شر بعده‏.‏

قلت‏:‏ بأبى وأمى ما هو‏؟‏ قال‏:‏ أنزل الله‏)‏ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏، فقلت‏:‏ يا رب زد أمتى، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏، فقلت‏:‏ يا رب زد أمتى‏.‏

فأنزل الله‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

باب حِفْظِ اللِّسَانِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ

وَقول اللَّه‏:‏ ‏(‏مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ سَهْلِ بْن سَعْدٍ، قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ يَضْمَنْ لِى مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ‏)‏‏.‏

ورواه أبو شريح، عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغرب‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لا يُلْقِى لَهَا بَالا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِى لَهَا بَالا، يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ما أحق من علم أن عليه حفظةً موكلين به، يحصون عليه سقط كلامه وعثرات لسانه، أن يحزنه ويقل كلامه فيما لا يعنيه، وما أحراه بالسعى فى أن لا يرتفع عنه ما يطول عليه ندمه من قول الزور والخوض فى الباطل، وأن يجاهد نفسه فى ذلك ويستعين بالله ويستعيذ من شر لسانه، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت‏)‏ يعنى من كان يؤمن بالله واليوم الآخر الإيمان التام فإنه ستبعثه قوة إيمانه على محاسبة نفسه فى الدنيا والصمت عما يعود عليه ندامةً يوم القيامة، وكان الحسن يقول‏:‏ ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل يحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل يذمك‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز لرباح بن عبيد‏:‏ بلغنى أن الرجل ليظلم بالمظلمة، فما زال المظلوم يشتم ظالمه حتى يستوفى حقه ويفضل للظالم عليه‏.‏

وروى أسد عن الحسن البصرى قال‏:‏ لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى لا يعيب أحدًا بعيب هو فيه، وحتى يبتدئ بصلاح ذلك العيب من نفسه، فإنه إن فعل ذلك لم يصلح عيبًا إلا وجد فى نفسه عيبًا آخر، فينبغى له أن يصلحه، فإذا كان المرء كذلك شغله فى خاصته واجبًا، وأحب العباد إلى الله من كان كذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من ضمن لى ما بين لحييه‏)‏ يعنى لسانه فلم يتكلم بما يكتبه عليه صاحب الشمال ‏(‏وما بين رجليه‏)‏ يعنى فرجه فلم يستعمله فيما لا يحل له ‏(‏ضمنت له الجنة‏)‏‏.‏

ودل بهذا الحديث أن أعظم البلاء على العبد فى الدنيا اللسان والفرج، فمن وقى شرهما فقد وقى أعظم الشر، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقى لها بالاً يزل بها فى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب‏)‏‏.‏

وقال أهل العلم‏:‏ هى الكلمة عند السلطان بالبغي والسعي على المسلم، فربما كانت سببًا لهلاكه، وإن لم يرد ذلك الباغى، لكنها آلت إلى هلاكه، فكتب عليه إثم ذلك، والكلمة التى يكتب الله له بها رضوانه الكلمة يريد بها وجه الله بين أهل الباطل، أو الكلمة يدفع بها مظلمة عن أخيه المسلم، ويفرج عنه بها كربةً من كرب الدنيا، فإن الله تعالى يفرج عنه كربةً من كرب الآخرة، ويرفعه بها درجات يوم القيامة‏.‏

باب الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظله‏:‏ رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى كتاب المحاربين فى باب فضل من ترك الفواحش، ونذكر فى هذا الباب ما روى فى البكاء من خشية الله تعالى عن الأنبياء، عليهم السلام، وعن السلف أيضًا، روى أسد بن موسى، عن عمران بن زيد، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون فى النار حتى تسيل دموعهم فى وجوههم كأنها جداول، ثم تنقطع الدموع وتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن السفن أجرين فيها لجرت‏)‏ وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة سمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهذه كانت سيرة الأنبياء والصالحين كأن خوف الله أُشرب قلوبهم واستولى عليهم الوجل حتى كأنهم عاينوا الحساب، وعن يزيد الرقاشى قال‏:‏ يا لهفاه سبقنى العابدون، وقطع بى نوح؛ يبكى على خطيئته، ويزيد لا يبكى على خطيئته، إنما سُمّى نوحًا لطول ما ناح على نفسه فى الدنيا‏.‏

وذكر ابن المبارك عن مجاهد قال‏:‏ كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وكان يبكى من خشية الله، ما لو كان القار على عينيه لخوفه ولقد كانت الدموع اتخذت فى وجهه مجرى‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ قال النبي عليه السلام‏:‏ ‏(‏كان مما ناجى الله موسى أنه لم يتعبد العابدون بمثل البكاء من خيفتى، أما البكاءون من خيفتى فلهم الرفيق لا يشاركون فيه‏)‏‏.‏

وعن وهيب بن الورد أن زكريا قال ليحيى ابنه شيئًا فقال له‏:‏ يا أبة، إن جبريل أخبرنى أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء‏.‏

وقال الحسن‏:‏ أوحى الله إلى عيسى ابن مريم‏:‏ أكحل عينيك بالبكاء إذا رأيت البطالين يضحكون‏.‏

وعن وهب بن منبه عن النبي عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏لم يزل أخى داود باكيًا على خطيئته مدة حياته كلها‏)‏، وكان يلبس الصوف ويفترش الشعر ويصوم يومًا ويفطر يومًا، ويأكل خبز الشعير بالملح والرماد، ويمزج شرابه بالدموع، ولم يُر ضاحكًا بعد الخطيئة، ولا شاخصًا ببصره إلى السماء حياءً من ربه وهذا بعد المغفرة، وكان إذا ذكر خطيئته خر مغشيا عليه يضطرب كأنه أعجب به، فقال‏:‏ وهذه خطيئة أخرى‏.‏

