فصل: باب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ

وقول الله‏:‏ ‏(‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 17‏]‏ الآية‏.‏

- فيه‏:‏ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏(‏أن ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ له وَلابْنِهِ‏:‏ انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَاحْتَبَى به، ثُمَّ أَنْشَأَ فحَدِّثُنَا، حَتَّى أَتَى على ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ نَّبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم، فَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ‏:‏ وَيْحَ عَمَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ‏:‏ يَقُولُ عَمَّارٌ‏:‏ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ‏)‏‏.‏

التعاون فى بنيان المسجد من أفضل الأعمال؛ لأن ذلك مما يجرى للإنسان أجره بعد مماته، ومثل ذلك حفر الآبار وتحبيس الأموال التى يعم العامة نفعها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى هذا الحديث بيان ما اختلف فيه من قصة عمار وقوله‏:‏ ‏(‏يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار‏)‏، إنما يصح ذلك فى الخوارج الذين بعث إليهم على عمارًا ليدعوهم إلى الجماعة، وليس يصح فى أحد من الصحابة؛ لأنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل؛ لأنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثنى الله عليهم وشهد لهم بالفضل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏

قال المفسرون‏:‏ هم أصحاب رسول الله، وقد صح أن عمارًا بعثه على إلى الخوارج يدعوهم إلى الجماعة التى فيها العصمة بشهادة الرسول ‏(‏لا تجتمع أمتى على ضلال‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن عمارًا فهم عن الرسول أن هذه الفتنة فى الدين يستعاذ بالله منها، وفى الاستعاذة منها دليل أنه لا يدرى أحد فى الفتنة أمأجور هو أم مأزور إلا بغلبة الظن، ولو كان مأجورًا ما استعاذ بالله من الأجر، وهذا يرد الحديث الذى روى‏:‏ ‏(‏لا تستعيذوا بالله من الفتنة، فإنها حصاد المنافقين‏)‏‏.‏

وقول عكرمة، عن أبى سعيد‏:‏ ‏(‏فأخذ رداءه فاحتبى به، ثم أنشأ فحدثنا‏)‏، فيه أن العالم له أن يتهيأ للحديث ويجلس له جلسته‏.‏

وفيه‏:‏ أن الرجل العالم يبعث ابنه إلى عالم آخر ليتعلم منه؛ لأن العلم لا يحوى جميعه أحد ولا يحيط به مخلوق‏.‏

وفيه‏:‏ أن أفعال البر للإنسان أن يأخذ منها ما يشق عليه إن شاء كما أخذ عمار لبنتين، فاستحق بذلك كرامةً من الرسول فى نفضه عنه الغبار، وذكر فضيلته التى تأتى فى الزمن الذى بعده‏.‏

وفيه‏:‏ علامة النبوة؛ لأنه عليه السلام، أخبر بما يكون فكان كما قال‏.‏

باب الاسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ سهل بن سعد قال‏:‏ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى امْرَأَةٍ قال‏:‏ ‏(‏مُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ، يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ‏)‏‏.‏

- وقال جابر‏:‏ ‏(‏قَالَتْ امْرَأَةً‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا، تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي غُلامًا نَجَّارًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنْ شِئْتِ‏)‏، فَعَمِلَتِ الْمِنْبَرَ‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ الاستعانة بأهل الصناعات والمقدرة فى كل شىء يشمل المسلمين نفعه، وأن المبادر إلى ذلك مشكور له فعله‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن حديث سهل يخالف معنى حديث جابر، وذلك أن فى حديث سهل أن الرسول سأل المرأة أن تأمر عبدها بعمل المنبر، وفى حديث جابر أن المرأة سألت النبى صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏

قيل‏:‏ يحتمل أن تكون المرأة بدأت النبى بالمسألة وتبرعت له بعمل المنبر، فلما أباح لها ذلك وقبل رغبتها، أمكن أن يبطئ الغلام بعمله، فتعلقت نفس الرسول به فاستنجزها إتمامه وإكمال عدتها، إذ علم عليه السلام طيب نفس المرأة بما بذلته من صنعة غلامها، وقد يمكن أن يكون إرساله عليه السلام، إلى المرأة ليعرفها بصفة ما يصنع الغلام فى الأعواد وأن يكون ذلك منبرًا‏.‏

وفيه‏:‏ أنه من وعد غيره بِعَدةٍ أنه يجوز استنجازه فيها، وتحريكه فى إتمامها‏.‏

باب مَنْ بَنَى مَسْجِدًا

- فيه‏:‏ عُثْمَانَ أنه قال- عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ-‏:‏ إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَنْ بَنَى مَسْجِدًا- قَالَ بُكَيْرٌ‏:‏ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ- بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏

المساجد بيوت الله وقد أضافها الله إلى نفسه بقوله‏:‏ ‏(‏إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏، حسبك بهذا شرفًا لها، وقال‏:‏ ‏(‏فى بيوت أذن الله أن ترفع‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 36‏]‏، الآية فهى أفضل بيوت الدنيا وخير بقاع الأرض، وقد تفضل الله على بانيها بأن بنى له قصرًا فى الجنة، وأجر المسجد جارٍ لمن بناه فى حياته وبعد مماته ما دام يُذكر الله فيه ويُصلَّى فيه، وهذا مما جازت المجازاة فيه من جنس الفعل‏.‏

باب يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ جابر قال‏:‏ مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أبو بردة‏:‏ قال نبى الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ، فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا، لا يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا‏)‏‏.‏

هذا من تأكيد حرمة المسلم لئلا يروع بها أو يؤذى؛ لأن المساجد مورودة بالخلق، ولا سيما فى أوقات الصلوات، فخشى عليه السلام أن يؤذى بها أحد، وهذا من كريم خلقه، ورأفته بالمؤمنين‏.‏

والمراد بهذا الحديث‏:‏ التعظيم لقليل الدم وكثيره‏.‏

وفيه‏:‏ أن المسجد يجوز فيه إدخال السلاح، وأما حيث جابر، فإنه لا يظهر فيه الإسناد؛ لأن سفيان قال لعمرو‏:‏ أسمعت جابرًا يقول‏:‏ مر رجل فى المسجد ومعه سهام، فقال له رسول الله‏:‏ ‏(‏أمسك بنصالها‏)‏، ولم يُنقل أن عمرًا، قال له‏:‏ نعم، وقد ذكره البخارى فى غير كتاب الصلاة، عن على بن عبد الله، عن سفيان قال‏:‏ قلت لعمرو‏:‏ سمعت جابر بن عبد الله يقول‏:‏ مر رجل بسهام فى المسجد، فقال له رسول الله‏:‏ ‏(‏أمسك بنصالها‏)‏، فقال‏:‏ نعم، فبان بقوله‏:‏ نعم، إسناد الحديث‏.‏

باب إنشاد الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ أبو سلمة‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ‏:‏ أَنْشُدُكَ اللَّهَ، هَلْ سَمِعْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏؟‏‏)‏ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ليس فى حديث هذا الباب بيان أن حسان أنشد شعرًا فى المسجد بحضرة النبى، وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب بدء الخلق، وبه يتم معنى هذا الباب، قال سعيد بن المسيب‏:‏ ‏(‏مر عمر فى المسجد وحسان ينشد، فقال‏:‏ كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبى هريرة فقال‏:‏ أنشدك بالله أسمعت النبى يقول‏:‏ أجب عنى اللهم أيده بروح القدس‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏، يدل هذا أن قول الرسول لحسان‏:‏ ‏(‏أجب عن رسول الله‏)‏، كان فى المسجد، وأنه أنشد فيه ما جاوب به المشركين‏.‏

واختلف العلماء فى إنشاد الشعر فى المسجد، فأجازته طائفة إذا كان الشعر مما لا بأس بروايته، قال ابن حبيب‏:‏ رأيت ابن الماجشون، ومحمد بن سلام ينشدان فيه الشعر ويذكران أيام العرب وقد كان اليربوع، والضحاك بن عثمان ينشدان مالكًا ويحدثانه بأخبار العرب، فيصغى إليهما، وخالفهم فى ذلك آخرون، فكرهوا إنشاد الشعر فى المسجد، واحتجوا بما رواه الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده‏:‏ ‏(‏أن الرسول كره أن ينشد الشعر فى المسجد، وأن تباع فيه السلع، وأن يتحلق فيه قبل الصلاة‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وحجة أهل المقالة الأولى ما ذكره البخارى فى بدء الخلق، أن عمر مر فى المسجد وحسان ينشد فيه، فزجره، فقال‏:‏ كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، وكان ذلك بحضرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره أحد منهم ولا أنكره عمر أيضًا، فكأن الشعر الذى نهى عن إنشاده فى المسجد‏:‏ الشعر الذى فيه الخنا والزور، ويجوز أن يكون الشعر الذى يغلب على المسجد حتى يكون كل من فى المسجد متشاغلاً به، كما تأول أبو عبيد فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ، خير له من أن يمتلئ شعرًا‏)‏، أنه الذى يغلب على صاحبه‏.‏

باب أَصْحَابِ الْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ عائشة قالت‏:‏ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال مما يجمع منفعة الدين وأهله، فهو جائز فى المسجد، واللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معانى الحروب، وهو من الاشتداد للعدوِّ، والقوة على الحرب فهو جائز فى المسجد وغيره‏.‏

وفيه‏:‏ جواز النظر إلى اللهو المباح وقد يمكن أن يكون ترك الرسول عائشة لتنظر إلى اللعب بالحراب؛ لتضبط السنة فى ذلك وتنقل بعض تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتى من أبناء المسلمين وتعرفهم بذلك‏.‏

وفيه‏:‏ من حسن خلق الرسول وكريم معاشرته لأهله ما يلزم المسلم امتثاله والاقتداء به فيه، ألا ترى وقوفه عليه السلام وستره لعائشة وهى تنظر إلى اللعب‏.‏

باب ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ عائشة‏:‏ أن بَرِيرَةُ أَتَتْهَا تَسْأَلُهَا كِتَابَتِهَا، فقام رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَت فِي كِتَابِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ المساجد إنما اتخذت لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، والصلاة، وإنما يجوز فيها من البيع والشراء وسائر أمور الدنيا ما يكون بمعنى تعليم الناس والتنبيه لهم على الاحتراس من مواقعة الحرام ومخالفة السنن، والموعظة فى ذلك، وقد روى عن نبى الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البيع والشراء فى المسجد، وهو قول مالك وجماعة من العلماء، وروى الدراوردى، عن يزيد بن الخصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبى هريرة أن الرسول قال‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الرجل يبيع ويشترى فى المسجد، فقولوا‏:‏ لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم الرجل ينشد فيه الضالة، فقولوا‏:‏ لا ردَّ الله عليك‏)‏، وذكر مالك، عن عطاء بن يسار أنه كان يقول لمن أراد أن يبيع فى المسجد‏:‏ عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ومعنى البيع الذى نهى عنه فى المسجد الذى يغلب على المسجد ويعمه، حتى يكون كالسوق، فذلك مكروه، وأما ما سوى ذلك فلا بأس به، وكذلك التحلق الذى نهى عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه، فهو مكروه، وغير ذلك لا بأس به، وقد أجمع العلماء أن ما عقد من البيع فى المسجد أنه لا يجوز نقضه، إلا أن المسجد ينبغى أن يجنب جميع أمور الدنيا، ولذلك بنى عمر بن الخطاب البطحاء خارج المسجد، وقال‏:‏ ‏(‏من أراد أن يلغط، فليخرج إليها‏)‏، فوجب تنزيه المسجد عما لم يكن من أمور الله تعالى‏.‏

باب التَّقَاضِي وَالْمُلازَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ كَعْبٍ بن مالك‏:‏ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى‏:‏ ‏(‏يَا كَعْبُ، قَالَ‏:‏ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، أَيِ الشَّطْرَ، قَالَ‏:‏ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ قُمْ فَاقْضِهِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه‏:‏ المخاصمة فى المسجد فى الحقوق والمطالبة بالديون، وقال مالك‏:‏ لا بأس أن يقضى الرجل الرجل فيه ذهبًا، فأما بمعنى التجارة والصرف فلا أحبه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه الحض على الوضع عن المُعْسِرِ‏.‏

وفيه‏:‏ القضاء بالصالح إذا رآه السلطان صلاحًا ولم يشاور الموضوع عنه إن كان يقبل الوضيعة أم لا‏.‏

وفيه‏:‏ الحكم عليه بالصالح إذا كان فيه رشده وصلاح له لقوله‏:‏ ‏(‏قم فاقضه‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن الإشارة باليد تقوم مقام الإفصاح باللسان إذا فهم المراد بها‏.‏

وفيه‏:‏ الملازمة فى الاقتضاء‏.‏

وفيه‏:‏ إنكار رفع الصوت بالمسجد بغير القراءة، إلا أنه عليه السلام، لم يعنفهما على ذلك لما كان لابد لهما منه‏.‏

باب كَنْسِ الْمَسْجِدِ وَالْتِقَاطِ الْخِرَقِ وَالْقَذَى وَالْعِيدَان

- فيه‏:‏ أبو هُرَيْرَةَ‏:‏ أَنَّ رَجُلا أَسْوَدَ- أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ- كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَمَاتَ، فَسَأَلَ الرسول صلى الله عليه وسلم عَنْهُ، فَقَالُوا‏:‏ مَاتَ، قَالَ‏:‏ أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ‏؟‏ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ- أَوْ قَالَ‏:‏ قَبْرِهَا- فَأَتَى قَبْرَهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ باب الخدم للمسجد‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنى نذرت لك ما فى بطنى محررًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 35‏]‏، يعنى‏:‏ محررًا للمسجد‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه الحض على كنس المساجد وتنظيفها؛ لأنه عليه السلام، إنما خصه بالصلاة عليه بعد دفنه لأجل ذلك، وقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كنس المسجد، ذكر ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن يعقوب بن زيد‏:‏ ‏(‏أن الرسول كان يتبع غبار المسجد بجريدة‏)‏، وعن وكيع، قال‏:‏ حدثنا كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب‏:‏ ‏(‏أن عمر أتى مسجد قباء على فرس له، فصلى فيه، ثم قال‏:‏ يا يرفأ ائتنى بجريدة فأتاه بها، فاحتجز عمر بثوبه، ثم كنسه‏)‏‏.‏

وفى حديث أبى هريرة‏:‏ خدمة الصالحين والتبرك بذلك‏.‏

وفيه‏:‏ السؤال عن الخادم والصديق إذا غاب وافتقاده‏.‏

وفيه‏:‏ المكافأة بالدعاء والترحم على من أوقف نفسه على نفع المسلمين ومصالحهم‏.‏

وفيه‏:‏ الرغبة فى شهود جنائز الصالحين‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وفى صلاة الرسول على قبر السوداء بعد دفنها دليل على جواز الصلاة فى المقبرة، وقال صاحب الأفعال‏:‏ قَمَّ البيت قمًا‏:‏ كنسه، والقمامة‏:‏ الكناسة، وقمت الشاة‏:‏ رعت، ويقال للمكنسة‏:‏ المقمة‏.‏

باب تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏لَمَّا أُنْزِلَتِ الآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا، خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الْخَمْرِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرضه فى هذا الباب، والله أعلم، أن المسجد لما كان مسجدًا للصلاة ولذكر الله منزهًا عن ذكر الفواحش، والخمرُ والربا من أكبر الفواحش، فلما ذكر الرسول تحريمها فى المسجد، دل أنه لا بأس بذكر المحرمات والأقذار فى المسجد على وجه النهى عنها والمنع منها‏.‏

باب الأسِيرِ أَوِ الْغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي الْمَسْجِدِ

وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس إلى سارية المسجد‏.‏

- فيه‏:‏ أبو هريرة‏:‏ قال الرسول‏:‏ ‏(‏إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ- أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا، وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ‏:‏ ‏{‏رَبِّ اغفر لى وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي‏}‏ ‏[‏ص 53‏]‏‏)‏ قَالَ رَوْحٌ‏:‏ فَرَدَّهُ خَاسِئًا‏.‏

وفى هذا الحديث إباحة ربط الأسير فى المسجد، قال المهلب‏:‏ فيه ربط من خشى هروبه لحق عليه أو دينٍ والتوثق منه فى المسجد وغيره، ورؤيته عليه السلام للعفريت هو ما خُصَّ به كما خُصَّ برؤية الملائكة، فقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، وأخبرنا الله بذلك بقوله‏:‏ ‏(‏لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 18‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏(‏ولقد رآه نزلةً أخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 13‏]‏، وقد رآهم يوم انصرافهم عن الخندق، ورأى الشيطان فى هذه الليلة وأقدر عليه لتجسمه؛ لأن الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنه ألقى فى روعه ما وهب سليمان، فلم ينفذ ما قوى عليه من حبسه رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصًا على إجابة الله دعوته، وأما غير الرسول صلى الله عليه وسلم من الناس فلا يمكن من هذا ولا يرى أحد الشيطان على صورته غير الرسول؛ لأن الله يقول‏:‏ ‏(‏إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل فى غير شكله، وتصور فى غير صورته، كما تشكل الذى طعنه الأنصارى حين وجده فى بيته فى صورة حية، فقتلهُ، فمات الرجل به، وبين الرسول ذلك فى قوله‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة جنًا قد أسلموا‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فرده خاسئًا‏)‏، يقال‏:‏ خسأ الكلب خسوءًا‏:‏ تباعدًا، وخسأته قلت له‏:‏ اخسأ‏.‏

باب‏:‏ الاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ

- فيه‏:‏ أبو هريرة قال‏:‏ ‏(‏بَعَثَ الرسول صلى الله عليه وسلم خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الرسول، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ‏)‏، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ‏:‏ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء هل على من أسلم غسل‏؟‏ على ثلاثة أقوال، واختلف فى ذلك قول مالك أيضًا، فقال فى ‏(‏المدونة‏)‏‏:‏ إذا أسلم النصرانى فعليه الغسل؛ لأنهم لا يتطهرون، وممن أوجب عليه الغسل أحمد بن حنبل، وأبو ثور‏.‏

والقول الثانى‏:‏ روى ابن وهب، وابن أبى أويس، عن مالك أنه سئل عن رجل أسلم هل يجب عليه غسل أم يكفيه الوضوء‏؟‏ قال‏:‏ لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا أسلم بالغسل‏.‏

والقول الثالث‏:‏ قال ابن المنذر‏:‏ قال الشافعى‏:‏ أحب أن يغتسل، فإن لم يكن جنبًا أجزأه أن يتوضأ، ولابن القاسم فى ‏(‏العتبية‏)‏ مثله قال‏:‏ من أسلم فعليه أن يغتسل، فإن توضأ وصلى ولم يغتسل أعاد أبدًا إذا كان قد جامع أو كان جنبًا، وهذا يدل من قوله‏:‏ إن لم يكن جنبًا أنه يجزئه الوضوء كما قال الشافعى، قال المهلب‏:‏ وحديث ثمامة حجة لرواية ابن وهب، وابن أبى أويس؛ لأن ثمامة حين انطلق فاغتسل، ثم دخل المسجد، ثم شهد بالإسلام، وليس فى الحديث أن نبى الله أمره بالاغتسال، ولذلك قال مالك‏:‏ لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا أسلم بالغسل‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ وأما قول مالك الآخر‏:‏ ‏(‏عليه الغسل؛ لأنهم لا يتطهرون‏)‏، فإن معناه لا يتطهرون من النجاسة فى أبدانهم، لا يجوز غير هذا؛ لأنه يستحيل عليهم التطهير من الجنابة وإن نووها؛ لعدم الشرع، فسقط قول الشافعى وابن القاسم‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ فإن قيل‏:‏ إذا كان عندك غير جنب فلا يكون محدثًا فأبيح له الصلاة بغير وضوء‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه إذا أسلم وهو غير جنب ولا متوضئ، فوجب أن يتوضأ للصلاة إذا كان غير متوضئ، كما لا يغتسل لأنه غير جنب، وإنما اغتساله سنة لما قال مالك أنهم لا يتطهرون من النجاسة فى أبدانهم‏.‏