وروى عن محمد بن كعب فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 25‏]‏، قال‏:‏ الزلفى‏:‏ أول من يشرب من الكأس يوم القيامة داود وابنه‏.‏

قال بعض الناس‏:‏ أرى هذه الخاصة لشربه دموعه من خشية الله عز وجل وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له‏:‏ قد تذكر الجنة والنار ولا تبكى وتبكى من هذا‏؟‏ قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى‏:‏ ‏(‏إن القبر أول منزلة من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه‏)‏‏.‏

وقال أبو رجاء‏:‏ رأيت مجرى الدموع من ابن عباس كالشراك البالى من البكاء‏.‏

باب الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، وَأَبُو سَعِيد، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِىءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ لأهْلِهِ‏:‏ إِذَا أَنَا مُتُّ، فَخُذُونِى، فَذَرُّونِى فِى الْبَحْرِ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِى صَنَعْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا حَمَلَنِى إِلا مَخَافَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ أَبُو سَعِيد فِى حديثه‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، فَسَّرَهَا قَتَادَةُ، لَمْ يَدَّخِرْ، وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ، فَانْظُرُوا، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِى حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا، فَاسْحَقُونِى، أَوْ قَالَ‏:‏ فَاسْهَكُونِى، ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَأَذْرُونِى فِيهَا، فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي، فَفَعَلُوا، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ كُنْ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَىْ عَبْدِى، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَخَافَتُكَ، أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ، فَمَا تَلافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر البخارى فى باب ما ذكر عن بنى إسرائيل، قال حذيفة‏:‏ ‏(‏وكان نباشًا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فغفر الله له بشدة مخافته، وأقرب الوسائل إلى الله خوفه وألا يأمن المؤمن مكره، قال خالد الربعى‏:‏ وجدت فاتحة زبور داود‏:‏ رأس الحكمة خشية الربّ‏.‏

وكان السلف الصالح قد أشرب الخوف من الله قلوبهم واستقلوا أعمالهم ويخافون ألا يقبل منهم مع مجانبتهم الكبائر، فروى عن عائشة‏:‏ ‏(‏أنها سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 60‏]‏، قال‏:‏ يا ابنة الصديّق، هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون ألا يقبل منهم‏)‏‏.‏

وقال مطرف بن عبد الله‏:‏ كاد خوف النار يحول بينى وبين أن أسأل الله الجنة‏.‏

وقال بكر، لما نظر إلى أهل عرفات‏:‏ ظننت أنه قد غفر لهم لولا أنى كنت معهم‏.‏

فهذه صفة العلماء بالله الخائفين له، يعدون أنفسهم من الظالمين الخاطئين، وهم أنزاه برآه مع المقصرين، وهم أكياس مجتهدون لا يدلون عليه بالأعمال فهم مروّعون خاشعون وجلون وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ وددت أنى انفلقت عن روثة لا أنتسب إلا إليها، فيقال‏:‏ عبد الله بن روثة، وأن الله قد غفر لى ذنبًا واحدًا‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ يخرج من النار رجل بعد ألف عام، وليتنى كنت ذلك الرجل، لقد شهدت أقوامًا كانوا أزهد فيما أحل لهم منكم فيما حرم عليكم، ولهم كانوا أبصر بقلوبهم منكم بأبصاركم، ولهم كانوا أشفق أن لا تقبل حسناتهم منكم ألا تؤخذوا بسيئاتكم‏.‏

وقال حكيم من الحكماء‏:‏ إذا أردت أن تعلم قدرك عند الله فاعلم قدر طاعة الله فى قلبك‏.‏

وقال ميمون بن مهران‏:‏ ما فينا خير إلا أنا نظرنا إلى قوم ركبوا الجرائم وعففنا عنها، فظننا أن فينا خيرًا وليس فينا خير‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ كيف غفر لهذا الذى أوصى أهله بإحراقه وقد جهل قدرة الله على إحيائه، وذلك أنه قال‏:‏ ‏(‏إن يقدر على الله يعذبنى‏)‏ وقال فى رواية أخرى‏:‏ ‏(‏فوالله لئن قدر الله علىَّ ليعذبنى‏)‏‏.‏

قال الطبري‏:‏ قيل‏:‏ قد اختلف الناس فى تأويل هذا الحديث، فقال بعضهم‏:‏ أما ما كان من عفو الله عما كان منه فى أيام صحتّه من المعاصى؛ فلندمه عليها وتوبته منها عند موته، ولذلك أمر ولده بإحراقه وذروه فى البر والبحر خشية من عقاب ربه والندم توبة، ومعنى رواية من روى‏:‏ ‏(‏فوالله لئن قدر الله عليه‏)‏ أى ضيق عليه، كقوله‏:‏ ‏(‏وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 16‏]‏، لم يرد بذلك وصف بارئه بالعجز عن إعادته حيًا، ويبين ذلك قوله فى الحديث حين أحياه ربه ‏(‏قال‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ قال‏:‏ مخافتك يا رب‏)‏‏.‏