باب الْخَيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَرْضَى وَغَيْرِهِمْ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الأكْحَلِ، فَضَرَبَ الرسول صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ، لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ، وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، إِلا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِا، فَقَال‏:‏ يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ‏؟‏‏)‏ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ منهَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز سكنى المسجد للعذر‏.‏

وفيه‏:‏ أن السلطان أو العالم إذا شق عليه النهوض إلى عيادة مريض يزوره ممن يهمه أمره، أن ينقل المريض إلى الموضع يخف عليه فيه زيارته ويقرب منه‏.‏

وفيه‏:‏ أن النجاسات ليست إزالتها بفرض، ولو كان فرضًا لحيل بينها وبين الذريعة إليها، ولما أجاز الرسول للجريح أن يسكن فى المسجد، علمنا أن الأمر ليس على الفرض، وكذلك حين ترك الأعرابى يبول فى المسجد، وقال‏:‏ دعوه، ولو كان حرامًا فرضًا، ما قال‏:‏ دعوه يستديم البول‏.‏

وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ غَذَا العِرْقُ يغذو‏:‏ إذا سال الدم‏.‏

باب إِدْخَالِ الْبَعِيرِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرٍ‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي، قَالَ‏:‏ ‏(‏طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ‏)‏، فَطُفْتُ، وَرَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز دخول الدواب التى تؤكل لحومها، ولا ينجس بولها المسجد إذا احتيج إلى ذلك، وأما دخول سائر الدواب فلا يجوز وهو قول مالك، وفيه أن راكب الدابة ينبغى له أن يتجنب ممر الناس ما استطاع، ولا يخالط الرجالة، وكذلك ينبغى أن تخرج النساء إلى حواشى الطرق، وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث طواف النساء بالبيت من وراء الرجال لعلة التزاحم والتناطح، قال غيره‏:‏ طواف النساء من وراء الرجال هى السنة؛ لأن الطواف صلاة ومن سنة النساء فى الصلاة أن يكن خلف الرجال، فكذلك الطواف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏طوفى وأنت راكبة‏)‏ فهو ضرورة، وقد اختلف العلماء فى الصحيح يطوف راكبًا على ما يأتى فى كتاب الحج، إن شاء الله‏.‏

باب

- فيه‏:‏ أنس، ‏(‏أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ الرسول خَرَجَا مِنْ عِنْدِ الرسول فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ، يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا، صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ، مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما ذكر البخارى هذا الحديث فى باب أحكام المساجد، والله أعلم؛ لأن الرجلين كانا مع الرسول وهو موضع جلوسه مع الصحابة، فلما كان معه هذان الرجلان فى علم ينشره أو فى صلاة، أكرمهم الله، تعالى، بالنور فى الدنيا ببركة الرسول وفضل مسجده وملازمته والرجلان هما عباد بن بشر، وأُسيد بن حضير‏.‏

قال المهلب‏:‏ وتلك آية للنبى صلى الله عليه وسلم وكرامة له، وأنه خص فى الآيات بما لم يخص به من كان قبله، أن أعطى أن يكرم أصحابه بمثل هذا النور عند حاجتهم إليه، وذلك من خرق العادات، وكان يصلح أن يترجم لهذا الحديث باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏، يشير إلى أن الآية عامة فيما يحتمل أن يستثبت منها المعنى، لا سيما وقد ذكر الله النور فى المشكاة والزجاجة‏)‏ فى بيوت أذن الله ترفع‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 36‏]‏ الآية، فاستدل أن الله تعالى، يجعل لمن يسبح فى تلك المساجد نورًا فى قلوبهم، ونورًا فى جميع أعضائهم ونورًا بين أيديهم ومن خلفهم فى الدنيا والآخرة، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، فلما خرجا من عند النبى فى الليلة المظلمة أراهم بركة نبيه وكرامته بما جعل الله لهما من النور بين أيديهما يستضيئان به فى ممشاهما مع قوله‏:‏ ‏(‏بشر المشائين فى الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة‏)‏، فجعل لهم منه فى الدنيا، ليزدادوا إيمانًا بالنبى مع إيمانهم، ويُوقِنَا أن كذلك يكون ما وعدهم الله من النور الذى يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوم القيامة؛ برهانًا لمحمد، عليه السلام، على صدق ما وعد به أهل الإيمان الملازمين للبيوت التى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه‏.‏

باب الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ أبو سعيد الخدرى قَالَ‏:‏ خَطَبَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ‏)‏، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي‏:‏ مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ‏؟‏ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا بَكْرٍ لا تَبْكِى إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلا سُدَّ إِلا بَابُ أَبِي بَكْرٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، أن نبى اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه التعريض بالعلم للناس، وإن قل فهماؤه، خشية أن يدخل عليهم مساءة أو حزن‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا يستحق أحد العلم حقيقة إلا من فهم، والحافظ لا يبلغ درجة الفهم، وإنما يقال للحافظ عالم بالنص لا بالمعنى والتأويل؛ ألا ترى أن أبا سعيد جعل لأبى بكر مزية بفهمه، أوجب له بها العلم حقيقة وإن كان قد أوجب العلم للجماعة‏.‏

وفيه‏:‏ أن أبا بكر أعلم الصحابة؛ لأن أبا سعيد شهد له بذلك بحضرة جماعتهم، ولم ينكر ذلك عليه أحد، ويدل على صحة ذلك مقامه بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم، ووقت ارتداد العرب على بديهة منه دون أن يطيش له جنان، أو يختلج له لسان، وشدة نفسه وثبات قدمه، ولذلك حلف أبو هريرة بالله الذى لا إله إلا هو‏:‏ لولا أبو بكر الصديق ما عبد الله، وسيأتى تمام هذا المعنى فى كتاب الزكاة‏.‏

وفيه‏:‏ الحض على اختيار ما عند الله والزهد فى الدنيا والإعلام بمن اختار ذلك من الصالحين‏.‏

وفيه‏:‏ أن على السلطان شكر من أحسن صحبته ومعونته بنفسه وماله، والاعتراف له بالمنة، واختصاصه بالفضيلة التى لم يُشارك فيها، كما اختص هو أبا بكر بما لم يخص به غيره، وذلك أنه جعل بابه فى المسجد؛ ليخلفه فى الإمامة ليخرج من بيته إلى المسجد، كما كان الرسول يخرج، ومنع الناس كلهم من ذلك دليل على خلافة أبى بكر بعد الرسول، ودليل على أن المرشح للخلافة يُخصُّ بكرامة تدل على ترشحه‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن الخليل فوق الصديق والأخ‏.‏

وفيه‏:‏ استئلاف النفوس بقوله‏:‏ ‏(‏ولكن أخوة الإسلام أفضل‏)‏، فاستألفهم بأن حرمة الخُلَّة بمعنى شامل لهم عنده، وإن كان قد فضل أبا بكر بما دل على ترشحه للخلافة بعده، وهكذا وقع فى الحديث‏:‏ ‏(‏ولكن خُوَّة الإسلام أفضل‏)‏، ولا أعرف معناه وقد وجدت الحديث فى الباب بعده‏:‏ ‏(‏ولكن خلة الإسلام أفضل‏)‏، وهو الصواب؛ لأنه عليه السلام، صرف الكلام على ما تقدمه من ذكر ‏(‏الخلالة‏)‏، فأتى بلفظ مشتق منها، وهو ‏(‏الخُلَّة‏)‏، ولم أجد ‏(‏خُوَّة‏)‏، بمعنى ‏(‏خُلَّة‏)‏ فى كلام العرب، وقال أبو سليمان الخطابى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏أَمَنَّ‏)‏، أسمح بماله وأبذل له، ولم يرد به معنى الامتنان؛ لأن المنة تفسد الصنيعة، ولا منَّةَ لأحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل له المنة على الأمة قاطبة، و ‏(‏المَنُّ‏)‏ فى كلام العرب‏:‏ الإحسان إلى من لا يستثيبه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 39‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏ولا تمنن تستكثر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 6‏]‏، أى‏:‏ لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت‏.‏

باب الأبْوَابِ وَالْغَلَقِ لِلْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ

قال ابن أبى مليكة لابن جريج‏:‏ لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها‏.‏

- فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ ‏(‏أَنَّ نَّبِيَّ الله قَدِمَ مَكَّةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَفَتَحَ الْبَابَ، فَدَخَلَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وَبِلالٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ، فَلَبِثَ فِيهِ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجُوا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ اتخاذ الأبواب للمساجد واجب لتصان عن مكان الريب، وتنزه عما لا يصلح فيها من غير الطاعات‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإدخال الرسول معه هؤلاء الثلاثة، لمعانٍ تخص كل واحد منهم، فأما دخول عثمان فلخدمته البيت فى الغلق والفتح والكنس، ولو لم يدخله لغلق بابها؛ لتوهم الناس أنه عزله، وأما بلال فمؤذنه وخادم أمر صلاته، وأما أسامة فمتولى خدمة ما يحتاج إليه وهم خاصته؛ فللإمام أن يستخص خاصته ببعض ما يستتر به عن الناس وأما غلق الباب، والله أعلم، حين صلى فى البيت؛ لئلا يظن الناس أن الصلاة فيه سنة، فيلزمون ذلك‏.‏

باب دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ

- فيه‏:‏ أبو هريرة‏:‏ ‏(‏بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ‏:‏ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ‏)‏‏.‏

اختلف الفقهاء فى دخول المشرك المسجد، فأجازه أبو حنيفة والشافعى، إلا أن الشافعى قال‏:‏ لا يدخل المسجد الحرام خاصة، ويدخل سائر المساجد، وجوزه أبو حنيفة فى المسجد الحرام وسائر المساجد، وأجاز ابن محيريز، ومجاهد دخول أهل الكتاب فى المسجد، وقال أبو صالح‏:‏ ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد الحرام إلا خائفين، وقال مالك، والمزنى‏:‏ لا يدخل المشرك كل مسجد أصلاً‏.‏

وروى مثله عن عمر بن عبد العزيز، والحجة لهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏، ومن تعظيم الشعائر منع الكافر دخول البيت والمساجد كلها، وقد اتفقنا على منع الجنب والحائض من دخول المسجد؛ لمنعهما من القراءة، والكافر أولى بذلك، وحجة من أجاز ذلك حديث ثمامة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حبسه فى المسجد وهو مشرك‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فى حديث ثمامة دخول المشرك المسجد وإباحة دخول الجنب فيه، وهو أولى بذلك؛ لأن النبى أخبر أن المسلم ليس بنجس ومما رواه ابن جريج، عن عثمان بن أبى سليمان أن مشركى قريش حين أتوا النبى فى فداء من أُسِرَ منهم ببدر، كانوا يبيتون فى مسجد الرسول، فمنهم‏:‏ جبير بن مطعم، فكان جبير يسمع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم وجبير مشرك، والحجة على أبى حنيفة فى جواز دخوله فى المسجد الحرام، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ الآية، وهذا خطاب للمؤمنين أن يمنعوهم من المسجد الحرام، وقال أبو حنيفة‏:‏ معناه لا يقربوه للطواف خاصة، وقيل‏:‏ هو عموم وظاهره أن لا يقربوه أصلاً‏.‏

فإن قال‏:‏ هو موضع من الحرم فأشبه سائر الحرم فى جواز دخولهم فيه‏.‏

قيل‏:‏ يلزمكم هذا فى دخولهم البيت، فإن امتنعوا من البيت انتقض تعليلهم وإن جوزوه فهو قبيح جدًا، وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائره وذلك يوجب منعهم منه‏.‏

باب رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ السائب بم زيد قال‏:‏ كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ‏:‏ اذْهَبْ، ائتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، فقَالَ‏:‏ مَنْ أَنْتُمَا- أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا‏؟‏- قَالا‏:‏ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ‏:‏ لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، لأوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ كَعْبِ‏:‏ ‏(‏أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى‏:‏ ‏(‏يا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ‏)‏، قَالَ‏:‏ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْبٌ‏:‏ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ‏:‏ قُمْ فَاقْضِهِ‏)‏‏.‏

قال بعض الناس‏:‏ أما إنكار عمر رفع الصوت فى المسجد، فيدل أنهم رفعوا أصواتهم فيما لا يحتاجون إليه من اللغط الذى لا يجوز فى المسجد، ولذلك بنى عمر البطحاء خارج المسجد؛ لينزهه عن الخنا والرفث، فسألهم إن كانوا من أهل البلد ممن تقدم العلم إليهم بإنكار رفع الصوت فى اللغط فيه، فلما أخبراه أنهما من غير البلد عذرهما بالجهل‏.‏

وأما ارتفاع صوت كعب وابن أبى حدرد فى المسجد، فلما كان على طلب حقٍ واجبٍ، لم يغير الرسول ذلك عليهم، ولو كان لا يجوز رفع الصوت فيه فى حق ولا غيره لما ترك النبى، عليه السلام، بيان ذلك إذ هو مُعَلِّم، وقد فرض الله، تعالى، عليه ذلك‏.‏

وأما مذاهب العلماء فى ذلك، فذهب مالك وطائفة أنه لا يرفع الصوت فى المسجد فى العلم ولا غيره، قال مالك‏:‏ ولقد أدركت الناس قديمًا يعيبون ذلك على بعض من يكون ذلك محله، وما للعلم ترفع فيه الأصوات، إنى لأكره ذلك، ولا أرى فيه خيرًا رواه ابن عبد الحكم عنه، وقال محمد بن مسلمة فى المبسوط‏:‏ لا بأس برفع الصوت فى المسجد فى الخبر يخبرونه والخصومة تكون بينهم، ولا بأس بالأحداث التى تكون بين الناس فيه من الشىء يعطونه، وما يحتاجون إليه؛ لأن المسجد مجتمع للناس فلابد لهم مما يحتاجون إليه من ذلك، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه رفع الصوت فى المسجد‏.‏

ذكر ابن أبى خيثمة قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان بن عيينة قال‏:‏ مررت بأبى حنيفة وهو مع أصحابه فى المسجد، وقد ارتفعت أصواتهم، فقلت‏:‏ يا أبا حنيفة هذا فى المسجد والصوت لا ينبغى أن يرفع فيه، فقال‏:‏ دعهم، فإنهم لا يفهمون إلا بهذا‏.‏

باب الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ ابن عمر قَالَ‏:‏ ‏(‏سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، مَا تَرَى فِي صَلاةِ اللَّيْلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَثْنَى مَثْنَى‏)‏‏.‏

- وقال مرة‏:‏ أَنَّ رَجُلا نَادَى النَّبِيَّ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أبو وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا الرَسُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ‏:‏ أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ الثَّلاثَةِ‏؟‏، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء على جواز التحلق والجلوس فى المسجد لذكر الله تعالى وللعلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وشبه البخارى فى حديث جلوس الرجال فى المسجد حول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بالتحلق والجلوس فى المسجد للعلم‏.‏

وفيه‏:‏ أن الخطيب إذا سئل عن أمر الدين أن له أن يجاوب من سأله ولا يضر ذلك خطبته‏.‏

وفيه‏:‏ فضل حلق الذكر، لقوله‏:‏ ‏(‏أوى إلى الله، فآواه الله‏)‏‏.‏

قال غيره‏:‏ وفيه سد الفرج فى حلق الذكر، وقد جاء فى سدِّها فى صفوف الصلاة وفى الصف فى سبيل الله، ترغيب وآثار، ومعلوم أن حلق الذكر من سبيل الله‏.‏

وفيه‏:‏ أن التزاحم بين يدى العالم من أفضل أعمال البر، ألا ترى قول لقمان لابنه‏:‏ ‏(‏يا بنى جالس العلماء وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض بوابل السماء‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ من حسن الأدب أن يجلس المرء حيث انتهى به مجلسه، ولا يُقيمُ أحدًا، وقد روى ذلك عن الرسول‏.‏

وفيه‏:‏ ابتداء العالم جلساءه بالعلم قبل أن يسأل عنه‏.‏

وفيه‏:‏ مدح الحياء والثناء على صاحبه‏.‏

وفيه‏:‏ ذم من زهد فى العلم واستجازة القول فيه؛ لأنه لا يدبر أحد عن حلقة رسول الله وفيه خير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فأوى إلى الله‏)‏، غير ممدود ‏(‏فآواه الله‏)‏، بالمد يقال‏:‏ أويت إلى الشىء بقصر الهمزة، دخلت فيه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏، وآويت غيرك إذا ضممته إلى نفسك، بالمد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يجدك يتيمًا فآوى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 6‏]‏‏.‏

باب الاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ

‏[‏وَمَدِّ الرِّجْلِ‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عباد بن تميم، عن عمه‏:‏ ‏(‏أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأخْرَى‏)‏‏.‏

قال سعيد بن المسيب‏:‏ وكان عمر وعثمان يفعلان ذلك‏.‏

فيه أن الاستلقاء وشبهه خفيف فعله فى المسجد، وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم ما يعارض هذا الحديث، روى حماد بن سلمة، وابن جريج، والليث بن سعد، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله‏:‏ ‏(‏أن الرسول نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره‏)‏، فنرى والله أعلم، أن البخارى أدخل حديث عبد الله بن زيد معارضًا لحديث جابر، ولذلك أردفه بما رواه ابن المسيب أن عمر، وعثمان كانا يفعلان ذلك، قال الزهرى‏:‏ وجاء الناس بأمر عظيم فى إنكار ذلك، فكأنه ذهب إلى أن حديث جابر منسوخ بهذا الحديث، واستدل على نسخه بعمل الخليفتين بعده؛ إذ لا يجوز أن يخفى عليهما الناسخ من المنسوخ من سنته عليه السلام‏.‏

باب الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ، مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ لِلنَّاسِ فِيهِ

وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَيُّوبُ وَمَالِكٌ‏.‏

- فيه‏:‏ عائشة‏:‏ ‏(‏لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَايَّ إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لأبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلا بَكَّاءً، لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ، إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما بناء المسجد فى الطريق، فذكر ابن شعبان فى كتاب ‏(‏الزاهى‏)‏ قال‏:‏ وينبغى أن تجتنب الصلاة فى المساجد المبنية حيث لا يجوز بناؤها من الطرقات والفحوص ومراسى السفن؛ لأنها وضعت فى غير حقها، فمن صلى فيها متأولاً أنه يصلى فى الطريق وحيث ما له منه مثل ما لغيره أجزأته صلاته، قال‏:‏ ولو كان مسجد فى فحص واحدٍ واسع، فأراد الإمام أن يزيد فيه من الفحص ما لا يضر بالسالكين لم يمنع عند مالك، ومنع فى قول ربيعة وهو الأصح عندى، وإنما اخترت قول ربيعة؛ لأنه غير عائد إلى جميعهم، قد ترتفق به الحائض والنفساء، ومن لا يجب عليه الصلاة من الأطفال ومن يسلكه من أهل الذمة‏.‏