وبالخوف والتوبة نجا من عذابه عز وجل‏.‏

وقال آخرون فى معنى قوله ‏(‏لئن قدر الله علىَّ‏)‏‏:‏ معناه القدرة التى هى خلاف العجز، وكان عنده أنه إذا أحرق وذرى فى البر والبحر أعجز ربه عن إحيائه، قالوا‏:‏ وإنما غفر له جهله بالقدرة؛ لأنه لم يكن تقدم من الله تعالى فى ذلك الزمان بأنه لا يغفر الشرك به، وليس فى العقل دليل على أن ذلك غير جائز فى حكمة الله؛ بل الدليل فيه على أنه ذو الفضل والإحسان والعفو عن أهل الآثام، وإنما نقول‏:‏ لا يجوز أن يغفر الشرك بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏، فأما جواز غفران الله ذلك لولا الخبر فى كتابه فهو كان الأولى بفضله والأشبه بإحسانه لأنه لا يضره كفر كافر، ولا ينفعه إيمان مؤمن‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل غفر له وإن كان كفرًا من قوله، من أجل أنه قاله على جهل منه بخطئه؛ فظن أن ذلك صواب‏.‏

قالوا‏:‏ وغيرجائز فى عدل الله وحكمته أن يسّوى بين من أخطأ وهو يقصد الصواب، وبين من تعمّد الخطأ والعناد للحق فى العقاب‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما غفر له، وإن كان كفرًا ممن قصد قوله وهو يعقل ما يقول؛ لأنه قاله وهو لا يعقل ما يقول‏.‏

وغير جائز وصف من نطق بكلمة كفر وهو لا يعلمها كفرًا بالكفر، وهذا قاله وقد غلب على فهمه من الجزع الذى كان لحقه لخوفه من عذاب الله تعالى وهذا نظير الخبر الذى روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الذى يدخل الجنة آخر من يدخلها فيقال له‏:‏ ‏(‏إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها‏)‏ فيقول للفرح الذى يدخله‏:‏ ‏(‏يا رب أنت عبدى وأنا ربك مرتين‏)‏ قالوا فهذا القول لو قاله على فهم منه بما يقول كان كفرًا، وإنما لم يكن منه كفرًا لأنه قاله وقد استخفه الفرح مريدًا به أن يقول‏:‏ أنت ربى وأنا عبدك، فلم يكن مأخوذًا بما قال من ذلك‏.‏

ويشهد لصحة هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وسأذكر كلام الأشعرى ومذهبه فى هذا الحديث فى كتاب الاعتصام فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏، فهو حديث أكثر الناس فيه القول إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لم يبتئر خيرًا‏)‏ فإن الأصمعى والكسائى كانا يقولان فيه‏:‏ لم يقدم خيرًا‏.‏

وقال غيرهما‏:‏ معناه أنه لم يقدم لنفسه خيرًا خبأه لها، وقال‏:‏ إن أصل الابتئار الإخفاء، يقال منه‏:‏ بأرت الشىء وابتأرته ابتئارًا، ومنه سميت الحفرة‏:‏ البؤرة، وفيه لغتان ابتأرت وابتيرت، ومصدره ابتئارًا‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ البئرة بوزن فعلة‏:‏ ما ادخرت من شيء‏.‏

باب الانْتِهَاءِ عَنِ الْمَعَاصِى

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلِى وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ‏:‏ رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَىَّ، وَأَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَا النَّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ، فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ، فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ، فَاجْتَاحَهُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ، وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى تَقَعُ فِى النَّارِ، يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ، فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدَ اللَّه بْنَ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذه أمثال ضربها النبى صلى الله عليه وسلم لأمته لينبههم بها على استشعار الحذر، خوف التورّط فى محارم الله والوقوع فى معاصيه، ومثل لهم ذلك بما عاينوه وشاهدوه من أمور الدنيا؛ ليقرب ذلك من أفهامهم، ويكون أبلغ فى موعظتهم، فمثل صلى الله عليه وسلم اتباع الشهوات المؤدية إلى النار بوقوع الفراش فى النار؛ لأن الفراش من شأنه اتباع ضوء النار حتى يقع فيها، فكذلك متبع شهوته يئول به ذلك إلى العذاب، وشبهّ جهل راكب الشهوات بجهل الفراش؛ لأنها لا تظن أن النار تحرقها حتى تقتحم فيها‏.‏

والنذير العريان‏:‏ رجل من خثعم حمل عليه يوم ذى الخلصة فقطع يده ويد امرأته، فرجع إلى قومه، فضرب عليه السلام المثل لأمته لأنه تجردّ لإنذارهم، لما يصير إليه من اتبعه من كرامة الله، وبما يصير إليه من عصاه من نقمته وعذابه؛ تجرد من رأى من الحقيقة ما رأى النذير العريان الذى قطعت يده ويد امرأته حتى ضرب به المثل فى تحقيق الخبر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏المهاجر من هجر ما نهى الله عنه‏)‏ يعنى المهاجر التام الهجرة من هجر المحارم، كما قال صلى الله عليه وسلم أن جهاد النفس أكبر من جهاد العدو‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا‏)‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَس، عن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى سنيد، عن هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فإذا قوم يتحدثون ويضحكون، قال‏:‏ أكثروا ذكر الموت، أما والذى نفسى بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا‏)‏‏.‏

وخشية الله إنما تكون على مقدار العلم به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏، ولما لم يعلم أحد كعلم النبى صلى الله عليه وسلم لم يخش كخشيته، فمن نور الله قلبه وكشف الغطاء عن بصيرته، وعلم ما حباه الله من النعم، وما يجب عليه من الطاعة والشكر، وأفكر فيما يستقبل من أهوال يوم القيامة، وما يلقى العباد فى تلك المواقف من الشدائد، وما يعاينوه من مساءلة الله عباده عن مثاقيل الذر، وعن الفتيل والقطمير كان حقيقًا بكثرة الحزن وطول البكاء، ولهذا قال أبو ذرّ‏:‏ لو تعلمون العلم ما ساغ لكم طعام ولا شراب، ولا نمتم على الفرش، ولاجتنبتم النساء، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون‏.‏

وقال عبد الله بن عمرو‏:‏ ابكوا، فإن لم تجدوا بكاءً فتباكوا، فلو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته‏.‏

وقال الفضيل‏:‏ بلغنى عن طلحة أنه ضحك يومًا فوثب على نفسه، وقال‏:‏ فيم تضحك، إنما يضحك من قطع الصراط، ثم قال‏:‏ آليت على نفسى ألا أكون ضاحكًا حتى أعلم متى تقع الواقعة، فلم ير ضاحكًا حتى صار إلى الله‏.‏

وقال الحسن‏:‏ يحق لمن عرف أن الموت مورده والقيامة موعده، وأن الوقوف بين يدى الله مشهده، أن يطول فى الدنيا حزنه‏.‏

وقال سفيان فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏، قال‏:‏ الحزن الدائم فى القلب، وقال‏:‏ إنما الحزن على قدر البصر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الحزن والخشية هى مواريث القلوب التى تُنال بما قبلها من الأعمال، فمن رام أن يقيم فرضه تامًا فيصلى لله بكمال الصلاة، ويصوم بكمال الصيام، ويؤدى كذلك سائر الفرائض، ويقوم بالحق على نفسه وأهله ومن يسأل عنه فى مداخلته ومخالطته، ويقيم ما أمر به فى لسانه وسمعه وبصره، وجميع جوارحه حتى يدخل فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏، وجد نفسه عن ذلك عاجزًا مقصرًا، فإذا رأى ذلك بعين جلية وعلم قرب أجله وعظيم خطبه، وأن الوقوف بين يدى الله من ورائه حزن على نفسه، بتخلفه عن السابقة التى يسمعها لغيره، ووجب عليه الجد فى أمره واستجلاب معونة الله بالاعتصام به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 90‏]‏‏.‏

وقال مطرف بن عبد الله‏:‏ دع أعمال الشر؛ فإن فى الخير شرًا كثيرًا فلو لم تكن لنا ذنوب إلا أن الله تعالى يؤاخذنا بصحة أعمالنا وإتقانها وإحكامها وإصلاحها وصوابها لكان فى هذا شغل كثير لمن يعقل‏.‏

وقد تقدم فى كتاب الإيمان فى باب خوف المؤمن أن يحبط عمله ولا يشعر ما يشبه هذا المعنى‏.‏

باب حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَصْدَقُ كلمة قَالَها الشَّاعِرُ‏:‏

أَلا كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ ***

قال المؤلف‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حجبت النار بالشهوات والجنة بالمكاره‏)‏ من جوامع الكلم وبديع البلاغة فى ذم الشهوات والنهى عنها، والحض على طاعة الله، وإن كرهتها النفوس وشق عليها؛ لأنه إذا لم يكن يوم القيامة غير الجنة والنار ولم يكن بد من المصير إلى إحداهما فواجب على المؤمنين السعى فيما يدخل إلى الجنة وينقذ من النار، وإن شق ذلك عليهم؛ لأن الصبر على النار أشق، فخرج هذا الخطاب منه صلى الله عليه وسلم بلفظ الخبر وهو من باب النهى والأمر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك‏)‏ فدليل واضح أن الطاعات الموصلة إلى الجنة والمعاصى المقربة من النار قد تكون فى أيسر الأشياء، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالا؛ يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا؛ يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه‏)‏‏.‏

فينبغى للمؤمن ألا يزهد فى قليل من الخير يأتيه، ولا يستقل قليلاً من الشر يجتنيه فيحسبه هينًا، وهو عند الله عظيم، فإن المؤمن لا يعلم الحسنة التى يرحمه الله بها، ولا يعلم السيئة التى يسخط الله عليه بها، وقد قال الحسن البصرى‏:‏ من تقبلت منه حسنة واحدة دخل الجنة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أصدق كلمة قالها الشاعر‏:‏

ألا كل شىء ما خلا الله باطل ***

فالمراد به الخصوص؛ لأن كل ما قرب من الله فليس بباطل، وإنما أراد أن كل شىء من أمور الدنيا التى لا تئول إلى طاعة الله، ولا تقرب منه فهى باطل‏.‏

باب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِى الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وهذا حديث جامع لمعانى الخير، وذلك أن العبد لا يكون بحال من عبادة ربه مجتهدًا فيها؛ إلا وجد من هو فوقه فى ذلك، فمتى طلب نفسه باللحاق بمن هو فوقه استقصر حاله التى هو عليها، فهو أبدًا فى زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حالةٍ خسيسةٍ من دنياه إلا وجد من أهلها من هو أخسّ منه حالا، فإذا تأمل ذلك وتفكره وتبين نعم الله عليه؛ علم أنها وصلت إليه ولم تصل إلى كثير من خلقه، فضله الله بها من غير أمر أوجب ذلك له على خالقه، ألزم نفسه من الشكر عليها أن وفق لها ما يعظم به اغتباطه فى معاده‏.‏