ووجه قول مالك‏:‏ أن الزيادة فى المسجد هى لهم وإليهم تعود، قال غيره‏:‏ والحجة لقول مالك ابتناء أبى بكر مسجدًا بفناء داره، ووجه ذلك أن أفنية الدور، وإن كان لا ينبغى لأحد استحقاق شىء منها، ولا الانفراد بمنافعها دون غيره من السالكين، فإن المسجد بقعة لجماعة المسلمين، ولا يجوز لأحد تملكه، هو فى معنى الطريق فى البقعة لجماعة المسلمين، بل هو أكثر نفعًا لإقامة الصلاة فيه التى هى أعظم أمور الإسلام، وأن الاحتياط فى إقامتها أفضل من الاحتياط فى إرفاق الصبى والحائض والذمى فى سعة الطريق، إذا بقى منه ما لا يضر بالمارة والسالكين، وإلى قول مالك ذهب البخارى فى ترجمته‏.‏

وفيه‏:‏ من فضل أبى بكر ما لا يشاركه فيه أحد؛ لأنه قصد تبليغ كتاب الله وإظهاره مع الخوف على نفسه، ولا يبلغ أحد هذه المنزلة بعد الرسول‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي مَسَاجِدِ السُّوقِ

وَصَلَّى ابْنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ عَلَيْهِمُ الْبَابُ‏.‏

- فيه‏:‏ أبو هريرة‏:‏ ‏(‏صَلاةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً‏)‏ الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه أن الأسواق مواضع للصلوات، وإن كان قد جاء فيها حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن سائلاً سأله عن شر البقاع، فلم يكن عنده علم ذلك حتى جاء جبريل فقال‏:‏ شر البقاع الأسواق، وخيرها المساجد‏)‏، رواه الآجرى فى كتبه، وخشى البخارى أن يتوهم من رأى ذلك الحديث أنه لا تجوز الصلاة فى الأسواق استدلالاً به، إذ كانت الأسواق شر البقاع، والمساجد خير البقاع فلا يجوز أن تعمل الصلاة فى شر البقاع، فجاء فى حديث أبى هريرة إجازة الصلاة فى السوق، وأن الصلاة فيه للمنفرد درجة من خمس وعشرين درجة كصلاة المنفرد فى بيته، واستدل البخارى أنه إذا جازت الصلاة فى السوق فُرَادَى كان أولى أن يتخذ فيه مسجد للجماعات، لفضل الجماعة كما تتخذ المساجد فى البيوت عند الأعذار لفضل الجماعة، والله أعلم‏.‏

باب تَشْبِيكِ الأصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ

- فيه‏:‏ أبو موسى‏:‏ قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أبو هُرَيْرَةَ‏:‏ ‏(‏صَلَّى بِنَا الرَسُولُ إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِاء جميعًا، صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فاتكأ عليهما وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ‏)‏ الحديث‏.‏

اختلف العلماء فى تشبيك الأصابع فى المسجد، وفى الصلاة، فرويت آثار مرسلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تشبيك الأصابع فى المسجد من مراسيل ابن المسيب، ومنها مسند من طرق غير ثابتة‏.‏

روى ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن مولى لأبى سعيد‏:‏ ‏(‏أنه كان مع أبى سعيد وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل الرسول المسجد فرأى رجلاً جالسًا وسط الناس قد شبك بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه الرسول فلم يفطن، فالتفت إلى أبى سعيد فقال‏:‏ ‏(‏إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال فى صلاة ما دام فى المسجد حتى يخرج منه‏)‏‏.‏

وهذه الآثار معارضة لحديثى هذا الباب وهى غير مقاومة لهما فى الصحة ولا مساوية، وكره إبراهيم تشبيك الأصابع فى الصلاة، وهو قول مالك، ورخص فى ذلك ابن عمر، وسالم بن عبد الله، وكانا يشبكان بين أصابعهما فى الصلاة، ذكرهما ابن أبى شيبة، وكان الحسن البصرى يشبك بين أصابعه فى المسجد، وقال مالك‏:‏ إنهم لينكرون تشبيك الأصابع فى المسجد، وما به بأس وإنما يكره فى الصلاة‏.‏

باب الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا الرسول صلى الله عليه وسلم

- وكان سَالِمَ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى الرسول يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأمْكِنَةِ فى حديث طويل‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما كان يصلى ابن عمر فى المواضع التى صلى فيها النبى على وجه التبرك بتلك الأمكنة، والرغبة فى فضلها، ولم يزل الناس يتبركون بمواضع الصالحين وأهل الفضل؛ ألا ترى أن عتبان بن مالك سأل نبى الله أن يصلى فى بيته ليتخذ المكان مصلى، فصلى فيه النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد جاء عن عمر بن الخطاب خلاف فعل ابنه عبد الله، روى شعبة، عن سليمان التيمى، عن المعرور بن سويد، قال‏:‏ ‏(‏كان عمر بن الخطاب فى سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان، فجعل الناس يأتونه، ويقولون‏:‏ صلى فيه النبى، عليه السلام، فقال عمر‏:‏ إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس، وبيعًا، فمن عرضت له الصلاة، فليصل وإلا فليمض‏)‏‏.‏

إنما خشى عمر أن يلتزم الناس الصلاة فى تلك المواضع حتى يشكل ذلك على من يأتى بعدهم، ويرى ذلك واجبًا، وكذلك ينبغى للعالم إذا رأى الناس يلتزمون النوافل والرغائب التزامًا شديدًا، أن يترخص فيها فى بعض المرات ويتركها ليعلم بفعله ذلك أنها غير واجبة، كما فعل ابن عباس وغيره فى ترك الأضحية، وقد روى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة فى المواضع التى صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ما يعجبنى ذلك إلا مسجد قباء‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وإنما قال ذلك مالك؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يأتى قباء راكبًا وراجلاً ولم يكن يفعل ذلك فى تلك الأمكنة، والله أعلم‏.‏

وفى هذا الحديث ألفاظ كثيرة من الغريب قوله‏:‏ ‏(‏فدحا فيه السيل‏)‏، يقال‏:‏ دحا، دفع، ودحا المطر الحصى عن وجه الأرض، والدحو‏:‏ البسط أيضًا، والكثيب‏:‏ رمل أو تراب مجتمع، والهضبة‏:‏ الصخرة الرأسية الضخمة، والجمع هضاب، والرضم‏:‏ حجارة مرصوصة بعضها فوق بعض، والواحدة رضمة، وبِرْذَوْن مرضوم العَصَب‏:‏ إذا صار فيه كالعُقَد، من كتاب العين، والسلَمة، بفتح اللام، الشجرة، والسلِمة، بكسر اللام، الصخرة‏.‏

والسرحة‏:‏ الشجرة، والجمع سرح‏.‏

وهرشى‏:‏ موضع‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ الغَلْوة‏:‏ أن ترمى بسهم حيثما ما بلغ، وقد غلا وهو من الغلو‏:‏ الارتفاع فى الشىء ومجاوزة الحد فيه، وكل مرتفع فقد تغلى والجمع غِلاء، والأكمة‏:‏ التلّ، والجمع أَكَم، وإِكَام، وآكام، وأُكم، والفُرضْةَ‏:‏ مشرب الماء من النهر، والفرض‏:‏ حَز فِى شَبَة القوس‏.‏

باب سُتْرَةُ الإمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ

- فيه‏:‏ ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ، وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ ‏(‏أَنَّ نبى اللَّهِ كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ، فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأمَرَاءُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أبو جحيفة‏:‏ ‏(‏أَنَّ الرسول صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ‏)‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ سترة الإمام سترة لمن خلفه بإجماع، قابله المأموم أم لا، فلا يضر من مشى بين يدى الصفوف خلف الإمام، والسترة عند العلماء سنة مندوب إليها، ملوم تاركها‏.‏

واختلف أصحاب مالك فيمن صلى إلى غير سترة فى فضاء يأمن من أن يمرَّ أحد بين يديه، فقال ابن القاسم‏:‏ يجوز له ذلك ولا حرج عليه، وقال ابن الماجشون، ومطرف‏:‏ سنة الصلاة أن يصلى إلى سترة لابد منها، وحديث ابن عباس يشهد لقول ابن القاسم، وروى عن جماعة من السلف منهم عطاء، وسالم، والقاسم، وعروة، والشعبى، والحسن أنهم كانوا يصلون فى الفضاء إلى غير سترة‏.‏

وقال ابن القصار فى قول ابن عباس‏:‏ ‏(‏فمررت بين يدى بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع‏)‏، حجة لمن قال‏:‏ إن الحمار لا يقطع الصلاة، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏فلم ينكر ذلك علىّ أحد‏)‏، فدل أنه المعروف عندهم، وقد زعم من قال‏:‏ إن الحمار يقطع الصلاة أنه لا حجة فى هذا الحديث، وقال‏:‏ إن مرور الأتان كان خلف الإمام بين يدى بعض الصف، والإمام سترة لمن خلفه، وهذا غير صحيح؛ لأنه قد رُوى حديث ابن عباس بلفظ هو حجة لأهل المقالة الأولى، ذكر البزار، قال‏:‏ حدثنا بشر بن آدم، قال‏:‏ حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال‏:‏ حدثنى عبد الكريم الجزرى أن مجاهدًا أخبره عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏أتيت أنا والفضل على أتانٍ، فمررنا بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وهو يصلى المكتوبة، ليس بشىء يستره يحول بيننا وبينه‏)‏‏.‏

وروى شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏مررت برسول الله وهو يصلى، وأنا على حمار، وغلام من بنى هاشم فلم ينصرف‏)‏‏.‏

فبان أن مرور ابن عباس كان بين يدى الرسول‏.‏

وفيه‏:‏ إجازة شهادة من علم الشىء صغيرًا، وأَدَّاهُ كبيرًا، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وفى حديث ابن عمر جواز الصلاة إلى الحربة‏.‏

وفى حديث أبى جُحَيفة‏:‏ أن المرأة والحمار لا يقطعان الصلاة‏.‏

وفيه‏:‏ أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقال صاحب الأفعال‏:‏ ناهزت الاحتلام‏:‏ قربت منه، ونهزت الشىء‏:‏ تناولته، ونهزت إليه‏:‏ نهضت‏.‏