باب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا حديث شريف بينّ فيه النبى صلى الله عليه وسلم مقدار تفضل الله على عباده بأن جعل هموم العبد بالحسنة، وإن لم يعملها حسنة، وجعل همومه بالسيئة إن لم يعملها حسنة، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، وإن عمل الحسنة كتبت عشرًا، ولولا هذا التفضل العظيم لم يدخل أحد الجنة؛ لأن السيئات من العباد أكثر من الحسنات، فلطف الله بعباده بأن ضاعف لهم الحسنات، ولم يضاعف عليهم السيئات، وإنما جعل الهموم بالحسنة حسنةً، لأن الهموم بالخير هو فعل القلب بعقد النية على ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكان ينبغى على هذا القول أن يكتب لمن همّ بالشرّ ولم يعمله سيئةً؛ لأن الهموم بالشرّ عمل من أعمال القلب للشرّ‏.‏

قيل‏:‏ ليس كما توهمت، ومن كفّ عن فعل الشرّ فقد نسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشرّ، فذلك عمل للقلب من أعمال الخير، فجوزى على ذلك بحسنة، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏على كل مسلم صدقة‏.‏

قالوا‏:‏ فإن لم يفعل‏؟‏ قال‏:‏ يمسك عن الشرّ فإنه صدقة‏)‏ ذكره فى كتاب الأدب فى باب كل معروف صدقة‏.‏

وحديث ابن عباس معناه الخصوص لمن همّ بسيئة، فتركها لوجه الله تعالى وأما من تركها مكرهًا على تركها بأن يحال بينه وبينها، فلا تكتب له حسنة ولا يدخل فى معنى الحديث‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى هذا الحديث تصحيح مقالة من يقول‏:‏ إن الحفظة تكتب ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة وتعلم اعتقاده لذلك، وردّ مقالة من زعم أن الحفظة، إنما تكتب ما ظهر من عمل العبد وسمع، واحتجوا بما روى ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، عن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ ‏(‏لأن أذكر الله تعالى فى نفسى أحب إلي من أن أذكره بلساني سبعين مرةً، وذلك لأن ملكًا لا يكتبها، وبشرًا لا يسمعها‏)‏ والصواب فى ذلك ما صح به الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنة‏)‏ والهم بالحسنة إنما هو فعل العبد بقلبه دون سائر الجوارح، كذكر الله بقلبه، فالمعنى الذى به يصل الملكان الموكلان بالعبد إلى علم ما يهم به بقلبه؛ هو المعنى الذى به يصل إلى علم ذكر ربه بقلبه، ويجوز أن يكون جعل الله لهما إلى علم ذلك سبيلاً كما جعل لكثير من أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، وقد أخبر الله عن عيسى ابن مريم أنه قال لبنى إسرائيل‏:‏ ‏(‏وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بكثير من علم الغيب، قالوا‏:‏ فغير مستنكر أن يكون الكاتبان الموكلان بابن آدم، قد جعل لهما سبيلاً إلى علم ما فى قلوب بنى آدم من خير أو شرٍّ، فيكتبانه إذا حدث به نفسه أو عزم عليه‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن ذلك بريح يظهر لهما من القلب، سئل أبو معشر عن الرجل يذكر الله بقلبه، كيف يكتب الملك‏؟‏ قال‏:‏ يجد الريح‏.‏

وسأذكر اختلاف السلف فى أى الذكرين أعظم ثوابًا الذكر الذى هو بالقلب أو الذكر الذى هو باللسان عند قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن ذكرنى عبدى فى نفسه ذكرته فى نفسى‏)‏ فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ فى كتاب الاعتصام‏.‏

باب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقرَاتِ الذُّنُوبِ

- فيه‏:‏ أَنَس، إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالا هِىَ أَدَقُّ فِى أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُوبِقَاتِ‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ يَعْنِى الْمُهْلِكَاتِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما كانوا يعدون الصغائر من الموبقات لشدة خشيتهم لله، وإن لم تكن لهم كبائر، ألا ترى أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذا سئل الشفاعة يوم القيامة يذكر ذنبه، وأنه كذب ثلاث كذبات، وهى قوله فى زوجته‏:‏ هذه أختى‏.‏

وهى أخته فى الدين، وقوله‏:‏ إنى سقيم‏.‏

أى‏:‏ سأسقم، وقوله‏:‏ فعله كبيرهم هذا‏.‏

يعنى الصنم، فرأى ذلك صلى الله عليه وسلم من الذنوب، وإن كان لقوله وجه صحيح، فلم يقنع من نفسه إلا بظاهر يطابق الباطن، وهذا غاية الخوف‏.‏

والمحقرات إذا كثرت صارت كبائر بالإصرار عليها والتمادى فيها، وقد روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أسلم أبى عمران أنه سمع أبا أيوب يقول‏:‏ إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها ويغشى المحقرات، فيلقى الله يوم القيامة وقد أحاطت به خطيئته، وإن الرجل ليعمل السيئة، فما يزال منها مشفقًا حذرًا حتى يلقى الله يوم القيامة آمنًا‏.‏

وذكر أسد بن موسى عن ابن مسعود قال‏:‏ إياكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجتمع حتى تهلك صاحبها، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب لنا مثلاً كمثل ركب نزلوا بأرض فلاة، فلم يجدوا فيها حطبًا، فانطلق كل واحدٍ منهم، فجاء بعود حتى اجتمعت أعواد، فأوقدوا نارًا أنضجت ما جعل فيها‏)‏ ورواه سهل بن سعد عن النبى صلى الله عليه وسلم وقال أبو عبد الرحمن الحبلى‏:‏ مثل الذى يجتنب الكبائر ويقع فى المحقرات، كرجل لقاه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه، وكذلك الذى يجتنب الكبائر ويقع فى المحقرات‏.‏