باب كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ

- فيه‏:‏ سهل قال‏:‏ ‏(‏كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَلَمَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، مَا كَادَتِ الشَّاةُ أن تَجُوزُهَا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا أقل ما يكون بين المصلى وسترته، وأكثر ذلك عند قوم من الفقهاء، وقال آخرون‏:‏ أقل ذلك ثلاثة أذرع؛ لحديث بلال أن رسول الله حين صلى فى الكعبة بينه وبين القبلة قريبًا من ثلاثة أذرع، هذا قول عطاء، وبه قال الشافعى، وأحمد بن حنبل، ولم يَحُدّ مالك فى ذلك حدًا، وقال أبو إسحاق السبيعى‏:‏ رأيت عبد الله بن مغفل يصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع، وفى حديث آخر‏:‏ فجوة وهى الفرجة، وهذا شذوذ عند الفقهاء؛ لمخالفة الآثار الثابتة عن الرسول له، منها أحاديث هذا الباب ومنها ما رواه ابن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبى حثمة قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏إذا صلى أحدكم إلى سترة، فليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته‏)‏‏.‏

باب الصَّلاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ

- فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ ‏(‏أَنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم كَانَ تُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا‏)‏‏.‏

باب الصَّلاةِ إِلَى الْعَنَزَةِ

- فيه‏:‏ أبو جحيفة‏:‏ ‏(‏أن نبى الله صَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أنس‏:‏ ‏(‏أن الرسول صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، تَبِعْتُهُ أَنَا وَغُلامٌ، مَعَنَا عُكَّازَةٌ أَوْ عَصًا أَوْ عَنَزَةٌ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، نَاوَلْنَاهُ الإدَاوَةَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ الحربة والعنزة، إنما هما علم للناس على موضع صلاته ألا يحرفوه بالمشى بين يديه فى صلاته، ومعنى حمل العنزة والماء أن الرسول كان التزم أن لا يكون إلا على طهارة فى أكثر أحواله، وكان إذا توضأ صلى ما أمكنه بذلك الوضوء مذ أخبره بلال بما أوجب الله له الجنة من أنه لم يتوضأ قط إلا صلى، فلذلك كان يحمل الماء والعنزة إلى موضع الخلاء والتبرز، وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ انظر مناولتهم الإداوة، يدل أنه استنجى بالماء؛ لأن العادة فى الوضوء أن يَصُبُّوا على يديه، وكذلك تأتى الأحاديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث أنس خدمة السلطان والعالم، قال غيره‏:‏ وهكذا مذاهب الفقهاء متقاربة فى أقل ما يجزئ المصلى من السترة، فقال مالك‏:‏ يجزئه غلظ الرمح والعصا وارتفاع ذلك قدر عظم الذراع، ولا تفسد صلاة من صلى إلى غير سترة، وإن كان مكروهًا له، وهو قول الشافعى، وقال الثورى، وأبو حنيفة‏:‏ أقل السترة قدر مؤخرة الرحل يكون ارتفاعها ذراعًا، وهو قول عطاء، وقال الأوزاعى مثله، إلا أنه لم يَحُدَّ ذراعًا ولا غيره، وكل هؤلاء لا يجيزون الخَطَّ، ولا أن تعرض العصا فى الأرض فيصلى إليها غير الأوزاعى والشافعى فى أحد قوليه، فإنهما قالا‏:‏ إذا لم يجد شيئًا يقيمه بين يديه عرضه وصلى إليه، وإن لم يجدُ خطَّ خطا، وروى مثله عن سعيد بن جبير، وبه قال أحمد، وأبو ثور، واحتجوا بحديث إسماعيل بن أمية، عن أبى عمرو بن محمد بن حريث، عن عمه، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصاهُ، فإن لم يكن معه عصا فليخطط بين يديه خطًا ولا يضره من مرّ بين يديه‏)‏‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ أبو عمرو وعمه مجهولان، وقال مالك، والليث‏:‏ الخَطُّ باطل وليس بشىء، وأصح ما فى سترة المصلى عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث ابن عمر، وحديث أبى جحيفة، وحديث أنس بن مالك‏.‏

والله الموفق‏.‏

باب السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا

- فيه‏:‏ أبو جحيفة‏:‏ ‏(‏خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ، فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً، وَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ‏)‏‏.‏

والسترة للمصلى معناها‏:‏ درء المارّ بين يديه، فكل من صلى فى مكان واسع، فالمستحب له أن يصلى إلى سترة بمكة كان أو غيرها، إلا من صلى فى مسجد مكة بقرب القبلة حيث لا يمكن أحدًا المرور بينه وبينها، فلا يحتاج إلى سترة إذ قِبْلَةُ مكة سترة له، فإن صلى فى مؤخر المسجد بحيث يمكن المرور بين يديه أو فى سائر بقاع مكة إلى غير جدار أو شجرة أو ما أشبههما، فينبغى أن يجعل أمامه ما يستره من المرور بين يديه كما فعل الرسول حين صلى بالبطحاء إلى عنزة، والبطحاء خارج مكة، وكذلك حكم أهل مكة إذا كان فضاء‏.‏

باب الصَّلاةِ إِلَى الأسْطُوَانَةِ

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنَ الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا، وَرَأَى عُمَرُ رَجُلا يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ، فَأَدْنَاهُ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقَالَ‏:‏ صَلِّ إِلَيْهَا‏.‏

- فيه‏:‏ سلمة‏:‏ أن كان يُصَلِّي عِنْدَ الأسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، وقَالَ‏:‏ رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أنس قَالَ‏:‏ ‏(‏رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَخْرُجَ الرسول‏)‏‏.‏

فلما كان رسول الله يستتر بالعنزة والرمح فى الصحراء، كانت الأسطوانة أولى بذلك، ولما أجمعوا أنه يجزئ من السترة قدر مؤخرة الرحل فى حلة الرمح، علم أن الأسطوانة أشد سترة من ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أنه ينبغى أن تكون الأسطوانة أمامه، ولا تكون إلى جنبه، لئلا يتخلل الصفوف شىء فلا تكون له سترة‏.‏

باب الصَّلاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ

- فيه‏:‏ ابن عمر أن بلالاً قال‏:‏ ‏(‏صَلَّى الرسول صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ فى البيت‏)‏‏.‏

- وقال مرة‏:‏ ‏(‏جَعَلَ عَمُودين عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى‏)‏‏.‏

- وقال ابن عمر‏:‏ كان بينه وبين الجدار الذى قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع‏.‏

الصلاة بين السوارى جائزة، وإنما يكره أن يكون الصف يقطعه أسطوانة إذا صلوا جماعة؛ خشية أن يمر أحد بين يديه، وإن كأن الإمام سترة لمن خلفه، ويستحب أن تكون الأسطوانة خلف الصف أو أمامه، ليستتر بها المصلى فى الجماعة‏.‏

اختلف السلف فى الصلاة بين السوارى، فأجازه جماعة وكرهه جماعة، فممن كرهه‏:‏ أنس بن مالك، وقال‏:‏ كنا نتقيه على عهد رسول الله، وقال ابن مسعود‏:‏ لا تصفوا بين الأساطين، وكرهه حذيفة، وإبراهيم، وقال إبراهيم‏:‏ لا تصلوا بين الأساطين وأتموا الصفوف، وقال معاوية بن قرة، عن أبيه‏:‏ رآنى عُمر وأنا أصلى بين أسطوانتين، فأخذ بقفاى فأدنانى إلى سترة وقال‏:‏ صل إليها، وأجازه الحسن وابن سيرين، وكان سعيد بن جبير، وإبراهيم التيمى، وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين أسطوانتين، وهو قول الكوفيين، وقال مالك فى المدونة‏:‏ لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد، قال ابن حبيب‏:‏ وليس النهى عن تقطيع الصفوف إذا ضاق المسجد، وإنما نهى عنه إذا كان المسجد واسعًا‏.‏

وفيه‏:‏ أن أكثر ما وجد فى المسند من المقدار الذى يكون بين المصلى وبين سترته ثلاثة أذرع إلا أن الذى واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مقدار ذلك ممر الشاة على ما تقدم من الآثار، وصلاته فى البيت كان مَرَّةً، وقد تقدم أمره عليه السلام، بالدنوّ من السترة لئلا يتخلل الشيطان ذلك‏.‏

باب الصَّلاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ

- فيه‏:‏ ابن عمر، ‏(‏أن نَّبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، قُلْتُ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتِ الرِّكَابُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كَانَ يَأْخُذُ الرَّحْلَ، فَيُعَدِّلُهُ، فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ‏)‏‏.‏

هذه الأشياء كلها جائز الاستتار بها، والصلاة إليها، وكذلك تجوز الصلاة إلى كل شىء طاهر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كان يأخذ الرحل‏)‏، يعنى ينزله عن الناقة من أجل حركتها وزوالها عند هبوب الركاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏هبت الركاب‏)‏‏:‏ زالت عن مواضعها وذهبت، تقول العرب‏:‏ هبت الناقة فى السير تهب هبّا‏:‏ تحركت، وهب النائم من نومه يهب هبوبًا‏:‏ قام، والركاب‏:‏ الإبل‏.‏

باب الصَّلاةِ إِلَى السَّرِيرِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّ فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ، فَيُصَلِّي، فَأَكْرَهُ أَنْ أُسَنِّحَهُ، فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ السَّرِيرِ، حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا قول من قال‏:‏ إن المرأة لا تقطع الصلاة؛ لأن انسلالها من لحافها كالمرور بين يدى المصلى، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ أسنحه‏:‏ أظهر له، وكل ما عرض لك فقد سنح، والسانح‏:‏ ما أتاك عن يمينك من طائر أو غيره‏.‏

باب يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ

ورد ابن عمر فى التشهد وفى الركعة، وقال‏:‏ إن أبى إلا أن تقاتله فقاتله‏.‏

- فيه‏:‏ أبو سعيد‏:‏ ‏(‏أنه كان يُصَلِّي يَوْمِ جُمُعَةٍ إِلَى سْتُرُة، فَأَرَادَ شَابٌّ من بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ، فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنَ الأولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ‏:‏ مَا لَكَ وَلابْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ‏)‏‏.‏

قال بعض الفقهاء‏:‏ واتفق العلماء على دفع المارَ بين يدى المصلى إذا صلى إلى سترة، وليس له إذا صلى إلى غير سترة أن يدفع من مَرَّ بين يديه؛ لأن الرسول جعل ما بينه وبين السترة من حقه الذى يجب له منعه ما دام مصليًا، فأما إذا صلى إلى غير سترة، فليس له أن يدرأ أحدًا؛ لأن التصرف والمشى مباح لغيره فى ذلك الموضع الذى يصلى فيه وهو وغيره سواء، فلم يستحق أن يمنع شيئًا منه إلا ما قام الدليل عليه، وهو السترة التى وردت السنة بمنعها، وقال مالك‏:‏ لا يرده وهو ساجد فإنما استحق المقاتلة؛ لأنه لا عذر له بعد أن جعل له علمًا يمر من ورائه، والمقاتلة هاهنا‏:‏ المدافعة فى لطف، وأجمعوا أنه لا يقاتله بسيف ولا يخاطفه، فى أخرى‏:‏ ولا يخاطبه، ولا يبلغ به مبلغًا يفسد صلاته؛ لأنه إن فعل ذلك كان أضر على نفسه من المارِّ بين يديه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والفرق بين ما يدرأُ فيه المصلى من مرَّ بين يديه وما لا يدرأ من المسافة، هو المقدار الذى ينال المصلى فيه المار بين يديه إذا مرَّ ليدفه، لإجماعهم أن المشى فى الصلاة لا يجوز ولو أجزنا له المشى إليه باعًا أو باعين من غير أثر لركبنا أكثر من ذلك، وهذا لا يجوز بإجماع، واتفق الفقهاء أنه إذا مَرَّ بين يديه وفات ولم يدركه من مقامه أنه لا يمشى وراءه ولا يرده‏.‏

واختلفوا إذا جاز بين يديه وأدركه هل يرده أم لا‏؟‏ فقال ابن مسعود‏:‏ يرده، وروى ذلك عن سالم بن عبد الله، والحسن البصرى، وقال أشهب‏:‏ يرده بإشارة ولا يمشى إليه؛ لأن مشيه إليه أشد من مروره بين يديه، فإن مشى إليه ورده لم تفسد صلاته، وقال الشعبى‏:‏ لا يرده إذا جاز بين يديه؛ لأن رده مرور ثان، ولا وجه له وهو قول مالك، والثورى، وإسحاق‏.‏

فإن دافعه فمات فاختلف فيه، فقال اين شعبان‏:‏ عليه الدية فى ماله كاملة، وقيل‏:‏ الدية على عاقلته، وقيل‏:‏ هو هَدر على حسب ثَنِيَّةِ العاضّ له؛ لأنه فِعْل تولد من فِعْل أصله مباح؛ فإنما هو شيطان، يريد أنه فَعَل فِعْلَ الشيطان فى أنه شغل قلب المصلى عن مناجاة ربه والإخلاص له، كما يخطر الشيطان بين المرء ونفسه فى الصلاة، فيذكره ما لم يذكر ليشغله عن مناجاة ربه، ويخلط عليه صلاته‏.‏

وفيه‏:‏ أنه يجوز أن يقال للرجل إذا فتن فى الدين‏:‏ شيطان، ولا عقوبة على من قال له ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أن الحكم للمعانى لا للأسماء بخلاف ما يذهب إليه أهل الظاهر فى نفيهم القياس؛ لأنه يستحيل أن يصير المار بين يدى المصلى شيطانًا لمروره، فثبت أن الحكم للمعانى لا للأسماء وهو قول جمهور الأمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فلم يجد مساغًا‏)‏ يعنى طريقًا يمكنه المرور منها، يقال‏:‏ ساغ الشراب فى الحلق سوغًا‏:‏ سلس، وساغ الشىء‏:‏ طاب، من كتاب ‏(‏الأفعال‏)‏‏.‏

باب إِثْمِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي

- فيه‏:‏ أبو جُهَيم‏:‏ سمع الرَسُولِ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ من الإثم، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو النَّضْرِ‏:‏ لا أَدْرِي، أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد روى مائة عام، ذكر ابن أبى شيبة حدثنا وكيع، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبى هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو يعلم أحدكم ما عليه فى أن يمر بين يدى المصلى معترضًا كان أن يقف مائة عام خير له من الخطوة التى خطاها‏)‏‏.‏

فهذا الحديث يدل أن الأربعين التى فى حديث أبى جهيم هى أربعون عامًا، وقال قتادة‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ لو يعلم المار بين يدى المصلى ماذا عليه كان يقوم حولاً خير له من ذلك، وقال كعب الأحبار‏:‏ كان أن يخسف به خير من أن يمر بين يديه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يعلم المارُّ ماذا عليه‏)‏، يدل أن الإثم إنما يكون على من علم بالنهى وارتكبه مستخفًا به، ومتى لم يعلم بالنهى فلا إثم عليه‏.‏

- اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَهُوَ يُصَلِّي وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يُصَلِّي، وَ ‏[‏إِنَّمَا‏]‏ هَذَا إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ، فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ‏:‏ مَا بَالَيْتُ، إِنَّ الرَّجُلَ لا يَقْطَعُ صَلاةَ الرَّجُلِ‏.‏

- فيه‏:‏ عائشة‏:‏ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ، فَقَالُوا‏:‏ يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، فقَالَتْ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ جَعَلْتُمُونَا كِلابًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ، فَتَكُونُ لِيَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلالا‏)‏‏.‏

ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرجل يستر الرجل إذا صلى، إلا أن أكثرهم كره أن يستقبله بوجهه، قال نافع‏:‏ كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سوارى المسجد قال لى‏:‏ ولنى ظهرك، وهو قول مالك، وروى أشهب عنه أنه لا بأس أن يصلى إلى ظهر رجل وأما إلى جنبه فلا، وحققه مالك فى رواية ابن نافع فى المجموعة، وقال النخعى وقتادة‏:‏ يستر الرجل الرجل فى الصلاة إذا كان جالسًا، وقال الحسن‏:‏ يستر المصلى ولم يشترط أن يكون جالسًا ولا موليًا ظهره إلى المصلى‏.‏

وأجاز الكوفيون، والثورى، والأوزاعى الصلاة خلف المتحدثين‏.‏

وقال ابن سيرين‏:‏ لا يكون الرجل سترةً للمصلى‏.‏

ودليلُ هذا الحديث حُجة لمن أجاز ذلك؛ لأن المرأة إذا كانت فى قِبلة الرسول، فالرجل أولى بذلك والذين كرهوا استقباله كرهوا ذلك لما يخشى عليه من استقباله بالنظر إليه عن صلاته، ولهذا كره الصلاة إلى الحِلَقِ لما فيها من الكلام واللفظ المشغلين للمصلين‏.‏

وروى عن مالك فى المجموعة قال‏:‏ لا يصلى إلى المتحلقين؛ لأن بعضهم يستقبله، وأرجو أن يكون واسعًا‏.‏

وكره الصلاة إلى المتحدثين ابن مسعود‏.‏

وكان ابن عمر لا يصلى خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ إذا كانوا يتحدثون بذكر الله فلا بأس أن يأتم بهم‏.‏

باب الصَّلاةِ خَلْفَ النَّائِمِ

- فيه‏:‏ عائشة قالت‏:‏ ‏(‏كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ، أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ‏)‏‏.‏

الصلاة خلف النائم جائزة إلا أن طائفة من العلماء كرهها خوف ما يحدث من النائم فيشغل المصلى أو يضحكه، فتفسد صلاته، قال مالك‏:‏ لا يُصلى إلى النائم إلا أن يكون دونه سترة، وهو قول طاوس‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ أصلى وراء قاعد أحب إلى من أن أصلى وراء نائمٍ، والقول قول من أجاز ذلك للسنة الثابتة بجوازه، والله الموفق‏.‏

باب التَّطَوُّعِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ

- فيه‏:‏ ‏(‏كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

كره كثير من أهل العلم أن تكون المرأة سترة للمصلى، قال مالك فى المختصر‏:‏ لا يستتر بالمرأة، وأرجو أن يكون السترة بالصبى واسعًا‏.‏

وقال فى المجموعة‏:‏ ولا يصلى وبين يديه امرأة وإن كانت أُمُّه أو أُختُه إلا أن يكون دونها سترة، وقال الشافعى‏:‏ لا يستتر بامرأة ولا دابة ووجه كراهيتهم لذلك، والله أعلم؛ لأن الصلاة موضوعة للإخلاص والخشوع، والمصلى خلف المرأة الناظر إليها يخشى عليه الفتنة بها والاشتغال عن الصلاة بنظره إليها؛ لأن النفوس مجبولة على ذلك، والناس لا يقدرون من ملك آرابهم على مثل ما كان يقدر عليه الرسول، فلذلك صلى هو خلف المرأة حين آمن شغل باله بها، ولم تشغله عن الصلاة‏.‏

باب مَنْ قَالَ‏:‏ لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ شَيْءٌ

- فيه‏:‏ عائشة‏:‏ أنه ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ؛ فقالوا‏:‏ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، فَقَالَتْ‏:‏ ‏(‏شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلابِ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الرسول صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً، فَتَبْدُو لِيَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ، فَأُوذِيَ الرسول، فَأَنْسَلُّ مِنْ بين رِجْلَيْهِ‏)‏‏.‏

ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الصلاة لا يقطعها شىء روى ذلك عن عثمان، وعلى، وحذيفة، وابن عمر، ومن التابعين‏:‏ الشعبى، وعروة، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأبى ثور، وجماعة، وقال الطحاوى‏:‏ زعم قوم أن مرور الحائض والكلب الأسود والحمار يقطع الصلاة، وروى هذا أنس، والحسن البصرى، وروى عن ابن عباس، وعطاء أن الكلب الأسود والحائض يقطعان الصلاة‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود، وبه قال أحمد واحتج هؤلاء بما رواه منصور عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود‏)‏ قلت‏:‏ يا أبا ذر وما بال الكلب الأسود من الأحمر والأبيض‏؟‏ قال‏:‏ سألت رسول الله عما سألتنى عنه فقال‏:‏ ‏(‏الكلب الأسود شيطان‏)‏‏.‏

وروى ابن أبى عروبة عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة‏)‏‏.‏

روى هشام، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس أحسبه أسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقطع الصلاة الحائض والحمارة والكلب الأسود واليهودى والنصرانى‏)‏‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة أن الرسول كان يصلى وهى بينه وبين القبلة معترضة، وبما رواه شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى وأنا على حمار ومعى رجل من بنى هاشم فلم ينصرف‏)‏‏.‏

فبان فى هذا الحديث أنهما مرَّا بين يدى الرسول ودل ذلك أن مرور الحمار بين يدى الإمام لا يقطع الصلاة‏.‏

وروى سفيان عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس ‏(‏أنه ذكر عنده ما يقطع الصلاة‏؟‏ فقال‏:‏ الكلب والحمار، قال ابن عباس‏:‏ إليه يصعد الكلم الطيب وما يقطع هذا، ولكنه يكره‏)‏‏.‏

فهذا ابن عباس قد قال بعد رسول الله‏:‏ إن الحمار والكلب لا يقطعان الصلاة، فدل أن ما رواه عنه صهيب كان متأخرًا عما رواه عنه عكرمة، وأنه ناسخ له؛ لأنه لا يجوز أن يفتى بخلاف ما رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد ثبوت نسخه عنده، وبقى فى حديث أبى ذر أنه فصل بين الكلب الأسود وغيره، فجعل الأسود خاصة يقطع الصلاة، وأن الرسول بين معنى ذلك بأنه شيطان‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فأردنا أن ننظر هل عارض ذلك شىء‏؟‏ فإذا أبو سعيد قد روى عن الرسول أنه قال فى المار بين يدى المصلى‏:‏ ‏(‏فليدرأهُ ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان‏)‏، وروى ابن عمر مثله، ففى هذا الحديث أن كل مارٍّ بين يدى المصلى شيطان، وقد سوى فى هذا بين بنى آدم والكلب الأسود فى المرور، وقد أجمعوا على أن مرور بنى آدم بعضهم ببعض لا يقطع الصلاة، روى ذلك عن الرسول من غير وجه من حديث عائشة وأم سلمة، وميمونة أنه عليه السلام كان يصلى وكل واحدة منهن معترضة بينه وبين القبلة، وكلها ثابتة من إخراج البخارى‏.‏

وقد جعل عليه السلام فى حديث أبى سعيد، وحديث ابن عمر كُلَّ مارٍّ بين يدى المصلى شيطانًا، وأخبرنا أبو ذر أن الكلب الأسود أيضًا يقطع الصلاة؛ لأنه شيطان، وكانت العلة التى جعل لها قطع الصلاة قد جعلت فى بنى آدم، وقد ثبت عنه عليه السلام أنهم لا يقطعون الصلاة، فدل ذلك أن كل مارٍّ بين يدى المصلى مما سوى بنى آدم كذلك أيضًا لا يقطع الصلاة، ومما يدل على ذلك أيضًا فُتيا ابن عمر أن الصلاة لا يقطعها شىء، وقد روى عن الرسول درء المصلى من مرَّ بين يديه، فدل ذلك على ثبوت نسخ ما رواه عنه، عليه السلام، وأنه على وجه الكراهة، والله أعلم، قاله الطحاوى‏.‏

باب إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ فِي الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ أبو قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلأبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا‏)‏‏.‏

اختلف قول مالك فى تأوبل هذا الحديث، فروى عنه أشهب أن حمله أُمامة كان فى النافلة، وروى عنه أيضًا أشهب، وابن نافع أنه سئل هل للناس الأخذ بهذا‏؟‏ فقال‏:‏ نعم عند الضرورة إذا لم يجد من يكفيه، فأما لحُبِّ الولد فلا أرى ذلك‏.‏

وقد روى عن أبى قتادة أن حمل الرسول لأمامة كان فى الفريضة، روى الليث، وابن عجلان، وابن إسحاق كلهم عن سعيد المقبرى، عن عمرو بن سليم الزرقى، عن أبى قتادة، قال‏:‏ ‏(‏بينما نحن فى المسجد جلوس ننتظر الرسول صلى الله عليه وسلم خرج علينا يحمل أُمامة على عُنُقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا قام رفعها‏)‏، وزاد ابن إسحاق‏:‏ ‏(‏ننتظر الرسول فى الظهر أو العصر‏)‏، وذكره البخارى فى حديث الليث فى كتاب الأدب فى باب ‏(‏رحمة الولد وتقبيله‏)‏‏.‏

وسئل أحمد بن حنبل عن الرجل أيأخذ ولده وهو يصلى‏؟‏ قال‏:‏ نعم، واحتج بحديث أبى قتادة فى قصة أُمامة، وإنما أدخل البخارى هذا الحديث فى هذا الموضع، والله أعلم، ليدل على أن حمل المصلى الجارية على عُنُقه فى الصلاة لا يضر صلاته، وحملها أشد من مرورها بين يديه، فلما لم يضره حملها، كذلك لا يضره مرورها بين يديه‏.‏

وفيه‏:‏ جواز العمل الخفيف فى الصلاة والعلماء مجمعون على جوازه‏.‏

باب إِذَا صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِضٌ

- فيه‏:‏ مَيْمُونَةُ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى رسول الله، فَرُبَّمَا وَقَعَ عَلَيَّ ثَوْبُهُ، وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي‏)‏‏.‏

- وقالت مرةً‏:‏ ‏(‏كَانَ الرسول يُصَلِّي، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ نَائِمَةٌ، فَإِذَا سَجَدَ أَصَابَتنِي ثَيابُهُ، وَأَنَا حَائِضٌ‏)‏‏.‏

وهذا الحديث حجة فى أن الحائض لا تقطع الصلاة، وهذا الحديث وشبهه من الأحاديث التى فيها اعتراض المرأة بين المصلى وقبلته فيها دليل أن النهى إنما هو عن المرور خاصة لا عن القعود بين يدى المصلى، واستدل العلماء على أن المرور لا يضر بدليل جواز القعود، وحيال وحذاء وتجاه ووجاه كله بمعنى المقابلة والموازاة عند العرب‏.‏

باب الْمَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنِ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِنَ الأذَى

- فيه‏:‏ ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ‏:‏ أَلا تَنْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُرَائِي‏؟‏‏:‏ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاهَا فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ الرَسُولُ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ الرسول سَاجِدًا، فَضَحِكُوا، حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ الرسول سَاجِدًا، حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ الصَّلاةَ، قَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، ثلاثًا، ثُمَّ سَمَّى‏:‏ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ‏)‏‏.‏

قَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذه الترجمة قريبة من معنى الأبواب المتقدمة قبلها، وذلك أن المرأة إذا تناولت طرح ما على المصلى من الأذى، فإنها لا تقصد إلى أخذ ذلك من ورائه إلا كما تقصد إلى أخذه من أمامه، بل تتناول ذلك من أى جهات المصلى أمكنها تناوله وسهل عليها طرحه، فإن لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها من بين يديه فليس بدونه، ومن هذا الحديث استنبط العلماء حكم المصلى إذا صلى بثوب نجس وأمكنه طرحه فى الصلاة فطرحه، فذهب الكوفيون إلى أنه يتمادى فى صلاته ولا يقطعها، وروى ابن وهب عن مالك مثله، وذكره فى المبسوط، وروى مثله عن ابن عمر، والقاسم، والنخعى، والحسن البصرى، والحكم، وحماد‏.‏

ولمالك فى المدونة قول آخر قال‏:‏ يقطع وينزع الثوب النجس ويبتدئ صلاته، قال إسماعيل‏:‏ وعلى مذهب عبد الملك يتم صلاته ولا يقطعها، ثم يعيد، وهو قول الكوفيين، ورواية ابن وهبٍ عن مالك أشبه، بدليل هذا الحديث، وقوله فى المدونة‏:‏ يقطع وينزع الثوب النجس ويبتدئ صلاته، هو استحسان منه واحتياط للصلاة، والأصل فى ذلك ما فعل الرسول من أنه لم يقطع صلاته للسَّلا الذى وضع على ظهره، بل تمادى فيها حتى أكملها والحجة فى السُّنَّةِ لا فيما خالفها، وأما قول عبد الملك‏:‏ يتم الصلاة ثم يعيد؛ فلا وجه له؛ لأنه لا يخلو أن يجوز له التمادى فيها أو لا يجوز، فإن جاز له التمادى فلا معنى لإعادته، وإن كان لا تجزئه صلاته فلا معنى لأمره بالتمادى فى ما لا يجزئه‏.‏

وهؤلاء الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ممن لم تُرجَ إجابتهم ورجوعهم إلى الإسلام، فلذلك دعا عليهم بالهلاك، فأجاب الله دعاءه فيهم، وهم الذين أخبره الله أنه كفاه إياهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 95‏]‏، وأما كل من رجا منه الرسول الرجوع والتوبة عما هو عليه فلم يعجل بالدعاء عليه، بل دعا له بالهدى والتوبة فأجاب الله دعاءه فيهم‏.‏

وفيه‏:‏ الدعاء على أهل الكفر إذا جَنَوْا جنايات وآذوا المؤمنين‏.‏