وقال أبو بكر الصديق‏:‏ إن الله يغفر الكبائر فلا تيئسوا، ويعذب على الصغائر فلا تغتروا‏.‏

باب الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ وَمَا يُخَافُ مِنْهَا

- فيه‏:‏ سَهْل، نَظَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا‏)‏، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى تغييب الله عن عباده خواتيم أعمالهم حكمة بالغة وتدبير لطيف، وذلك أنه لو علم أحد خاتمة عمله لدخل الإعجاب والكسل من علم أنه يختم له بالإيمان، ومن علم أنه يختم له بالكفر يزداد غيًا وطغيانًا وكفرًا فاستأثر الله تعالى بعلم ذلك ليكون العباد بين خوف ورجاء، فلا يعجب المطيع لله بعمله ولا ييأس العاصي من رحمته، ليقع الكل تحت الذل والخضوع لله والافتقار إليه، وقال حفص بن حميد‏:‏ قلت لابن المبارك‏:‏ رأيت رجلاً قتل رجلاً، فوقع فى نفسى أنى أفضل منه‏.‏

فقال عبد الله‏:‏ أمنك على نفسك أشد من ذنبه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ إن أمنه على نفسه أنه من الناجين عند الله من عقابه أشد من ذنب القاتل؛ لأنه لا يدرى إلى ما يئول إليه أمره وعلى من يموت، ولا يعلم أيضًا حال القاتل إلى ما يصير إليه، لعله يتوب فيموت تائبًا فيصير إلى عفو الله، وتصير أنت إلى عذابه لتغير حالك من الإيمان بالله إلى الشرك به، فالمؤمن فى حال إيمانه وإن كان عالمًا بأنه محسن فيه، غير عالم على ما هو ميت عليه، وإلى ما هو صائر إليه، فغير جائز أن يقضى لنفسه، وإن كان محسنًا بالحسنى عند الله، ولغيره وإن كان مسيئًا بالسوء، وعلى هذا مضى خيار السلف‏.‏

باب الْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ خُلطاء السُّوءِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ، النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمُ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ أن اعتزال الناس عند ظهور الفتن والهرب عنهم أسلم للدين من مخالطتهم، ذكر على بن معبد، عن الحسين بن واقد قال‏:‏ قال النبي عليه السلام ‏(‏إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد أحللت لأمتي العزبة والعزلة والترهب فى رءوس الجبال‏)‏‏.‏

وذكر على بن معبد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة، عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يأتى على الناس زمان لا يسلم لذى دين دينه، إلا من فرّ بدينه من شاهق إلى شاهق وحجر إلى حجر، فإذا كان كذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله، فإذا كان كذلك حلت العزلة، قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف تحل العزلة وأنت تأمرنا بالتزويج‏؟‏ قال‏:‏ إذا كان كذلك كان هلاك الرجل على يدى أبويه، فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدى زوجته، فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدى ولده، فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدى القرابات والجيران‏.‏

قالوا‏:‏ وكيف ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق، فعند ذلك يورد نفسه الموارد التى يهلك فيها‏)‏‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ شعف الجبال‏:‏ رءوسها، وكذلك شعف الأثافى، وشعفة كل شىء‏:‏ أعلاه، ومواقع القطر‏:‏ بطون الأودية، والشعب‏:‏ ما انفرج بين جبلين، عن صاحب العين‏.‏

باب رَفْعِ الأمَانَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ‏)‏، قَالَ‏:‏ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا أُسْنِدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَة، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا‏:‏ ‏(‏أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ‏)‏‏.‏

وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأمَانَةَ، فَيُقَالُ‏:‏ إِنَّ فِى بَنِى فُلانٍ رَجُلا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ‏:‏ مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا النَّاسُ كَالإبِلِ الْمِائَةِ، لا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ حديث أبى هريرة وحذيفة من أعلام النبوة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر فيها فساد أديان الناس وتغير أماناتهم، وقد ظهر كثير من ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة‏)‏ هو كلام مجمل أحب الأعرابى السائل النبي عليه السلام شرحه له فقال له‏:‏ ‏(‏كيف إضاعتها يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ إذا أسند الأمر إلى غير أهله‏)‏ فأجابه صلى الله عليه وسلم بجواب عام دخل فيه تضييع الأمانة، وما كان فى معناها مما لا يجرى على طريق الحق، كاتخاذ العلماء الجهال عند موت أهل العلم، واتخاذ ولاة الجور وحكام الجور عند غلبة الباطل وأهله، وقد ذكر ابن أبى شيبة من حديث المقبرى عن أبى هريرة قال‏:‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سيأتى على الناس سنوات خداّعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق الرويبضة‏.‏

قيل‏:‏ وما الرويبضة‏؟‏ قال‏:‏ الرجل التافه فى أمر العامة‏)‏ وقد رأينا أكثر هذه العلامات وما بقى منها فغير بعيد، روى ابن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع قال‏:‏ سمعت شداد بن معقل قال‏:‏ سمعت ابن مسعود يقول‏:‏ أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة‏.‏

وروى يونس بن زيد، عن الزهرى، عن الصنابحى، عن حذيفة قال‏:‏ لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضه الخشوع‏.‏

وقد تقدّم معنى حديث حذيفة وما فيه من غرائب اللغة فى باب إذا بقى فى حثالة من الناس فى كتاب الفتن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة‏)‏ يريد صلى الله عليه وسلم أن الناس كثير والمَرْضِّى منهم قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة الواحدة وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة فى آخر الزمان، ولذلك ذكره البخارى فى رفع الأمانة، ولم يرد به صلى الله عليه وسلم زمن أصحابه وتابعيهم؛ لأنه قد شهد لهم بالفضل فقال‏:‏ ‏(‏خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، فهؤلاء أراد بقوله‏:‏ ‏(‏الناس كإبل مائة‏)‏ والله الموفق‏.‏

باب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ

- فيه‏:‏ جُنْدَب، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِى يُرَائِى اللَّهُ بِهِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏من سمع‏)‏ معناه من سمع بعمله الناس وقصد به اتخاذ الجاه والمنزلة عندهم، ولم يرد به وجه الله، فإن الله تعالى يسمع به خلقه، أى يجعله حديثًا عند الناس الذى أراد نيل المنزلة عندهم بعمله، ولا ثواب له فى الآخرة عليه، وكذلك من راءى بعمله الناس راءى الله به، أى أطلعهم على أنه فعل ذلك لهم ولم يفعله لوجهه، فاستحق على ذلك سخط الله وأليم عقابه، وقد جاء فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقال للعبد يوم القيامة‏:‏ فعلت كذا وكذا ليقال فقد قيل، اذهبوا به إلى النار‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ كيف يسلم من الرياء فى العمل الظاهر، وقد روى عن عمر وعثمان وابن مسعود وجماعة من السلف أنهم كانوا يتهجدون من الليل فى مساجدهم بحيث يعلم ذلك من فعلهم معارفهم، وكانوا يتذاكرون إظهار المحاسن من أعمالهم مع ما تواترت به الآثار أن أفضل العمل ما استّسر به صاحبه، وذلك على نوعين‏:‏ فأما من كان إمامًا يقتدى به ويُستن بعمله، عالمًا بما لله عليه فى فرائضه ونوافله، قاهرًا لكيد عدوه، فسواء عليه ما ظهر من عمله وما خفى منه؛ لإخلاصه نيته لله وانقطاعه إليه بعمله، بل إظهاره ما يدعو عباد الله إلى الرغبة فى مثل حاله من أعماله السالمة أحسن إن شاء الله تعالى‏.‏

وإن كان ممن لا يقتدى به، ولا يأمن من عدوه قهره، ومن هواه غلبته حتى يفسد عليه عمله؛ فإخفاؤه النوافل أسلم له، وعلى هذا كان السلف الصالح، روى حماد، عن ثابت، عن أنس، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه‏:‏ ‏(‏سمع رجلاً يقرأ ويرفع صوته بالقرآن فقال‏:‏ أواب‏.‏

وسمع آخر يقرأ فقال‏:‏ مرائى‏.‏

فنظروا فإذا الأوّاب المقداد بن عمرو‏)‏ وروى الزهرى، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة‏:‏ ‏(‏أن عبد الله بن حذافة صَلّى فجهر بالقراءة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا ابن حذافة، لا تسمعنى وأسمع الله‏)‏‏.‏

قال وهيب بن الورد‏:‏ لقى عالم عالمًا هو فوقه فى العلم، فقال‏:‏ يرحمك الله ما الذى أخفى من عملى‏؟‏ قال‏:‏ حتى يظن بك أنك لم تعمل حسنةً قط إلا الفرائض‏.‏

قال‏:‏ يرحمك الله فما الذى أعلن‏؟‏ قال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر‏.‏

وقال الحسن‏:‏ لقد أدركت أقوامًا ما كان أحدهم يقدر على أن يُسر عمله فيعلنه، قد علموا أن أحرز العملين من الشيطان عمل السرّ، قال‏:‏ وإن كان أحدهم ليكون عنده الزور وإنه ليصلى وما يشعر به زوره‏.‏

وكان عمل الربيع بن خثيم سرًا كان يقرأ فى المصحف، ويدخل عليه الداخل فيغطيه‏.‏

وقال بشر بن الحارث‏:‏ لما ودع الخضر داود، عليهما السلام، قال له‏:‏ ستر الله عليك بطاعته‏.‏

وروى عن ابن سيرين قال‏:‏ نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وكان عمر يرفع صوته، فقيل لأبى بكر‏:‏ لم تصنع هذا‏؟‏ قال‏:‏ أناجى ربى وقد علم حاجتى‏.‏

قيل‏:‏ أحسنت‏.‏

وقيل لعمر‏:‏ لم تصنع هذا‏؟‏ قال‏:‏ أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان‏.‏

قال‏:‏ أحسنت‏.‏

فلما نزلت‏:‏ ‏(‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏، قيل لأبى بكر‏:‏ ارفع شيئًا، وقيل لعمر‏:‏ اخفض شيئًا‏.‏

فهؤلاء الأئمة المقتدى بهم‏.‏

باب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِى طَاعَةِ اللَّهِ

- فيه‏:‏ مُعَاذ، قَالَ‏:‏ بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلا آخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا مُعَاذُ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثلاث مرات، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏)‏، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكبر وحرب العدو الأضر قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40، 41‏]‏‏.‏

وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه، وقد انصرفوا من الجهاد‏:‏ ‏(‏أتيتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر‏.‏

قالوا‏:‏ وما الجهاد الأكبر يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ مجاهدة النفس‏)‏‏.‏

وقال سفيان الثورى‏:‏ ليس عدوك الذى إن قتلته كان لك به أجر، إنما عدوك نفسك التى بين جنبيك، فقاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك‏.‏

وقال أويس القرني لهرم بن حيان‏:‏ ادع الله أن يصلح قلبك ونيتك فإنك لن تعالج شيئًا هو أشدّ عليك منهما، بينما قلبك مقبل إذ هو مدبر، فاغتنم إقباله قبل إدباره، والسلام عليك‏.‏

وقال علي بن أبي طالب‏:‏ أول ما تفقدون من دينكم جهاد أنفسكم‏.‏

وقد يكون جهاد النفس منعها الشهوات المباحة توفيرًا لها فى الآخرة؛ لئلا تدخل فى معنى قوله‏:‏ ‏(‏أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 20‏]‏ الآية، وعلى هذا جرى سلف الأمّة، وقال سالم الخواص‏:‏ أوحى الله إلى داود‏:‏ لا تقرب الشهوات، فإنى خلقتها لضعفاء خلقى، فإن أنت قربتها، أهون ما أصنع بك أسلبك حلاوة مناجاتى، يا داود، قل لبنى إسرائيل، لا تقربوا الشهوات، فالقلب المحجوب بالشهوات حجبت صوته عنى‏.‏

قد تقدم معنى قوله‏:‏ ‏(‏هل تدرى ما حق الله على عباده‏)‏ فى باب من أجاب بلبيك وسعديك فى كتاب الاستئذان، وسنأتى بزيادة فى بيانه فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ فى كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى‏.‏

باب التَّوَاضُعِ

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَتْ نَاقَة النَّبِىّ، لا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا‏:‏ سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ‏:‏ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى حديث أنس بيان مكان الدنيا عند الله من الهوان والضعة، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن حقًا على الله ألا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه‏)‏ فنبّه بذلك أمته صلى الله عليه وسلم على ترك المباهاة والفخر بمتاع الدنيا، وأن ما كان عند الله فى منزلة الضعة، فحق على كل ذى عقل الزهد فيه وقلة المنافسة فى طلبه، وترك الترفع والغبطة بنيله، لأن المتاع به قليل والحساب عليه طويل‏.‏

وفى حديث أبى هريرة من معنى الباب أن التقرب إلى الله بالنوافل حتى تستحق المحبة منه تعالى لا يكون ذلك إلا بغاية التواضع والتذلل له‏.‏

وفيه أن النوافل إنما يزكو ثوابها عند الله لمن حافظ على فرائضه وأداها‏.‏

ورأيت لبعض الناس أن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأكون عينيه اللتين يبصر بهما وأذنيه ويديه ورجليه‏)‏ قال‏:‏ وجه ذلك أنه لا يحرك جارحة من جوارحه إلا فى الله ولله، فجوارحه كلها تعمل بالحق، فمن كان كذلك لم تُردّ له دعوة‏.‏

وقد جاء فى فضل التواضع آثار كثيرة، روى الطبرى من حديث شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما تواضع رجل إلا رفعه الله بها درجةً‏)‏ وعن عكرمة، عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من بنى آدم أحد إلا وفى رأسه سلسلتان‏:‏ إحداهما فى السماء السابعة، والأخرى فى الأرض السابعة، فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة التى فى السماء، وإذا أراد أن يرفع رأسه وضعه الله‏)‏ وقالت عائشة‏:‏ إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة‏:‏ التواضع‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والتواضع من المحن التى امتحن الله بها عباده المؤمنين، لينظر كيف طاعتهم إياه فيها، ولما علم تعالى من مصلحة خلقه فى ذلك فى عاجل دنياهم وآجل أخراهم، فمصلحة الدنيا به لو استعمله الناس لارتفع والله أعلم الشحناء بينهم والعداوة، واستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة والتذوا بما قسم لهم، وكان لهم فيه صلاح ذات البين وارتفاع الحسد والشح‏.‏

روى النعمان بن بشير عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏للشيطان مَضاَل وفخوخ، منها البطر بأنعم الله، والفخر بعطاء الله، والتكبر على عباد الله‏)‏‏.‏

وتواضعه صلى الله عليه وسلم معلوم لا يحصى، ومنه أنه لما دخل مكة جعل الناس يقولون‏:‏ هو هذا، هو هذا، فجعل يُحنى ظهره على الرحل ويقول‏:‏ ‏(‏الله أعلى وأجل‏)‏ وهذه سيرة السلف المهديين‏.‏

روى سفيان، عن أيوب الطائى، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال‏:‏ لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع خفيه، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة‏:‏ لقد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض‏.‏

فصكّ فى صدره وقال‏:‏ لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذّل الناس وأحقر الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبون العز فى غيره يذلكم الله‏.‏

وروى ابن وهب بإسناده عن أبى هريرة أنه أقبل فى السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال‏:‏ أوسع الطريق للأمير‏.‏

فقيل له‏:‏ تكفى، أصلحك الله‏.‏

فقال‏:‏ أوسع الطريق، والحزمة عليه‏.‏

وعن عبد الله بن سلام أنه خرج من حائط له بحزمة حطب يحملها فقيل له‏:‏ لقد كان فى ولدك وعبيدك من يكفيك هذا‏.‏

قال‏:‏ أردت أن أجرب قلبى هل ينكر هذا‏.‏

وعن سالم بن عبد الله أنه كان يخرج إلى السوق فيشترى حوائج نفسه‏.‏

وكان الربيع بن خثيم يكنس الحشّ بنفسه، فقيل له‏:‏ إنك تكفى هذا‏.‏

فقال‏:‏ أحب أن آخذ نصيبى من المهنة‏.‏

ولو تقصينا تواضعهم، رضى الله عنهم، لطال به الكتاب، وفيما ذكرناه دليل على ما تركناه إن شاء الله‏.‏